أشبه بخرائط جوجل! هكذا تتمكن الطيور المهاجرة من تحديد مواقعها بدقة
نشر موقع «ڤوكس» الأمريكي تقريرًا أعدَّه بينجي جونز، مراسل شؤون البيئة، يُسلِّط فيه الضوء على نظرية جديدة تكشف لغز قدرة الطيور المهاجرة على معرفة مواطنها والهجرة إليها، حتى ولو كانت تبعد عنها آلاف الأميال.
في مطلع التقرير يقول الكاتب: قد يبدو طائر القصب الأوراسي وهو يحلق في السماء مثل أي طائر صغير آخر، لكنه يفعل شيئًا خارقًا؛ إذ يُسافر أكثر من 7 آلاف كم سنويًّا بين أوروبا وأفريقيا محلِّقًا على ارتفاع قدره 6 آلاف متر، وقد يظل محلِّقًا لمدة 30 ساعة متواصلة أحيانًا.
والأكثر عجبًا هو قدرته على التنقل بدقة متناهية، ومن ثم العودة إلى البقعة نفسها من الغابة الأوروبية للتكاثر كما يفعل طائر نقاد القصب الأوراسي كل عام. ويبدو الأمر كما لو أن هذه الطيور لديها نوع من خرائط جوجل المحدِّدة للمواقع.
ويوضح التقرير أن لغز إدراك المجال المغناطيسي عند الطيور ظل لعقود مصدر حيرة العلماء ومحط اهتمامهم، لكن البشرية لديها حاليًا بعض الدلائل الجديدة على هذه القدرة المذهلة؛ إذ تُشير دراسة جديدة نُشرت في مجلة «ساينس» إلى أن طائر القصب الأوراسي، وغيره من الطيور المهاجرة المغرِّدة، يستشعر خاصية معينة من المجال المغناطيسي للأرض، تسمى زاوية الميل، ليعرف المكان الذي يهبط في رحلته شمالًا. ويكشف الباحثون أن زاوية الميل تعمل بوصفها عنوانًا مغناطيسيًّا أو «إشارة توقف» تخبر الطيور بوصولها إلى المكان المحدد.
كيف تستشعر الطيور مجالًا غير مرئي؟
يُشير التقرير إلى أنه في الوقت الذي يستخدم فيه البشر البوصلة و«نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس)» لتحسين إمكانيات التنقل، تستخدم الطيور أجهزة طبيعية ملحقة بهم. ويقول ديمتري كيشكينيف، خبير في سلوك الحيوان بجامعة كيلي: إن «الطيور تُميز رؤية الأشياء بالألوان، ويمكنها تذكر معالم، مثل أشجار، أو مبانٍ معينة. فإذا شاهدَ الحمام مثلًا مشهدًا للمناظر الطبيعية قبل إطلاقه، سيأخذ مسارًا أكثر دقة للعودة إلى عشه. ويمكن لبعض الطيور البحرية التنقل من مكان لآخر عن طريق الرائحة أيضًا».
ويفيد أتيكوس بينزون رودريجيز، الباحث في جامعة لوند، أن «الأمر اللافت للنظر هو أن الطيور المهاجرة تعرف أيضًا موقع توجُّهِها حتى دون تلميحات من البيئة، وتلتقط إشارة من المجال المغناطيسي لكوكب الأرض».
ويلفت التقرير إلى أن هناك بعض النظريات المحيِّرة للعقل بالفعل عن كيفية استشعار الطيور لهذا المجال المغناطيسي غير المرئي. وتقول إحدى النظريات التي تستند إلى ميكانيكا الكم أن التغييرات الطفيفة في المجال المغناطيسي للأرض يمكن أن تسبب تفاعلًا كيميائيًّا، والذي ربما يتضمن ما يسمى بالتشابك الكمي، داخل بروتينات حساسة للضوء تسمى «كريبتوكروم» في عيون الطيور. ويوضح كيشكينيف أن هذه التفاعلات تُتَرجم إلى نوع من الإشارات البصرية، تشبه تقريبًا زوجًا من نظارات الأعين، وتكشف عن ملامح المجال المغناطيسي.
ويُضيف كيشكينيف أن النظرية الأقدم هي أن الطيور لديها مادة مغناطيسية في مناقيرها تعمل باعتبارها بوصلة، لكن العلماء لم يعثروا على هذه الآلية بعد، بينما تقول النظرية الثالثة، التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر: إن الطيور تتعرف على المجال المغناطيسي من خلال الهياكل الموجودة في أذنها الداخلية. ويؤكد كيشكينيف أن هذه كلها مجرد نظريات قيد الطرح، ولكن بغض النظر عن الآلية التي تستخدمها الطيور يُوقن العلماء أن الطيور تستخدم المجال المغناطيسي للأرض للسفر من بقعة إلى أخرى.
هجرة الطيور: علامات توقف مغناطيسية
ويُنوِّه التقرير إلى أن الغموض يزداد أكثر عندما يقول العلماء إن المجال المغناطيسي للأرض ليس ثابتًا ويتحرك. وفعلًا تحرك القطب الشمالي المغناطيسي منذ عام 1831 أكثر من 600 ميل. ويوضح جو وين، المؤلف الرئيس للدراسة والباحث في مركز أبحاث ألماني للطيور، أن الحركة الطفيفة للأقطاب المغناطيسية جعلت الدراسة الجديدة ممكنة. وإذا استخدمت الطيور المجال المغناطيسي للأرض للعودة إلى مواقع تكاثرها، فمن المنطقي أن المجال المتغير قد يعني أن مواقع التكاثر تغيرت أيضًا.
ولمعرفة حقيقة ذلك حلَّل وين بياناتٍ منذ حوالي 80 عامًا عن طائر القصب الأوراسي التي تُظهِر مكان تكاثر الطيور الفردية كل ربيع. وبعد ذلك قارن وين هذه المعلومات بالتغيرات في المجال المغناطيسي، كيف تتغير خصائص معينة لذلك المجال، ومنها قوته وميله. وزاوية الميل أو الانحدار هي الزاوية التي بين المجال المغناطيسي وسطح كوكب الأرض.
وتابع التقرير أن وين اكتشف بالتأكيد أنه بينما تصل الطيور عادةً إلى الموقع نفسه عامًا بعد عام، فإنها في بعض الأحيان تخطئ في تحديد موقعها بصورة طفيفة. وعندما تخطئ يكون ذلك عادةً في الاتجاه نفسه الذي تحركت فيه زاوية الميل. ويذكر وين أن هذا يُشير إلى أن طيور الطرائد الأوراسية ربما تتعقب زاوية الميل للتنقل جوًّا.
وأفاد الباحثون أن زاوية الميل يمكن اعتبارها «علامة توقف» في رحلة طائر يُبحر شمالًا للتكاثر. ويرجِّح وين أنه من المحتمل أن تبدأ الطيور رحلتها في مسار ثابت، وبعد ذلك بمجرد أن تشعر بزاوية ميل تتطابق مع ما شعرت به من قبل، يُنبئها شيء ما داخل أدمغتها بالهبوط، وإيجاد رفيق، وتكوين أسرة.
وأضاف وين موضحًا أنه نظرًا لأن المجال المغناطيسي يتحرك، فهو ليس الخريطة الأكثر دقة، ولكن يمكن اكتشافه في جميع أنحاء العالم، ويوجِّه الطيور المهاجرة خلال معظم رحلاتها، وربما يقع المجال المغناطيسي على بعد أقدام (بعد أن يتحرك). وبمجرد أن تقترب الطيور من المجال المغناطيسي، فقد تستخدم حواسَّ أخرى، مثل مشهد بركة مألوف، أو شجرة مفضلة، للعثور على المكان الصحيح.
البشر يعبثون بالمجال المغناطيسي
يُؤكد التقرير أن الدراسة التي أجراها وين عن زوايا الميل لا تسرد القصة الكاملة لكيفية استخدام الطيور للمجال المغناطيسي للتنقل. ويوضح بينزون رودريجيز أنه بينما تستخدم الدراسة الجديدة مجموعة هائلة من بيانات العالم الحقيقي، فإن النتائج تستند إلى نموذج حاسوبي، ولم تزل في حاجة إلى التحقق منها في تجربة مضبوطة. وتشير الأبحاث السابقة التي أجراها كيشكينيف وآخرون إلى أن الطيور يُمكنها تحديد موقعها بصورة أساسية داخل خريطة مغناطيسية للعالم، والتي يسميها العلماء «التنقل الواقعي»، حتى لو هاجرت آلاف الأميال. ويلفت وين إلى أنه بينما يشير الميل إلى متى يجب أن تتوقف الطيور فحسب، يقترح البحث أن الطيور تعرف أيضًا مكان وجودها في الفضاء.
وفي السياق ذاته يشير بينزون رودريغيز إلى أن البشر قد يُصعِّبون على الطيور إيجاد طريقهم. وبينما يشمل المجال المغناطيسي للأرض الكوكب بأكمله، يشك العلماء في أن البشر يشوِّشون عليه داخليًّا من خلال أجهزتنا الكهربائية وأبراج الراديو وغيرها من التقنيات.
وفي الختام يشير الكاتب إلى أن سلسلة من التجارب، التي نُشرت في عام 2014 في مجلة «نيتشر»، توصلت إلى أن طائر أبو الحناء الأوروبي لم يكن قادرًا على تحديد طريقه في ظل وجود موجات راديو معينة. يقول هنريك موريتسين، عالم الأحياء بجامعة أولدنبورج: إن «تأثيرات هذه المجالات الكهرومغناطيسية الضعيفة جديرة بالملاحظة: فهي تعطل عمل الجهاز الحسي بأكمله في الفقاريات العليا السليمة».