حب فلسفي/ بروين حبيب
اعتقدت دائما أن الرسائل أكثر الفنون الأدبية صدقا، إن أردنا أن نتحدث عن العاطفة في النصوص، أما غير ذلك فهو مجرد إسقاط لردة فعل طبيعية للقارئ نفسه. كل النصوص تحمل شحنة لغوية ومجموع معان تحرك عواطفنا، لكن حتما ليس بالطريقة التي كنا نعالج بها نصوص الشعر، أيام كنا طلبة في المدارس. فمهما اجتهدنا يستحيل استخلاص عاطفة كاتب لحظة تدوينه لجملة عواطفه في نص شعري، كون القارئ الضمني هو الذي يجعل تلك العاطفة تقفز على سلم الصدق صعودا وهبوطا.
في كتاب «ناديا وسلافوي جيجك، رسائل السجن» الصادر باللغة العربية عن دار الرافدين، ترجمة وتعليق رغد قاسم. نشعر بهذه العاطفة، قوية وعاصفة، رغم أن الكلام العاطفي غائب فيها تماما، فبخلاف كلمتي «عزيزي» و»عزيزتي» في بدايات الرسائل لا نجد أي إشارات وإحالات عاطفية فيها.
نجهل الكثير عن ناديا (نادشيتدا تولوكونيكوفا) ودهشتنا تزداد حين نعرف أنها مواليد عام 1989، وأن اقتران اسمها بالفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك، الذي يكبرها بأربعين عاما وبتاريخ علمي وفكري وسياسي طويل بدأ وهي في الثالثة والعشرين من عمرها، ولا ندري هل كانت محظوظة بدخولها السجن السياسي في هذا العمر، أم كانت غير ذلك؟ والأرجح أن السجن لناشطة سياسية في بداية حياتها ليس بالأمر الجيد، إنه أول صدمة تتلقاها في مقتبل حياتها، وأول درس عن قسوة الأنظمة التي تخاف من حرية الرأي، وتروّض أبناءها بشتى أنواع العقوبات لكسر أجنحتهم والحد من طاقتهم في التحليق.
ناديا التي درست الفلسفة في جامعة موسكو، فنانة ومعارضة سياسية، حازت جائزة حنا آرندت للفكر السياسي، وجائزة لينون أونو للسلام، مناصفة مع زميلتها ماريا إليوخينا، مارست نشاطها السياسي باندفاع كبير فسجنت عام 2012، بسبب أغنية معارضة لبوتين، أدتها في كنيسة المسيح المنقذ، هي وصديقتها ماريا، وقد حكم عليهما بسنتين سجنا مع الأشغال الشاقة، لكن رغم التهمة الكبيرة التي وجهت إليها، إلا أن العفو الرئاسي طالهما قبل شهر ونصف الشهر، من انتهاء فترة السجن، واعتبر العفو مراوغة سياسية لتحسين صورة البلاد، من أجل استضافة الألعاب الأولمبية، لكن المحزن والمرعب في الأمر، أن فترة السجن تلك كانت جحيما حقيقيا ومعاناة بمراحل بالنسبة لناديا، ولمن يتذكر مرور اسم ناديا في نشرات الأخبار آنذاك، سيتذكر خبرا عابرا لمعتقلة روسية أضربت عن الطعام، لكنها لم تكن تعنينا كثيرا كعرب، بسبب ما كانت تعيشه المنطقة العربية من مآس.
ما قد يوصف جنونا نقرأ تفاصيله في المقدمة الإنكليزية عن حادثة الغناء تلك، التي تم تسجيلها قرابة الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الحادي والعشرين من فبراير/شباط 2012، خمس شابات مسلحات بآلاتهن الموسيقية وأصواتهن وقصيدة، اعتلين منبر القراءة داخل الكنيسة للغناء قبل أن تطلب عاملة النظافة رجال الأمن لينهوا ذلك المشهد نهاية درامية، أي نعم لا أحد مات ولا أحد اختفى إلى الأبد في سجون موسكو بسببه، لكنه عكس قوة الفن في قدرته على هز عرش أقوى رجل في روسيا.
ترفق المترجمة هامشا يحوي نص الأغنية كاملا، وهذا يمهد لنا فهم الخلفية الفكرية لهذه الشابة، التي راسلت «أخطر مفكر في العالم الغربي وفق موقع فايس، رغم استخفاف نعوم تشومسكي ـ المحبوب عربيا ـ بأفكاره قائلا: «يمكن شرح كل ما قدمه في خمس دقائق فقط لطفل في الثانية عشرة من العمر».
بالتأكيد من المهم أن نعرف سلافوي جيجك (1949) خارج التهكم الواضح الذي أطلقه تشومسكي، وأعتقد أن كتاب الرسائل هذا أكثر كتاب يقرب لنا صورته بوضوح، ويكشف جوانب مهمة من شخصيته وفكره. هذا غير كم هائل من المعلومات حول موضوعات متنوعة منها موسيقى البانك مثلا، والفرق الموسيقية النسوية السياسية، وثمة رسم بياني أرفقته المترجمة باجتهاد شخصي منها، لجعلنا نفهم بالضبط تطور هذا النوع من الموسيقى، وتغيير نظرتنا نحوه من النقيض إلى النقيض. الأحداث الصادمة التي تسببت فيها فرقة المعارضين هؤلاء، تجعلنا نطرح أسئلة جادة عن أنواع المعارضات في العالم، ثمة من يستعمل طرقا استفزازية، تفقده احترام المجتمع، وإن كان على حق، وهذا ما جعل ناديا تعتذر في بعض تصريحاتها. ويمكن لقارئ الكتاب أن يقف عما أردت قوله دون الإسهاب فيه هنا.
تتعرف ناديا على سلافوي من خلال مقالة له معنونة بـ»العنف» ـ منشورة في الكتاب – يتحدث فيها عن «نشأة المؤمنين الأصوليين من كل الأديان بسبب افتقارهم إلى الإيمان الحقيقي، وليس نتاجا للإيمان العميق» فترغب في التعرف عليه، وهكذا نشأت تلك العلاقة الفكرية بينهما، حيث تعيش خلف القضبان وهو خارجها، ومع هذا صنعت تلك الرسائل بينهما فضاء فسيحا لا قضبان فيه، ولا مخاوف، بعد أن تفادى كل منهما الخروج عن حدود النقاش الفكري. كما تمثل هذه الرسائل اختلاف الأفكار بين جيلين، لقد نال سلافوي من التوبيخ من تلك المثقفة الصغيرة ما يكفيه لفهم المأزق، الذي وجد فيه، حتى توجب عليه بذل قصارى جهده لإقناعها أحيانا. ومن خلالها نستطيع تصنيف السجون وفهم أنظمتها الداخلية المتشابهة لحد بعيد، للأسف بعض السجون بحجم أوطان، وإن كانت قضبانها غير مرئية، وسجانوها وسجناؤها مواطنين متوهمين بالحرية. الوضع في السجن لمن لم يختبره بنفسه، لا يمكن وصفه، فهو أكثر من سيئ، حرب نفسية وجسدية مستمرة حتى الإنهاك، أو حتى الموت أحيانا، لكن دعما من خارجه مثل دعم سلافوي اعتبرته ناديا «معجزة».
كانت ناديا تكتب رسائلها باللغة الروسية وكان سلافوي يرد بالإنكليزية ويقوم ميشيل التشانينوف فيلسوف ونائب رئيس تحرير مجلة «الفلسفة» بترجمتها للروسية قبل إرسالها لها. أما الأمر الأكثر تأثيرا في تلك الرسائل، فهو قمة الشعور بالعجز، الذي يحول الشخص إلى مؤمن. في أولى رسائله يقول سلافوي للسجينتين: «على الرغم من كوني ملحدا، إلا أني أدعو لكما بلقاء عوائلكما وأطفالكما». أسئلة كثيرة تخطر على البال هنا، أولها أن مفهوم الإلحاد لم يعد كما كان سابقا، بل تطور مع ما تطور من مصطلحات وجودية، وهذا ليس موضوعنا اليوم، لكنه يفتح بابا على مفاهيم أخرى تغيرت مع الزمن، مثل الماركسية الزائفة، وتجديد الدين كثورة، الذي منه انبثقت تيارات جديدة، منها ما هو أكثر تطرفا وما هو أكثر ليبرالية، كلها توقف عندها سلافوي للإجابة على أسئلة ناديا، والتعليق على أطروحاتها، الكاشفة عن مثقفة فذة في مقتبل العمر.
في كثير من الأحيان نشعر بأن هذه الرسائل تبتعد عن إطار الرسائل الكلاسيكي الذي نعرفه، إنها أقرب إلى محاضرات مبسطة في الفلسفة والسياسة والاقتصاد، ورغم ذلك سقفها العالي كأفكار، نستمتع بها، لكننا حتما نشعر بالشفقة على المكلفين بقراءتها في السجن قبل تسليمها، تراهم فهموا ما قرأوه؟ وإن فهموا تراهم تأثروا وخرجوا منها بأفكار أكثر نضجا؟ وما الذي يمكن فعله حينما تثبت كل الاحتجاجات والتظاهرات فشلها أمام سلطة قمعية؟ هل يمكن الرهان على الطروحات الفلسفية؟ أم على مواصلة النضال السلمي، أم على التغيرات العالمية والسياسات الجديدة المناهضة للديكتاتوريات؟
بالنسبة لناديا وفريق «بسي رايوت» للبانك كان يجب اتباع نهج الغرابة لإيصال رسالتهن، طريقة تجمع بين الموسيقى والاستعراض المثير للجوكر، للتعبير عن وجع عميق ورفض لكل أنواع الانتهاك المعنوي والجسدي للإنسان، ما قاد سلافوي إلى ما كتبه نيتشه عن هاملت: «ما الذي يمكن أن يكون قد قاساه المرء حتى يرغب في أن يكون مهرجا إلى هذا الحد؟».
136 صفحة من القطع الوسط، يشكل كتابا صغير الحجم، ضخم المحتوى ينتقل بنا بين عوالم نيتشه وهيغل وآلان باديو والأغاني الفولكلورية الروسية عبر حوار دقيق وواقعي، انبثقت منه بشكل خاص رؤية كاملة عن ظواهر عالمية وتداعياتها، منها الربيع العربي، الانتفاضة الأوكرانية، والأشكال المتنوعة لحركات سياسية منتشرة في العالم.
رسائل ناديا وسلافوي جيجك تختصر حبا فلسفيا، لا يمكن لأي شخص أن يفهمه، لكنها بالتأكيد تحثنا على التفكير في ما وراء الرأسمالية والديمقراطية والليبرالية كأطُرٍ غير نهائية لحياتنا.
القدس العربي