عن رحيل وليد اخلاصي
وليد إخلاصي.. المثقف والنظام السوري/ بشير البكر
وليد إخلاصي.. المثقف والنظام السوري وفاة وليد اخلاصي خلقت تبايناً في رثائه لا سيما بين معارضي النظام السوري
تكرر الخلاف مرة ثانية، وسيتكرر في صورة دائمة طالما أن بعضنا سيجد مبرراً لمواقف بعض الكتّاب من النظام والثورة في سوريا. اختلف الكتّاب في المرة الماضية، حول الكاتب السوري وليد معماري، الذي رحل في 17 كانون الأول الماضي، وها هم يعاودون الكرة حول الروائي والقاص والمسرحي وليد إخلاصي، الذي توفي في حلب في 19 شباط الجاري.
لم يقف معماري وإخلاصي مع الثورة السورية، ويمكن القول إنهما وقفا مع النظام من دون مجاهرة أو متاجرة بالموقف، حتى أشكل الأمر على الغالبية العظمى، ولذلك رثاهما الكثير من مؤيدي الثورة، الذين هُجّروا من البلد بسبب عنف النظام. ولولا النبش في سيرة هذين الكاتبين، لما وجدنا في سجلات أي منهما مواقف فاقعة إلى جانب النظام، مثال مديح وتأييد معماري في العام 2014 لترشيح بشار الأسد لولاية رئاسية، هو الذي رأى البعض في زاويته الساخرة في “صحيفة تشرين” الرسمية فسحة لانتقاد النظام. وبالتالي اعتُبر معماري معارضاً من موقع عضويته في الحزب الشيوعي السوري الرسمي-جناح خالد بكاش، الذي لم يضع سقفاً لمعارضة النظام أعلى من ذلك.
ويختلف الأمر في حال إخلاصي الذي لم يكن منتمياً لحزب سياسي، ولا عمل في الصحافة الرسمية ودوائر النظام الثقافية، بل كان موظفاً رفيعاً في المؤسسة العامة لحلج وتسويق القطن منذ العام 1966، ضمن اختصاصه كمهندس زراعي. إلا أنه التقى “الرئيس الأب” خلال إحدى زياراته إلى حلب، ونشر صورة شخصية معه، وشارك من موقعه في عضوية مجلس الشعب (3 دورات) في تعديل الدستور العام 2000 لتوريث بشار الأسد، الذي امتدحه على شاشة الإخبارية السورية في الذكرى السنوية لسقوط حلب بيد النظام “ليس لأنه رئيس فقط، إنما هو إنسان حقيقي وسوري حقيقي، من أسفل القدم إلى أعلى الرأس. لا أكنّ له الاحترام فقط، بل أحمل له محبة لا حدود لها”. ويبدو أن هذا الشريط لم ينتشر على نطاق واسع، ولذلك حظي إخلاصي برثاء في صفحات فايسبوك من قبل معارضين للنظام، وأجمع هؤلاء على كياسته ولطفه وحضوره الدافئ، وعلى تميز منجزه الأدبي، رغم أن البعض اعترف بأنه لم يقرأ له أكثر من عمل واحد.
في حقيقة الأمر لم يكن معماري وإخلاصي من الكتّاب الإشكاليين في سوريا، حتى نقرأ نتاجهم الأدبي من منظور الموقف السياسي، كما لم يكونا من جوقة كتّاب النظام المباشرين المدافعين عن سياسات النظام والمبررين لكل ما قام به قبل الثورة وبعدها. وشكل إعلان كل منهما عن موقف صريح في تأييد بشار الأسد، نقطة الخلاف، وبرر البعض ذلك بأنه لحظة ضعف ومحاولة كي لا يُصنفا بين غير الراضين عن جرائم النظام أو الساكتين عنها على الأقل. وبالتالي هناك مسافة من الحيرة والالتباس وقع فيها البعض في لحظة الموت، وفي ذلك قياس للحسنات بالسيئات، مال فيه الميزان لصالح الحسنات، التي لم يتمكن بعض آخر من السوريين أن يرى فيها أي شفاعة أمام جرائم النظام، ولو من باب الأخلاق لا أكثر.
ليس من حق أحد، بالطبع، أن يفرض على كل الكتّاب السوريين وغير السوريين، أن يعارضوا النظام، ويقفوا ضده بالرأي والموقف، أو يخرجوا عن صمتهم لإدانة الجرائم التي ارتكبها، خصوصاً الذين يعيشون في داخل سوريا، كما لا يمكن لأحد مهما بلغ من الحياد أن يقبل من بعض الكتّاب تأييد رئيس النظام المسؤول عن تلك الجرائم التي ترقى إلى الإبادة، ولو على سبيل احترام أرواح الضحايا التي تتحدر الغالبية العظمى منها من أوساط مدنية، لا صلة لها بها بحمل السلاح ضد النظام.
الموقف في حال الكتّاب يتجاوز السياسة إلى الأخلاق، التي لا يمكن لها أن تحترم من يقف في صف القاتل، أو يصمت على أفعاله تحت أي مبرر كان. وحجة البعض بظهور جماعات متطرفة مثل “داعش” و”القاعدة”، ارتكبت جرائم بحق الأبرياء، لا يمكن أن تبرر بأي حال من الأحوال ممارسات النظام السوري الرهيبة في التصفيات الجسدية والاختفاء القسري واغتصاب النساء واحتجاز الأطفال وتدمير العمران وتهجير مئات الآلاف من بيوتهم.
لا أظن أن معماري وإخلاصي كانا مُجبرين على التبرير للنظام، وكانت أمام كل منهما طرق أخرى غير كيل المديح العلني لرئيس النظام المسؤول المباشر عن جرائم الإبادة. وبالتالي، إن البحث عن تبريرات لمواقفهما هو من قبيل المجاملات، التي لا تريد أن ترى الموقف في صورته العارية، حتى لا نقول أكثر من ذلك.
المدن
———————–
وليد إخلاصي انطلق وجوديا في القصة ثم مال إلى رواية الحرية/ نبيل سليمان
رحل عن 87 عاماً وكتب في مجال المسرح واستوحى مدينة حلب وذكرياتها
رحل الروائي والقاص والمسرحي السوري الرائد وليد إخلاصي عن سبعة وثمانين عاماً في الموسم السوري “المزدهر” للموت والهجرات. رحل أبو خالد الصديق الذي تزدهي به ألقاب النبيل والوفيّ والمتواضع والمهندس الزراعي حامل شهادة الدراسات العليا القطنية من جامعة الإسكندرية عام 1960.
في مسرحية وليد إخلاصي “الليلة نلعب” ( 1970) يخاطب الرجل المرأة: “أريد أن أكتب للجنس البشري وأن أغني له. أيتها المرأة أريد أن أساهم في بناء الحضارة”. ويمثل هذا الخطاب، وليد إخلاصي أصدق تمثيل. ولنترك له ان يحدثنا عن نشأته وخياراته الكبرى، كما جاءت في شهادته التي كتبها لي ولبوعلي ياسين (1942 – 2000) وأثبتناها في كتاب (الأدب والأيديولوجيا في سورية – 1974:): “والدي أزهري وفقير ذو ميول اشتراكية، ولكنه محافظ على القيم الأساسية للدين، في الوقت الذي ينقم فيه على الخرافات الدينية والنزعة السلطوية لبعض رجال الدين، وتلك النقمة أدت بالطرف الآخر إلى اضطهاده في أكثر الأحايين. لم أجد الجرأة يوماً في الانتساب إلى تنظيم سياسي، كنت أخاف السيطرة الفكرية على عقلي من خلال التعاليم الحزبية. لم أكن ضد التنظيم بالنسبة للآخرين، بل كنت أشجعهم على ذلك، أما بالنسبة لنفسي فأنا ضده، وهكذا لم أستطع أن أشارك جماعياً في أي صراع، ولكن هذا لم يمنع في أي يوم من الأيام من أن أتفهم طبيعة الصراع الطبقي الذي يشكل قاعدة الصراع السياسي في حياتنا العربية، وأن يصبح ذلك الصراع واضحاً في الكثير من أعمالي الأدبية. إن الحرية هي المناخ الأساسي لنمو الصراع، وهذا ما أكرس نفسي من أجله، وكذلك يأخذ النضال من أجل الحرية شكل الصراع ضد السلطة التي لا تزال في أشكالها الإدارية الموجودة رمزاً للتعسف في أسوأ مظاهره”.
الفردانية والإستقلالية
حافظ وليد إخلاصي غالباً على ما تؤكده هذه الشهادة من الفردانية والاستقلالية، فيما عدا ما دفعت الحياة السورية التي تواترت ضغوطها وتردياتها السياسية بالكاتب إلى رئاسة فرع اتحاد الكتاب العرب في حلب، أو إلى عضوية “مجلس الشعب”.
حمل الرجل في مسرحية “الليلة نلعب” هذا الاسم “أنا”، وحملت المرأة الاسم نفسه. وإذا كنت أقرأ في هذه التسمية تجذيراً للفردانية، فالكاتب نفسه يقول في مقابلة صحافية تعود إلى عام 1972: “بقناعتي أن الفرد العربي أرقى من الجموع العربية، وذلك من تجارب بعض الفنانين”. وقد كانت الوجودية حاملة الفردانية في بداية حياة وليد إخلاصي الإبداعية. ففي روايته القصيرة “أحضان السيدة الجميلة” – 1969 تتواتر على لسان الأستاذ إسماعيل الأفكار والمفردات الوجودية. وتنبض بالوجودية باكورة الكاتب المسرحية “العالم من قبل ومن بعد” – 1964. وإذا كان نبض الوجودية قد أخذ يخفت في إبداعات الكاتب التالية، فقد عاد أقوى في رواية “أحزان الرماد” – 1975.
مؤثرات أربعة
بالقصة القصيرة كانت بداية وليد إخلاصي، وذلك في مجموعة “قصص” – 1963 التي أصدرتها مجلة “شعر” في بيروت. وقد جاءت هذه المجموعة التجريبية التي نأت عن القصة التقليدية، وأقبلت على الحداثة مع المجموعات القصصية التي جاءت عام 1960 لزكريا تامر (صهيل الجواد الأبيض)، ومظفر سلطان (ضمير الذئب)، وياسين رفاعية (الحزن في كل مكان). وقد عبّر وليد إخلاصي عن وعيه العميق بالمؤثرات الثقافية الأجنبية في نهجه الحداثي الذي أعلن عن نفسه بقوة في رواية “شتاء البحر اليابس” – 1965، وكنت قد سألته عن ذلك مع عدد من الكتّاب أثناء إعدادي لكتاب “الرواية السورية” – 1982، فكتب لي أن أمر المؤثرات الأجنبية ينسحب على تكوينه الأدبي وإنتاجه المتعدد، أما بالنسبة للرواية فقد حصر المؤثرات في:
1- الرواية الغربية المصنوعة بإتقان حضاري يذكرني بإتقان الفنان العربي القديم في صنع الأرابيسك. من الأمثلة الكلاسيكية: أعمال دوستويفسكي. من الأمثلة الحديثة: أعمال لورانس داريل.
2- التكوين الهندسي الأساسي للموسيقى الكلاسيكية (قالب السوناتا).
3- الفن التشكيلي العالمي: والأمثلة لا تعد.
4- الثقافة الإنسانية الشاملة، والتي لها علاقة بكفاح الإنسان الرائع ضد الموت والخواء والتعسف والظلم الاجتماعي و…”.
لقد بكّر وليد إخلاصي إلى العناية بما بين الفنون والرواية، وما يعنيه ذلك في الحداثة الروائية، مثلما بكّر جبرا إبراهيم جبرا وإدوار الخراط ومطاع صفدي. فللموسيقى فعلها في رواية وليد إخلاصي “شتاء البحر اليابس” وفي مجموعته القصصية الأولى كما في قصة “لوحة زيتية على الرف” التي يعزف بطلها الفنان المهندس على التشيلو، ويحاول في السياسة سنوات قبل أن ينسحب إلى وحدته قرفاً ومتسائلاً: أتراني لا أشبه الآخرين.
يحار المرء من أين يبدأ مع وليد إخلاصي الذي أبدع عشرات المسرحيات والروايات والمجموعات القصصية، كما كتب شطراً من سيرته الذاتية والثقافية في كتابيه “المتعة الأخيرة: اعترافات شخصية في الأدب”، و “من الأسكندرونة إلى الإسكندرية: محطات من السيرة الذاتية”. في ما يمكن تسميته بالسيرة القصصية لوليد إخلاصي، يبدو التجريب علامة أولى فارقة، وهو ما يتفجر في مجموعات “الطين” – 1971، و”الدهشة في العيون القاسية” – 1972، و”التقرير” – 1973 وسواها، حيث يحضر صدى كافكا حيناً، ويحضر المسرح حيناً، والسيناريو أيضاً. وتتميز تقنية الكابوس في قصص إخلاصي كما في قصص زكريا تامر، ولا ننسَ ريادة الراحل للقصة القصيرة جداً في قصة “المتعة” من مجموعة “التقرير”. وقد مضت قصص إخلاصي إلى الوشاح الصوفي منذ مجموعة “يا شجرة يا” وبخاصة في قصة “يا رائحة القرفة”. وفي هذا المآل تخلت القصص عن الكوبسة، ومالت إلى التأمل كما في مجموعة “حكايا الهدهد”. وفي هذه المجموعة يطور الكاتب تقنية “المتوالية” التي وسمت الرواية الأولى “شتاء البحر اليابس”، وهي التي قدم لها نجم القصة والرواية التقليدية عبد السلام العجيلي، لكأنما اجتمع النقيضان الكلاسيكي والحداثي في لحظة نادرة من ذلك الزمن البعيد.
وكانت لعبة المتوالية القصصية قد وسمت مجموعة “موت الحلزون” – 1978 التي تضمّ فقط قصتين طويلتين من قبيل النوفيللا، فالأولى “هل رأيتهم يحلمون” بلغت خمسين صفحة، والثانية التي عَنْونَتْ المجموعة بلغت ستين صفحة.
على الرغم من الخصوبة والغواية والتعقيد في السيرة القصصية لوليد إخلاصي، فسيرته المسرحية (أربعون نصاً) وسيرته الروائية أكثر خصوبة وغواية وتعقيداً منذ البداية. وإذا كنت قد أشرت إلى ما للثقافة الغربية في التكوين الروائي للكاتب، فالإشارة بالقدر نفسه تذهب إلى التراث السردي العربي، وبخاصة “ألف ليلة وليلة”، مما تجلى في رواية “ملحمة القتل الصغرى” – 1994، عبر شخصيتي جواد وأسمهان، وعبر الموت المؤجل هنا مثله في الليالي الشهرزادية الشهريارية. ومن وسوم روائية الراحل، بل وكل إبداعاته، يتصدر فضاء مدينته حلب، مرموزاً لها بخاصة بقلعتها السيدة الجميلة (رواية أحضان السيدة الجميلة) أو الجدة وهوّب في رواية “زهرة الصندل”. ويتواصل الحديث من رواية “باب الجمر” ووشاحها الصوفي إلى رواية “سمعت صوتاً هاتفاً” السيرية التي أوقفها على ما كان له من جراحة القلب.
————————————–
رحيل وليد إخلاصي.. توسّل بالكتابة لإصلاح الخراب فينا/ فيصل خرتش
كان وليد إخلاصي (1935 ـ 2022) الذي رحل أمس (السبت)، الرجل الوسيم الجذّاب الهادئ الصاخب يجلس في المقهى الثقافي ونجلس بعيدًا عنه، نراقبه وهو يحشو غليونه ويثرثر، وحوله بشر ينصتون إليه بهيبة ووقار وقد يضحكون معه قليلًا، ولكن أبدًا لم تكن ضحكاتهم طفوليّة كما يفعل هو. أناقته كانت تستفزنا، كذلك مشيته وحركاته، كل شيء فيه يثير أعصابنا ولا تعود إلى هدوئها، وبعد ذلك ننظر شزرًا إلى ذلك الرجل الذي لا يزال يتحدث وتهدأ أعصابنا ونحن نحتسي قهوتنا الباردة. ثم مضى حين من الدهر، اقتربنا من طاولته، جالسناه وسمعنا حكاياته، وأنصتنا إلى طرائفه وأحاديثه الشيقة، عايشناه على طاولة واحدة لسنوات طويلة، قرأنا كتبه، وشاهدنا أعماله ممثّلة على خشبة المسرح، وشيئًا فشيئًا صرنا نقترب من روحه أكثر، وراح الثلج يذوب عن قشرة جلدنا، فوجدنا الرجل يحترق بجمر الكلمة… بسيط كالماء، حنون كالمودّة… حيادي وعادل في أدقّ تفصيلات حياته، وبين هذا وذاك يظل الرجل بشرًا من لحم ودم، وكل ما يمكن للمرء أن يسجّله عن وليد إخلاصي في دفتر صغير، وفي رأس الصفحة، أنه يكره الظلم على نفسه وعلى الآخرين، يحبّ الحقّ، ويفتش عنه كي يدافع عنه بوسائله التعبيرية الخاصة به.
الآن، وبعد أن صار للرجل أكثر من 45 عملًا في القصة والرواية والمسرح، عدا اليوميات والزوايا الأسبوعية، يحتاج الواحد منا إلى وقفة صغيرة في اللحظة الحرجة ليدخل إلى صومعة وليد إخلاصي الإنسان الكاتب، قبل أن يدخل من زاوية الأديب الذي ظلّ دائمًا رمز حلب العتيقة.
في جلسات المقهى الثقافي، تلك التي يغلّفها الدخان الكثيف، وأصوات الزبائن، والقهقهات الرخيصة التي يفلتها أدباء منقطعون عن الموهبة، يجلس إخلاصي كحكواتي من هذا الزمان، يسرد تاريخه الشخصي، وتاريخ المدينة، من خلال وقائع وأحداث، حصلت أو لم تحصل، وكما في الزير سالم، وتغريبة بني هلال، فإنّ الكلام يجرّ كلامًا، وتنتهي السهرة، ويمضي إخلاصي إلى موعد كتابته، وتظل الدهشة منتظرة قدوم الغد لمتابعة السيرة الإخلاصية. يسحبنا من أصابعنا إلى طفولته، إلى البدايات التي رسمت الملامح الأولى للكاتب، تراه يجذب الأحداث من غفوتها، ويبدأ من حلب المدينة الوقورة، حيث تختلط جغرافية الطفولة بامتداد الذاكرة عبر الوراثة، في البيت العربي القديم الواسع والمشجرّ بالكباد والنارنج، تعبق في أرجائه رائحة شجر الليمون والزيزفون، وعلى أطرافه أحواض الورد والفل والياسمين، وفي وسطه تتدفق النوفرة من البحرة بأحاديث الأصدقاء والأقارب والأهل والجيران، بقصص وحكايات يثرثر بها رذاذ الماء لفضاء المكان وللذاكرة التي راحت تختزن كل ذلك من خلال الأذن التي تعشق قبل العين أحيانًا.
يتحدّث إخلاصي عن المدن التي عاش فيها، كما يتحدث عن حبيبته التي هجرته وتركت القصة معلّقة على أغصان الأشجار، تلتف العصافير حولها وهي تواسيها… وهكذا يكون الحديث عن الإسكندرونة، حيث ولد، في البيت القريب من البحر. وعن حمص، السكن الثاني التي لم يبق منها في الذاكرة سوى الجدران العالية. ويظهر الحنين إلى المكان بشكل فاضح في روايته “زهرة الصندل”، عندما يعيد تشكيل المكان في بناء المنصورية، الحي المجاور للقلعة، وهو استعادة للطفولة بكل ما تحمله من طهر وبراءة ونقاء. وهذه الأمكنة تحمل سحرها وأسرارها في داخلها لتدافع عن نفسها باستمرار.
يبدو وليد إخلاصي شديد التأثر بشخصية والده، رجل الدين المتنوّر والمعجب بالأفغاني ومحمد عبده، الذي كان يتوسّم في ولده البديل الجديد، أو المثيل لهما، ممّا أيقظ في نفسه نوازع الخير، وبشكل دائم، ومعادل للإصلاح.
في عام 1946، قرّر وليد إخلاصي، وكان في الحادية عشرة من عمره، أن يكون رئيس تحرير مجلة، فأخرجها في (16) صفحة من القطع الكبير، وكان مديرها ورئيس تحريرها والمحررين والمخططين والمخرج. وإثر ذلك وقع في غرام الكتاب الذي بات يستنزف كل مصروفه الشخصي ووقته، وراح يتمرّن على الكتابة بالرسائل العاطفية، له ولأصدقائه، وكان عليه أن يكتشف أن الكتابة فعل للتوصيل أقوى من أي فعل آخر. ولقيت بعض كتاباته تشجيعًا من أستاذيه سليمان العيسى، وخليل الهنداوي، اللذين جعلا من منهاج الأدب جزءًا من جماليات الحياة.
لا يكتفي إخلاصي بسرد الوقائع البهية، أحيانًا يتحول إلى واعظ وطني ومرشد روحي، تجده يشتم ويسبّ كل ما من شأنه أن يسيء إلى صفحات الوطن النقية، وعندما يعود بذاكرته إلى خمسينيات القرن الماضي، يقول: “في البداية، كنا نبحث عن كيان قومي، ثم أصبحنا نبحث عن كيان فردي يحمي الإنسان من كل أسباب التحقير والاستلاب والعذابات التي لا حدود لها. ويبدو أن مثل هذا الانتقال الحادّ ما بين الكلي والجزئي هو سبب حقيقي في التدهور، لأن الحلم الوطني الكبير كان سيحقق حماية حقيقية لإنسان هذه المنطقة. وأعتقد أن المأزق الذي قادتنا إليه عملية استلاب الإنسان من الخارج والداخل أفقدتنا متعة الحلم الكبير”.
من خلال الإنصات الوقور إلى كاتب مثل وليد إخلاصي، يمكن أن نتعلّم أشياء كثيرة في فن الحديث، وفن الحوار، ولعبة إدارة الجلسات، ومتعة الكتابة، ولكن في القضايا الجدية ذات الطابع الوطني والقومي والاجتماعي، يتحوّل إلى شخص آخر، يتحوّل الرجل الدمث الطيب الوديع إلى آخر شرس ومقاتل، يندفع إلى النهاية.
في أواخر الستينيات، تعرّفت على وليد إخلاصي من خلال عرض نصوصه في مسرح الشعب. وعبر رحلة طويلة، تعرّفت عليه كاتبًا وإنسانًا يحمل قلبًا كبيرًا. واليوم كم أتمنى أن أتعرّف عليه أكثر… أعتقد أنه حلمنا البديل الذي نسعى إليه جميعًا.
ضفة ثالثة
———————————
حكواتيُّ الحداثة سيرة وليد إخلاصي الإبداعية/ سعد الدين كليب
في مساء يوم السبت الموافق 19 شباط/ فبراير من هذا العام 2022، أسلم الأديب وليد إخلاصي أنفاسه الأخيرة، في مدينته حلب، عن عمر يناهز السابعة والثمانين، مخلّفًا وراءه مكتبة أدبية متنوّعة الأجناس والأشكال والأساليب. فقد بلغ عدد ما أصدره من الكتب اثنين وخمسين كتابًا، منها ثماني عشرة مجموعة مسرحية وخمس عشرة رواية واثنتا عشرة مجموعة قصصية وأربعة كتب في التنظير النقدي، إضافة إلى ثلاثة في المذكرات والسرديات العامة، هذا عدا المئات من المقالات والحوارات الأدبية والصحفية؛ علمًا أنه كان قد توقّف عن الكتابة والنشر اعتبارًا من عام 2011، ليمضي السنوات العشر الأخيرة من عمره في تفاصيل المأساة السورية، وفي القراءة والإجابة عن بعض الأسئلة الصحفية، دون أن يعني ذلك أنه لم يحاول العودة إلى الكتابة الأدبية، بعد ذلك التاريخ. فقد بدأ بكتابة الجزء الثاني من مذكراته “حلب دومًا” من غير أن يتقدّم فيه أو يستكمله؛ كما دأب على كتابة رواية حول الحرب السورية، بعنوان “مول الشرق الكبير” من غير أن يعيد النظر فيها أو يعتمدها للنشر. وكأنّ الحرب السورية قضت على أيّ رغبة لديه في الكتابة أو أيّ قدرة عليها، وهو الذي لم يصمت أدبيًا طوال ستين سنة تقريبًا؛ بدأت بمجموعة “قصص” الصادرة سنة 1963 عن دار مجلّة شعر في بيروت، وانتهت برواية “السيرة الحلبية” الصادرة سنة 2010 عن الهيئة العامة السورية للكتاب في دمشق.
تشكّل الوعي الثقافي- الجمالي لدى الإخلاصي في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، حيث ارتفاع وتيرة الحداثة في الخطاب الفكري والثقافي، والميل إلى الكتابة القصصية والروائية والمسرحية، مع بروز مفهوم المغايرة أو التجاوز والتخطي في الإبداع الفني عامة والشعري منه خاصة؛ وحيث اشتداد حدّة الصراع الثقافي والأيديولوجي بين تيارات الحداثة العربية نفسها كالماركسية والليبرالية والقومية والوجودية، وبينها من جهة وبين التيارات الدينية والسلفية من جهة أخرى؛ وحيث ظهور الدولة الوطنية وما يرتبط بها من قضايا ومسائل ذات صلة بالهوية والحرية والديمقراطية والعلمانية؛ إضافة إلى ظهور الصراع العربي- الصهيوني الذي انعكس على الكثير من الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية، ولا سيما في المشرق العربي. وهو ما كان له تأثيراته الواضحة في وعي الإخلاصي الذي سوف يكون له أثره الملموس، في العقود التالية، في تشكيل الوعي الثقافي- الجمالي لدى الأجيال الأدبية الجديدة في سورية عامة. علمًا أنّ الإخلاصي قد اختير، ليكون بين مائة شخصية سورية، سياسية وفكرية وثقافية وأدبية، كان لها حضورها الفاعل وتأثيرها العام في القرن العشرين؛ وذلك في كتاب مشترك مؤلف من ثلاثة مجلّدات، عنوانه: رواية اسمها سورية1.
لا شكّ في أنّ الكلام عن وليد إخلاصي في دراسة موجزة كهذه، سوف يكون محفوفًا بالمزالق النقدية، لعلّ أقلّها التعميم، ولا سيما أنّ الكلام لن يتناول بالنقد والتحليل عملًا أدبيًا بعينه أو حتى عدّة أعمال للإخلاصي، وإنما سوف يقع على مجمل أعماله من جهة، وعلى مجمل السمات الفنية والجمالية التي اتّسم بها أدبه من جهة أخرى؛ سعيًا منا إلى تسليط الضوء على واحدة من أهمّ التجارب الأدبية في الأدب العربي المعاصر. ولذلك سوف نتوقف عند عدد من القضايا والمسائل التي شغلت الإخلاصي وطبعت أعماله بطابعها العام، من مثل التنوّع الأجناسي، والتجريب الفني، والنزوع الحداثي، والنزعة الحكائية، ومحورية المكان، والاقتصاد الأدبي.
ينبغي القول قبل ذلك إنّ ثمة ما يشبه المكتبة النقدية الخاصة بأدب وليد إخلاصي الذي شهد اهتمامًا نقديًا لافتًا للنظر منذ صدور أولى مجموعاته القصصية حتى أواخر إصداراته؛ فقلّما غاب أحد أعماله عن الاهتمام النقدي في القصة أو الرواية أو المسرحية؛ ولا يختلف حال الدرس الأكاديمي في الجامعات العربية عن حال النقد الأدبي الحديث معه في سورية خاصة. وإذا كان من اختلاف بينهما فيكمن في المساحة الأدبية التي يتعرّض لها كلّ منهما؛ ففي حين يخصّص النقد اشتغاله في أحد الأعمال، يوسّع الدرس الأكاديمي اشتغاله على جملة من الأعمال في جنس أدبي واحد من الأجناس التي كتب فيها الإخلاصي. وهو ما سوف نستفيد منه ونعود إليه كلما اقتضت الضرورة، علمًا أننا سوف نتكئ على معرفتنا الشخصية به، حيث استمرت صداقتنا الوطيدة طوال عشرين سنة، حتى يوم وفاته.
التنوّع الأجناسي:
أشرنا آنفًا إلى أنّ للإخلاصي اثنين وخمسين كتابًا، تتوزّع بين القصة القصيرة والرواية والمسرحية والسرديات العامة والتنظير النقدي؛ ما يعني أنه يصعب تسكين الإخلاصي في جنس أدبي معيّن، ويصعب أيضًا تحديد الجنس الأدبي الغالب أو المهيمن عليه؛ فهو قاصّ وروائي ومسرحي في آنٍ معًا، ولا يمكن اختصاره بهذه الصفة الخاصة أو تلك؛ إذ إنّ أديبًا يُصدر 18 مجموعة مسرحية و15 رواية و12 مجموعة قصصية، إضافة إلى ثلاث مجموعات سردية أشبه بالقصة القصيرة، لهو أديب أكثر منه قاصًّا أو روائيًا أو مسرحيًا؛ فصفة الأديب إذًا هي الصفة العامة التي تستطيع استيعاب هذا التنوّع الأجناسي لدى الإخلاصي. ولا يعود ذلك إلى مزاولته الكتابة في تلك الأجناس الأدبية وحسب، وإنما يعود إلى مزاولته إياها جميعًا في الوقت نفسه، ودون انقطاع. فلم يكن من النادر أن ينشغل بكتابة عدّة أعمال مختلفة في الفترة ذاتها؛ ولم يكن من النادر أن يتوالى صدور ثلاثة أعمال روائية وقصصية ومسرحية له، في عام واحد أو عامين متواليين. بل ليس من النادر أن يشهد العام الواحد صدور أربعة أعمال له، كما في عام 1981، حيث صدرت له روايتا “الحنظل الأليف” و”زهرة الصندل”، ومجموعة “يا شجرة يا..” القصصية، ومسرحية “أوديب”؛ وصدر له في عام 1984 أربعة أعمال أيضًا، وهي رواية “حكايات الهدهد” ورواية “باب الجمر”، ومجموعتان مسرحيّتان هما “أغنيات للممثل الوحيد” و”أنشودة الحديقة”.
فثمّة تنوّع أجناسي متكافئ إذًا يطبع سيرة الإخلاصي الأدبية، ويكاد يجعله متفرّدًا في هذه السمة. فقلّما وجدنا أديبًا عربيًا أو غربيًا تتوزّع أعماله بشكل متكافئ على عدّة أجناس أدبية؛ ولا شكّ في أنّ هنالك أدباء كتبوا في عدّة أجناس، وربما زاولوا الرسم والموسيقى أيضًا، ولكن غالبًا ما يكون هنالك جنس أدبي مهيمن على نتاجهم الأدبي، فهم شعراء يكتبون الرواية أو روائيون يكتبون القصة أو المسرحية، كما أنّ هنالك أدباء تحوّلوا من القصة إلى الرواية، أو من الشعر إلى المسرحية والعكس، وقلّما وجدنا من الأدباء من انشغل بثلاثة أجناس معًا بالفترة ذاتها وبالنوعيّة والكمّية ذاتها أيضًا، كما هي حال الإخلاصي الذي لم يكن يتّخذ قرارًا مسبّقًا بالجنس الأدبي الذي يريد الكتابة فيه، ولم يكن يتّخذ القرار المسبّق في الموضوع أو الشكل الذي سوف يكتب فيه أو يعالجه من خلاله، وإنما القرار يعود أولًا إلى حالة الخلق الإبداعي التي يجد نفسه فيها. إنّ “حالة الخلق تفرض عليه شكلًا معينًا، مسرحيًا أو روائيًا أو قصة قصيرة أو شعرًا أو حالة هذيان لا معنى لها…”2، كما جاء في أحد حواراته الصحفية سنة 1979. وقد يبدو ترْك القرار لحالة الخلق الإبداعي في تحديد الجنس الأدبي أمرًا في غاية الغرابة، ولا سيما في القصة والرواية والمسرحية، لما تحتاجه هذه الأجناس من تصورات مسبّقة، ولو بالحدّ الأدنى، حول الأحداث والشخصيات والأمكنة، بخلاف الشعر الذي تسوقه حالة الخلق لاعتبارات انفعالية بحتة. ولكننا نعتقد أنّ ترْك القرار لتلك الحالة لا يخصّ إلا لحظة البدء الأولى في الكتابة، والتي لا تنفي حضور التصورات المسبّقة، والهجس بها قليلًا أو كثيرًا، بانتظار شرارة الإبداع كي تتفعّل التصوّرات وتتشكّل على هذا النحو أو ذاك. أما فيما يتعلّق بذكْر الشعر والهذيان في ذلك الحوار، فبالرغم من أنّ الإخلاصي ليس شاعرًا، فإنه كان يكتب بين الفترة والأخرى بعض الخواطر والنصوص الشعرية ضمن قصيدة النثر تحديدًا.
بقدر ما يعني التنوّع الأجناسي نفسه يعني كذلك أنّ ثمة عدّة زوايا أو منظورات ينظر بها الأديب إلى الواقع والعالم من حوله. فليس الجنس الأدبي مجرّد شكل وأسلوب فحسب، وإنما هو طريقة في النظر إلى الواقع، وطريقة في معالجته الجمالية أيضًا. إنه منظور ثقافي- جمالي محدّد يتبدّى بهذا الشكل أو ذاك. وما الاختلاف بين الأجناس الأدبية في الأصل إلا اختلاف في زوايا النظر وطرائق المعالجة الجمالية، يستتبعها اختلاف في الشكل والأسلوب واللغة.
إنّ للتعدّد والاستقلال النسبي بين الأجناس صلة وثيقة بطبيعة الحاجات الجمالية وطرائق وعيها الإنساني. فالمسألة ترتبط بالمنظور، مثلما ترتبط بالحاجة الجمالية الأصيلة عبر التاريخ البشري؛ ولذلك فإننا نذهب إلى أنّ الأجناس الأدبية.والفنون كافة ما هي إلا حواسّ المجتمع الجمالية. بها يتلمّس الواقع والعالم، ويعبّر عن حاجاته، وبها يعيد إنتاجه إبداعيًا، وبها يعي ويستمتع؛ وكلّما تعدّدت حواسّ المجتمع تعدّدت أشكال وعيه لذاته وللعالم من حوله، وتعدّدت أشكال استمتاعه أيضًا. والعكس بالعكس.
فالتنوّع الأجناسي المتكافئ لدى الإخلاصي يدلّل إذًا على امتلاكه ثلاث حواس جمالية أصيلة، ولم يكن ممكنًا لديه التخفّف من واحدة منها، أو تعزيز واحدة على حساب الحاستين الأخريين؛ فكان ذلك التنوّع وسيلته في الإحاطة بمجمل الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمع السوري في القرن العشرين، فما لا يستطاع قوله في القصة يقال في الرواية، وما لا يستطاع قوله في السرد يقال في الدراما. ولعلّ هذا ما يسمح لنا بالقول إنّ المجتمع السوري برمّته قد تمدّد على مساحة الأعمال الأدبية لدى الإخلاصي، بدءًا بالقضايا الاجتماعية- السياسية الكبرى كالاحتلال والتحرير والاستبداد والإرهاب والفساد والثورة، وانتهاء بالقضايا الفردية ذات الصلة بالعوالم النفسية والروحية والاضطرابات الأخلاقية كالاغتراب والإحباط والقرف والسأم، وكالوصولية والانتهازية والذئبية؛ بالإضافة إلى العادات والتقاليد الاجتماعية البالية والقيم المدنية المستجدّة ومختلف التيارات الفكرية بأطروحاتها المتباينة والمتصارعة… إلخ. نلحظ ذلك كلّه متوزّعًا بين الرواية والمسرحية والقصة القصيرة، كما في رواية “دار المتعة” حيث الاستبداد الشرقي، ورواية “الأحرف التائهة” حيث الفساد بشتى أشكاله، ومسرحية “كيف تصل دون أن تقع” حيث الوصولية والانتهازية، ومسرحية “مقام إبراهيم وصفية” حيث العادات والتقاليد الجائرة، ومجموعة “قصص” التي تدور في مجملها حول الفرد بعوالمه النفسية والروحية القائمة على الاغتراب والتشيّؤ والسأم.
لا نزعم أنّ تلك القضايا لا يمكن التعبير عنها بجنس أدبي واحد. بل يمكن التعبير عنها حتى في الجنس الغنائي الصرف، أي الشعر، وهو ما حصل ويحصل دائمًا؛ ولكننا نزعم أنّ زوايا النظر وطرائق التعبير والمعالجة الجمالية هي التي سوف تختلف، مما يجعل من تلك القضايا مختلفة أيضًا، من حيث التبئير أو التركيز بين كلّ جنس أدبي على حدة. فثيمة الحرب مثلًا نكاد نجدها في الأجناس الأدبية والفنون الجميلة كافة، غير أنها ليست هي هي في الشعر والرواية واللوحة والتمثال والفيلم. وعلى أيّ حال فقد استطاع أدب الإخلاصي أن يحيط تعبيرًا بالمجتمع والفرد من ثلاثة منظورات رؤيوية وجمالية، ما يجعله عيّنة من أهمّ العيّنات الدالة على النثر الأدبي الحديث، في مجمل تحولاته الأدبية والثقافية والجمالية، عبر نصف قرن من الزمن؛ مثلما يجعله عيّنة من أهمّ العينات الدالّة على المجتمع السوري عبر القرن العشرين؛ مع الإشارة إلى أنّ صورة المجتمع السوري في أدب الإخلاصي ما هي إلا صورة مصغّرة للمجتمع العربي برمّته، بصرف النظر عن الخصوصية في هذه البيئة الاجتماعية أو تلك.
لقد انعكس التنوّع الأجناسي في أدب الإخلاصي بما يُصطلح عليه بالتراسل الجمالي بين الأجناس والفنون، وذلك عبر المناقلة بين التقنيات الفنية خاصة، كأن يكثر المونولوج في الرواية، أو يحضر المشهد الحواري بقوّة في القصّة القصيرة، أو ترتفع وتيرة اللغة المجازية في المسرحية، أو تكون المسرحية مجرّد فصل واحد أو حتى مشهد واحد فقط، على طريقة القصة القصيرة، أو تأتي الرواية أو المسرحية بصيغة القصة القصيرة، من مثل رواية “ملحمة القتل الصغرى” التي هي قصص قصيرة مستقلة ومتواشجة فيما بينها، ولكنها رواية مكتملة الأركان؛ وكذا هي الحال في مسرحية “قطعة وطن على ساحل قديم”، التي تتوالى فيها المشاهد المسرحية القصيرة وتتراكب لتؤلّف المشهد الدرامي العام؛ ولعلّ ذلك التراسل يكون من مظاهر التجريب المبكّرة لديه.
التجريب الفني:
يتحدّد التجريب بأنه “البحث عن حلول فنية جديدة لاستيعاب الظاهرة الجمالية، من منظور مغاير عمّا تمّ استيعابها به من قبل، وذلك إما لاستنفاد صلاحية الحلول السابقة، وإما لما يستجدّ من رؤى وأذواق ومنظورات جمالية مختلفة. وهو ما يتطلّب المعرفة والخبرة والمهارة، إضافة إلى الحساسية الفنية الجديدة.”3. غير أنّ التجريب الذي هو ضرورة، في أغلب الأحيان، قد يتحوّل إلى نزعة تجريبية شكلانية، حين يغدو غاية في ذاته. وهو ما نلمسه عند عدد من أدباء الحداثة العربية في الشعر والنثر على السواء. ولعلّ الإخلاصي يكون من أبرزهم في القصة والرواية والمسرحية جميعًا، فبقدر ما جاء تجريبه ضرورة فنية وجمالية جاءت نزعته التجريبية شكلانية غير ذات أهمية أحيانًا. ويحسن أن نستأنس ببعض ما قيل فيه على هذا الصعيد.
يقول رائد القصة القصيرة في سورية الدكتور عبد السلام العجيلي في تقديمه للرواية الأولى لوليد إخلاصي”شتاء البحر اليابس” الصادرة سنة 1965: “يجب أن ألفت النظر بأنها الوحيدة، أو واحدة من قلائل الروايات الجديدة في اللغة العربية.”4؛ ويؤكّد الناقد والمسرحي فرحان بلبل أنّ التجريب من سمات مسرح الإخلاصي. بل إنه يذهب إلى القول فيه: “فهو يتنقّل بين المدارس الأدبية المتعدّدة ويمزج بينها، ويخرج في العمل الواحد من أسلوب إلى أسلوب. ولا أعرف كاتبًا مسرحيًا عربيًا يبرع براعته في الاستفادة من المناهج الفنية والمزج بينها. فتراه مرّة يتقيّد بأصول الدراما تقيّدًا صارمًا ثمّ يحطّمها. ويستفيد من منهج بريخت مرّة ويغوص في اللامعقول مرّة. ولا يفعل ذلك حسب مراحل زمنية متتالية بحيث تشكّل تطوّره الفني، وإنما يفعل ذلك في آنٍ واحد. فقد ينشر مسرحيتين في وقت واحد تنتمي كلّ منهما إلى مدرسة.”5. ويقول الناقد عبد الله أبو هيف في فنّ القصة القصيرة لديه: “وربما وجدنا في كتابة وليد إخلاصي القصصية ذلك التنوّع في الأساليب الذي يقترب من التجريب المحض في غالب الأحوال.”6.
تلك نماذج ثلاثة من الآراء النقدية في أدب الإخلاصي الروائي والمسرحي والقصصي، وهي جميعًا تتفق على نزوعه الحادّ إلى التجريب في الأشكال والأساليب، وهو نزوع يؤكّده الإخلاصي نفسه، حين يقول في الحوار الصحفي المذكور سابقًا: “إنني فنّان تجريبي”7. ويؤكّد في دراسة نقدية له أنّ التجريب بالنسبة إلينا نحن العرب ضرورة، فهو ليس مغامرة، ولكنه محاولة لاكتشاف الذات، وهو امتحان الأدوات الفنية للحصول على الشكل الملائم للأفكار8. ولأنّ الأمر كذلك بالنسبة إليه، لم يكد يركن إلى شكل أو أسلوب محدّد في مجمل أعماله الأدبية، سواء ابتكره هو أو ابتكره سواه. فهو في حالة بحث دائم ومستمرّ عن الشكل أو الأسلوب الجديد الذي يحقّق له اكتشافًا أوسع وأعمق للذات، والذي يحقّق له أيضًا متعة الابتكار الشكلاني إن لم يحقّق متعة اكتشاف الذات، بحسب حالة الخلق التي يعيشها، “فكأنه يندفع إلى شكل ما حسبما تفرضه الحالة المزاجية الشعورية. ثمّ يندفع إلى شكل آخر لتغيّر هذه الحالة المزاجية.”9، أي كأنّه ليس معنيًا بترسيخ الأشكال والأساليب التي يبتكرها، أو ليس معنيًا بأن يكون له شكله أو أسلوبه الخاصّ.
وقد جاء ذلك التجريب من خلال المثاقفة مع الآداب الأجنبية أحيانًا، ومن خلال التراسل الجمالي والمناقلة بين التقنيات الفنية أحيانًا، ومن خلال المزج بين الشكل الحكائي التراثي أو الشعبي والشكل السردي الحديث أحيانًا، ومن خلال المزج بين الواقعي والعجائبي أو الواقعي والرمزي أحيانًا، ومن خلال التغريب في الأمكنة والأحداث والشخصيات واللغة الأدبية، ومن خلال شكل الرسائل والتقارير والمذكرات والمونولوج والفلاش باك… إلى آخر ما هنالك من طرائق تنعكس اختلافًا في الأشكال والأساليب، وتجعل من وليد إخلاصي “صانع أشكال” فضلًا عن أنه “صاحب رؤيا وخطاب”. الأمر الذي جعله أحد روّاد الرواية الجديدة، وأحد روّاد المسرح الطليعي، وأحد روّاد القصة الحديثة في الأدب العربي المعاصر عامة.
ولكنّ هذا الرائد، أو المجرّب العتيد، كان قد وصل إلى سقفه التجريبي، في العقد الأول من القرن الحالي، وبات أكثر استقرارًا واستكانة أمام الأشكال والأساليب التي اجترحها من قبل. كما في روايات “رحلة الحنظل” و”الأحرف التائهة” و”السيرة الحلبية” على وجه الخصوص. فهي بالرغم من تفاوتها في الشكل والأسلوب أقلّ تجريبًا من روايات “شتاء البحر اليابس” أو “باب الجمر” أو “دار المتعة” مثلًا. بل إننا نذهب إلى أنّ السيرة الحلبية، وهي روايته الأخيرة، أقرب إلى الرواية التقليدية منها إلى الرواية الجديدة.
لقد كان التجريب أحد الموانع الأساسية من وقوع الإخلاصي في التكرار، وهو الذي يُعدّ واحدًا من أغزر الأدباء العرب إنتاجًا، أو كما يقول فيه فرحان بلبل: “إنّ وليد إخلاصي من أغزر الكتّاب المسرحيين إنتاجًا إن لم نقل إنه أغزرهم على الإطلاق.”10. وكما هو معلوم فإنّ غزارة الإنتاج كثيرًا ما تنعكس تكرارًا في الأشكال والأساليب والموضوعات والمقولات والتراكيب اللغوية، وهو ما استطاع الإخلاصي التفلّت منه نسبيًا، أو تحجيمه إلى الحدّ الأدنى، بفضل التجريب من جهة وبفضل التجديد الرؤيوي من جهة أخرى.
غير أنّ التكرار الذي لم يكن أمامه إلا الوقوع فيه هو تكرار البيئة أو الفضاء الاجتماعي، وهو فضاء حلَب القديمة تحديدًا؛ إذ إنّ النسبة العظمى من أعماله الروائية والقصصية تدور أحداثها في مدينة حلب، وفي حلب القديمة خاصة، وفي زمن متقارب، وهو الربع الثاني والثالث من القرن العشرين غالبًا، وبما أنّ الأمر كذلك فمن الطبيعي أن تتكرر بعض التواريخ والأحداث والشخصيات والأمكنة، فيما بين الرواية والرواية، أو فيما بين الرواية والقصة القصيرة. فثمة شخصيات وأحداث قصصية قد نجدها أو نجد ما يشبهها أو يتقاطع معها، في هذه الرواية أو تلك.
النزوع الحداثي:
لم يكن للتجريب أن يأخذ هذه الأهمية لدى الإخلاصي لولا نزوعه الشديد إلى الحداثة، فهو واحد من دعاة الحداثة العربية في المجتمع والدولة، والثقافة والفنّ والأدب، منطلقًا من أنّ الحداثة في الأساس هي الانتماء إلى العصر، وأيّ انتماء إلى العصر هو بشكلٍ ما حداثة، كما يقول هو نفسه11. والانتماء إلى العصر لا يعني مجرّد العيش فيه، وإنما يعني الانتماء إلى قيمه الفكرية والسياسية والأخلاقية العامة، علاوة على القيم الجمالية والفنية. و”بما أنّ مقولة الحرية هي الأصل في الحداثة عامةً، فإنّ مفاهيم من مثل الديمقراطية والعقلانية والعلمانية وحقوق الإنسان إنما هي تنويعات وتفريعات للمقولة الكبرى وهي الحريّة. وبهذا فإنّ ما يتناقض مع الحرية لا يتناقض مع الحداثة وحسب. بل يتناقض أيضًا ومفهوم الإنسان، كما يعيه الإخلاصي.”12.
إنّ مفهوم الإنسان هو مركز الثقل في الوعي الحداثي لديه، في مجمل إبداعاته ودراساته وممارساته؛ وبما أنّ ذلك المفهوم لا يتبدى من دون مقولة الحرية، وبما أنّ موانع الحرية أكثر من أن تحصى، فقد أعمل الإخلاصي مبضع الجرّاح في جسد المجتمع لكشف الإنسان الحقيقي الكامن فيه، ولتعرية الملابسات والعوائق التي تقف في وجهه، وتمنعه من التبلور بوصفه كائنًا اجتماعيًا حيًّا. فكان يراها- أي العوائق- مرّة في الاستبداد الشرقي “دار المتعة”، ومرّة في الوصولية والانتهازية “كيف تصعد دون أن تقع”، ومرّة في النرجسية وهوس التملّك “ملحمة القتل الصغرى”، ومرّة في الإقصاء والتهميش “الأستاذة فاطمة”، ومرّة في الفوضى القيمية “رقصة الزُّهْري”، ومرة في العادات والتقاليد البالية “مقام إبراهيم وصفية”، ومرّات ومرّات في الفساد بمختلف أشكاله ومعانيه.
فإذا كانت الحرية هي أصل الحداثة، فمفهوم الإنسان هو أصل الحرية، ولذلك فمن البدهي أن يشكِّل جدل الحرية والإنسان محور استراتيجية الحداثة في أدب الإخلاصي عامة، وهو ما أكّده فرحان بلبل في قوله: “وليد إخلاصي من أكثر الكتاب المسرحيين العرب مناداةً بالحرية في جميع أشكالها: حرية المجتمع وحرية الفرد وحرية الإنسان. فكأنه يحلم أن يصبح الإنسان طائرًا يرتاد الآفاق. وتظلّ مسرحياته نشيدًا عالي النبرة في حلم إنساني سيظلّ خالدًا ما دام على وجه الأرض طغيان أو ظلم أو فساد.”13.
إنّ حرية الإبداع واحدة من الحريات التي نادى بها الإخلاصي، وزاولها بكلّ ما استطاعه من رغبات وقدرات وإمكانات فنية وجمالية ورؤيوية، ومنها تجريبه الفني الذي لا حدّ له ولا سقف. إذ “إنّ قدر الحداثة هو التجريب.”14، ولا معنى للتجريب من دون الحرية الإبداعية، في الأشكال والأساليب، وفي الموضوعات والأفكار والهواجس؛ فليس هنالك ما هو ممنوع أو محرّم أمام حرية الإبداع؛ ومع ذلك فإنّ ما يلفت النظر بقوة في أدب الإخلاصي هو خلوّه شبْه التام من التعرّض المباشر للتابوهات الاجتماعية أو الثالوث المحرّم، وهو الدين والجنس والسياسة.
فعلى امتداد ثمانية وأربعين عملًا أدبيًا بين القصة والرواية والمسرحية والسرديات العامة لا نكاد نعثر على كلمة جنسية واحدة، أو إيحاء جنسي مباشر، أو عبارة خادشة للذوق العام، أو واحدة من الشتائم المتداولة شعبيًا مثلًا؛ ففي ذروة المواقف العاطفية التي تستدعي العلاقة الجنسية، في بعض القصص والروايات وهي قليلة نسبيًا، يُكتفى بالإيحاء بأنّ الأمر قد حصل، عبر التعبير السريع والدالّ على إغلاق الباب أو السقوط على السرير؛ ورواية “دار المتعة” نموذج مهمّ في الدلالة على ذلك؛ إذ تكثر الإيحاءات الدالة على العلاقة الجنسية، من دون التصريح بها أو استكمالها تعبيريًا.
وكذا فليس هنالك أي تعريض بالدين- أيّ دين- أو أي تلميح سلبي إليه، بالرغم من حضور الشخصيات الدينية وشخصيات الإسلام السياسي والإرهاب أيضًا، في عدد من الأعمال. إنّ ما يتمّ التعريض به ليس الدين أو الأخلاق الدينية، وإنما هذا الخطاب الديني- السياسي أو هذه الشخصية أو هذا السلوك الذي يتّخذ من الدين ستارًا أو قناعًا لأغراض خاصة. والشيء نفسه بالنسبة إلى السلطات السياسية الحاكمة، فعلى كثرة ما تمّت تعرية الاستبداد والفساد، في أعمال الإخلاصي، فإنه لم يتناول بالنقد المباشر والصريح أيّ سلطة سياسية قائمة، وإنما يكتفي بالإيحاء عبر التواريخ والأحداث والشخصيات الدالة عليها. وقد تكون قصة “التقرير” واحدة من أخطر القصص التراجيكوميدية التي تعرّي النظام الأمني القمعي، ولكن من دون تحديد زمني واضح صريح؛ إذ يغدو معلّم الأجيال فيها مجرّد مُخبر على نفسه جرّاء القمع الأمني المجرَّب. فأستاذ الكيمياء الذي شعر بأنه تورّط أثناء الدرس بإجابة يمكن أن تجعل أحد تلاميذه يكتب فيه تقريرًا أمنيًا، يُمضي ليله كلّه يكتب التقرير بنفسه بكلّ مصداقية وإخلاص، وذلك في نوع من الحيطة والحذر! حتى وجد نفسه صباحًا أمام باب أحد الفروع الأمنية، وكانت المفاجأة أنّ اسمه موجود على قائمة المراجعين!
وفي مسرحية “كيف تصعد دون أن تقع”، نجد “الأستاذ منتصر” يتنقّل بين المناصب العليا عبر الغشّ والخداع والانتهازية والعلاقات الأمنية حتى يصبح وزيرًا، ولا أحد يستطيع المساس به بالرغم من شهرة سرقاته وصفقاته، وبالرغم من محاولات خصومه الإيقاع به دون جدوى؛ ولم يكن أمام أحد الممثلين أخيرًا إلا التوجّه إلى الجمهور ومخاطبته بأنّ الحلّ النهائي بيده هو.
وبالمجمل فإنّ وليد إخلاصي لم يتعرّض في أدبه للثالوث المحرّم على نحو صريح، ولكنه في الآن نفسه تعرّض للكثير من رموزه وانعكاساته السلبية في الواقع الاجتماعي والفردي والنفسي، عبر جمالية التخييل والتصوير والترميز والتشخيص. وقد يقال هنا أين الحداثة وأين حرية الإبداع إذا لم يستطع الأديب مواجهة التابوهات الاجتماعية وتعريتها ثقافيًا دون مواربة؟ فنقول إنّ المواجهة قد تمّت كما تمّت التعرية، ولكن عبر الأدوات الفنية والجمالية تحديدًا؛ أي بالفنّ لا بالأيديولوجيا، وبالكشف لا بالفضح، وبالخطاب الجمالي لا بالخطاب الفكري، وقد يكون هذا الأسلوب هو الأعمق تأثيرًا والأدْوم فاعلية على الصعيد الثقافي في الأدب والفنّ عامة. ثمّ إنّ حرية الإبداع التي تفترضها الحداثة لا تشترط نمطًا محدّدًا من الموضوعات أو المعالجات، وإلا فلا حرية ولا حداثة.
النزعة الحكائية:
مع أنّ الإخلاصي من أكثر المسرحيين العرب إنتاجًا، كما قال فرحان بلبل، ومع أنّ رواية “شتاء البحر اليابس”، كما قال العجيلي، هي الرواية الجديدة الوحيدة أو من قلائل الروايات الجديدة، في اللغة العربية، والتي من المفترض أن تكون الحكاية فيها معدومة أو في الحدّ الأدنى، فإنّ النزعة الحكائية لدى الإخلاصي في حدّها الأقصى. فما لا يمكن تحويله إلى حكاية، لا يجوز اعتماده في العمل السردي والمسرحي معًا، وإلا فسوف نحصل على تهويمات قد تتصل بالشعر والخواطر أو الهواجس النفسية، ولكن لن تستطيع أن تكون مادة سردية أو درامية، حسبما كان يقول في أحاديثنا المشتركة. بل كان يؤكد أنه إذا لم يتمكّن المتلقي من استرجاع حكاية العمل حالَ النفاد من القراءة أو المشاهدة أو بعدهما بفترة، فلن يعني ذلك إلا خللًا أو إخفاقًا في العمل السردي والدرامي. وقد تنبّه العجيلي، في مقدّمته المشار إليها، إلى أنّ شتاء البحر اليابس تحافظ على الحكاية والحدث، بالرغم من اندراجها تحت مفهوم الرواية الجديدة التي من المفترض أنّ تعتمد “الجوّ” لا الحدث أو الحكاية. ما يدلّل على أنّ الإخلاصي رأى منذ بداياته الحداثية الأولى، أنّ الحكاية هي الجوهر سرديًا ودراميًا، ولا ينبغي لمجمل الأساليب الجديدة، مهما تنوّعت أو تطرّفت في التجريب، أن تتجاوز ذلك الجوهر. وكأنّ الحكاية واحدة من الخصائص الأساسية التي يمكن اعتمادها للتمييز بين الأجناس الأدبية، فما حضرت الحكاية فيه كان قصة أو رواية أو مسرحية، وما لم تحضر فيه كان قصيدة أو شعرًا بعامة. وهو ما رفع من شأن الحكاية في أعماله كلّها حتى المسرحية منها، إلى حدّها الأقصى. فهو حكواتي من الطراز الرفيع، يبرز هذا في أدبه ويبرز في أحاديثه الشفوية اليومية ومقالاته الصحفية الأسبوعية على السواء. فهل من الغرابة إذا ما وصفناه بأنه حكواتيُّ الحداثة!
إنّ اعتماد الحكاية أولًا يعني اعتماد الحدث بوصفه أصل الحكاية؛ أما الشخصية فتأتي تشخيصًا للحدث وتمثيلًا له، نقصد أنّ الحدث هو المعتمد في بلورة الشخصية لا مجرّد وصفها أو استعراضها. وهو ما يترتّب عليه أنّ أدب الإخلاصي هو أدب الحدث لا أدب الشخصية، أدب الفعل لا أدب العرض. نقول ذلك بالرغم من صياغته لعدد هائل من الشخصيات الروائية والقصصية والمسرحية، بدءًا بعزيز في “شتاء البحر اليابس”، ومحبّة الجمر في “باب الجمر”، وأكثم الحلبي في “بيت الخلد”، والأستاذة فاطمة، في القصة المعنونة باسمها، والأستاذ منتصر، في مسرحية “كيف تصعد دون أن تقع”، والخانم في مسرحية “هذا النهر المجنون”، وانتهاء بمعين السفرجل في “رحلة السفرجل”، وعبد القادر الحلبي في “السيرة الحلبية”. حيث يبلور الإخلاصي شخصياته من خلال الغوص فيما حدث لها، وفي طريقة تعاملها مع الأحداث أكثر مما يبلورها من خلال العرض والوصف أو الغوص في سماتها الاجتماعية أو الفكرية أو السيكولوجية. بل إنّ تلك السمات لا تتبلور لديه إلا من خلال الحدث. ولعلّنا نرى، في هذا الجانب، أثر الدراما المسرحية التي تفترض أن تتبلور الشخصيات من خلال الأحداث أولًا.
ولكن من الطريف أن تأتي بعض المسرحيات لديه، ولا سيما القصيرة منها، من مثل “الثعبان وطفولة جثّة والثرثرة وإيقاع بلا نهاية” مجرد حكايات سردية لا حدث ولا صراع فيها، وكأنها قصة قصيرة تُحكى بالحوار لا بالسرد15؛ فمع أنّ الحدث أصل الحكاية لديه، فقد نجد ميلًا إلى الحكي من دون حدث أو تأزّم درامي، وإنما أفكار أو هواجس معروضة بشكل حكائي سردي، مما يرفع من نسبة الذهنية في بعض القصص والمسرحيات القصيرة خاصة، ويؤكّد النزعة الحكائية الطاغية فيه، ولعلّ طغيان هذه النزعة يماثل طغيان التجريب الذي كان يصل أحيانًا، ولا سيما في السبعينيات والثمانينيات، إلى التجريبية الشكلانية.
غير أنّ تلك النزعة غالبًا ما تتقاطع مع الميل الدرامي الشديد لديه، ما ينجم عنه نوع من التداخل بين الحكائي والدرامي. نجد ذلك في المسرحية مثلما نجده في القصّة والرواية. ففي مسرحية “هذا النهر المجنون” يرتفع التأزّم الدرامي إلى أقصاه في قصر الخانم بدءًا بقانون الإصلاح الزراعي الذي قضى على الإقطاع، ولو شكليًا، وانتهاء بتفسّخ عائلة الخانم التي بقيت وحدها واهمةً في قصر يتداعى، مرورًا بأفراد العائلة وأصدقائها (الزوج والابن والابنة وزوجة الابن والصديق الطبيب) التي يعاني كلّ منهم ما يعانيه من ضعف أو خيانة أو طيبة رومانسية حالمة، في مواقف درامية متأزّمة جدًا. حيث تتوالى الأحداث وتتكشّف الشخصيات وتتبلور الحكاية العامة للعائلة والإقطاع والبلد كلّه، وتتبلور في الوقت نفسه عدّة حكايات جزئية تخصّ كلّ شخصية من شخصيات المسرحية، أساسية كانت أو ثانوية.
وإذا كان التأزّم الدرامي بدهيًا في المسرح، فإنه ليس كذلك في فنّ القصة والرواية، ولكنه لدى الإخلاصي يبدو بدهيًا؛ فالأستاذة فاطمة، في القصة المعنونة باسمها، أشبه بالشخصية المسرحية المتأزّمة دراميًا والمأزومة نفسيًا. فهي أستاذة من أبرع المعلّمات تجد نفسها بعد التقاعد عاجزة عن النطق، ولم تفلح محاولات الزوج والصديق والطبيب بجعلها تنطق وتتحدّث بما تشعر به أو بما حدث لها فجأة دون سابق إنذار، ولكنه “مرض التأفّف” الذي داهمها وقد يداهم كلّ إنسان نقيّ وجادّ يرى الفساد أو التفاهة حوله متحكّمة بكلّ شيء، ولا يستطيع أن يفعل إزاءها أيّ شيء. ولا يختلف مصير المهندس المعماري معين السفرجل في رواية “رحلة السفرجل” عن مصير الأستاذة فاطمة إلا شكليًا؛ ولا يختلف بناؤه الدرامي المتأزّم عن بنائها؛ إذ وجد نفسه وحيدًا بعد التقاعد، ووجد مشاريعه بل حياته كلّها مجرّد إحباطات مؤكَّدة وأحلام مؤجّلة، حتى صرعه الانتظار والدوار في بادية قاحلة ممتدة بلا نهاية. فكلّ من تلك القصّة وهذه الرواية يمكن تحويلهما مسرحيًا دون عناء، في الإعداد الدرامي. وأمثالهما الكثير.
محورية المكان:
تتفاوت أهمية المكان في الأجناس الأدبية والفنون تبعًا لموادّها وطبيعتها وأشكالها، فثمة من الفنون ما لا يقوم دون المكان الفعلي كالعمارة وفنّ المسرح والرقص، وثمة ما لا يستغني عن المكان الفعلي، وإن قام دونه، كاللوحة والتمثال والفيلم السينمائي، وثمة ما لا حاجة به إلى المكان الفعلي مستعيضًا عنه بالمكان التخييلي كالأجناس الأدبية كافة؛ غير أنّ المكان التخييلي نفسه تتفاوت أهميته بحسب كلّ جنس على حدة، ففي حين يبدو ذلك المكان عرضيًا في الشعر، يبدو أساسيًا في الرواية والمسرحية، وبين هذا وذاك في القصة القصيرة. ولكن أساسية المكان التخييلي في الرواية مثلًا قد تصل إلى المستوى المحوري الذي يبدو فيه المكان، وكأنه شخصية من شخصيات الرواية أو أهمّ شخصية فيها أحيانًا، تبعًا للأحداث من جهة، ولأسلوبية الروائي من جهة أخرى. وهو ما نلحظه بقوة في أدب الإخلاصي عامة، والروائي منه خاصة.
نزعم، بشيء من المبالغة، أنه ما من قصة أو رواية أو مسرحية لدى الإخلاصي، إلا ويتمدّد المكان فيها ويحتلّ مركز الصدارة في الوصف، ما خلا المجموعة القصصية الأولى والرواية الأخيرة “السيرة الحلبية” وبعض المسرحيات القصيرة. فقد تتوالى صفحات أحيانًا في الوصف الحكائي للمكان، أو يتناوب وصف المكان وعرض الأحداث، أو يظهر الوصف المكاني في أثناء الحدث أو وصف الشخصيات أو في أثناء الحوار، فثمة وقفة مكانية ما، طالت أو قصرت. وقد يكون ذا دلالة أن تأتي سبع روايات من أصل خمس عشرة رواية، معنونة بعلامات مكانية، خمس منها بعلامات صريحة، وهي: شتاء البحر اليابس وباب الجمر وبيت الخلد ودار المتعة والسيرة الحلبية، واثنتان منها بعلامات مكانية ضمنية، وهي: أحضان السيدة الجميلة ورحلة السفرجل؛ إضافة إلى عدد من العنوانات المكانية في القصة والمسرحية، مثل خان الورد وهذا النهر المجنون ومقام إبراهيم وصفية وقطعة وطن على شاطئ قديم وأنشودة الحديثة.
يتنوّع الوصف المكاني، لدى الإخلاصي في كلّ من الرواية والقصة، بين الوصف الكلّي والجزئي والخارجي والداخلي والبسيط والمعقّد والساكن والمتحرك.. إلى آخر ما هنالك من ممكنات الوصف المكاني؛ وبسبب من هذا الطغيان للوصف المكاني كثيرًا ما تتباطأ الأحداث ويتوقف زمان السرد، الأمر الذي يلحظه القارئ بمجرّد التقدّم في القراءة، فهو ليس أمام أحداث تتوالى وتتراكب وتتعقّد عبر الشخصيات وحسب، وإنما أمام أمكنة تحتضن الأحداث والشخصيات ولها حضورها القوي كالأحداث والشخصيات تمامًا. وقد يبدو هذا متناقضًا مع حديثنا عن النزعة الحكائية لدى الإخلاصي، غير أنّ الأمر ليس كذلك باعتبار أنّ ثمة نوعًا من تسريد المكان وتحويله إلى ما يشبه الشخصية الروائية.
ففي قصة “دار المتعة” مثلًا يكاد الوصف يروي أو يسرِّد المكان، بما يُشعر القارئ أنّ المكان هو الأساس في مجمل الأحداث التي تدور فيه، والشخصيات التي يبتلعها المكان ما هي إلا حجارة من حجارته أو بعض ضحاياه؛ إذ تبدأ الرواية بوصف المكان على مدى صفحتين متواليتين، لا يتخلّلهما إلا نزر يسير من الأفعال السردية أو شبْه السردية، من مثل الأسطر التالية: “وقد اشتهرت المدينة التي جفّ نهرها تمامًا في العقد الأخير، بالتوسّع في كلّ اتجاه وكأنها دائرة تبحث عن مجالات لتغيير محيطها نحو الأكبر والأشمل، وكانت أبنيتها العالية تتطاول في السماء، فلا تصل إلى مستوى غيمة منخفضة، تتفوق أحيانًا على التلال الكبيرة التي قيل إنّ بعضها طبيعي بينما معظمها من اصطناع الشعوب والأقوام التي تعاقبت على المنطقة كمشاهد مسرحية متباينة أو حكايات لا تُصدَّق بعجائبيتها. وكما أنّ المجمّعات السكنية الهائلة والمباني الرسمية الكبرى قضت على أعداد كبيرة من الأشجار والبساتين، فإنّ الإدارات المتعاقبة كانت تحاول دومًا التعويض عن الخضرة الضائعة بتشجيع مصلحة الحدائق التي ظلّ خبراء هولنديون يشرفون عليها، فلم تنفع خبراتهم في استعادة العذوبة التي كانت أشجار اللوز والليمون والكرز البرّي تنشرها في الجوّ الذي قيل إنه ظلّ مئات السنين يعطي إحساسًا بأنّ المدينة امرأة خرجت بطيبها الآسر من حمّام ملؤه عطر…”16. وكذا هي الحال في قصة “خان الورد” التي كثيرًا ما يتوقّف السرد فيها لإضاءة جانب من جوانب الخان الذي يبدو وكأنه شريك في قتل ساكنيه وزوّاره، بل إنه يتوقّف أيضًا وقفة مطوّلة عند وصف المكان، تبدو مستغربة في قصة قصيرة. ومن اللافت أنّ الإخلاصي يتوسّل أحيانًا بالمكان لتصوير دواخل الشخصيات وأخلاقها وملامحها الحسية أيضًا، كما في المقطع التالي من خان الورد: “ترعرع التوأمان في حوش خان الورد وأروقته، ومنذ أيام الطفولة الأولى عَرَفا أنّ دارهما فسيحة كالجامع الأموي الكبير وضيّقة كالجُحْر. وكانت ابتسامة الرضيّ بحجم الحوش الذي تغمره الشمس طوال اليوم وتظلّله الشمس على مدار السنة، وكان تأفّف الأسود كالغرفة الداخلية الضيّقة التي جمعت بين جدرانها المسدودة أُسْرةً دون أُمٍّ.”17.
تشكّل مدينة حلب عامة، وحلب القديمة على وجه الخصوص، ما يمكن اعتباره القاسم المشترك المكاني في أعمال الإخلاصي الروائية والقصصية (ما خلا الرواية الأولى التي تدور أحداثها في الإسكندرية)، وليس الأمر كذلك في أعماله المسرحية التي لا تخلو منها بالتأكيد. وكأنّه موكّل بتسريد حلب القديمة، وتسريد قلعتها التاريخية خاصة. فللقلعة مساحة وجدانية ومكانية في أدبه لا تضاهيها مساحة لأيّ مكان حتى في حلب القديمة نفسها بكلّ أسواقها وخاناتها وأحيائها وجوامعها وتكاياها وأبوابها وأزقّتها الضيّقة ودُورها الفسيحة.. إلخ.
فكما تتربّع القلعة في وسط حلب القديمة تتربّع أيضًا في أدب الإخلاصي، وكما تتباين الانطباعات الجمالية العامة حول القلعة بين الجمال والجلال والسموّ والغرابة والغموض، تتباين على النحو ذاته في أدبه. فهي سيدة جليلة، وعروس بارعة الجمال، وعجوز يرشح الصبا من محيّاها، وجوهرة نادرة، وأنثى وديعة، وكائن أسطوري… إلخ؛ ولعلّ دراسة جمالية المكان لديه، والقلعة منه خاصة، سوف تخرج بالكثير من القيم الجمالية والثقافية والنفسية ذات الأهمية في وعي العلاقة بالمكان وأبعادها المختلفة، لا عند الإخلاصي فحسب، وإنما عند عدد من الكتّاب ذوي النزعة المكانية إن صحّ التعبير. ففي رواية “أحضان السيدة الجميلة” نجد “القلعة في تلك الليلة كانت تتجدّد بفعل الرياح الغريبة، وتتمطّى كعروس ناعسة، ليس للزمن أيّ أثر على تلك السيدة الجليلة حقًا. لقد طويت اللحظات السابقة وعاد الزوجان وبقيت-السيدة- ترعى المدينة المنتشرة في جميع الاتجاهات، حلقة تمتدّ حولها، تزنّرها ثمّ تمتدّ الشرايين الحجرية تنتشر من تلك الحلقة وحتى الحدود البعيدة للمدينة.”18. وفي رواية “بيت الخلد” مثلاً تظهر المدينة: “رقعة هائلة من دخان أزرق عتيد سدّ كلّ اتجاه فلم يترك مجالًا لأفقٍ. لاحت لي مثل طبقٍ كبير فقدَ لونَه ونبتت وسطه تلّة أدخلت الرعب في قلبي. وقد عرفت فيما بعد أنّ التلّة تلك ما هي إلا قلعةٌ وديعة سكنها الزمن عصورًا متعاقبة فقرَّبها من القلب.”19. أما في رواية “رحلة السفرجل” فملامح القلعة أشبه بكائن أسطوري: “وكانت أشعة الشمس تسقط عمودية على القلعة فذابت ظلال السور العالي في بطن التلّ الذي ما زال يحمل جوهرته على أكفّه المنبسطة للسماء، فيبدو الأمر كأنّ الولادة التاريخية للقلعة قد أتت من القمّة مخالفة بذلك قانون الطبيعة في الولادة، وليصبح ذلك الأثر العريق جانبًا من معجزات الطبيعة لا يشبه في ولادته ما يحدث للأنثى، بشرًا كانت أو حيوانًا.”20.
الاقتصاد الأدبي:
قد توهم غزارة الإنتاج عند الإخلاصي أنه يميل إلى التعبير بالغزارة نفسها على المستوى اللغوي، فتتلاحق الجمل والتراكيب الإنشائية أو الخبرية الفائضة عن الحاجة، أو يعاد القول ويُكرَّر بصيغ تعبيرية مختلفة، أو يتمّ الإيهام باختلاف المعاني لمجرّد اختلاف الصيغ التعبيرية… إلى آخر ما هنالك من ألاعيب لغوية وأسلوبية لا قيمة مضافة فيها. وهو ما ابتعد عنه الإخلاصي في مجمل أعماله الأدبية؛ فبالرغم من ميله الملحوظ إلى استخدام الأساليب البلاغية، كالتشبيه والاستعارة والكناية، في السرد والوصف والحوار، وبالرغم من ميله الملحوظ أيضًا إلى الجمل السردية الطويلة التي قد تستغرق أسطرًا مديدة، حتى يصحّ القول إنّ تلك الجمل من خصائص أسلوبه اللغوي والسردي، فإنّ الشائع في مختلف أساليبه الأدبية هو الاقتصاد اللغوي، فما يقال بجملة لا ينبغي أن يقال بجملتين، وما يقال بجملتين لا ينبغي أن يقال بثلاث. وهو ما اعتمده الإخلاصي غالبًا ونظَّر له. يقول في ذلك: “والنظرة الاقتصادية للنص، إذا ما تجاوزت القيمة إلى البنية أو إلى تفاصيل اللغة، هي البحث عن (اللغة الحدّيّة)، أي القدر اللازم من اللغة للمعنى. ولغة النصّ إذا ما زادت عن حدّها فهذا يعني الترهّل اللغوي، وإذا ما نقصت فإنها تؤذي المعنى وتبتره. هذه اللغة الحدّيّة هي التي عُبِّر عنها أحيانًا بـ (البلاغة)، تُعتبر مقياسًا للنصّ في الحكم على أهميته وجماله. والتكرار والإسهاب من صفات الترهّل، والإيجاز إذا لم يُعِر الفكرة حقّها فهو العجز.”21. ونزعم أنه غالبًا ما التزم بـ “اللغة الحدّية”، فكان يعيد النظر عدّة مرّات أحيانًا بالعمل الذي بين يديه قبل طباعته ونشره، سواء على المستوى اللغوي أم على مختلف المستويات السردية. وقد كنا نطّلع على بعض المسوّدات الأولى لأعماله، فنفاجأ بالاختلاف الحادّ لغويًا وسرديًا بينها وبين الصيغة النهائية المعدّة للطبع؛ وكأنه كان يُعمل مبضع الجرّاح في أدبه، مثلما يُعمله في مجتمعه. وقد يكون لمبضع الجرّاح هذا أثره في التخفيف من نسبة الأعمال الأدبية الضخمة إلى الحدّ الأدنى عنده، وفي عدم الميل إلى الأعمال المتسلسلة كالثلاثية والرباعية أو ما يُعرف بالرواية النهرية.
ولا يعود ذلك إلى الاقتصاد في اللغة فحسب، وإنما يعود أيضًا إلى الاقتصاد الأدبي عمومًا. فلا تشعّبات حادّة ولا تداخلات في الموضوعات المتباينة، ولا شخصيات متكاثرة تصعب الإحاطة بها، ولا تجييش للآراء والأفكار المجرّدة والمفروضة من خارج السياق السردي. بل هنالك محور أساسي تدور حوله الأحداث وتنبني به الشخصيات، يمتدّ عبر العمل الأدبي كلّه، حتى لو امتدّت أحداث العمل على نصف قرن من الزمن. وهو ما يتكامل والنزعة الحكائية لديه، تلك النزعة التي تفترض رابطًا حكائيًا محدّدًا يمسك بأطراف العمل السردي أو الدرامي، وتنتظم وفقه الأحداث والشخصيات وتشتبك وتتصاعد حتى الحدث أو المشهد الأخير.
إنّ الميل إلى الاقتصاد في اللغة والسرد يحيلنا على الاقتصاد في المشاعر والانفعالات، أو ما يمكن تسميته بترشيد الانفعال، ونقصد به التأنّي والتدقيق في صوغ الانفعالات الشخصية وفي طريقة إثارتها أيضًا. فقلّما نجد، في أدب الإخلاصي، تلك الانفعالات الحادّة أو المأزومة أو المنفلتة، بالرغم من وجود شخصيات كثيرة ذات إرباكات سيكولوجية، من مثل أكثم الحلبي في بيت الخلد، والخانم في هذا النهر المجنون، والبطل في قصة “الرسائل”؛ وقلّما تتراكم أو تتراكب المواقف العذابية أو التراجيدية الفادحة في قسوتها أو وحشيتها، مع أنّ الكثير من أعماله السردية والدرامية مبنيّ على الحسّ التراجيدي، وهو ما يترتّب عليه أن لا حدّةَ أو شططَ في إثارة مشاعر المتلقي الذي لا يجد نفسه مضطرًّا لترك العمل كي يتنفّس الصعداء مثلًا. فمع أنّ مفهوم التراجيدي يعدّ الأبرز من بين المفاهيم الجمالية المهيمنة على أدب الإخلاصي، سواء ظهر على نحو صرف “بيت الخلد، ومقام إبراهيم وصفية” أم ظهر على نحو ملتبس بالعذابي “شتاء البحر اليابس، وبعد الظهر الميت” أم على نحو متشابك مع الكوميدي، أي التراجيكوميدي “كيف تصعد دون أن تقع، وسهرة ديمقراطية”، فإنّ ترشيد الانفعال هو المهيمن على المشاعر المصاحبة للشخصيات والأحداث والمواقف، وهو المهيمن أيضًا على مشاعر التلقي. وقد يكون هذا من آثار المسرح البريختي- التعليمي الذي يقوم على كسر الإيهام المسرحي. فليس الهدف من العمل الأدبي إثارة الانفعال وحسب، وإنما امتلاكه أيضًا والتحكّم به، أي ترشيده. وربما يدخل في الترشيد ابتعاد الإخلاصي عن أيّ شكل من أشكال الإثارة الجنسية أو الدينية أو السياسية. والأصل في ذلك كلّه هو الاقتصاد الأدبي لدى حكواتيّ الحداثة.
نزوى
——————————–