الغيرة/ سيمون دوبوفوار
ترجمة: نائلة منصور
مقدمة المترجمة
لم تحتمل سيمون دوبوفوار فكرة اقترابها من الموت وتقدمها في العمر وتداعي قواها، وكتبت عن ذلك في رواياتها وفي كتابها الجنس الآخر، وكذلك في كتابها الضخم والهامّ والمفصّل: الشيخوخة، الصادر عام 1970. وتتناول في فصول كثيرة منه جنسانية المتقدمين في العمر والفروق بين جنسانية الرجل المتقدم في العمر وجنسانية المرأة التي في نفس السن. أحد فصول الكتاب يحمل عنوان اكتشاف الشيخوخة والاضطلاع بها، وفيه مقطع طويل تستعيد دوبوفوار من خلاله سيرتين نسائيتين، سيرة جولييت شريكة فيكتور هوغو1؛ وسيرة سونيا زوجة ليون تولستوي. ما أدهشني في السيرتين ودفعني لترجمة هذا المقطع الطويل هو الإيقاع الهستيري لحياة المرأتين الذي تصفه دوبوفوار، وتلك الرغبة الموجودة عند الاثنتين بالهروب إلى الأمام، والاختفاء، والتواري، والانتحار؛ محاولات فاشلة لإشعار الآخر بالذنب أو استثارة شفقته. هي مشاهد رأيتها بدرجات مختلفة في حيوات نساء عرفتهن في حياتي، ولكن ما يُدهش أكثر هو ما لا يقال في تلك المشاهد الهستيرية، حين تقول جولييت في جملة من الجمل أنها تخجل عن فيكتور هوغو في فضائحه الجنسية وتريد أن تحفظ كرامته، هذه الجملة لا يفهمها أي شريك من شركاء النساء اللواتي عرفتهن ويرددن نفس الجملة دون أن يسمعها أحد. هذا الإيقاع الهستيري هو صراخ مستمر بلغة لا يفهمها أحد من المحيط، صرخة تقول: «أنا ما زلت أنا، ولكنكم لم تعودوا تفهمون ما أقول لأني أصبحت نوعاً آخر من الكائنات غير المتكلمة، أصبحتُ مسنّة». وهناك أيضاً الخيبة حين تكتشف المرأة أن زوجها ليس ذاك الرجل النبيل عالي الصفات، وأنه أصبح عجوزاً خرفاً. في هستيريا سونيا تولستوي، المهووسة بثروة تولستوي، هناك شيء آخر ذكَّرني بنساء كثيرات في حياتي، وهو أنه عندما يتلبّس المرأةَ شيطان الإرث، إرث زوجها، فهي تصرخ بلغة غير مفهومة لتقول أن الإرث هو التجسيد لرمزية ما تعنيه وما عنته مكانتها في حياة زوجها، هي رسملة رمزية لسنوات عمرها التي قضتها معه وكانت موضوع رغبته، إثبات أنها مازالت مهمة بالنسبة له. هذا الشيء لا يفهمه المحيط حين يتهم المرأة المتقدمة في العمر بالطمع والمادية.
1. تعرّف فيكتور هوغو على جولييت دروييه عام 1833، وكان قد مضى على زواجه من أديل فوتشير 11 عاماً، وبقي على علاقة بجولييت حتى وفاتها بعد خمسين عاماً من لقائهما، سنة 1883. (المترجمة)
* * * * *
الغيرة
مقطع من فصل: اكتشاف الشيخوخة والاضطلاع بها من كتاب الشيخوخة لسيمون دوبوفوار
هناك هوى متجذر في الجنسانية تزيد الشيخوخة من حدته، ألا وهو الغيرة. لقد أظهر لاغاش1 أنها ناتجة غالباً عن انزياحٍ عاطفي، فالحلّاق الذي تتهاوى صنعته يقنع نفسه بأن زوجته تخونه ويثقل بالشجارات معها. والشيخوخة هي فترة خيبة وكبت على العموم، ومولدّة لمشاعر غائمة ومختلطة قد تأخذ شكل الغيرة. من جهة أخرى فإن تدهور الجنسانية غالباً ما يستجر عند كثير من الأزواج المتقدمة سناً أحقاداً من طرف واحد أو متبادلة، والتي من شأنها أن تُترجَم بالغيرة. نقرأ أحياناً أن سبعينياً ضرب صاحبته العجوز أو قتلها بسبب الغيرة، أو أنه تعارك مع غريم. ربما انتقم من برودة شريكته أو من عجزه. هناك نساء يمثلنَ في أعمار تتجاوز السبعين أمام المحاكم لأنهن يتقاتلن فيما بينهن من أجل عشيق. في مآوي العجزة حيث يختلط الجنسان تحدث الكثير من العراكات نتيجة الغيرة. لاحظ الدكتور بالييه والدكتور سيبسوت، بعد بحثٍ أجري في الدائرة الثامنة عشر في باريس، أن الأزواج يواجهون صعوبات في التقدم في السن أكثر من الأفراد العزّب لأن العلاقات العاطفية بين الأزواج تزداد حدةً وتنحدر. يدفع تدهور صحتهم، والعزلة الناتجة عن التقاعد، ومغادرة الأبناء للبيت، واحدهم للعيش من أجل الآخر تقريباً. حينها يطلب واحدهم من الآخر الحماية والحب أكثر من أي وقت مضى، وسيكون الشريك قادراً على تلبية هذا الطلب أقل من أي وقت مضى. عدم الرضا المستمر هذا يستثير تطلّبَ التواجد الفيزيائي المستمر والغيرة، وتنكيل الواحد بالآخر. قد ينزل الفراق ضربة قاصمة على الأفراد الذين لا يستطيعون الاستغناء عن بعضهم، إلا أن التعايش يحمل لهم العذاب أكثر من السعادة.
هذا يختلف عند الأزواج الذين تكون المرأة أكثر شباباً من شريكها بكثير، فللرجل المسنّ أسباب أقل من شريكته ليكون غيوراً. هو ما زال يحتفظ بشهيته الجنسية بينما لم تعد هي موضوع رغبة. فيما يلي سأكتب وصف حالتين من الغيرة النسائية، جولييت درويه وصوفي تولستوي.
لقد عانت جولييت طوال حياتها من خيانات هوغو وعدم وفائه، وكانت هذه الخيانات لتصبح عسيرة عليها عندما ينقطع الوصال الجسدي بينهما. تشعر بنفسها عزلاء تماماً، دون دفاعات ومهزومة ومُهانة. في عام 1873 عندما نشأت قصة غرامية بين هوغو وبلانش، ارتكست جولييت، البالغة حينها تسعة وستين عاماً، بردة فعلْ عنيفة لا مثيل لها في تاريخها مع زوجها، إذ استدانت مئتي فرنك من أصدقائها واختفت يوم 23 أيلول دون أن تترك أثراً. يُجَن جنون هوغو ويوكِل للبحث عنها في كل مكان، ليجدها في بروكسل. تقبل العودة إلى باريس، ويذهب هوغو إلى المحطة لاستقبالها ويتصالحان. وبعد أربعة أيام من عودتها، أرسلت له واحدة من «خربشاتها»: «الغالي، محبوبي الغالي، منذ تلك الأيام الثمانية الرهيبة التي قضيتها في كمد ويأس المعذبين، ها هو اليوم الأول الذي يتفتح فيه فمي كما عينيّ وقلبي وروحي، لأرى الله، لأبتسم لك، لأصلي لك، لأباركك. لقد انتهى إذاً ذاك الكابوس الفظيع، هي حقيقة إذاً أنك تحبني ولا تحب غيري..». ولكنها تعود لتكتب في 16 تشرين الأول 1873: «لن أقاوم طويلاً هذا الصراع الذي لا يتوقف بين حبي العجوز المسكين وبراثن الغوايات الشابة المعروضة عليك..».
لا بد أنه عاود لقاء بلانش بعد أن قطع وعداً بأن يقطع علاقته بها: لم تستطع جولييت أن تحتمل ذلك التضاد بين نضارة الغسّالة الشابة وبين طعنها في السن. وهو اليأس نفسه الذي تعبّر عنه يوم 18 تشرين الثاني (نوفمبر): «لا أريد أن أكون منشاراً يقطع عنك الفرص الجميلة التي تصادفها، ولكني لا أقدر أن أمنع نفسي من الشعور بأن حبي القديم سيبدو بائساً باهتاً وسط كل تلك الغانيات الرافلات بالصِبا…بدءاً من اليوم سأغلق على مفتاح قلبي».
11 آذار (مارس) 1874: «من لم يكن له قلب يجاري عمره، سيُثقل عمره بكل الشقاء».
«تشرح هذه الأمثولة وتلتمس العذر، بإيجازها، ما أجلبه لحياتك من إزعاجات رغم إرادتي، حين أعاني أنا نفسي مثل معذبّة مقهورة..».
4 نيسان (أبريل) 1874: «بالنسبة لي لا تبدأ الخيانة عند الفعل وحسب، فأنا أراها مؤكدة بوجود الرغبة فقط، إن اتفقنا على ذلك، أرجوك صديقي الغالي ألا تزعج نفسك وأن تتصرف وكأني لم أعد هنا».
ومن ثم تستعيد قليلاً من البهجة.
11 نيسان 1874: «أشعر بنفسي وحي من الشباب، غير نكدة، لا بد أنها السبعين ربيعاً التي امتلأتُ بها». ولكن الحزن يعود ليسيطر عليها بسرعة. لم تكن تغار من عشيقات هوغو الشابات وحسب، بل من عائلته أيضاً. كان قد استأجر في كليشي شقة بطابقين، في الأسفل غرف الاستقبال، وفي الأعلى غرف المعيشة التي كان يتقاسمها مع كنّته وأحفاده. مكثت جولييت معه في الطابق نفسه، ولكن الكنّة أنزلتها إلى الطابق السفلي متعذرة بأن الأطفال يحتاجون إلى مساحة أكبر في الطابق الأعلى. تكتب جولييت في 7 أيار (مايو) 1974: «قلبي مليء بالمشاعر الحزينة. هذا الطابق الذي يفصلنا، كأنه جسر مقطوع بين قلبينا…أنا يائسة وأمسك نفسي حتى لا أجهش بالبكاء».
لا بد أنها تُعلق الكثير من الأهمية على هذا الحادث لأنها تعرف أن هوغو مازال يخونها. تعاني من الأمر وكأنه نقصان في الحب، ولكن أيضاً لأنها تشعر بالخجل عوضاً عنه، وهو الذي عُرف عنه آنذاك بأن حياته الجنسية لم تكن دائماً واعدة ولامعة.
21 حزيران (يونيو) 1874: «يبدو أن ما بقي من قلبي المسكين هو مصب لكل مطاردات الرذائل والمغامرات المشينة، أما أنا فأعلن نفسي مهزومة دون معركة..». الساعة الخامسة: «ترعبني شهادة سيزيف الذي يصعد بحبه كل يوم إلى أعالي السموات، ومن ثم يشعر بها تهبط بكل ثقلها على قلبه، أفضل ألف مرة الموت حالاً على هذه الآلام غير المحتملة. أَشفق علي، دعني أذهب..».
كانت بينهما لحظات مؤلمة تمنت حينها الانفصال عنه.
28 تموز (يوليو) 1874: «أنت لست سعيداً، محبوبي المسكين، وأنا لست أكثر سعادة منك. أنت تتألم من جرح المرأة الذي سيكبر أكثر فأكثر لأنك لا تتحلى بالشجاعة الكافية لكيّه إلى الأبد، أما أنا فأتكبد فرط حبي لك».
7 تموز 1875: «أؤكد لك أني سأعاني أقل إن ابتعدتُ عنك. إن شعرت أنك سعيد ومطمئن، بدل أن أشعر أن وجودي هو عثرة في كل لحظة من لحظات عملك وحريتك وهدوء وراحة حياتك… كل شيء أفضل لقلبك ولقلبي من أن أشعر بأني لم أعد أكفيك..».
1877: «محبطة أنا، أشكّ بالسماء وبك..».
لم يعقل هوغو مع الزمن، وبات صعباً عليها أن توفق بين تصورها وتقديرها العالي له وبين بدايات تداعي حالته الذهنية.
في حزيران 1878، بعد أزمة هوغو الصحية2 سعت جولييت بدعم من لوكروا3 لأن تقطع علاقة هوغو مع بلانش بإخبارها أنه قد يموت بين ذراعيها إن لم تتركه. أرسلت جولييت المال إلى بلانش، وأذعنت هذه الأخيرة وتزوجت4. ولكن كان لها بديلات فيما بعد. خلال الصيف الذي قضوه في غيرنيسي في نفس السنة، كتبت جولييت إلى هوغو في 20 آب: «لقد كان فجرك صافياً، ينبغي أن يكون غروبك كذلك مقدساً ومحترماً. أريد باسم ما بقي لي في هذه الحياة أن أحميك من بعض الأخطاء غير اللائقة بجلالة عبقريتك ولا بسنك».
ورغم أن هوغو لطالما كتب لها: «أشعر أن روحي هي لروحك»، إلا أنها لم تكن تحتمل أنه كان لا يزال يتلقّى رسائل من نساء. كانت زوجة أمين سر هوغو تنقل أن كل تفصيل كان بالنسبة لجولييت ذريعة للشجار، حتى في غيرنيسي. هذه المرأة التي كانت لتقتل نفسها فداءً للسيد، أضحت تتسلى بتثقيبه بالدبابيس.. ذات صباح، انفجرت نوبة غضب بسبب رسالة كتبتها خادمة قديمة. كانت السيدة دروييه قد فتحت الرسالة، مما فسر عويلها وصرير أسنانها: «بعد أن وجدت جولييت في حقيبته ماقيمته خمسة آلاف فرنك من القطع الذهبية سألت عما سيدفعه بهذا المبلغ. في مرة أخرى وجدت دفاتر قديمة تشمل أسماء نساء مما سببّ دراما. ومن ثم كان هناك دراما أخرى عندما عرفت أنه يتسكع في شوارع البغاء. أرادت حينها أن تذهب للعيش في ايينا مع أحد أولاد إخوتها».
فيما بعد تصالحا واستقرا في باريس في شقته نفسها، ولكنها ظلت تتعذب. كتبت في 10 تشرين الثاني 1879: «أخشى أن أتذكر الذي حصل، أو أستشرف ما سيحصل، لم أعد أجرؤ على مشاهدة الأمام ولا الوراء، لا فيك ولا فيّ، أنا خائفة». في 11 تشرين الثاني، تلومه على «تدنيسه للأشياء ومحاولاته المتكررة للانتحار». أصبحت تصرفاته تبدو لها غير كريمة، لا بل خطيرة.
في 8 آب (أغسطس) 1880: «حبيبي الأغلى، أقضي حياتي وأنا أحاول جاهدة أن أضم وألصق القطع المكسّرة لمثالي المعبود دون أن أتمكن من إخفاء الكسور». في يوم من الأيام، حين تلمح بلانش في شارع فيكتور هوغو، تدخل في نوبة سخط شديد. كانت في لحظات عديدة حزينة ومنكودة ومحبطة لدرجة توقفت فيها عن كتابة «خربشاتها». بقيت إلى جانب هوغو حتى موتها، إلا أنها لم تعرف السلام يوماً.
كانت في أحيان كثيرة، وخاصة في قصة بلانش، عشيقة عجوز غير محتملة ومغالية ولكننا نفهم خيبتها. كانت تتصور أنهما سيكبران جنباً إلى جنب، عازفين متعفيفين عن ملذات البدن. ولكنه إما زجّ قلبه في العلاقات الغرامية لتتألم وتشعر أنه لم يعد لها وحدها، أو أنه اكتفى بلقاءات اعتبرتها غير لائقة. أما دموعها وصراخها فعذرهما حبها الكبير والشامل.
أما غيرة صوفي تولستوي فكانت من طبيعة أخرى تماماً. كانت تمقت مضاجعة زوجها، وحولت هذا البغض منذ وقت مبكر إلى غيرة. كانت قد دونّت منذ عام 1863 بأن الغيرة عندها هي «مرض فطري». وعلى طول مذكراتها كررت: «تأكلني الغيرة». وكانت تعاني من وضعها كـ«تابعة» إلى جانب رجل ذي شخصية طاغية، وكذلك من حياتها المتقشفة والمنسحبة التي لم يستطع حملها المتكرر أن يملأها. كانت تكره الريف والفلاحين. وأفضل لحظات حياتها الزوجية كانت تلك التي كتب فيها تولستوي الحرب والسلام وآنا كارنينا: كانت تبيّض مسوداته وتشعر بأنها متصلة به عبر هذا التعاون، حين كان يتوقف عن كتابة الروايات كانت تشعر بأنه يخونها، ولكنها قبل كل شيء لم تكن تقبل سلوك زوجها فيما يخص المال. منذ عام 1881، أخذت الانشغالات الأخلاقية والاجتماعية في حياة تولستوي تأخذ الحيّز الأول. كان يودّ توزيع أراضيه على الفلاحين والتنازل عن أرباحه الأدبية. وكي لا يتدخل مباشرة في إدارة أراضيه، اكتفى بتوكيل سونيا5 بذلك. عام 1883، تم الاتفاق على أن تطبع أعمال زوجها السابقة لعام 1881، عام الولادة الثانية لتولستوي، وأن تقبض حقوق المؤلف. للتعويض عن ذلك، أسس تولستوي مع تلميذه المفضل تشيركوف دار نشر، الوسيط، لتوزيع أعمال بجودة عالية وبأسعار زهيدة للشعب. كل تلك الترتيبات لم تكن كافية لجلب السلام إلى منزل الأسرة، فقد كانت تلومه لأنه يضحي بأولاده من أجل الفلاحين، ولم يكن يطبق الحياة الدعيّة المريحة والاجتماعية التي كانت تدفعه لعيشها. يكتب تولستوي: «ما بيننا اليوم هو صراع حتى الموت». ومنذ تلك اللحظة بدأ يوكل أمر مسوداته إلى ابنته ماشا، مما حمل سونيا على الاختناق سخطاً وغضباً. تسجّل سونيا في مذكراتها يوم 20 تشرين الثاني 1890: «إنه يقتلني، يبعدني من حياته الشخصية، وهو ما يؤلمني ألماً فظيعاً». كانت تكره التولستييين، وخاصة المحظي تشيركوف. وتفاقم سوناتا كرويتزر من حنقها حيث يدين تولستوي الزواج ويدعو إلى العفة. وتصبح العراكات الزوجية أكثر عنفاً. بقصد إراحة ضميره، يقرر تولستوي أن يتخلى عن كل ثروته، الثابتة والمنقولة، لصالح زوجته وأولاده. ولكنه بالمقابل يقرر أن تحول أعماله الأخيرة للصالح العام: سيستثير هذا البند الأخير سونيا لدرجة أنها ستهرع إلى المحطة لترمي نفسها تحت القطار6 ولكنها لا تفعل في النهاية. في كانون الثاني (يناير) عام 1895، ينهي تولستوي السيد والخادم. وبدل أن يودع العمل عند الوسيط أو في دار نشر سونيا لتضمها إلى مجموعة الأعمال الكاملة، يرسلها إلى دار نشر تقوم عليها امرأة، فتشك سونيا بأنه ينوي تركها من أجل تلك المرأة الغامضة. كان عمرها حينئذ خمسين عاماً. انطلقت في شوارع موسكو هائمة على وجهها، شعرها منكوش، وقدماها عاريتان ضمن الخفين، كي تموت في برد الثلج. يهرع تولستوي وراءها ليُرجعها. ولكنها تعاود الخروج صباحاً، فتخرج ابنتها ماشا لإرجاعها. تهرب مرة أخرى وتستقل عربة إلى محطة كورسك لترمي نفسها تحت القطار، ليلتقطها ابنها سيرج وابنتها ماشا. ويستسلم تولستوي.
ومع ذلك فهو لم يتصور أن يتركها. في يوم من الأيام، وكان عمره حينها 67 عاماً، اقترح عليه أحد تلاميذه، وكان يحصد إلى جانبه، أن ينفصل عن سونيا، عندئذ هجم عليه تولستوي بمنجله مهدداً إياه ضمن موجة غضب عارمة، ثم انهار في عويل. عندما بلغت سونيا الثانية والخمسين من عمرها، كانت مشاعرها الأفلاطونية تجاه الموسيقي تاناييف تغضب زوجها، ليكتب في 26 تموز عام 1896: «لم أنم هذه الليلة، قلبي يوجعني. لم أستطع السيطرة على كبريائي وغضبي». كانت الشجارات حول هذا الموضوع لا تعرف المهادنة، وكانت هناك اتهامات متبادلة، تفسيرات بالكلام المباشر أو عبر الهاتف. كتبت: «لقد أرعبتني وآلمتني هذه الغيرة المرضية التي أبداها ليون نيكولافيتش إثر خبر وصول تاناييف». وكان في الحقيقة قد كتب لها رسائل قاسية جداً: «إنه لمن المضني والمهين أن يحكم غريب عديم الفائدة حياتنا حالياً. هذا رهيب، وبشع ومخجل». «إن تقربك من تاناييف يثير اشمئزازي…إن لم تستطيعي إنهاء هذه الحالة، فلنفترق». ولكنهما لم يفترقا. في يوم عيد ميلاده السبعين كان ما يزال يضاجعها.
تساكنا لبضع سنوات بسلام إلى حد ما، إلى أن عاد تشيركوف عام 1908 إلى موسكو بعد عشر سنوات في المنفى. حينئذ يجن جنون سونيا، فذلك التلميذ الاستحواذي الغامض والطاغية كان له أثره على تولستوي، ما من شأنه أن يؤذي مصالح العائلة. كان يتملك مخطوطات تولستوي، ويحاول أن يستقطب أعماله ويستحوذ على تقديمها لوحده للأجيال اللاحقة. ورغم أنه كان ممنوعاً من الاستقرار في محافظة تولا حيث توجد ممتلكات تولستوي، إلا أنه ينجح بالاستقرار في بيت ريفي قريب ليتمكن المعلم من زيارته على حصانه. تلومه سونيا على هذه الزيارات وتخشى أن يكون قد تنازل له عن حقوقه كمؤلف. حصل حينها شجار كبير، حيث طالبته بأن ترث كل أعماله سواء قبل عام 1881 أو بعد. وتعترض كذلك على ذهابه إلى مؤتمر في ستوكهولم حول السلام. يتنازل بخصوص النقطة الثانية ولكنه لا يتراجع عن النقطة الأولى.
في حزيران عام 1910، يذهب تولستوي لقضاء بضعة أيام عند تشيركوف قبل أن يُرفع عن هذا الأخير حظر التنقل إلى المحافظات الأخرى، مما أثار غضب سونيا، لترسل برقية تطلب من زوجها أن يسبّق موعد رجوعه يوماً واحداً، فيرفض. تبوح إلى دفتر مذكراتها هارعة بقميص نومها، منكوشة الشعر، جاهشة بالبكاء: «ما خطبي، نوبة هستيريا، نوبة عصبية، احتقان في صدري.. بداية جنون؟ لا أعرف… لقد وقع في هوى تشيركوف بطريقة مقززة (وقد كان الوقوع في هوى الرجال موجوداً في خط شبابه) وها هو مستعد لأن يعيش على هواه ويفعل ما يحلو له. أنا مغتاظة غيرةً على تولستوي من تشيركوف. أشعر أنه انتزع مني كل ما عشته خلال الثمانية والأربعين عاماً، تراودني فكرة أن أذهب إلى ستولبورا وهناك أستلقي تحت القطار». حين عاد تولستوي من زيارته بقيت تجهش بالبكاء أياماً وهي تشتكي من حُبّه لتشيركوف. وفي إحدى الصباحات وُجدت وراء خزانة على قوائمها الأربعة وهي تدوّر حول فمها قارورة أفيون، لينتزعوها منها. تدفع تولستوي إلى الاعتراف بأنه أودع مذكراته الشخصية لآخر عامين عند تشيركوف، وتهرع إلى الحديقة تحت المطر وتعود بثياب مبلولة ترفض أن تنزعها: «لألتقط نزلة برد وأموت». بعد أيام قليلة يختلي تولستوي بابنته ساشا وبتشرتكوف ليتحدثوا. تتسلل سونيا على رؤوس أصابعها دون أن تحدث ضجة، باتجاه الشرفة لتسمع: «مؤامرة أخرى ضدي». كانوا يتداولون حول وصية تنزع عن العائلة الثروة لصالح الفلاحين والعامة. فيما بعد تطالب تشيركوف بشدّة أن يُرجع المذكرات. في اليوم التالي يبدو لها من غير المحتمل أن ترى تولستوي يجلس بجانب تشيركوف على الأريكة. تكتب في 5 تموز 1910: «كنت مضطربة غيظاً وغيرة». وفي الليل كانت تتخيل علاقات «منافية للطبيعة» بين الرجل العجوز وتلميذه. في الليلة بين 10 و11 تموز، وبعد شجار جديد تصرخ «سأقتل تشيركوف» وتهرع باتجاه الحديقة. بعدها، تكتب في مذكراتها: «بقيت ساعتين في الحديقة ممددة على الأرض الرطبة، غير مرتدية إلا ثوباً خفيفاً، ولا أطلب سوى الموت، والآن أطلبه. عند الساعة الثالثة صباحاً، لم نكن نياماً لا هو ولا أنا، ولم نقل شيئاً لبعضنا».
في 15 تموز (تطلب من تولستوي وصلاً بالمذكرات التي سيودعها في البنك): «غضب غضباً شديداً وقال لي “مستحيل، مستحيل!” وهرب فوراً. فاستولت عليَّ نوبة غضب كبيرة فاجئتني، أردت تناول الأفيون فخانتني شجاعتي وخدعتُ محبة ليون نيكولافيتش حين ادعيّت أني تناولته..بكيت..».
بعد أيام تكتب: «أرغب بقتل تشيركوف لأحرر روح ليون نيكولايفيتش من تأثيره الضار». في اليوم التالي تقرر ترك المنزل.
وتبقى تبحث عن الرسائل السرية بين الرجلين مرددة للمحيط شكوكها بمثليتهما.
28 تشرين الأول (أكتوبر): «ل.ن. هرب دون أن يخبر أحداً، ياللهول! في رسالته يقول أنه سيترك حياته الهانئة العجوز، حالما قرأت الرسالة كنت سألقي بنفسي في البركة المجاورة..».
ذهب تولستوي صباحاً بالسيارة مع الدكتور ماكوفيتسكي، بعد أن كتب لزوجته. أخذوا القطار وتوقفوا عند دير أوبتينا ثم فكر باستئجار بيتٍ ريفي عند دير شاماردينو عندما التحقت به ابنته ساشا بعد أن أوصل لها عنوانه ونصحته بأن يبتعد أكثر، راويةً مشاهد هستيريا أمها. يستقل تولستوي القطار بصحبة ساشا، والنهاية معروفة للجميع. يحتضر تولستوي في محطة أستابوفو، لتعرف سونيا من الصحفيين وتبقى تحوم حول البيت دون أن يُسمح لها بالدخول. تعيش من بعد زوجها تسع سنوات، ولا تتصالح مع ساشا إلا قبل موتها بقليل، عام 1919.
ها نحن ذا بعيدون تماماً عن الأزواج المثالية التي حلم بها روبرت بيرنز، فحتى الأزواج الذين عاشوا سعداء ومتحدين، تبقى الشيخوخة عنصر عدم توازن في حياتهم. وعند الأزواج الذين مزقتهم الصراعات وتجاوزوها إلى حد ما، فإن العمر يستنفذ نزاعهم. لم يُعرف لجولييت في شبابها وفي عمر نضوجها ما يشبه قصة هروبها مثلاً، وقسوتها الشديدة مع بلانش. عنف سونيا وذهانها الاضطهادي وصل إلى قمّته في السنوات الأخيرة من حياتها الزوجية. ما يفسر هذا التصاعد جزئياً هو أن الخيبة التي يشعر بها المتقدم بالسن تستثير عنده مشاعر عدائية ورغبة بالمطالبة طوال الوقت. ولا بد أن قصر مستقبله يدفعه في لحظته الحاضرة إلى مضاعفة متطلباته: الحب والثقة وكل ما يرضيه. عليه أن يحصل على كل ما يريد وفوراً، وهذا ما يجعله لجوجاً وغير صبور ولا يحتمل أي شيء يعارضه. لا يمكننا أن نفهم هذه الغيرة الخَرِفة إن لم نتفحص التجربة التي يعيشها المسنّ.
1. تشير الكاتبة هنا إلى دانييل لاغاش، وهو طبيب ومحلل نفساني ومن معاصري سارتر في المدرسة الوطنية العليا لإعداد المعلمين. (المترجمة)
2. يُذكر أن هوغو تعرض في تلك السنة لحالة صحية، يميل المؤرخون إلى أنها أزمة دماغية أضعفت قدراته الكلامية وأداءه الذهني. (المترجمة)
3. الزوج الثاني لأديل، أرملة شارل هوغو
4. لم يكن يواسيها شيء، وكانت تذهب عند أصدقاء هوغو لتحدثهم عنه وكانت تراقب خروجه من بعيد. بعد موت جولييت حاولت أن تعاود الاتصال به ولكن أصدقاء هوغو استطاعوا منعها.
5. عُرفت صوفي تولستوي بالاسمين: سونيا وصوفي. (المترجمة)
6. أرادت أن تقلد آنا كارنينا
موقع الجمهورية