سوريا: سوق للجثث وسمسرة “مُربحة” على الرفات/ علي الإبراهيم – خليفة الخضر
“كانت الجثث التي يضع عليها الضباط علامة نقوم بإخراجها لاحقاً وتسليمها لهم، ومن ثم يطلبون مبالغ 1500 إلى 3 آلاف دولار من أهالي المعتقل عن كل جثة”.
بينما كان أنور المحمد (35 سنة) يحوم حول مكب النفايات باحثاً عن أي شي يمكن الاتجار به أو بيعه، اشتم رائحة غريبة لم يعهدها من قبل، عفن ممزوج برائحة لحم ظنها في البداية رائحة كلب ميت، لكن ظنه لم يكن في مكانه.
الشاب في عقده الثالث، دأب على التنقيب في مكبات النفايات، محاولاً العثور على أي شيء لبيعه ابتدء من أحذية مهترئة يقوم بتنظيفها وتصليحها وبيعها، وصولاً إلى قطعة ذهب قد يجدها بين أكوام النفايات.
ما عثر عليه الشاب في هذا المكب الذي يزوره يومياً في قرية الحدث، في ريف حلب الشرقي، قلب حياته رأساً على عقب، إذ تحول من جامع نفايات بقصد الحصول على قوت يومه إلى رجل ثري.
الرائحة كانت تنبعث من جثة متآكلة لشخص تمت تصفيته على يد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية أو ما يعرف بـ”داعش” وتم رمي جثته في المكب، يشير أنور بيده باتجاه منزله، ويقول: “لولا أشلاء خلق الله لما استطعت بناء منزلي في الأرض التي ورثتها عن والدي، أنظر، منزلي اليوم ذو باحة، ومسيج بأسوار حجرية، وقد غرست فيه شتولاً من الزيتون”.
لم يتوانَ أنور عن دفن ما تبقى من الجثة بعدما حفر حفرة بعمق متر بجوار المكب، وكله خشية من أن يجذب بقاؤها هكذا في العراء الكلاب الشاردة التي يمكن أن تصبح مسعورة بعد التهامها. يغمض أنور عينيه ويستذكر الحادثة التي وقعت في منتصف آب/ أغسطس 2014 وما تلاها: “بعد رمي الجثة الأولى رموا جثثاً أخرى بشكل جماعي. كان القتلى مربوطون بحبال بأقدامهم أو أيديهم أو أعناقهم… نبهوني في البداية إلى أنني في حال تعرفت إلى أحدهم وأخبرت ذويه سيكون مكاني بين الجثث”.
لا يعرف أنور كما بقية السوريين في المنطقة، ما السبب الذي دفع التنظيم إلى قتل هذا الشخص ورمي جثته بهذه الطريقة، لكن جثثاً أخرى عثر عليها أنور لأشخاص كان سبب قتلهم مرتبطاً بأيديولوجية التنظيم أو بسبب تهم لا صحة لها كان التنظيم يسوّقها للتخلص من هؤلاء، إذ كان مقاتلو “داعش” يكتبون على جبين معظم الجثث التي يتم التخلص منها عبارة باللون الأسود أو الأزرق تقول “هذا كافر أو مرتد”.
اعتاد عناصر التنظيم رمي جثث قتلاهم في الآبار أو في مجاري أنهار جفت أو في مكبات النفايات، بحسب تقارير منظمات حقوقية محلية ودولية.
وبالنسبة إلى أنور أصبح يعرف أن للجثة سعراً وقيمة مادية بعدما سُمح له “ببيع الجثث التي يعثر عليها لأقرباء المقتول، وهنا بدأ “جني أموال لم يكن ليجمعها طيلة عمله في مكب النفايات” كما يقول.
“بعد رمي الجثة الأولى رموا جثثاً أخرى بشكل جماعي. كان القتلى مربوطون بحبال بأقدامهم أو أيديهم أو أعناقهم… نبهوني في البداية إلى أنني في حال تعرفت إلى أحدهم وأخبرت ذويه سيكون مكاني بين الجثث”.
تعد “حفرة الهوتة” في محافظة الرقة، واحدة من أكثر الأماكن شهرة والتي رمى فيها تنظيم “داعش” ضحاياه، وتقع على بعد 85 كيلومتراً شمال مدينة الرقة. ومنذ 2013 إلى 2015 عثِر على أكثر من 20 مقبرة جماعية في أنحاء سوريا فيها آلاف الجثث ويبلغ عمق الحفرة 50 متراً.
تصف سارة كيالي، وهي باحثة سوريا في تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” العام الماضي هذه الحفرة بالقول: “حفرة الهوتة كانت ذات يوم موقعاً طبيعياً جميلاً، أصبحت مكاناً للرعب والاقتصاص”.
خلال عملنا على هذا التحقيق، في سوريا والدول المجاورة، على مدار 18 شهراً، حصلنا على صور ومحادثات تؤكد عملية البيع، من خلال تتبع أربع حالات بيع جثث في مناطق سيطرة جغرافية مختلفة في سوريا، للتأكد من وجود نهج متكرر لهذه التجارة. اعتمدنا منهجية استقصاء من أجل التوثيق، تستند إلى المحادثات عبر وسطاء انخرطوا في هذه التجارة باستخدام برنامج محادثات عبر الإنترنت.
أثبتت الصور التي حصلنا عليها ولن نتمكن من عرض بعضها حفاظاً على سلامة مصادرها أن تجارة الجثث في سوريا درّت أموالاً على أفراد منخرطين في النزاع وحققت لهم ثراءً.
بداية الحكاية من الفتاوى الدينية
في محافظتي دير الزور والرقة وأرياف حلب، كان تنظيم “داعش” يستند بعدم تسليم الجثة لذوي المعتقل أو المخطوف، إلى فتوى لابن تيمية، وفق تقارير، يفتي فيها بحرمة دفن “المرتد” في مقابر المسلمين وعدم الصلاة عليه وعدم توريث ماله بل أخذه إلى بيت مال المسلمين، وانطلاقاً من الفتوى عمل التنظيم بحسب مطابقة شهادات لأهالي الضحايا حصلنا عليها، بعدم تسليم جثة كل من تم قتله لذويه، وكان يتعمد رميها في آبار الماء أو مكبات النفايات أو في حفر كبيرة.
أثناء بحث إحدى العائلات المنحدرة من ريف حلب الشمالي منتصف عام 2015، بين أكوام النفايات عن جثة ابنها الذي قتل بتهمة “التعامل مع جهات خارجية”، استطاعت العائلة التفاوض مع أنور وعرضت عليه سبعة آلاف دولار، حين علموا أن جثة ولدهم رميت في مكب نفايات قرية الحدث، بعدما مضت على قتله أسابيع.
قال أهل الفقيد لأنور إنه “في حال تفسّخت الجثة فهم يستطيعون معرفته من أسنانه”.
وعليه، تواصل أنور فوراً مع عناصر التنظيم الذين يأتون دورياً إلى المكب ويرمون الجثث، قال لهم إن العائلة تبحث عن ابنها فطلبوا منه إخبارهم أنهم يريدون 10 الاف دولار لقاء تسليمهم الجثة، وسيحصل أنور على 100 ألف ليرة سورية عمولة.
وافق الطرفان وكسب أنور حصته، وتبعت هذه العملية 9 عمليات بيع أخرى رتبها السمسار أنور والذي يتوارى عناصر التنظيم خلفه ويستخدمونه كواجهة لبيع الجثث.
وثّقت “هيومن رايتس ووتش” في 11 شباط/ فبراير من العام الماضي في تقرير لها حمل عنوان “مخطوفي “داعش” التقاعس عن كشف مصير المفقودين في سوريا”، اختطاف التنظيم الآلاف من منازلهم، وسياراتهم، وعند نقاط التفتيش، ليُصبحوا في عداد المفقودين.
وعلى رغم عدم معرفة العدد الكلي للمفقودين، أبلغت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” في آذار/ مارس 2019، عن أكثر من 8143 حالة لأفراد اعتقلهم “داعش” ولا يزال مصيرهم مجهولاً، غالبيتهم من الرجال، لكن حالات لنساء اختفين أيضاً، منهن ناشطات محليات.
يقول أنور: “كانوا يطلبون مبلغاً مالياً مقابل إخباري ذوي المعتقل أو المرسَل من قبلهم عن مصير ابنهم، كان الناس لا يساومون كثيراً ومن لم يكن يملك المال كان يستدين ويدفع لي، كنت أحياناً أجلس لساعات أعدُّ المبلغ المالي المجموع بالعملة السورية وأفرز الفئات النقدية والورقية”.
أثناء البحث في مكبات النفايات الأخرى في ريف حلب لمقاطعة ما أخبرنا به أنور، قال لنا أحد عمال النظافة في المكبات القريبة من المكب الذي يعمل فيه أنور: “كانوا يرمون الجثث، مرة أو مرتين في اليوم لا أذكر، ورأيتهم يأخذون الجثة من المكب”.
ياسر النجار والذي عمل مسؤول تفاوض بين جهات عسكرية سوريّة في تبادل الأسرى وجثث القتلى في ما بينهم له رأي آخر، يقول: “إن تنظيم داعش كانت له في بعض الأحيان شروط تعجيزية في الطلبات، لكن هذا لا ينفي عدم بيعهم جثة مقابل مبالغ مالية”.
سألنا معتقلاً يقبع حالياً في ريف حلب في سجن يتبع للمعارضة السورية، عمل كأحد شرعيي تنظيم “داعش” (رجل يصدر الفتاوى الدينية)، سألناه عن بيع الجثث ومدى استفادة التنظيم وعناصره منه كمصدر تمويل، اعترف بالقول: “مثل هذه الأفعال من يقوم بها هم فقط أمنيو الدولة (شخص مسؤول عن الأمن)، هؤلاء لم تكن هناك سلطة عليهم عندما كان التنظيم في مساحته، وكانوا يستطيعون إطلاق سراح من حكمه القاضي بالقتل، فلا استبعد عنهم هذه التصرفات”.
ويختم ياسر النجار كلامه عندما التقينا به في مكتبه في مدينة كلس جنوب تركيا: “كل شيء في الخفاء وبعيداً من الكاميرات ووسائل الإعلام ممكن في سوريا”.
مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني يوضح لفريق التحقيق أنهم (فريق عمل الشبكة) شهدوا عملية تبادل جثث بين النظام السوري وفصائل المعارضة حيث تم تسليم جثث مسلحين إيرانيين مقابل إخراج معتقلين في سجون النظام السوري.
جثث مزُينة
في العاصمة السويدية ستوكهولم يقيم متطوع سابق كان قد عمل في مكتب الجنائز في دمشق، (مديرية حكومية تتبع للمحافظة) ونقل الجثث بشكل يومي إلى المقابر. رفض الرجل الحديث معنا بيد أنه وبعد اتصالات عدة وافق على تقديم شهادته لنا طالباً إخفاء هويته.
يضرب الشاهد يده على ساعده مرات عدة، ومن ثم يستذكر تفاصيل عمله بدقة: “كنا مكلفين بنقل الجثث من مستشفى تشرين العسكري في حرستا بريف دمشق الشرقي، ومستشفى المزة العسكرية 601 إلى مقبرتين كبيرتين في القطيفة شمال دمشق، وفي نجها جنوب العاصمة بسيارة ذات صندوق مزُينة على جميع جهاتها بصور بشار الأسد كي نتمكن من التنقل من خلال حواجز التفتيش من دون مساءلة”.
ويتابع حديثه: “هناك جثث يضع ضباط عسكريين من قوات الأمن التابع للنظام السوري أو من قوات النظام السوري عليها أرقاماً أو إشارة معينة، ويطلبون منا دفنها بجانب المقبرة الجماعية فيما بقية الجثث يتم رميها فوق بعضها في القبر بواسطة جرافة”.
يشهق الرجل ويطلب كأساً من الماء وبعد الانتهاء من شربه يقول: “كانت الجثث التي يضع عليها الضباط علامة نقوم بإخراجها لاحقاً وتسليمها لهم، ومن ثم يطلبون مبالغ 1500 إلى 3 آلاف دولار من أهالي المعتقل عن كل جثة”.
وعند سؤالنا عن مصير الجثث، أكد الشاهد أن الجثث يبيعها الضباط لأهالي المعتقلين بثلاثة أضعاف المبالغ التي تحصل عليها مدللاً على كلامه بتسجيلات صوتية ورسائل لا تزال في هاتفه اطلعنا من خلالها على محادثات كانت تدور بينه وبين الضباط العسكريين والأمنيين، مقدراً عدد الجثث التي ساهم في بيعها بـ125 جثة.
حتى اليوم، ما زال في مراكز الاعتقال التابعة للنظام السوري نحو 130 ألف معتقل سوري، منذ آذار 2011، حتى آذار 2021، بينهم 7913 سيدة (أنثى بالغة) و3561 طفلاً ، أي ما يعادل 88.53 في المئة من مجمل أعداد المعتقلين في كل المناطق السورية، وفقاً لقاعدة البيانات الخاصة بـ”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.
سوق الجثث
منتصف آب/ أغسطس 2020 عرفت مي، وهي سيدة ثلاثينية بمقتل زوجها زيد جبريل ودفنه في مقبرة القطيفة شمال دمشق، بعد اعتقال دام ثلاث سنوات على يد قوات الأمن التابعة للنظام السوري، بتهمة تنظيم تظاهرات مناهضة للنظام.
تقول الزوجة إنها أجبرت على بيع منزلها لكي تدفع 7 آلاف دولار لضابط في سلك الأمن السوري، من طريق سمسار محلي أحضر لها جثة زوجها، لتستطيع دفنها قرب أطفالها.
تعيش السيدة اليوم في مخيمات إدلب شمال سوريا بعد بيع منزلها، وتقول خلال اتصال عبر “سكايب”:
“أشكر الله لأنني تمكنت من الحصول على جثة زوجي لكي يزوره أولادنا. كما تعلم هنا الكثير من العائلات دفعت مبالغ مالية لضباط وسماسرة في النظام السوري وباعت كل ما تملك لكي تحصل على خبر يخص الأحباء، ولكن للأسف من دون جدوى وتم الاحتيال عليها”.
القاضي والخبير القانوني، حسين حمادة في مقابلة رأى أن “المتاجرة بالجثامين أو رهنها لاستبدالها أو بيعها بمثابة جرائم ضد الإنسانية ومنصوص عليها حتى في نظام روما المنشأ للمحكمة الجنائية الدولية”.
وأوضح حمادة، أنّ أي اعتداء أو تمثيل بالجثث أو تركها في العراء وعدم السماح بدفنها، أو استخدامها كأدوات ضغط سياسية أو بيعها، والذي يتنافى مع قواعد القانون الدولي العرفي الإنساني، وبخاصة القاعدة 115، والمتعلقة بالتعامل مع جثث الموتى بطريقة تتسم بالاحترام، وتُحترم قبورهم وتُصان بشكل ملائم.
ويؤكد قانون حقوق الإنسان أنه لا يُسمح للسلطات بحجب المعلومات عمداً عن أقارب المفقودين، بالنظر إلى درجة المعاناة الذهنية والقلق التي تختبرها الأسرة نتيجة عدم اليقين الذي يحيط بمصير أحبائهم، ما قد يرتقي إلى مستوى المعاملة اللاإنسانية. حتى في حالة وفاة الشخص، على السلطات تزويد الأسرة معلومات تتعلق بمكان دفن الرفات.
وفقاً لـ”هيومن رايتس ووتش”، اعتقل النظام السوري وأخفى عشرات آلاف السجناء. وتُعرف المعتقلات الخاضعة لسيطرتها بممارسة التعذيب واسع النطاق والمنهجي، والظروف الإنسانية الكارثية المؤدية إلى مقتل الآلاف.
“المتاجرة بالجثامين أو رهنها لاستبدالها أو بيعها بمثابة جرائم ضد الإنسانية ومنصوص عليها حتى في نظام روما المنشأ للمحكمة الجنائية الدولية”.
خمس جثث قرب السور!
علمت عائلة أحمد السيد، أن أحد أبنائهم قد تم اعتقاله من قبل قوات سوريا الديمقراطية “قسد” إبان سيطرتها على الرقة في تشرين الأول/ أكتوبر 2017.
اعتقل الشاب عقب إصابته بقصف جوي في منطقة شارع 23 شباط بالقرب من تقاطع أبو الهيس، حيث تم نقله (يبلغ من العمر 34 سنة) إلى أحد المراكز الطبية القريبة.
ويؤكد والد الشباب أنهم سألوا عن ابنهم معظم العاملين في المركز الصحي في الحي لكن لم يجدوه، وبعد أيام علمت العائلة من مصدر عسكري عن مكان الجثة، لكن الحصول عليها سيكلفهم نحو 10 آلاف دولار.
يؤكد شقيق السيد لفريق التحقيق أن العائلة دفعت المبلغ كاملاً لسمسار محلي وقال: “دفعنا المبلغ كاملاً إلى قيادي في قوات سورية الديموقراطية من طريق سمسار ومن ثم بدأنا بالحفر قرب حديقة السور الأثري (في الرقة)، حيث عثرنا على خمس جثث كانت واحدة منها لأخي، وقمنا بردم بقية الجثث في المكان ذاته، وأخذنا جثة أخي لدفنها في مقبرة العائلة في أطراف مدينة الرقة”.
تواصل فريق التحقيق مع ممثلين من الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، ووزارة الداخلية التابعة للنظام السوري، عبر البريد الالكتروني بداية شهر آذار 2021 للتعليق على النتائج التي توصل إليها الفريق لكننا لم نتلق أي ردود.
جثث بخيلة
بعد دفن الجثث ينطلق أبو الورد (لقب) وهو سمسار محلي يعيش في مدينة إدلب شمال سوريا مع ثلاثة شبان في رحلة للبحث عن جثة طلبها أحدهم منه مقابل ثلاثة آلاف دولار.
في وسط مدينة إدلب، تمكنك بوضوح مشاهدة الجثث الداخلة بشكل يومي إلى مركز الطبابة الشرعي.
هذه الجثث عُثر عليها أو لأناس قُتلوا في ظروف غامضة، حيث يصل عدد الجثث التي تصل أسبوعياً إلى المستشفى إلى ما يقارب 75 جثة، بحسب مكتب التوثيق في ديوان الطبابة الشرعية بإدلب.
يقول أبو الورد في اتصال عبر “واتساب”: “هناك جثث ترفض المحاكم والمستشفيات تسليمها لذويها بخاصة أولئك الذين يوصفون بأنهم شبيحة، ونحن بدورنا نتابع مكان دفن هذه الجثث ومن ثم نعمل على نبش القبر ونقل الجثة في شاحنة، ونأخذها إلى النقطة المتفق عليها مع الأهل لتجرى عملية تسليمها واستلام الأموال”.
لكن كيف تنفلت هذه الجثث من المستشفيات وتقع بيد السماسرة؟ سؤال حاولنا الإجابة عليه عبر إجابات الموثّق في الديوان الطبي علي الطقش، يقول: “أن الجثة تبقى في البراد من 15 يوماً إلى شهر، وبعد مضي الفترة الزمنية المحددة، تؤخذ عينات منها وتوثّق، وتصوّر العلامات المميزة لدى الشخص المتوفى، ويحدَّد رقم للجثة، وتؤخذ عينات من أجل فحص الـDNA مستقبلاً، وتدفن في مكان معلوم لتسهيل الوصول إليها في حال التطابق وتمييز الجثة”.
وبمجرد الدفن تبدأ مسيرة أبو الورد ومن يعمل مثله.
يضحك أبو الورد ويضرب كفيه ببعضهما ويقول: “يا ريت كل الجثث هيك، بس أش بدك تعمل في جثث بخيلة وجثث كريمة”. في إشارة إلى سخاء من يطالب باستلامها أو ضيق حاله.
جثة في البئر
في السادس من كانون الثاني/ يناير 2014، تمكنت عائلة محمد العلي (اسم مستعار) من إخراج جثته التي رميت في إحدى الآبار قرب بلدة دير سنبل بريف إدلب شمال سوريا.
اختطف الشاب من على حواجز فصيل ما كان يسمى وقتها “جبهة ثوار سوريا” في ريف إدلب، التابع للمعارضة السورية المسلحة، وتمت تصفيته لاحقاً بطلق ناري في الرأس.
تقول عائلة الشاب: “بعد مفاوضات استمرت أياماً تمكنا عبر وسيط محلي من دفع 10 آلاف دولار لعناصر ينتمون إلى فصيل جبهة ثوار سوريا مقابل السماح لنا باستخراج الجثة”.
عائلة الشاب ليست الوحيدة، إذ أكد نشطاء محليون التقينا بهم شمال سوريا وفي تركيا أنهم شهدوا عمليات بيع من قبل الفصيل لأكثر من 5 جثث بين كانون الثاني 2012 وآذار 2014، وعززت كلام الشهود صور فوتوغرافية ومقاطع فيديو غير مكتملة لعملية التفاوض والبيع تم عرضها علينا.
مكاسب عسكرية
على الطريق الواصل بين معبر جنديرس الحدودي مع تركيا وبين قرية قطمة في منطقة عفرين شمال حلب، التقينا أبو جعفر المسؤول عن الطبابة الشرعية في مناطق سيطرة المعارضة حتى أواخر عام 2016 شرق حلب.
الرجل الذي شهد عمليات تبادل جثث بين المعارضة المسلحة والنظام في المدينة، يشير إلى بعد آخر تحققه هذه التجارة بين أطراف النزاع، يتجلى في تحقيق المكاسب العسكرية والنصر في الحرب.
يقول: “قد تبادل جثة المقاتل في صفوف الميليشيات المدعومة من إيران بخمس وست معتقلين أحياء في سجون النظام السوري”.
شهدت سنوات الحرب السورية مفاوضات وتبادل سجناء وجثث قتلى، بين النظام وداعميه والمعارضة، من دون أن يؤدي ذلك الى كشف مصير آلاف المعتقلين والمخفيين قسراً الذين لا يزال مصيرهم مجهولاً.
في آب/ أغسطس 2012، أتمّ لواء البراء في الغوطة الشرقية صفقة مع النظام للإفراج عن ما يزيد على 2000 معتقل من السجون السورية، مقابل إفراج اللواء عن 48 إيرانياً جلهم من العسكريين. معظم من كشف عن مصيرهم هم من كانوا جزءاً من مفاوضات أو تبادل، وهذا لا ينطبق على آلاف من الذين لا يعرف مصيرهم اليوم.
هناك قواعد في القانون الدولي العرفي ملزمة للتعامل مع الجثث، يقول عبد الغني: “أي اعتداء على الجثث يعتبر جريمة وهو محظور في القانون الدولي، على سبيل المثال اتفاقية لاهاي الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية التي تنص في مادتها الثالثة على مسؤولية القيادات عن جميع الأعمال التي يرتكبها أشخاص ينتمون إلى قواتهم المسلحة”.
تم إنجاز هذا التحقيق بإشراف الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – “سراج”، وشارك في تحرير النسخة الزميل محمد بسيكي.
درج