نقد ومقالات

ديستوبيا منع الكتب في البلاد العربيّة… خوف الرقيب وقمعه ودور الإعلام المغيّب/ دلير يوسف

يصف الروائي الكويتي الفائز بجائزة البوكر العربيّة في العام 2013، عن رواية “ساق البامبو”، سعود السنعوسي، الرقيب الذي عمل على منع نشر روايته، “فئران أمي حصة”، وتوزيعها وتداولها، في بلده الأم، الكويت، بأنّه “مغلوب على أمره ومهزوز الثقة، وأبعد ما يكون عن القراءة والثقافة”.

لكن، السنعوسي، مثله مثل معظم الكتّاب والكاتبات، العرب وغيرهم، الذين مُنعت كتبهم في بلدانهم الأم، أو في بلدان أخرى، لا يملكون حلولاً أخرى سوى السكوت وقبول القمع الرقابي، أو في أحسن الأحوال الحديث إلى وسائل الإعلام، وفي السنوات الأخيرة، النشر على وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف خلق ضغط شعبي، لرفع المنع عن الكتاب، أو الرواية، أو ديوان الشعر، التي منعها رقيب ما، لسبب نجهله في معظم الأوقات.

الأمثلة أكثر من أن تُعد في بلاد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الناطقة باللغة العربيّة. فمنذ التاريخ القديم مُنعت قصائد وقُتِل شعراء، من الحلّاج الصوفيّ مثلاً لا حصراً، وصولاً إلى العهد الحديث ومنع كتب علي الوردي وعبد الرحمن منيف وسلمان رشدي ونزار قباني وغيرهم الكثير الكثير، حتى وصل الأمر إلى القتل والاغتيال، كما حدث مع فرج فودة.

دائماً ما تكون حجج الرقيب متشابهةً: حجة سياسيّة وأخرى اجتماعيّة وأخرى دينيّة. يخاف الرقيب من الكلمة، ومن تغيير أيّ شيء في أفكار مجتمعه الذي يريده محافظاً مثل تفكيره، مجتمعه الذي يريده قامعاً تحت حكم الديكتاتوريات كما يحب. يريد الرقيب ألا يقترب الفكر، ولا الأدب، ولا الفلسفة من المقدسّات التي يُقدسها، ويخاف نقدها.

يقول الروائي السوداني أمير تاج السر، في رفضه لمنع الكتب: “​​لتُطرح الكتب بكلّ ما فيها أمام ذكاء القارئ”. لكن هذا الرقيب يا سيد أمير يخاف من القارئ ومن ذكائه، فيمنع هذا الكتاب تارةً، وذاك الكتاب تارةً أخرى.

على الرغم من ذلك، كثيراً ما صار عكس ما ترغب فيه الرقابة، وأصبح الكتاب الممنوع أكثر تداولاً، ولو سرّاً، فكلّ ممنوع مرغوب كما يقول المثل الشهير. يضيف تاج السر في مقالته التي نشرها في العام 2013، تحت عنوان “عن منع الكتب”: “غالباً ما يسعى بعض القرّاء للحصول على الكتاب الممنوع بأيّ ثمن، لا لإرضاء شهوة القراءة كما يحدث عند القرّاء المتمرسين، ولكن بحثاً عن النشاز، وبالتالي يحصل رواج أكثر لسلعة ربما تبور لو لم يُنبّه إليها”.

كتب ممنوعة وسجون

في الحديث عن منع الكتب، لا بدّ لنا من ذكر رواية “القوقعة” للروائي السوري مصطفى خليفة والتي ربما تكون إحدى أشهر “الروايات الممنوعة” في البلاد العربيّة في السنوات العشرين الأخيرة. فالرواية التي صدرت في العام 2008 عن دار الآداب اللبنانيّة، تحكي عن إحدى المحرمات في “دولة البعث الأسديّة”.

تحكي الرواية التي تميل إلى أسلوب سرد الذكريات عن معتقل سوري درس الإخراج السينمائي في فرنسا، وعند عودته إلى بلاده في ثمانينيات القرن المنصرم، يُعتقل فور وصوله بسبب تقرير مخابراتي، فيقضي اثنتي عشرة سنةً في سجن تدمر الصحراوي، أحد أسوأ السجون في العالم، والسجن الأسوأ سمعةً في عهد حكم الأسد الأب لسوريا.

تعرض الرواية تفاصيل التعذيب والمعاملة السيئة التي تلقّاها المعتقلون السياسيون في سجن تدمر، وتنقل مشاهدات وأحاسيس بطل الرواية خلال هذه السنوات الطويلة، لتنتهي الرواية بالبطل سجيناً لذاته، ومتقوقعاً عليها، غير قادر على تجاوز الهوة بينه وبين الآخرين المتأقلمين في قوقعة أكبر من قوقعة السجن؛ قوقعة الحياة في سوريا الأسد.

على الرغم من أنّ رواية “القوقعة” تُرجمت إلى لغات كثيرة، إلّا أنّ قرار منعها من التوزيع والتداول في سوريا، ما زال سارياً حتى اليوم، لكن المواقع الإلكترونيّة، والقرصنة غير الشرعيّة للكتاب، تجاوزت موانع الرقابة وعوائقها، وصار الكتاب متاحاً إلكترونياً في منصات إلكترونيّة كثيرة.

في غياب قوائم الأكثر قراءةً والأكثر انتشاراً في سوريا، نجيز لأنفسنا القول إنّ رواية “القوقعة” صارت واحدةً من أكثر الروايات السوريّة التي قرأها السوريون والسوريّات في السنوات الأخيرة، والأكثر انتشاراً بينهم ربما، ولا سيما بعد انطلاق الثورة السوريّة في أواسط آذار/ مارس 2011، والفضل في ذلك يعود إلى المواقع الإلكترونيّة، ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام البديلة التي ظهرت بعد انطلاق الثورة، وصارت تحتفي بالكتب المعارضة لنظام الأسد.

هذا الاحتفاء الكبير بالرواية، لم يلقَ أيّ صدى لدى الإعلام التقليدي، ونقصد الإعلام السوري الرسمي وشبه الرسمي، ففي سوريا لا يوجد إعلام خاص، فالجميع خاضعون للحكومة السوريّة وللرقابة الحكوميّة الأمنيّة التي تسمح وتمنع بما يرضيها. نكاد لا نجد خبراً أو تقريراً أو حتى حديثاً عابراً في سهرة تلفزيونيّة عن رواية تُعدّ الأشهر في البلاد.

غياب تام لوسائل الإعلام

الإعلام هذا فقد إحدى وظائفه الأساسيّة تحت سطوة الديكتاتوريّة، وهي، أيّ وظيفة الإعلام، الوقوف بجانب الحق وقول الكلمة الحرّة أمام سلطان جائر، حتى لو خالفت هذه الكلمة الحرّة معتقدات المجتمع وتقاليده وعاداته. يرفض الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع في سوريا، أن يحكي عن رواية مُنعت في البلاد، ذلك لأنّ مَنْ منع الرواية يتحكم بالإعلام، وبما ينتجه هذا الإعلام، ويحاول التحكّم بالوعي عن طريق توجيه الإعلام وصياغته.

ليس الأمر في سوريا وحسب، بل هو كذلك في كلّ الدول التي تقبع تحت قبضة دكتاتوريّات، سواء أكانت ديكتاتوريات دينيّةً أو عسكريّةً أو علمانيّةً، ففي المملكة العربيّة السعوديّة ذات النظام الديني، مُنعت كتب أكثر من أن تُعدّ، ولعلّ أشهرها كتاب “مدن الملح” لعبد الرحمن منيف، ذو الأجزاء الخمسة، الممنوع من التداول داخل المملكة حتى الآن.

تصوّر الرواية الحياة في مدن الجزيرة العربيّة وقراها مع بداية اكتشاف النفط والتحولات المتسارعة التي حلت في تلك المنطقة بسبب ذلك الاكتشاف وبدايات تأسيس المملكة بشكلها الحالي وصراعات الإخوة على الحكم.

في مصر ذات الحكم العسكري، سجن نظام السيسي، مؤسّس مكتبة ودار نشر “تنميّة” في القاهرة، خالد لطفي، بعد إصدار حكم قضائي بسجنه لخمس سنوات، بتهمة “إفشاء أسرار عسكريّة وبث شائعات”، وذلك لإعادة طبعه لكتاب “الملاك: أشرف مروان”، والذي يحكي قصة أشرف مروان، صهر الرئيس المصري السابق، جمال عبد الناصر، كجاسوس إسرائيلي في مصر، وهي القصة التي يرفضها المسؤولون المصريون.

على الرغم من هذا، يكاد ينعدم دفاع الإعلام “الوطني” عن الكلمة الحرّة، وحرية النشر والكتابة، إن كان النشر مقالاتٍ في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونيّة، أو إن كان مطبوعاً في كتب روائيّة أو شعريّة أو فكريّة. لكن يظهر دفاع آخر، من وسائل إعلام أخرى، ووسائل إعلام معاديّة لنظام الحكم في بلد ما، فمثلاً خلال سنوات الأزمة الخليجيّة صرنا نرى صحافةً ووسائل إعلام مموّلةً من قطر، تدافع عن كتّاب وكاتبات لا تحبهم حكومات الإمارات والسعوديّة، والعكس صحيح أيضاً، وهذا ليس من الحرية في شيء، بل هو وجه من وجوه العداء.

في خضم هذه الديستوبيا، وواقع عالمنا العربي المرير، ومدننا الفاسدة، يقف الكتّاب بجوار الكاتبات في مواجهة منظومات سلطويّة عنصريّة طبقيّة ذكوريّة مدجّجة بالسلاح، وعامرة بالسجون وفروع الأمن، لا سلاح لهم/ لهن إلّا الكلمة الحرّة التي يحاول سيف الجلّاد منعها من الوصول إلى عموم الناس. لكن، الكلمة الحرّة، والفكر والثقافة والفلسفة، دائماً ما وجدت طريقها إلى القارئات والقرّاء، ودائماً ما عرفت كيف تبقى حيّةً في تاريخ الأمم والشعوب، ولنا في قراءة تاريخ المنع عبرة.

رصيف 22

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button