العمل الصحفي في سوريا: مواثيق مفقودة في بيئة النزاع/ مصعب الياسين
“تبقى الصعوبات الأكبر هي عملي بدون عقود مع الوكالات التي عملت معها حيث لا يوجد عقد يضمن لي البقاء ثلاث أو ستة أشهر أو سنة ودائما خائفة من فقدان عملي بأي لحظة أو التعرض للفصل دون سابق إنذار”
تحطمت كل أمالي وطموحاتي بالوصول إلى العالمية بعملي الصحفي، خاصةً بعد إهمال حالتي من قبل الجهة التي كنت أعمل معها، ومن عموم الجهات الإعلامية والصحفية والمنظمات التي تدعي دعم الصحفيين والإعلاميين، بعد تعرضهم لإصابة دائمة.
يوثِّق هذا التحقيق ظروف عمل الصحفيين في بيئة النزاع في سوريا، وتعامل الجهات الإعلامية معهم في مجالات الأمن والسلامة والأجور والعقود والتعويضات، يعتمد التحقيق على شهادات لـ 58 مواطن صحفي يعملون في سوريا منذ العام 2011، إلى جانب ردود لمراكز أبحاث خاصة بالصحفيين، حول حقوق الصحفيين ببيئات النزاع وواقع عملهم في سوريا، مثل المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، ورابطة الصحفيين السوريين، والمركز الصحفي السوري.
فضل عدد من الصحفيين الذين شاركوا بشهاداتهم الظهور بأسماء مستعارة، جراء تخوفهم من خسارة عملهم مع الجهات الإعلامية التي يعملون معها، فيما فضل آخرون عدم ذكر اسمائهم الصريحة لاعتقادهم أن شهاداتهم سوف تؤدي الى عدم حصولهم على عمل مستقبلًا.
صحفيون مصابون.. لا عمل ولا تأمين
لم يعلم الصحفي محمد أمين أن دخوله لتغطية التطورات الميدانية غرب حماة في ربيع العام 2017، سينتهي بخسارة جزء من قدمه وإصابة الأخرى بجروح لم تتعافى مع مرور السنوات الباقية، يعاني محمد من ألم مستمر في قدمه وغصة قلبه، بدأ الشاب عمله كمواطن صحفي منذ عام 2012، وانتهى به المطاف اليوم نازحاً يسكن أحد مخيمات الشمال السوري، دون عمل أو كفالة تمكنه من العيش بكرامة مع أسرته.
كنت بكامل طاقتي وقوتي أعمل مع وكالة سمارت، اشتريت كاميرتي بالدين يتحدث “محمد أمين” وعلى ساقه المصابة يجلس ابنه ويضع يده على قدمه المبتورة خوفًا من أن تصل قدم ولده إليها وتسبب له ألماً لا يُحتمل.
يقول الصحفي “محمد أمين ” دخلت الى العمل الاعلامي منذ العام 2012، وثقتُ بكاميرتي الانتهاكات بحق السوريين في بيئة الحرب وسلطت الضوء على قضايا اجتماعية ومعيشية، وعلى مدى السنوات الماضية لم ادخر جهد بالوصول إلى أهم مشكلات السكان وواقع الحرب في بلدي، حتى العام 2016 عندما بتر جزء من قدمي وأصيبت الأخرى أثناء عملي برصد قصف طائرات النظام السوري وروسيا على ريف حماة، ذلك اليوم الذي من المستحيل أن يمحى من ذاكرتي، تحطمت كل أمالي وطموحاتي بالوصول إلى العالمية بعملي الصحفي خاصة بعد إهمال حالتي من قبل الجهة التي كنت أعمل معها ومن عموم الجهات الإعلامية والصحفية والمنظمات التي تدعي دعم الصحفيين والاعلاميين بعد تعرضهم لإصابة دائمة، تواصلت مع عشرات المنظمات والجهات بغية أن احصل ما يمكنني لتأمين تكاليف الحياة و المعيشة لأسرتي، ولكن لم اتلقى إلا مساعدة خجولة من منظمة بتجهيزات طبية لقدمي، واليوم أعيش بدون مرتب وأكثر ما يقض مضجعي التفكير بأطفالي ومستقبلهم ومعيشتهم.
يعمل الصحفيون في سوريا في بيئة نزاع مشتعلة منذ العام 2011، أجبرتهم الأحداث هناك على العمل بمجال الإعلام والصحافة تحت ظروف الخطر والحرب، وصل عدد الانتهاكات بحق الإعلاميين بين عامي 2011 -2021 الى 1421 انتهاكاً مارسته كل أطراف النزاع في البلاد، وذلك بحسب رابطة الصحفيين السوريين، التي وثقت مقتل 462 صحفي وإصابة 345 آخرين، إضافة لـ 374حالة احتجاز واعتقال وخطف، في حين وصل عدد الانتهاكات ضد المؤسسات الإعلامية إلى 125 انتهاكاً.
يعيش الصحفي “سيف العبد الله” ظروف صحية صعبة، بسبب متابعة علاجه الفيزيائي لساقه التي تضررت جراء إصابته أثناء عمله، مع قناة أورينت على تغطية التطورات الميدانية في ريف حماة، في شهر شباط\فبراير 2017 إذ كان ذلك العام مفصلي في حياة “العبدالله” بحسب ما أدلى به للمركز الدولي للصحفيين، اذ لم يحصل “سيف” على تعويض عن إصابته بل اقتصر جهد القناة بدفع التكاليف الطبية للمشافي أثناء رحلة العلاج في تركيا، مع استمرار القناة بدفع راتبه، ولكن بنسبة مخفضة إلى أقل من النصف عما كان يتقاضاه قبل الإصابة.
يقول الصحفي “سيف العبدالله”، “إن عملي مع قناة اورينت كان بعقد إلا أن ذلك العقد لم يحمل أي صيغة عن تعويض عن الحياة أو حادث أو اصابة سوى انه كان عقد عمل عادي يتضمن الراتب وأصول العمل، وخلال عملي مع القناة حصلت على درع وخوذة من القناة كـ معدات أمن وسلامة وورشة أونلاين عن الأمن والسلامة، وبشكل عام كان الجهد يصب من قبل الوكالات والقنوات حول دورات وورشات تطوير العمل الإعلامي” .
“كنت اتواجد بمكان وجود الحدث سواء مظاهرات أو تطورات ميدانية أو توثيق انتهاكات، وفي شتاء العام 2017 أثناء تغطيتي مع عدد من الزملاء لتطورات القصف على ريف حماة والمجريات الميدانية تعرضنا لاستهداف مباشر من طائرة حربية روسية، بصاروخين أدت لإصابتي بساقي اليسرى إضافة لشظايا ببعض أنحاء الجسم، كما أصيب عدد من الزملاء الإعلاميين وقتل على الفور احد الاعلاميين، استمرت بعدها فترة علاجي في المشافي التركية الى حوالي العامين، ولليوم أعاني من موضوع الإصابة التي سببت لي إعاقة دائمة بقدمي اليسرى، لأستمر بعدها في مرحلة العلاج الفيزيائي لليوم، كان تأثير الإصابة صعب على أسرتي وعلى حياتي الشخصية والعملية، سيما بمجال تغطية الانتهاكات وجرائم الحرب المرتكبة من قبل النظام وروسيا”.
رغم كثرة الجهات التي عمل معها “سيف العبدالله” ( قناة الجسر – شبكة شام – قناة اورينت ) إلّا أن كل الجهات لم تتطرق لموضوع التأمين الصحي، والتأمين على الحياة والحوادث إذ لم يحصل على تعويض بعد الانتهاء من رحلة العلاج، ويؤكد “العبدالله” أنه طالب مرارًا بتعويضات مالية من القناة، إلا أنه لم يجد نتيجة ليعود إلى العمل مباشر بعد انتهاء رحلة علاجه، وبالرغم من حالته الصحية عاد الى ممارسة عمله لتأمين سبيل عيش لعائلته والاستمرار بدفع تكاليف العلاج الفيزيائي، ولكي يعود راتبه كسابق عهده قبل الإصابة توجب عليه التغلب على الألم والعودة لصناعة التقارير وإنتاج التغطيات الإعلاميّة.
يقول العبدالله “لم يكن الأجر الذي أتقاضاه عادلًا بعد الإصابة، لأنني لم أعد أستطيع العمل على التقارير التي كنت أنتجها قبل الإصابة ولكن كنت مجبر لتأمين استمرارية العلاج ومصاريف المعيشة”
خفضت قناة اورينت راتب “سيف العبدالله” في العام 2019 ومن ثم أوقفته عن العمل في ذات العام، تحت سبب ضائقة المالية.
بسبب ضعف المعلومات والتواصل، كان الصحفيون داخل سوريا يعملون مع قنوات ووكالات دون علمهم بوجود منظمات من الممكن أن يستندون عليها، وصعوبة توكيل محامين في الدول التي يقع فيها مقر المؤسسة لتحصيل حقوقهم في حال تم انتهاكها من قبل جهات العمل، بحسب “سيف العبدالله”، إذ لم يكن الصحفيون على دراية بحقوقهم وتعويضاتهم الصحية والنفسية التي يجب أن يحصل عليها الإعلامي في حال تعرضه لأي مكروه.
يوصي سيف العبدالله صاحب التجربة، الصحفيين والإعلاميين في سوريا العمل ضمن عقود ومواثيق لإلزام جهات العمل بحفظ حقوق الصحفيين وأسرهم وحياتهم، ويجب على الإعلاميين والصحفيين ببيئة النزاع الحذر في العمل خاصة مع وجود بعض المؤسسات التي لا تحترم نفسها ، ولا تراعي حياة الموظفين او العاملين لديها بالشكل المطلوب.
(تواصل معد التحقيق عبر 3 رسائل على البريد الإلكتروني input@orient-tv.net مع قناة اورينت التي عمل معها الصحفي لمنحهم حق الرد إلا القناة لم ترد على الرسائل حتى لحظة نشر التحقيق )
عمل معد التحقيق على استطلاع رأي40 شخص يعملون بمجال الصحافة شمال غرب سوريا، من بين الأشخاص الأربعين الذين تواصلنا معهم، ستة فقط لديهم عقود مكتوبة، عقد واحد فقط فيه تأمين ضد الحوادث، وآخر على تأمين معدات وأمن وسلامة.
في حين أن 19 من الزملاء الذين تواصلنا معهم يعملون بموجب اتفاقات شفهية، بينما الباقي يتواصلون بالبريد الإلكتروني أو بنظام الفواتير الشهرية، وبلا أية عقود تضمن حقوقهم.
من بين الأربعين شخصاً الذين تواصلنا معهم، تعرض 18 منهم لانتهاكات تشمل الاعتقال و الاعتداء و الإصابات الجسدية، واحد منهم فقط قدمت له مؤسسته مصاريف العلاج بينما أصدرت مؤسستين بيانات تضامن مع صحافييها فيما لم يتلقى الـ 15 الآخرين مساعدة أو تعويض يذكر.
وبحسب الاستطلاع يعتقد 26 صحفي أن مؤسساتهم لا تهتم بسلامتهم في حين يعتقد 12 صحفي أن مؤسساتهم مهتمة لسلامتهم.
العمل بلا عقود
بحسب السكرتير العام لرابطة الصحفيين السوريين “صخر إدريس”، “أهم ما يجب أن يحصل عليه الصحفي العامل في مناطق النزاع، ثلاثة مكتسبات أولها دليل الأمن والسلامة، وثانيها مدونة السلوك التي تحدد سلوك الصحفي وأخلاقيات العمل الإعلامي، وثالثها الحقوق والواجبات التي يجب أن يحصل عليها الصحفي، إذ يؤدي غياب العقود الرسمية بين الصحفي والمؤسسة التي يعمل بها ويؤثرعلى سويّة عمل الصحفيين ، حيث أن نسبة كبيرة من الوكالات والمؤسسات الإعلامية توظف الصحفيين في سوريا بدون عقد، سيما أنه هنا يتم استغلال حاجة الصحفيين للعمل وهذا الموضوع يبقي الصحفي تحت رحمة مزاجية رب العمل، ولا يشعر بالأمان الوظيفي ودائمًا قلق ويبحث عن بديل للعمل، وهو ما يؤثر على إنتاجية العمل والإنتاجية المهنية، ومن الممكن يتم طرد الصحفي من العمل بسبب خلاف بسيط جدًا وهنا يتم التنصل من الحقوق بحجة عدم وجود عقد عمل ونسبة كبيرة من المؤسسات والوكالات الإعلامية المحلية والإقليمية والدولية لم تعمل على الجانب القانوني بشكل صحيح، أكثر ما يهمها الحصول على المادة الإعلامية دون الاعتبار لأمن وسلامة الصحفي وتزويده بحقوقه، فيما يوجد بعض المؤسسات ملتزمة من خلال عقود قانونية، ومن جهة اخرى لا تستطيع بعض المؤسسات إبرام عقود قانونية مع الصحفيين، وتبقى التكليفات ضمن رسائل على وسائل التواصل، سيما أن تلك المؤسسات غير مسجلة بالتزامن مع وجود مؤسسات مسجلة نشبت بينها وبين صحفيين سوريين خلافات، تدخلت رابطة الصحفيين في الخلافات واطلعت على العقود وآليتها كما اسلف السكرتير العام “صخر إدريس”، إذ يقتصر دور رابطة الصحفيين على الدور والسلطة الأخلاقية والتوعوية، عملت الرابطة على دعم الصحفيين ببيئة النزاع من خلال تدريبات ومحاضرات توعوية ومنتديات نقاشية لتوعية الصحفيين بالأمن والسلامة وحقوقهم وواجباتهم، وإصدار بيانات مناصرة وتأمين دعم مالي للصحفيين خلال الأزمات.
درج