عن سليم بركات الذي جارتْ لغتهُ على خيالهِ/ هوشنك اوسي
اللغة يمكن أن تكون وطناً، شريطة ألاَّ تتحوّل إلى سجن. ويبدو أن سليم بركات استعذب الإقامة الاختياريّة في تلك اللغة التراثيّة. أصدقاؤهُ الشعراء والنقّاد لم يساعدوه على التحرر من لغةٍ اختارها لنفسه، كتحدٍّ بوصفه كرديّاً، غريباً. وحجم الترحيب والافتتان بلغته، جعله ينحاز إلى خيار أبدي بأن يجعل من تلك اللغة التراثيّة قفصاً ذهبيّاً.
اللغة بوصفها وطناً، كما قال الشاعر والأديب الكردي السوري؛ سليم بركات، أثناء حديثه عن علاقته بها، على غَرفْهِ من المجاز، هو توصيفٌ جميل ولافت. فبالنسبة إلى كاتبٍ كردي، كان ولمّا يزل، يعيش طبقات من الاغتراب المتلاحقة، الانتماءُ الأصيلُ، الوحيد، العميق المنتج والمجدي، والتحدّي الوجودي الذي وجده أمام نفسهِ، ويكاد يكون الحبل السرّي الذي يربطه بالحياة، هو الانتماء إلى اللغة العربيّة، شعراً ونثراً، وطناً وهويّةً. كأنّه يودُّ القول: “لستُ عربيّاً، واللغة العربيّة وطني وهويّتي، ولي فيها ما لكم، وربّما أكثر، أيّها العرب”. ولأن العقدين الأوّلين من عمرهِ؛ أسّسا وخصّبا خيالهُ، والعقود الخمسة اللاحقة كانت عطفاً وتأسيساً على ما سبق، وتعضيداً وتخصيباً له، فالأصل والجذر لخيال بركات، هي تلك السنوات الأولى. ذلك التطعيم أو التلاقح بين الخيال الكردي الشرس الجسور والرهيب، واللغة العربيّة العميقة المزلزلة المجلجلة الفاتنة، أنتج كائناً أدبيّاً؛ شعريّاً وروائيّاً مهماً اسمه سليم بركات. كائنٌ أدبي، لفت أنظارَ أعمدةَ الشعر العربي ومشاهيره في مطلع السبعينات، إليه. على سبيل الذكر، لا الحصر: محمود درويش، أدونيس، علي الجندي، محمد الماغوط…
أيّ لغةٍ كانت، هي كائنٌ حيّ؛ يتطوّر، يتغيّر، بحكم تطوّر الحياة والزمن واحتياجاتهما. شأنها في ذلك شأن الأوطان. فالذي يتخذ من اللغة وطناً، عليه تطوير تلك اللغة- الوطن، تغييرها، من حيث السياقات، والاستخدامات. إذ من غير المعقول أن يبقى المرء يتخذ من مكانٍ وطناً له، ولا يسعى إلى تحديثه وتطويره، فيتماشى مع رحابة الحياة ودينامياتها، لا أن يكون المرء في مكانٍ آخر، بينما الحياة تمضي دون هوادة إلى الأمام. ما أودُّ قوله وطرحه هو، المفاجأة اللغويّة البلاغيّة التي أحدثها بركات مطلع السبعينات، وجعلت أدونيس يلتفت إلى موهبة هذا الكردي الآتي من الشمال السوري، هل ما زالت تلك المفاجأة هي نفسها؛ تمتلك جذوة توهّجها، ودسم ألقها، وعسل دهشتها؟ قطعاً لا.
بالعذر من بركات، إذا افترضنا جدلاً أن درويش وأدونيس هما أحد أستاذته الكبار، (ولهما أفضال عليه)، علماً أن لغتي الشاعرين الكبيرين، كانتا من القلق والتوتّر والتطوّر بمكان، فإن الخطّين البيانيين لهما، من الستينات، السبعينات، الثمانينات، التسعينات، ومطالع الألفيّة الثالثّة، لم يكونا مستقيمين، ساكنين، لا يشوبهما الصعود والهبوط. بالعكس من ذلك. تمثيلاً وليس حصراً تمكن مقارنة لغة قصائد “أغاني مهيار الدمشقي” بلغة قصائد “أوّل الجسد آخر البحر”. كذلك تمكن مقارنة لغة “حبيبتي تنهض من نومها” بلغة “الجداريّة”. ذلك أن الفروق على صعيد فنيّة اللغة بين “سجّل أنا عربي” و”تنسى كأنّك لم تكن” أو “لا شيء يعجبني”، أو “لاعب النرد”، واضحة، لا تخطئها عين الذائقة، وعين النقد.
الإفراط في الغلو
ومع ذلك، كقارئ مقبول ومتواضع لأدب سليم بركات، يصعب عليّ، وربّما يستحيل، إيجاد الفوارق والنقلات النوعيّة في لغتهِ الشعريّة والروائيّة. ربّما المشكلة فيَّ، لا في لغته. وتمكن إحالة الأمر والكشف إلى النقّاد المتخصصين في أدب بركات. مع الاعتراف والإقرار بأن لغة بركات ومعجمه الشعري والسردي، في بدايته، على تفاصحها وبلاغاتها، كانت أخفّ وأكثر هضماً وفهماً. وأخشى مما أخشاه، أن المدائح والثناء والإعجابات المنهالة على بركات وقتذاك، جعلته يزيد من عبء التلغيز اللغوي، وضخّ المزيد من الشحن التراثي في معجمه الشعري والسردي، إلى درجة الإدمان والأسر، وعدم القدرة على الفكاك والتحرر، من تلك التقنيّة والأسلوبيّة القائمة على الغلو في الفصاحة والبلاغة والتراثيّة في الكلام.
وبذلك، الخيال الوحشي الشرس الرهيب الذي يمتلكهُ، صنع له بركات تابوتاًً حجريّاً بالغ الحصانة من لغة كتب التراث، التي بقي أسيرها، وما عاد يقوى على مغادرتها. شأن بركات في ذلك، شأن الخيّاط الذي استمرّ في خياطة طقم واحد، من القماش ذاته، واللون ذاته، و”التصميم ذاته، طيلة نصف قرن، ولا يريد خلعهُ إلاّ للغسل، ثم معاودة ارتدائه. ويشعرُ بالعري، إذا غيّرهُ أو حاول تطويره. وعليه، ربّما صارت ضرباً من الاستحالة والتعجيز مطالبة بركات بالتحرر من الصعوبة اللغويّة إلى السهولة.
لكن السهولةُ اللغويّة أيضاً، فيها ما فيها من التحالف بين تعقيد البساطة، أو بساطة التعقيد، ما ليس يقوى على احترافها أدباء مشهود لهم بالقدرات البلاغيّة والتراثيّة، كسليم بركات. هل لأنه هجرَ الواقع وتحوّلاته وتحديثاته، والتجأ إلى لغة، هي من التراثيّة والقاموسيّة بمكان، ما بات يصعب على أصحابها العرب فهمها وهضمها؟ ربّما. ذلك أن اللغة التي يكتب بها الأدباء الإنكليز حاليّاً، ليست اللغة التي كتب بها وليم شكسبير شعرهُ ومسرحه. ولو ظهر الآن، أو قبل خمسة عقود، في بريطانيا أو أميركا، شاعرٌ يكتب بلغة صاحب “روميو وجوليت”، لما أولوه اهتماماً. ينسحب الأمر على اللغة الفرنسيّة أيضاً. لو ظهر الآن مَن يكتب/ تكتب بلغة موليير، هل سيتقبّله قرّاء 2022 من الفرنسيين والفرنسيّات؟! لا اعتقد ذلك. إذاً، والحال تلك؛ إذا كانت الأوطان والهويّات، بالمعنى الحقيقي والمجازي، تتطوّر وتتغيّر، فلماذا لغة سليم بركات، التي اعتبرَها وطناً وهويّة، باقية حيث كانت، منذ عقود؟ وإذا كان الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، يوصف بأنه “شاعر من العصر العبّاسي” على خلفيّة لغته الجزلة والجِذلة، فبماذا يمكن وصف سليم بركات، بشفاعة لغتهِ الجزلة- الجِذلة أيضاً؟
وعليه، تنقّلات أدونيس بين الأمكنة: سوريا، لبنان، فرنسا، وكذلك تنقّلات درويش بين فلسطين، الأردن، لبنان، سوريا، فرنسا، والاحتكار بالأوطان الأخرى، وسّعت من مساحة الوطن- اللغة لدى الشاعرين العربيين الكبيرين، وغيّرت من خصال نصوصهما وسماتها. وتلك من طبائع الأمور لدى التجارب الشعريّة المرنة، المتفاعلة مع المحيط والفاعلة والمؤثّرة. وإذا كانت من الصعوبة بمكان الإجابة على سؤال: ماذا أثّر شعر أدونيس في الشعر الفرنسي؟ فلن يكون الإجابة مستحيلة على سؤال: كيف أثّرت فرنسا وشِعرها ولغتها وأدبها في شعر أدونيس؟ والسؤال الآخر هنا: تعالوا نشطب على فترة إقامة بركات في لبنان وقبرص، باعتبارها فترات إقامة مؤقّتة وقلقة، ونكتفي بفترة وجوده في السويد؛ كيف أثّرتِ الأخيرةُ على لغة بركات، وخياله أيضاً؟
لغة “الأنتيك”
إذا كان أدونيس ودرويش وأيّ شاعر من وزنيهما، كرروا أنفسهم في السنوات الأخيرة، على حساب تراجع مساحة الإبداع والدهشة ، وهذا أيضاً من طبائع الأمور، فمنذ متى وبركات يكرر نفسه، ضمن تلك اللغة المبهرة في تلألؤ بلاغتها المنتمية إلى الماضي والتراث، التي أقامت الحَجْرَ الأبدي على خياله الضروس الساحر، المعاصر والمرعب؟ ولو أن ذلك الخيال، وتلك الأفكار المتميّزة أتت إلينا، في لغة تنتمي إلى عصرنا، وقطعت حبل سرّتها مع كتب التراث العتيقة، أما كان ذلك أفضل لنا ولبركات ولأدبه وقرّائه؟! أوليس حراماً على بركات الحكم بالسجن المؤبّد على خياله الشموس المعاصر، داخل لغة هي أقرب إلى الماضويّة منها إلى المعاصرة؟ ما مدى صواب الحديث عن الإبداع مع حضور التكرار والمراوحة اللغويّة، أو عدم التزحزح اللغوي عن تلك التقنيّات والسياقات والمعاجم التراثيّة، في تجربة سليم بركات؟ هل نصحه نقّادهُ وأصدقاؤه المقرّبون وحاولوا لفت انتباهه إلى ذلك؟ فاللغة يمكن أن تكون وطناً، شريطة ألاَّ تتحوّل إلى سجن. ويبدو أن بركات استعذب الإقامة الاختياريّة في تلك اللغة التراثيّة (السجن). وربّما كان في مصلحة مجايليه ومنافسيه بقاؤه حيث هو، لأن انتقاله من لغة عتيقة (آنتيك)، إلى لغة معاصرة، سلسة، أكثر رحابة، ستكون بمثابة الانفجار الشعري الثاني لبركات، واحتمال طغيان دوي ذلك الانفجار على أصوات وقامات شعريّة وازنة، ولجرَّ ذلك الانفجار تجربة بركات إلى لغات أكثر، وصار معروفاً في أوروبا والعالم أكثر.
هكذا ارتضى بركات لنفسهِ وشعرهِ وأدبهِ ذلك، وارتضى لهُ أصدقاؤهُ الشعراء والنقّاد ذلك، ولم يساعدوه على التحرر من لغةٍ اختارها لنفسه، كتحدٍّ بوصفه كرديّاً، غريباً. وحجم الترحيب والافتتان بلغته، جعله ينحاز إلى خيار أبدي بأن يجعل من تلك اللغة التراثيّة قفصاً ذهبيّاً، يسرحُ خيالهُ بين ألفاظه وتراكيبهِ، التي هجرها أهلها.
ثمّة صورة نمطيّة مصدّرة لسليم بركات، مكرّرة ومتداولة على مدى عقود، على أنه يفضّل العزلة، ولديه طقوسه الخاصّة و”مناسكه”، ويتجنّب الأضواء والإعلام والجوائز. وذلك التصدير، زد على كونه غير دقيق، فهو مبالغ فيه، بحيث يجرّده من صفة الإنسان- الكاتب العادي، ويضفي عليه الصفة النوارنيّة- الملائكيّة، التفلسف والتصوّف واعتزال بهرج الحياة، وهجر زخارف الدنيا! والأدلّة والشروح على تفنيد ذلك، باتت من صنف لزوم ما لا يلزم. لكن، يبدو لي، وآمل أن أكون مخطئاً؛ أن بركات نفسه، صار يستعذب ذلك التصدير المكرّر وغير الدقيق عنه. أبعد من ذلك، أضحت تلك الصورة النمطيّة المصدّرة له وعنه، تبريراً متداولاً لنقاط كثيرة مسجّلة عليه.
قبل فترة، طرحت سؤالاً على صفحتي في “فيسبوك” حول كاتبنا، يتعلّق بمدى تقديمه العون للكتّاب والكاتبات الشباب الجدد، والتعريف بهم، سواء أثناء عمله في الصحافة الثقافيّة (مجلّة الكرمل) أو عقب استقرارهِ في السويد. ذلك أنه نفسه، في مطلع تجربته، قدّمَهُ شاعران كبيران هما محمود درويش وأدونيس، والأخير؛ طبع له ديوانه الأوّل. ذلك السؤال، فتح الباب للنقاش، من خلاله، عرفتُ أنه نشر قصائد للشاعر السوري إبراهيم حسو في “الكرمل”، وقدّم لديوان للشاعر الكردي كاميران حرسان، بطلب من الشاعر الكردي محمد عفيف الحسيني. عدا ذلك، لم أحصل على إجابات أخرى. لماذا؟ لماذا لم يواصل بركات تقديم مواهب جديدة للناس، متكئاً على تجربته وسمعته وصيته ومراسه، وفعلَ ما فعلَهُ شعراءٌ آخرون معه، حين كان في مطلع تجربته الشعريّة؟!
سليم بركات غير المترجم بما فيه الكفاية إلى الفرنسيّة، الإنكليزيّة، الألمانيّة، الإيطاليّة، وبل السويديّة أيضاً، حيث يقيم منذ عقدين ونيّف. مَن يتحمّل مسؤوليّة ذلك؟ الشلليّة؟ العلاقات العامّة؟ عزلة بركات؟ اعتزاله الشهرة والأضواء… إلى آخر هذه المتوالية من الإجابات- التبريرات المكرّرة والممجوجة والنمطيّة. ربّما يكون كلّ ذلك صحيحاً. ولكن، تجب الإضافة إلى ما سبق، دور ومسوؤليّة بركات نفسه في ذلك. وأقصد هنا، مسؤوليّة لغته التي بقيت ملتبسة ووعرة، وبحاجة إلى قرّاء ضالعين في اللغة العربيّة، وبل في النقد أيضاً، حتّى يفكّوا عويص طلاسمها واشتباكاتها وسيماءاتها. عليهم أن يكونوا فقهاء في التأويل واحتراج التفاسير، حتّى يمكنهم فهم بركات ولغته وهضمهما. ذلك أن ما يصعبُ على القراءة والفهم، لن تكون ترجمته سهلة.
سليم بركات غير الحاصل على جائزة أدبيّة عربيّة، برغم الكمّ المحترم والمعتبر والمميّز من الدواوين والروايات التي قدّمها إلى المكتبة العربيّة. من يتحمّل مسؤوليّة ذلك؟ سنرى الأسطوانة إيّاها عن الشلليّة وشبكة العلاقات والفساد، وكرديّة بركات، وأشياء كثيرة أخرى. وربّما جزء من تلك المبررات أو كلها؛ صحيحة. لكن، ليس منها عزوفهُ عن التقدّم للجوائز. ذلك أن لجان التحكيم في الجوائز الأدبيّة لا تنتمي إلى العصر العبّاسي أو الفاطمي أو الأيوبي أو المملوكي أو العثماني… حتّى تستعذب لغة بركات، وتهضمها، بل هم أبناء عصرهم، ومدارسه الحديثة في النقد.
كقارئ، وككاتب أيضاً، ما عاد يثير فضولي جديد سليم بركات. وإذا كان التعامل مع الأدب كلغة، فسألوذ بكتب التراث؛ وهي الأصل، وليس بأدب بركات الذي يمكن اعتباره، فرعاً من كتب التراث العربي، إن جاز التعبير. ذلك أن قراءة القرآن، أو “نهج البلاغة”، أو “المواقف والمخاطبات”، أو “الإمتاع والمؤانسة” + “المقابسات”، أو “الحيوان” + “البخلاء”، أو “المنقذ من الضلال”، أو “تهافت التهافت”… أجدى وأنفع من قراءة “سماء شاغرة فوق أورشليم” لسليم بركات.
إذاً والحال تلك، يكاد يكون من طينة المتّفق عليه، أو في حكم الإجماع؛ أن قوّة وعورة اللغة، والزخارف والمهارات البلاغيّة والتراثيّة التي يمتاز بها أدب سليم بركات؛ شعراً وروايةً، هي السمة الأكثر بروزاً وتمايزاً له، بين مجايليه، والذين أتوا من بعدهِ. إذ لا تخلو مقالة أو قراءة أو دراسة نقديّة من تلك العبارات والإشادات والمدائح التي تقول في هذه الخاصيّة، وتزيدُ فيها عزفاً ونغماً. لكن، في اعتقادي، أن أحد أبرز قيود تجربة بركات التي حالت دون شيوعها ورواجها دوليّاً، هي نفسها لغته، وبراعته، وغلوّهُ في الاشتغال على تصعيب لغته وتعصيبها. وعليه، هل من المجازفة أو المبالغة الاستنتاج؛ أن لغة بركات جارت على خياله، ومنعت ذلك الخيال من التسرّب إلى لغات أخرى والرواج فيها؟! لغتهُ، جميلة ومدهشة، لأنها تراثيّة ومن صنف “الآنتيك”، ومقاماتها ومراقدها بطون كتب التراث، والمخطوطات والمتاحف، ولن تنتج أدباً معاصراً، مؤثّراً، وفاعلاً. بدليل، تراجع نسبة المتأثّرين بأدب بركات حاليّاً؛ أولئك الذين كنت منهم، يوماً ما.
عليَّ الاعتراف والإقرار بعجزي عن إقناع بعض الذين سيفهمون المقال على أنه “تطاولٌ” على القامات الأدبيّة والثقافيّة المعروفة والمكرّسة، أو “التحرّش” بها، في مسعى للحصول على قبس أو قسط من شهرتها، وإثارة الشك والشبهة حولها، على أن فهمهم مقالي هذا؛ مغلوط، وليس في محلّه، وغير دقيق. ذلك أن تلك الأوهام- “الأحكام” الجاهزة، عادة ما يطلقها بعض المتطرّفين المفتونين بأدب هذا الكاتب أو ذاك، حين يرون نقداً موجّهاً لكاتبهم المفضّل “المعصوم” من الأعطال والعلل والزلل! وبالتالي؛ أقرُّ باستحالة قدرتي على إقناعهم بتهافت تلك الأوهام – الأحكام وركاكتها. وعليه أوّقع، وأبصم أيضاً.
درج
—————————–
رد على هذه المقالة، والرد المضاد من هو شنك أوسي
====================
فضيلة “اللغة الجائرة”: شؤون الكتابة لدى سليم بركات/ خالد حسين
مدخل
ليس بالأمر اللاــ متوقع أَنْ يأتي مقالُ الشَّاعر والرّوائي هوشنك أوسي (عن سليم بركات الذي جارتْ لغتهُ على خيالهِ)([1]) وفق هذه الصُّورة، بل ما ليس من المتوقع أن يستديرَ المقالُ على “المتوقع “ذاته، ليتخذ مَسَاراً مغايراً وينتمي إلى اللاـ متوقع النقديِّ مِنْ حًيْثُ إنَّ شَذَراتٍ عديدةً للكاتب مبثوثة هنا وهناك قد دشّنتْ رُشَيْمَاتِ هذا المقال وما المقالُ إلا مساحةٌ موسّعةٌ لتلك الشَّذرات الأُولى أو أصداءٌ لها. هكذا ما ليس بالمباغتِ عَلَى وَجْهِ التَّحديدِ أنْ يصوغَ و/أو يستعيدُ المقالُ هذه “الصُّورة” النمطية، المتناثرة في المشهد الثَّقافي عن أدب/نصية سليم بركات، صُوْرةٌ لا تقبضُ على مُسَوّغاتِهَا من الكَوْنَيْن الشِّعري والسَّردي تحليلاً لهما بقدر ما تكتسبُ وجودَهَا من الطّارئ النّصي والقراءات المتعجّلة: سجين اللغة، الغلو في استعمال اللغة، اللغة التراثية ــ”الأنتيك”، التكرار والمراوحة، كائن العزلة، الفشلُ في الاحتياز على الجوائز بسبب وعورة لغة الكاتب وهذا ما جعلها تستعصي على الترجمة ذاتها إلى الألسنةِ الأخرى،…وما شابه ذلك من آراء انطباعيةٍ وبتناءٍ عن إجراءاتِ التَّحليل النَّقدي الواجبة.
لكن ما يُفاجىءُ القارىءَ في هَذِهِ “الصُّورة النمطية” لكاتبٍ، لا يعرف سوى الاختلاف مأوىً وإنجازاً منذ مصنّفهِ الأوّل (كلُّ داخلٍ سيهتف لأجلي، وكلُّ خارجٍ أيضاً، 1973) وحتى الأخير (الثلوج أكثر خداعاً في غابات التنّوب، 2021) في تجربتهِ الأثيرةِ، أَنَّها تُصَاغُ بيدي كاتبٍ يَسْعَى هو ذاته إلى ضَفَافِ المغَاير والمختلفِ ذاتهِ في حقلي الشِّعر والرّواية، أي أنَّ الفُجَاءةَ المرافقةَ للصُّورةِ تحومُ حولَ مصدرِ إرسال الصُّورة وليستْ كامنةً في بنيتها، فهي لا تومىء بأيِّ جديدٍ في تمظهرها نقداً وتأملاً، وهذا ما يجعلَ مَسَاحةَ التّعجُّب تتسع أكثر فأكثر…! ومهما يكنْ سَوْفَ تُشكّلُ هذه الصُّورةُ أرضيةً لهذه المُسَاجلة “النّقد النّقدية”بروح المسْؤوليةِ وضمن أَخْلاقَياتِ المناقشةِ البحتة.
أسلوبيةُ التَّقويضِ
يَشْرَعُ مَقالُ الكاتبِ بدلالةِ التأكيد إثباتاً ليقبضَ على عُنُقِ الحقيقةِ منذ عتبة العنوان “عن سليم بركات الذي جارتْ لغتهُ على خيالهِ”، فالأمر، هكذا، وبرميةٍ واحدةٍ، مرتبطٌ بخيالٍ متصّدع بفعل لغةٍ، بفعل استعمال بركات الخاصّ للغة، لكن بركات يتشارك مع أهل العربية والمتكلمين بها معجماً ونحواً وطرائقَ التصريفٍ ذاتها. إذن فما يختلفُ فيه بركات مع الآخر ليس اللغة، وإنما يكمن في “الأسلوب”style، أسلوبه في صياغة العربية الذي ابتكره ونمّاه وينميّه حتى راهن الكتاب الأخير له (وهذا ما سنأتي إليه إجراءً في سياقه المناسب)! وهنا ماذا يظلُّ من الكاتب إن افتقد “الأسلوب”، الإمضاء، التوقيع، الاختلاف في تصريف اللغة؟ ماذا لو أنَّ بركات افتقد أسلوبه المميز الذي يتلاءم و”خياله الشرس”؟ ماذا لو أن هذا “الخيالَ الجسورَ”: ظلَّ مدفوناً في كَفَنِ أسلوبٍ يخضعُ للسّائد من أساليب الكتابة؟ إنّ الخيال الشّرس لا يرتضي إلا أنْ يتواءمَ مع “أسلوبٍ” صعب المراس، مغاير، يتخذ من التَّبايُنِ منطقاً ووسماً وجرحاً له. إن بركات في صنيعه هذا، وعلى غرار الأسلوبيين الكبار، أحدثَ جرحاً في جَسَدِ “العربية”؛ لكيلا تفغو في نعيم بلاغتها السائدة وتستكين. وفي الحقيقة ابتكر “لغةً أجنبية ضمن اللغة” التي يكتب بها، جعل الجملة العربية تتلعثم وتتشوّه وتتلوّى من ألم الاختلاف([2]) وهذا مطلب الإبداع ــ الأصيل. أما لماذا اتخذَ بركات هذا الممرّ، هذا الأسلوب لكينونة الكتابة لديه غير المعتاد، فالأمر ليس أبعد من ماهية الإمضاء ذاتها، لا إمضاءَ متماثلٌ مع إمضاءٍ آخرَ ومتشاكلٌ له، كلُّ كاتبٍ كبير هو إمضاءٌ، هو توقيعٌ، كلُّ إمضاءٍ هو حدثٌ فريدٌ…!
من جهة أخرى، وكما جرت الإشارة، فالعنوان يتخذُ من الدِّلالة التأكيدية إقامةً وإثباتاً وقطعاً وحسماً: “عن سليم بركات الذي جارتْ لغتهُ على خيالهِ”! ووفقاً لهذا المنطق التأكيدي فالنتيجة التي حتّمت هذه الصّيغة للعنوان إنما انبثقت من تأمّلٍ نقديٍّ للمسار التاريخي لــ”أسلوبية” بركات شعراً وروايةً لكننا في الواقع لا نجد في تضاريس المقال الطّويل نسبياً أيّ اختبار نقدي لهذا المسَار المثمر والمدهش من الكتابةِ لدى بركات باستقطاع شذراتٍ من الأعمال الأولى ومقارنتها بالأعمال الوسطى وهذه مع الأعمال التي صدرت وتصدر راهناً حتى نُدرك المسوّغات التحليلية والمعرفية والجمالية التي دفعت بالكاتب إلى نعيم هذا اليقين الذي أَودعَ فيه “عنوان” مقالته بكلّ راحةِ بال واستكانةٍ. هكذا ومنذ عتبة العنوان نجد ذواتنا إزاء مقال يملك خزائن “الحقيقة” الواحدة “عن سليم بركات الذي جارتْ لغتهُ على خيالهِ”، كيف حَكمَ الكاتب على ثلاث وعشرين مجموعة شعرية وثلاثين كتاباً سردياً عبر مساحةٍ من الزمن (1973ــ 2021) بهذا التأكيد، بهذا “اليقينِ”، الذي لا يختلفُ عن أيّ يقينٍ أيديولوجي في وسم حدثٍ كتابيّ “مدهشٍ”([3]) بكونه لم يتأثر بأيّةِ طعناتٍ من الزَّمن بالمقارنة مع أحداثٍ/أساليب أُخرى سابقة أو متزامنة معه تتنفَّس التَّاريخ؟ على هذا النحو وبتوجيهٍ من هذه الميتافيزيقا الانطباعية التي تضخُّ العنوان بالطاقة تنبسط تضاريس المقال لتأكيد الحكم النقدي المسبق شرحاً وتفسيراً وتوسيعاً.
اللغة/ الأسلوب
يفتتح الكاتبُ مطلعَ مقالته بقولةٍ لبركات “اللغة بوصفها وطناً” ثمّ يقدِّمُ تأويله لها بالقول: “فبالنسبة إلى كاتبٍ كردي، (…)[فـ] الانتماءُ الأصيلُ، الوحيد، العميق المنتج والمجدي، والتحدّي الوجودي الذي وجده أمام نفسهِ، ويكاد يكون الحبل السرّي الذي يربطه بالحياة، هو الانتماء إلى اللغة العربيّة، شعراً ونثراً، وطناً وهويّةً(…) [ليبلغ الكاتب الفكرة الأكثر أهمية]: ولأن العقدين الأوّلين من عمرهِ؛ أسّسا وخصّبا خيالهُ، والعقود الخمسة اللاحقة كانت عطفاً وتأسيساً على ما سبق، وتعضيداً وتخصيباً له، فالأصل والجذر لخيال بركات، هي تلك السنوات الأولى”. لاشكَّ بأنَّ باللغة، وبخاصةٍ اللغة ــ الأم، مجازاً هي أشبه بالمأوى، بل هي بيتُ الكينونة على حدّ قولة هايدغر؛ لكنَّ الإنسان، ولاسيما الكاتب في الواقع، يتخذ أكثر من لغةٍ مأوىً له. بل إنّ بعضاً من المآوي (اللغات) تُفرض على الإنسان رغم إرادته ورغبته كحال “الكردي” في سوريا ومن ثمَّ فانتماءُ “بركات” للعربية مأوىً ليس بالانتماء الأصيل، كما يمضي الكاتب، بل هو انتماءٌ مُرْغَمٌ عليه، انتماءُ المتغلِّب على المتغلَّبِ، المهيمِن على المهيمَن. وإذا كانت حتّى اللغة ـ الأم، البيت الأول، تمارس إكراهاتها وإراداتها على الكائن في تشكيل عالمه/عوالمه؛ فماذا يمكن القول بما يخصُّ لغةً أُرْغمَ الكردُ(سوريا) على اتخاذها مأوىً؟ ففي مشهد إبادة اللغة الكردية ونسفها لم يكن بحوزةٍ بركات والكرد قاطبةً في سوريا سوى “العربية” ممراً لعرض الكينونة الكردية ومن ثمَّ فاتخاذ بركات للعربية ليس “انتماءً أصيلاً” وإنما هو من قبيل “التحدي الوجودي”ــ حيث يصيب الكاتب هنا تماماًــ إذ لم تكن الكتابة بـ”العربية إلا تحدياً وجودياً مهارةً وإتقاناً وبلاغةً للردّ بالكتابة ذاتها، باللغة المهيمِنة ذاتها على سائد اللغة ذاتها وتراثها والسُّلطة التي رسختها لتكون “اللغة الوحيدة” على حساب اللغات الوطنية ولاسيما “الكردية” التي حاولت السُّلطة ليس بإزاحتها وتنحيتها عن المشهد الوطني ثقافةً وتعليماً بل القيام بأقصى المحاولات لاجتثاثها واستئصالها ومحوها ومحقها…!
من جهةٍ أخرى، وبما يرتبطُ بالمقبوس ذاته، يرى الكاتب أن السَّنوات الأُولى تمثّل “الأصل والجذر” لخيال بركات وما تلاها فهو تأسيسٌ وعطفٌ و”تخصيبٌ”، أي إنَّ بركات وفق الكاتب سلك مساراً تاريخياً، منطقياً لبناء “الخيال” الأدبي من التأسيس إلى التخصيب مروراً بالتعضيد، وهذا ما يضع النتائج التي استنطقها وتوصّل إليها الكاتب لاحقاً قاب قوسين أو أدنى من التناقض والتعارض بعضها مع بعضٍ وبصورةٍ مريعةٍ، فكيف مرَّ هذا الخيال بالفعل “التخصيبي”بوصفه فعلاً تاريخياً يقتضي انتقالاً بين المصادر والمراجع عربييها وأجنبييها وظلَّ متجمّداً في ثلوج مرحلة التأسيس الأولى؟! لكن لنتابع الكاتب وهو ينطلق لتوضيح هذه الفكرة انطلاقاً من مقولة “اللغة” التي ينبغي على الكاتب اتخاذها وطناً ألا يتوقّف عن تحديث هذه “اللغة” في سياقاتها واستعمالاتها فالحياة الجارية في تدفقها لا ترحم، يكتب: “ما أودُّ قوله وطرحه هو، المفاجأة اللغويّة البلاغيّة التي أحدثها بركات مطلع السبعينات، وجعلت أدونيس يلتفت إلى موهبة هذا الكردي الآتي من الشمال السوري، هل ما زالت تلك المفاجأة هي نفسها؛ تمتلك جذوة توهّجها، ودسم ألقها، وعسل دهشتها؟ قطعاً لا.”. في الواقع يلتبس الأمر هنا على الكاتب بين اللغة بوصفها ملكية الجماعة وغير قابلةٍ للامتلاك بتاتاً وبين “الأسلوب”، أي الخصوصية الفريدة التي يبتكرها الكاتب ــ المبدع في جسد هذه الملكية، ومن ثم يجري تشبيهه بالإمضاء والتوقيع والجرح، أي صناعة الاختلاف الذي يحافظ على أثره مطلقاً(ابن المقفع، أبو تمام، النّفري، المعري ، الجزري[في الكردية])، فما جعل “أدونيس” ينتبه إلى ويتباغت بـ: فهو “الجرح” الذي أحدثه بركات في العربية، في الكتابة العربية السَّائدة من حيث عمقُهُ واختلافُهُ، فهذا الجرح ــ الأسلوب وبدءاً من المجموعة الشِّعرية الأولى(كلُّ داخل سيهتف لأجلي، وكلُّ خارج أيضاً) وما تلاها من مجموعاتٍ إلى الأخيرة منها (الشظايا الخمسمائة” أين يمضي هذا الذي لاتلمسه يداي”) يتسم بالفرادة والانعطاف والتغييرات الواضحة على مستويات العنونة وبناء الجملة والمعجم والصُّورة والكون الشِّعري. وفي واقع الحال فما باغتَ “أدونيس” هو المنطق الذي كان ولايزال وفقه هذا “الأسلوب” وهو “منطق التقويض” على وجه التّحديد إذ يتأسّس على تحرير العلامات اللغوية من إرثها الدّلالي، التداولي من خلال الدفع بها إلى سياقات نصية غير متداولة حتى تتكلم اللغة بلغةٍ غريبةٍ على ذاتها، بل إن اللغة في نصية بركات تبلغ “الصَّمت”([4]) ذاته وتغدو خرساء، بكماء إلا قليلاً في هيئةٍ من “التحدي الوجودي”! هذا التقويض لم يصبِ العلامات اللغوية وحدها بل حتى البنيات النَّصية أي أشكال النّص وأنواعه وخطاب العناوين،إلخ؛ ليكون القارىء إزاء حدثٍ نصيٍّ فريدٍ وبتوقيع متفردٍ: (هكذا أبعثر موسيسانا، 1973، الجمهرات، 1978، بالشِّباك ذاتها؛ بالثعالب التي تقود الرِّيح،1986، طيش الياقوت، 1992، المجابهات، المواثيق الأجران، التصاريف، وغيرها، 1996 تنبيه الحيوان إلى أنسابه، 2019.. على سبيل المثال)، لكنَّ الكاتب، وبعد التساؤل عن استمرارية هذه المفاجأة من عدمها بكلّ ألقها ودهشتها، يحسم الأمر تماماً بحكمٍ باترٍ: “قطعاً لا”! بيد أن هذا القطع الحاسم بتلاشي “الوهج” عن كتابة بركات سرداً وشعراً يقتضي وحسب أصول النَّقد واشتراطاته نماذج، عناوين، شذرات نصية تحت طائلة التحليل من منجز بركات في المرحلتين الوسطى والراهنة شعراً ونثراً حتى يكون الحكم النقديُّ حاسماً أي يكون محايثاً للأعمال الأدبية وليس ضرباً من نزق القول.
وطالما أنَّ الكاتب لم يجد فاقةً لاستحضار أمثلةٍ من قبيل اليقين التام الذي يستغرقُ خطابَهُ بهذا الحسم، أي حقيقة ما اقتنصه من تقييم؛ فالعدالةُ تتوجّبُ مسايرة هذا اليقين التأكيدي ذاته والسّير به إلى راهن التَّحليل النقدي بصورةٍ مباشرة عبر التحايُث مع نصوصٍ لبركات. ويمكننا هنا تقديم خطاب عدة عناوين من شأنها تعكس شعرية بركات في مددٍ زمنية اجتازتها “المفاجأة اللغوية” لبركات وتجتاز فيها:
1ــ كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً، 1973.
2ــ بالشباك ذاتها؛ بالثعالب التي تقود الريح، 1986
3ــ المجابهات؛ المواثيق الأجران؛ التصاريف، وغيرها، 1996
4ــ شمال القلوب أو غربها (عشاق لم يحسموا أمرهم)، 2014
5ــ تنبيه الحيوان إلى أنسابه، 2019
6ــ الشَّظايا الخمسمائة (أين يمضي هذا الذي لا تلمسه يداي؟)، 2021
ربما المرء لا يحتاج هنا لأكثر من قراءةٍ بسيطةٍ، ليدرك أنّ كلَّ خطابٍ من هذه الخطابات يؤسّس لعالم دلاليٍّ مفارقٍ، وعلاماتٍ تنبىء بالمختلف والمغاير ومع ذلك نلمسُ بكلّ بساطةٍ تغيّر المنحى الدلالي إلى الانتقال من التعبير عن الذات (1) إلى التعبير عن العالم بعوالمه المتعددة (2، 3، 4، 5، 6). وفي العناوين الشعرية لبركات ونصوصها لا أثر للتماثل البتة، يحضرُ الاخـ(تـــ)ـلاف différance برمّته. هل يفتقدُ العنوانُ الأخيرُ: الشَّظايا الخمسمائة (أين يمضي هذا الذي لا تلمسه يداي؟) إلى “جذوة التوهج، ودسم الألق، وعسل الدّهشة” بالمقارنة مع العنوان (1)، قطعاً لا…! فهذا العنوان يُدخلُ الحيرة أكثر، لا الدَّهشة فحسب، في أفق التلقي فما هذه الشظايا المقصودة عدداً؟ لتنهض بعدئذٍ صورة استعارية بجماليات فائقة تستحضر اللامرئي بالمرئي: أين يمضي هذا الذي لا تلمسه يداي؟ إنّ ما يجمع هذه العناوين ونصوصها يتمثّل بأسلوبية بركات، أسلوبية التقويض ذاتها، الأسلوبية الفريدة إذ شرعت بالانبثاق في المجموعةِ الأولى لتغتني عبر المجموعات الأُخَر اللاحقة تركيباً ومعجماً وصورةً وتجربةً تعكس علاقة الشَّاعر ذاته ليس بالمشهد الثقافي العربي وإنما العالمي أيضاً (يُنظر في “سليم بركات: لوعة كالرياضيات، وحنين كالهندسة: حوار وليد هرمز،2020)، فأسلوبية بركات ليست بتلك الأسلوبية التي تيبست مع انفجارها في المرحلة الأولى كما يرى الكاتب وإنما اكتسبت مع الفعل السَّردي أبعاداً أكثر ثراءً وجمالاً ومرونةً ويمكن للقارىء أن يلمس المنعطفات التي مرّت بهذه أسلوبية بركات السّردية من البساطة (قياساً إلى عمل بركات وليس بالإحالة إلى أعمال خارجية وطرداً مع الموضوعات السَّردية) كما في “السيرتان” إلى أسلوبية الاكتناز والقوة والجمال الفائق في (فقهاء الظلام، الريش، معسكرات الأبد، أنقاض الأزل الثاني) إلى أسلوبية مركّزة، تندفع بغموضٍ هائج [ثلاثية: الفلكيون في ثلثاء الموت: عبور البشروش(1)، الكون(2)، كبد ميلاؤس(3)، الأختام والسديم، دلشاد(فراسخ الخلود المهجورة]، لتأتي الأسلوبية ذات السّمت الميثولوجي [كهوف هَايْدْرَاهُوْدَاهُوْس، ثادريميس، موتى مبتدئون، السَّلالم الرملية، لوعة الأليف اللاموصوف المحيّر في صوت سارماك، حوافر مهمشة في هايَدْرَاهُوْدَاهُوْس، حورية الماء وبناتها، سجناء جبل آيايانو الشرقي، أقاليم الجن، موسوعة الكمال بلاتحريف (نشوء المعادن)، ميدوسا لاتسرّح شعرها]، لتليها تلك الأسلوبية بتوصيفها التاريخي(السَّماء شاغرة فوق أورشليم(1،2)، زئير الظلال في حدائق زنوبيا، سيرة الوجود وموجز تاريخ القيامة) وأخيراً الأسلوبية الواضحة، المرنة[هياج الإوز، سبايا سنجار، ماذا عن السيدة اليهودية راحيل، الثلوج أكثر خداعاً في غابات التنوب]. بناء على ما تقدم لا يمكن الركون إلى “اليقين القطعي” الذي خرج به الكاتب في توصيف أسلوبية بركات (المفاجأة اللغوية) بكونها قد تخلّت عن ألقها ودهشتها وبشكلٍ قاطع! فهذه الأسلوبية في واقعها النصيّ خاضعة للفعل التاريخي للكتابة؛ فهي تحافظ على سماتها وتومىء إلى ذاتها (وهذه حال أيّ أسلوب) ولكنها مشرّعة على الآخر تفاعلاً واغتناءً وإثراءً.
هيمنة اليقين وإهدار التاريخ
يتراءى لنا أن “اليقين” هو الذي يراكم المساحة اللغوية في مقال الشَّاعر والرّوائي، بل هو الاستراتيجية التي يحكم بها على نصية بركات سرداً وشعراً، بوصفها أسلوبية ساكنة، بعيدة عن تلوثات التاريخ. يتحدّث الكاتب في هذا السياق عن أستاذية محمود درويش وأدونيس لبركات (افتراضاً أو حقيقةً) مع الإشارة إلى مرور خطابيهما الشّعريين في منعطفات القلق والتوتر والتطور عبر مسيرتيهما، إذ ” لم يكونا مستقيمين، ساكنين، لا يشوبهما الصعود والهبوط. بالعكس من ذلك. تمثيلاً وليس حصراً تمكن مقارنة لغة قصائد “أغاني مهيار الدمشقي” بلغة قصائد “أوّل الجسد آخر البحر”. كذلك تمكن مقارنة لغة “حبيبتي تنهض من نومها” بلغة “الجداريّة”. ذلك أن الفروق على صعيد فنيّة اللغة بين “سجّل أنا عربي” و”تنسى كأنّك لم تكن” أو “لا شيء يعجبني”، أو “لاعب النرد”، واضحة، لا تخطئها عين الذائقة، وعين النقد”.
بدايةً إنَّ التَّحليل النَّصيَّ لأعمال بركات لا تكشف عن أيِّ تأثير مارسته أعمال درويش عليها، بل العكس ربما يكون هو الصَّحيح وهو ما اعترف به درويش ضمناً:” “بذلتُ جهداً كي لا أتاثر بسليم بركات”([5]). أمّا أدونيس فما يجمع بركات به هو السِّمة التقويضية لأسلوبيهما مع التأكيد أنَّ أسلوبية بركات هي الأكثر شراسةً وتحرُّراً من عبءِ التَّاريخ و”الجماعة” قياساً إلى أسلوبيةِ أدونيس التي حافظت إلى جانب ذلك على شيءٍ من الغنائية والاحتراس من الذهاب باللغةِ إلى حدودِ “الصّمت”، السِّمة المميزة لأدب ما بعد الحداثة([6])، كما فعل بركات…ومن ثمَّ يمكن وضع هذه “الأستاذية” تحت طائلةِ الشَّطبِ؛ لتُستبدل إلى “صَداقة” جامعةٍ بين سليم ودرويش من جهةٍ وانقطاع بين سليم وأدونيس([7]) من جهة أخرى.
وهنا نتساءل لماذا وسم التاريخُ بميسمه خطابي الشَّاعرين دون خطاب سليم بركات الشَّعري؟ قدّم الكاتب رشقةً من الأمثلة الدّالة على التغيُّر الذي أصاب خطاب الشَّاعرين على نحو نظريّ دون أيّ إجراءٍ تحليليّ، دون اللجوء إلى آليات الحجاج والإقناع في حين غيّب ذلك بما يخصُّ بركات للتأكيد على “اليقين” الذي يحرّك خرائطَ النظر لديه واتهام بركات بميتافيزيقا الثبات الأسلوبي. والسُّؤال الذي يندفع بذاته هل حقاً أنَّ أسلوبية (اللغة وفق الكاتب) ظلّت كما هي أو هي هي بلغة الفلسفة، أي هذه الأسلوبية لا تتجاوز مبادئ أرسطو في “الهوية”؟ لو شرعنا بأخذ السّرد لدى بركات في تمثيل زمنيّ؛ هل من الواقعيّ أنّ لغةَ بركات في “السّيرتان” هي ذاتها التي تتكرّر في “الريش” وفي ثلاثية “الفلكيون في ثلثاء الموت” لتتشاكل جميعاً مع لغة “دلشاد (فراسخ الخلود المهجورة)” و”الثلوج أكثر خداعاً في غابات التَّنُّوب”؟ ألا تفرضُ “الثيمات” السَّردية والنوع الأدبي على الكاتب معجماً مختلفاً ومبايناً عن معجم آخر يخصُّ ثيماتٍ أُخَر ونوعاً آخر؟ المنطق السَّردي يقول “نعم” بكلّ بساطةٍ ووضوح. والآن هل النَّسج الأسلوبي هو ذاته في “السّيرتان”، [حيث السّلاسة والبساطة والشّعرية والمعجمية] و”الفلكيون في ثلثاء الموت”، [حيث الإبهام والبنية المعقدة والموضوع المغاير والمعجم الفلسفي]، هل ثمّة من تشاكل أسلوبي بين العملين؟ إذا كان ذلك كذلك؛ فلنستدع شذرتين من النَّصين المذكورين إلى مشهد القراءة ونرى حقيقة الواقع النصي:
1ــ [كنّا صغاراً يا صاحبي، صغاراً جداً، مثل فراخ الإوزّ، واقفين على طرفين الشَّارع كسطور الكتابة. وكان ثمّتَ هرجٌ كبيرٌ مهولٌ. وكان المعلمون الذين يقفزونَ بين الصُّفوف ملوّحين بعصيّهم، أشبه بقططٍ مذعورة يصرخون:” انتبهوا، لوّحوا بأيدكم حين مرّ الرئيس…”([8])، (الجندب الحديدي، 1980].
2ــ [“الرغبةُ هي المشيئة الممتلئة بذاتها، نداء الشّكل إلى عافية ضروراته. سطوعٌ واحدٌ للماجن النبيل ظمآن إلى مرتبته. انتهاكٌ مأمولٌ، وإغداق شره من خزائن الأمل على ربيبتها المتاهة. بها يستعيد الجسد هبة انقلابه طريداً وقناصاً. يستعيد الفاحش الأكثر نقاءً في غور معناه”([9]) (الفلكيون: كبد ميلاؤس ـ ج3)، 1997].
ثمة مسافة زمنية بين النَّصين السّرديين (1980، 1997)، ولاريب أنّ القارىء لن يخطىء في إدراك الانعطاف الدلاليّ والرمزيّ والتركيبيّ المعقد والمعجم اللغوي المغاير الظاهر في الشّذرة الثانية بمواجهة البساطة والسُّهولة التي تجتاج الشَّذرة الأولى، فالمسافة الزَّمنية، بما تتضمَّن التغذية الذَّاتية على نصوصٍ متنوعةٍ مع ثيمات السَّرد ذاتها، لها فعلها وتأثيرها على أسلوبية اللغة بمستوياتها المختلفة. لكن بركات سوف يقدّمُ سرداً أكثر سلاسةً وغنىً لغوياً في روايته الأخيرة “الثلوج أكثر خداعاً في غابات التَّنّوب، 2021″كمثال على تحرّك أسلوبيته في بعدها التاريخي، بخلاف ما تُتهم به من سكونيةٍ متأبدة لايطالها التّغيير.
اللغة في ابتكارها الأدبي
في منعطف آخر من هذه العاصفة النَّقدية لنَّصية بركات المبثوثة في المقال؛ تأتي سمةُ “الإفراط في الغلوّ” التي يمكن التمثيل لها وفق الكاتب بالتلغيز اللغوي وشحن المعجم السّردي والشَّعري باللغة التراثية، الأمر الذي دفع بنصية بركات أو خياله إلى الاعتياش طيَّ التحجّر: “…وبذلك، الخيال الوحشي الشرس الرهيب الذي يمتلكهُ، صنع له بركات تابوتاً حجريّاً بالغ الحصانة من لغة كتب التراث، التي بقي أسيرها، وما عاد يقوى على مغادرتها.” [ومن ثمّ بات بركات سجين أسلوبيته/ لغته، يتساءل الكاتب] هل لأنه هجرَ الواقع وتحوّلاته وتحديثاته، والتجأ إلى لغة، هي من التراثيّة والقاموسيّة بمكان، ما بات يصعب على أصحابها العرب فهمها وهضمها؟”. أشرنا بجلاءٍ إلى أنَّ “المنطق التقويضي” الذي تتأسَّسُ عليه أسلوبيةُ بركات لا تتيح بأيّ حالٍ للغةِ التراثيةِ أن تتحكّم بخطابه الأدبيّ؛ فالخيالُ الأدبيُّ لبركات قائم على تحرير العلامةِ اللغوية من رأسمالها الدلاليّ والتّداولي بدفعها إلى سياقاتٍ تركيبيةٍ/ تغريبيةٍ تفقدُ وفق دلالاتِها الجديدةِ أية صلةٍ بمواقعها الدّلاليةِ السّائدةِ أو التّراثيّةِ وتفكيكِ العَلاقةِ الإحاليةِ مع العالم؛ لتغدو العلامة حرّة في انزلاقها الدلاليِّ وهذا هو الأصلُ في ابتكار العلامة الأدبية. وبذلك فأسلوبية بركات هي أبعد ما تكون عن القاموسية والتراثية التي وردت في كلام الكاتب، نتحدّث عن قاموسية العلامة وتراثيتها حين تُستدعى إلى السّياقات النّصية الجديدة دون إلحاق أيّ أذى بدلالتها المتحجّرة، لكنَّ هذا النمط لا حيّز له، لا قيامة له في شعرية بركات شعراً وسرداً. والصّواب أنَّ اللغة مع نصية بركات تقاسي من محنةٍ، تدخل في شهيق الصَّمت وتلك هي المعضلة، المعضلة في الاستقبال لا في النّصِّ، فنصُّ بركات يبدو من شدّة الانزياحات والانحرافات واللعب لا يعبأ بالمعنى الأحادي، المعنى المرسوم وفق ذائقة التداول والتراث أو القاموس، وإنما ينفتح على لامتناهٍ من الدّلالة، لذلك وصفته بالنص المفتوح على شهيق الصَّمت، فهل تنتمي المجموعة الأخيرة “الشّظايا الخمسمائة (أين يمضي هذا الذي لا تلمسه يداي؟) بهذه المفردات وهذا التركيب الفريد إلى “التراث”؟ يمكن للقارىء الكريم أن يستدرج أيّ نصّ لبركات إلى حقل القراءة، ليكتشفَ بأنه ليس بالنّص ــ السّهل، القابل للاصطياد في أول قراءةٍ، وإنما النصّ الذي يفرض كتابته وإنتاجه، النصَّ الذي يصنع قارئاً جديداً على وجه التحديد.
إنَّ العلامة اللغوية في نصية بركات تنعتق من عالمها القاموسي، التداولي، التراثي لتأتلق من جديدٍ، لتقول عالماً مغايراً، بل حتى تغدو النصية “لغةً ضمن لغةٍ” وهذا يشمل السَّرد والشّعر فكيف استنتج الكاتب الطابع “الماضوي” للغة بركات أو قربية من “الماضوية”، لغة عتيقة لا تمتّ إلى المعاصرة بصلةٍ، فحرف “الواو” في مفهوم “الماضوية” سمة للمبالغة، أي الانجرار إلى الماضي والاستغراق فيه. لنمتحن هذه “الخاصية” التي يقول بها الكاتب؛ ولأجل ذلك سأقتلع مساحةً نصيةً لا على التحديد من الرّواية الأخيرة لبركات، أي أنَّ هذه المساحة ستُقرأ في غياب السّياق، وبناء السّياق له وجودٌ استراتيجيٌّ لفهم أيّ نصّ ومن ثمَّ لأيّ شذرة مُقْتَطعة، لنرى هل هي لغةٌ ماضــ”و”ية وتفتك بها المراوحة ويسمها التكرار؟: [الفتاة الصغيرة، التي علّقت قطعة اللحم للوشا إلى غصن، هبّت راقصةً، ليس قربَ النار وسط قومها، بل من وراء ظهورهم، متقافزةً من جذع شجرةٍ مكسورة مستلقية أرضاً إلى جذع آخر، بذراعين مرفوعتين عن جنبيها إلى أعلى، وشعر خافق، معتم ليس أحمرَ، كما خمّنه لوشا من مرآة للمرة الأولى. البعد أعتمَ شعرها الأحمرَ، لكنه لم يُعتمْ حمرتَه في خيال لوشا. قفزاتها من دورة رقصها فوق الجذوع كانت غَدْرَ الحقيقة بنفسها على لسان لوشا بلا نطقٍ: “أنا أتوهّمُكِ، أيتها الفتاة”([10])]. هنا؛ القارىء الذي يمتلك قليلاً من “خبرة العالم”، يستطيع بسهولةٍ متناهية إدراج الشّذرة في عالم السّرد، بل قراءتها بعيداً عن فضائها الأساسيّ ويستنتج من اسم العَلم “لوشا” فضاءَ مغايراً وثقافة مختلفة، والشذرة بتمامها تتموضع في إطار الأسلوب الكنائي، القريب إلى الإدراك باستثناء جملة استعارية واحدة: “غَدْرَ الحقيقة بنفسها”، ولن يتوقف القارىء إزاءها لكونها ضمن سياق الشَّذرة وفي متناول اليد.
إنّ الرّواية الوحيدة لسليم بركات التي تبطش بأفق التلقي هي ثلاثية “الفلكيون في ثلثاء الموت” وتحديداً في الجزأين (2 و3) لكن هذه “الوعورة اللغوية” التي تسمهما لا تعفي القارىء من القراءة؛ فسليم بركات لا يقدّم نصّه سرداً وشعراً في صندوقٍ مغلقٍ، بل يُدرج الكثير من المفاتيح والعتبات مع النُّصوص التي تسمح للقارىء للدخول إلى عوالمها. ثمة الكثير من الأعمال العالمية التي تكتنفها صعوبات جمة من مثيل “عوليس” لجميس جويس، الرواية التي أسّست لمفهوم ما بعد الحداثة في الأدب. لكن هذا لا يمنع من الإقدام على القراءة وافتضاض سرّ الأدب. إنّ صعوبات التأويل تتضاعف مع شعر بركات لكن متى كان “الشِّعر” في متناول القراءة؟ هل أعمال أدونيس أو درويش ــ أتحدّث عن الأعمال الناضجة([11]) ــ سهلة الفهم؟!
الترجمة، قلق التأثر
يتناول الكاتب في مقالهِ مسألةً مهمةً للغاية وتتعلّق بقضية “الترجمة”، ترجمة أعمال بركات إلى اللغات الأخرى ولاسيما الأوروبية وهي حقاً ضعيفة ولاترتقي إلى المستوى المطلوب ويرى الكاتب بأنَّ لغة بركات الشّائكة هي من تتحمّل المسؤولية إذا ما تجاوزنا بعض الأمور الجانبية، يكتب: “… وأقصد هنا، مسؤوليّة لغته التي بقيت ملتبسة ووعرة، وبحاجة إلى قرّاء ضالعين في اللغة العربيّة، وبل في النقد أيضاً، حتّى يفكّوا عويص طلاسمها واشتباكاتها وسيماءاتها عليهم أن يكونوا فقهاء في التأويل واجتراج التفاسير، حتّى يمكنهم فهم بركات ولغته وهضمهما. ذلك أن ما يصعبُ على القراءة والفهم، لن تكون ترجمته سهلة”. لا يصمد هذا الكلام إزاء الواقع النَّصي لبركات؛ فإذا كانت ثمة أعمال عويصة على الترجمة، فكثير من أعمال بركات قابلة للترجمة عندما تتوفّر إرادة الترجمة: [السّيرتان، فقهاء الظلام، الريش، معسكرات الأبد، أنقاض الأزل الثاني، عبور البشروش، سبايا سنجار، ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟ الثلوج أكثر خداعاً في غابات التنوب]، الأمر هنا مرتبط بغياب مؤسّسات الترجمة أكثر من أيّ شيء آخر. سأتجاوز قضتي [“العزلة”، و”الجائزة الأدبية”]([12]) إلى مناقشتها في هامش هذه القراءة؛ للتركيز على تفسير هذا “النقد العَاصف” على “نصيّة” بركات، وهو “نقدٌ” يعثرُ على مشروعيةِ وجودِهِ ضمن نظريةِ النّاقد الأمريكي هارولد بلوم “قلق التأثر”([13])، لتفسير الفعل الأدبي ومن ثمّ يمكننا التنائي عن أيّ تفسيراتٍ أُخَرَ لا تخدم الحقل النقديّ، وهذا ما سأعملُ عليهِ هُنا:
وفقاً لفرويد فإنَّ “الابن” يرى في “الأب” بوصفه “منافساً خطيراً”، وباستعارة هذين الطرفين إلى المشهد الأدبيّ يتحوّلُ الأدبُ إلى [استعارة حرب]، ساحةِ صَراع بين كاتبين: اللاحق والسَّابق. وتحت وطأة “قلق التأثير” يسعى “الابن”/ الكاتب اللاحق ــ في هذه الحرب المستعرة ـــ إلى مكافحة آثار”الكاتب السَّابق” والتقليل من شأنهِ وأثرهِ، فالأمرً يقتضي التقليل من “العبء المقيّد الثقيل للكتّاب السَّابقين”، فثمة محاولة، محاولات لاغتيال “الأب/ الكاتب السَّابق” سواء على صعيد التَّناص مع آثاره، أي محاكاته بقصد الاختلاف والانحراف والسُّخرية أو انتقاده بتفريغ قوة الكاتب ــ الأب من محتواها لخلق مسافةٍ معه والتنائي عنه. وفي هذا الصَّدد ليس من الصعوبة بمكانٍ أن نمسكَ بمحاكاةٍ تناصية انتهجها الشَّاعر هوشنك أوسي في مساحاتٍ نصيةٍ معتبرةٍ في مجموعتيه الشّعريتين (قلائد النار الضّالة: في مديح القرابين([14])، 2016/ لا أزلَ إلا صمتك، لا أبدَ إلا صوتك، 2020)، وفي هاتين المجموعتين فإن التقاطعات التناصية الجارية تكمن في محاكاةِ أسلوبيةِ بركات، القائمة على ممارسةِ أقصى الانزياح والانحراف للمعنى. وتبدو محاكاة هوشنك تتنزل في سياق التماثل والتشاكُل مع بركات بعيداً عن استراتيجيات الانحراف أو السُّخرية أو التناقض والانقطاع والتفوق؛ لذلك سيعثرُ القارىء على صوتَ “الشَّاعر اللاحق ــ الابن”، مبحوحاً يكاد يختنقُ من الإرهاق والإجهاد تحت وطأة قوة صوت “الشَّاعر ـ الأب”، صوت سليم بركات الذي ظلّ قوياً بحضوره. ولكون المقارعة الشِّعرية قد فشلت نصياً فقد انتقل هوشنك إلى صياغة أسلوب ملائم لصوتهِ الشّعري [وحسناً فعل] كما في مجموعة “بعيني غراب عجوز، 2020″، أيْ أنَّ الانتقال إلى الصّوت ــ الخاص حدثَ بفضل وتحت ضغوط صعوبة قتل الأب وقوة خطابه، فآثر الشَّاعر اللاحق البحث عن ملاذ آخر لصوته. من هنا أيضاً يأتي مقال الكاتب الانتقادي في الإحاطة بعالم سليم بركات الأدبي، على هذه الصُّورة، من منظور “قلق التأثر”([15]) من قلب المسرح الأدبي، سعياً للبحث عن حضورٍ للكاتب، عن مكانٍ له، لكن من وجهة نظري المتواضعة جرى الحدث باستراتيجيةٍ تفتقد إلى الحِجَاج النقدي والإقناع؛ لينتهي الأمر بمحاولةِ اغتيالٍ فاشلةٍ وفق مفاهيم قلق التأثُّر! ذلك أنَّ الانتصار في حربٍ إبداعيةٍ يقتضي تقديم نصوصٍ أدبيةٍ قويةٍ ومفارقةٍ ولاسيما في مواجهة نصية لا تعرف المهادنة والسُّهولة لا بالاتكاء على آراء نقدية قادمة من مهبّ الانطباع.
أخيراً؛ نصيةُ بركات ليست بالعمل الطارئ والسّائد على الأدب، بل يمكن اعتبارها واحدة من أكثر النَّصيات غرابةً وجمالاً وانتهاكاً وسفكاً للمعايير الكتابية السَّائدة، إنها بمنزلة صَدعٍ، هوّةٍ، “لغةٍ أجنبيةٍ” في العربية ذاتها، علامة فارقة باتتْ رأسمالاً رمزياً ولذلك تحتاجُ إلى استراتيجياتٍ مغايرةٍ في القراءة والتأويل، والنَّصيّة ــ السرّ هي التي لا تستلم وإنما تستمرّ في تحدّيها وهذا ما تتميز به أعمال بركات باقتدار، أعمال تترقّبُ الفعل النّقدي لكشف أسرارها وجمالياتها لتعميق تجربتنا بالفعل الأدبي في علاقته الجمالية بالعالم وبذواتنا.
([1]) ـــ هوشنك أوسي: عن سليم بركات الذي جارتْ لغتهُ على خيالهِ، موقع درج، 30 يناير، 2022:
https://daraj.com/86043 /
([2]) ـــ أوظّف هنا فكرة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز عن مسألة الأسلوب، ينظر: ألف باء دولوز: جيل دولوز ـــ كلير برنت، ترجمة: أحمد حسان، القاهرة: مصر المحروسة، ط1، 2018، ص 165ـــ1969.
([3]) ـــ وفق آراء كبار أدباء العربية وغير العربية؛ فإنّ نصيات سليم بركات شعراً وسرداً تسكن المغايرة والإدهاش ومنسوجة بتفرّد عميق، يكتب [الكاتب والمترجم الإسباني الكبير خوان غويتيسولو، لقد كتب حول الانطباع الذي تتركه لديه تجارب سليم بركات الأدبية:
إنَّ نثر سليم بركات، مثلما هي الحال عند خوسيه ليزاما ليما، يمثِّل هبة دائمة من الابداعات المنعشة والصور المُلْهِمة والاستعارات غير المتوقَّعة وشرارةً شعريةً وكلمات مُجنَّحة – مزيج هائل من الحلم والحقيقة، من أسطورة وتاريخ مرير لا يخضع لقوانين الزمان ولا حتى لقوانين المكان. وبالإضافة إلى ذلك يكتب خوان غويتيسولو: “النصُّ يتحرَّك داخل نوع من الجغرافيا البصيرة، بين معالم عابرة ومُتغيِّرة: تظهر كردستان ألف مرة في الحلم، كنقيض للحياة في قبرص. تختلط الطفولة بعالم الكبار، والواقع بالخيال. “مِمْ آزاد”، الشخصية الرئيسية في الرواية، يتم تحويله: مرة إلى عصفور ومرة أخرى إلى ابن آوى. ويتحدَّث مع البشر وكذلك مع الحيوانات. سليم بركات يطلق لإبداعه العنان ليتجاوز حدود المعقولية”. ويضيف: “حتى وإن لا يُصَدِّق البعض ذلك: فإنَّ ثروة سليم بركات الإبداعية والإنشائية غير مستمدة من فولكنر ولا من غارسيا ماركيز. في أعماله نجد طبقات غير متناهية من الأساطير والخرافات وذكريات المآسي الماضية والحالية. وتحت سطح كلِّ ذلك يكمن تاريخ كئيب للمدينة التي ولد فيها”.] محمود حسني: الأديب السوري “سليمو”: سليم بركات ترجمة: رائد الباش، حقوق النشر: موقع قنطرة14/04/2017
([4]) ـــ في نصوص مثل “المجابهات والمثاقيل والمعجم” وفي عدد من الروايات يغدو الفعل التواصلي بصورته الاعتيادية في محنة حقيقية، فهذه الأعمال تحتاج إلى قارىء يقظ…
([5]) ـــ عمار الشقيري: محمود درويش وسليم بركات، موقع ثقافات، 1 أغسطس، 2013:
https://thaqafat.com/2013/08/21164: ” أبكيتني مرّتين، يا محمود. مرّة حين رميتَ على عاهن البسيط كلماتٍ لم أصدّق أذنيَّ أنني أسمعها. قلتَ، بالإنكليزية، في ندوة جمعتنا بإحدى مدن أسوج: “بذلتُ جهداً كي لا أتاثر بسليم بركات. وإذ صدّقتُ أذنيَّ، اغرورقت عيناي، بل بكيت صامتاً: جليلٌ مثلُك، ضمّ عصراً أدبياً إلى ظلّه، لا يحذر اعترافَه العابرَ، الذي يُبكي مثلي “: سليم بركات/ تأخرت يا محمود / النهار 8 ديسمبر 2008.
([6]) ـــ يمكن إحالة القارىء بخصوص سمات أدب مابعد الحداثة إلى أعمال الناقد الأمريكي إيهاب حسن ولاسيما: تقطيع أوصال أورفيوس، ترجمة: سيد إمام، البصرة: دار شهريار، ط1، 2020.
([7]) ـــ لا معلومات موثقة لدي عن استمرار العلاقة بين سليم وأدونيس بعد الاحتفاء الأولي لأدونيس به وطباعة نصوصه الأولى…بخصوص ذلك ينظر حديث سليم عن أدونيس عن البدايات الأولى: لوعة كالرياضيات وحنين كالهندسة: سليم بركات، حوار: وليد هرمز، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2021.
([8]) ـــ المقبوس من سليم بركات: السيرتان، بيروت: دار الجديد، ط1، 1998، ص 21، مع الإشارة إلى الطبعة الأولى للجندب الحديدي كانت في 1980 وهاته عالياً، هات النفير على آخره في 1982.
([9]) ــ سليم بركات: الفلكيون في ثلثاء الكون: ج3 (كبد ميلاؤس 3)، بيروت: دار النهار، ط1، 1997، ص111.
([10]) ــــ سليم بركات: الثلوج أكثر خداعاً في غابات التنوب، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1ـ 2021، ص294.
([11]) ــــ ثمة أعمال لدرويش [قصيدة الهدهد مثلاً] وأدونيس [المطابقات والأوائل مثلاً] لا تقلّ صعوبة للتأويل عن أعمال سليم بركات…
([12]) ـــ لا أعتقد بأنَّ “عزلة” بركات بمنزلة تسّجيل نقاطٍ عليه، فالعزلة شأن شخصيٌ أولاً وأخيراً كما يمكن بسهولة تأويل هذه “العزلة” بأنها “عزلة العمل الأدبي”، العزلة من أجل “العمل الأدبي” المفارق والمربك في تجربة بركات، العمل الذي لا يشبه أية أعمال سابقة …العمل الذي لا ينتهي وربما هذه الغزارة التي تتدفق من لدن بركات تفسّر لنا هذا الاعتكاف والإخلاص للعمل. وشخصياً لا معلومات لديّ في هذا الجانب. لكنني يمكن أن أتساءل ما إذا كان للانبساط والتعامل اليومي من عدمه أي أثر في رفع القيمة الفنية للعمل الأدبي؟
في نقطةٍ أخرى يقف الكاتب عند فكرة “الجوائز” ويفسّر الكاتب عدم احتياز بركات على “الجوائز العربية بالقول”…. ذلك أن لجان التحكيم في الجوائز الأدبيّة لا تنتمي إلى العصر العبّاسي، أو الفاطمي، أو الأيوبي، أو المملوكي، أو العثماني… حتّى تستعذب لغة بركات، وتهضمها، بل هم أبناء عصرهم، ومدارسه الحديثة في النقد.”. والسُّؤال كيف هم بنقاد أدبٍ وليسوا بضليعين في الأدب واللغة؟ فلجان التحكيم لها سياساتها وطرائقها والإكراهات، بل الإرادات المفروضة عليها. ومن جهة أخرى؛ فالكاتب حينما يكتب لا يكتب وفق “معايير نقاد لجان تحكيم الجوائز” ليفوز بجائزةٍ وإنما يكتب تحت وطأة أصالة العمل الأدبي، نداء الأدب ذاته هو الذي يفرض شكل النص ولغته. بهذا الصدد يجدر بالتذكير: أُزيح تولستوي عن الفوز بجائزة نوبل وقت ذاك لصالح كاتب سقط اسمه من التاريخ كلياً لكن أعمال تولستوي لاتزال تتألق وتصنع الجمال…!
([13]) ــــ ينظر باول إندو: بلوم، هارولد ج (2): نقاد، ص147ــ 149، وقلق التأثر ج(3) مفاهيم، ص22 ــ 24 ضمن كتاب موسوعة النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة: حسن البنا عز الدين، القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط 1، 2017.
([14]) ـــ خالد حسين: قلائـد النَّـار الضَّالة: دلالات العنوان، مجازفة المُحاكاة واستعادة الصوت، موقع رامينا نيوز، 24أغسطس، 2021.
https://www.raminanews.com/research/klad-alnar-aldal-dlalat-alaanoan-mgazf-almhaka-oastaaad-alsot
([15]) ــــ أي لا يخرج المقال عن أحداث الفضاء الأدبي وما تفترضه هذه الأحداث من حرب مستعرة بين اللاحق والسّابق ويحدّد هارولد بلوم عدة محدّدات يتبعها الكاتب اللاحق للفتك بالكاتب السّابق من مثيل: “الانحراف (إفساد الشاعر/ الكاتب اللاحق لرؤية الشاعر/الكاتب السابق) والانقطاع ( قيام اللاحق بالتقليل من شأن السابق أو تفريغه من محتواه [تماماً هذا مالجأ إليه الشاعر والروائي هوشنك أوسي في علاقته ببركات، يكتب: “ما مدى صواب الحديث عن الإبداع مع حضور التكرار والمراوحة اللغويّة، أو عدم التزحزح اللغوي عن تلك التقنيّات والسياقات والمعاجم التراثيّة، في تجربة سليم بركات؟”] ثم التفوق ــ المضاد(أي بوضع التفوق اللاحق أمام تفوّق السابق)،…إلخ…ينظر باول إندو: قلق التأثر ج(3) مفاهيم ضمن كتاب موسوعة النظرية الأدبية المعاصرة، مرجع مذكور، ص23.
رامينا
https://www.raminanews.com/%D8%A3%D8%A8%D8%AD%D8%A7%D8%AB/fdyl-allgh-algar-sh-alktab-ld-slym-brkat
—————————-
بضدّها تتبيّن الأشياء: في النقد التعسّفي والذرائعي/ هوشنك أوسي
(الحلقة 1)
تنويه:
في دراسته (فضيلة “اللغة الجائرة”: شؤون الكتابة لدى سليم بركات) – موقع رامينا 07/02/2022، اجتهد الباحث والناقد د. خالد حسين وبذل جهدًا واضحًا، ومشكورًا، للردّ على مقالتي المنشورة في موقع “درج” يوم (30/1/2022)، تحت عنوان “عن سليم بركات الذي جارت لغته على خياله). وفي هذه الأسطر، أودُّ التأكيد على أنه ليس واردًا لدي، ولا يشكلُّ جزءًا من صلب اهتمامي؛ تحطيم أستاذنا الناقد، بنفس الطريقة التي حاولَ فيها استهدافي وتفريغ وتجريف مقالتي، على حدٍّ سواء. فلستُ ممن يسعى إلى تتفيه وتسفيه جهد الآخرين، مهما بلغت درجة الاختلاف معهم، سواء أكانوا ضمن دائرة الأصدقاء، أو لم يكونوا. مع المحافظة دومًا على حقِّي في التعبير عن رأيي، حتّى ولو فهمه البعض أنه “نقد مثالبي” أو من صنف “التخطئة” أو ما شابه ذلك، وشاكل. ذلك أنه، وهذا ما اعتقده، أن الإشارة إلى الخطأ شيء، وتخطئة ما ليس بخطأ، شيءٌ آخر. وصحيحٌ أنني لست بناقد، ولم أزعم يومًا هذا الشرف، لكن هذه المهنة وأربابها، بما يحملونه على صدورهم من أنواط وأوسمة وألقاب، لا ولم ترعبني يومًا. ولعمري أن واثقَ القولِ والرأي، في أيّ حقل، إذا لم يكن مَلكًا، فهو ليس بذلك الحقير الذي يقبلُ على نفسه الضيم أو التطاول أو الغبن أو التشويه والتسفيه، من أيِّ كائن/ة. إذن، ليس مجال أو مقام مقالي؛ التخطئة التعسّفيّة المتعمّدة، دون دليل ومرجعيّة، بقدر ما سأحاول أن يكون ديدن هذه الأسطر، لفت انتباه الناقد د. حسين إلى بعض الملاحظات العابرة على معروضه النقدي. مع الاعتذار الشديد، عن الإطالة الشديدة.
مدخل:
بالعذر من القرّاء الأعزّاء، على بعض التكرار الوارد هنا. إذ لا مناص أمامي من إعادة نشر ما اختتمت به مقالتي “عن سليم بركات ولغته…”، لأنني توقّعت أصنافًا من الردود، تكاد مقالة – ردّ د. خالد حسين أن تكون “قاب قوسين أو أدنى” منها. لذا، سندي في تكرار الخاتمة، إعادة تأكيد على ما هو مؤكّد لدي: “عليَّ الاعتراف والإقرار بعجزي عن إقناع بعض الذين سيفهمون المقال على أنه “تطاولٌ” على القامات الأدبيّة والثقافيّة المعروفة والمكرّسة، أو “التحرّش” بها، في مسعى للحصول على قبس أو قسط من شهرتها، وإثارة الشكّ والشبهة حولها، على أن فهمهم مقالي هذا (ذاك)؛ مغلوط، وليس في محلّه، وغير دقيق. ذلك أن تلك الأوهام- “الأحكام” الجاهزة، عادة ما يطلقها بعض المتطرّفين المفتونين بأدب هذا الكاتب أو ذاك، حين يرون نقداً موجّهاً لكاتبهم المفضّل “المعصوم” من الأعطال والعلل والزلل! وبالتالي؛ أقرُّ باستحالة قدرتي على إقناعهم بتهافت تلك الأوهام – الأحكام وركاكتها. وعليه أوّقع، وأبصم أيضاً.”.
بالتالي، ردّ د. حسين، لنقل: إنه كان من صنف المتوقَّع، لما يُعرف عنه؛ جهدهُ النقدي الدءوب والهام في تناول تجربة بركات نقديًّا. ولكن، ما لم يكن متوقّعًا أبدًا، أو في الحسبان، أن يصرف مقال الردّ هذا؛ النظر عن الكثير من الأسئلة التي طرحتها، ويركّز على بعض النقاط دون غيرها، مع الخوض في عِرض المقال، وإثارة الشبهة عليه، وتفريغه من أيّ حرص ثقافي على أدب بركات. لذا، وخيرُ ما افتتح به مقاله كان: {ليس بالأمر اللاــ متوقع أَنْ يأتي مقالُ الشَّاعر والرّوائي هوشنك أوسي (عن سليم بركات الذي جارتْ لغتهُ على خيالهِ) وفق هذه الصُّورة، بل ما ليس من المتوقع أن يستديرَ المقالُ على “المتوقع “ذاته، ليتخذ مَسَاراً مغايراً وينتمي إلى اللاـ متوقع النقديِّ…}. ثم قفز من فوق ما هو استراتيجي، ويشكّل عصب مقالي (سؤال حركيّة وحيويّة اللغة ومعوّقات الترجمة)، إلى ما هو متعلّق بخلفيّات، واحتمالات وأسباب كتابتي مقالتي، مستندًا إلى النظريات النقديّة المتعلّقة بمحاولات “قتل الأب”. وكي يقيّم الحجّة البيّنة عليّ ويقدّم برهانه على أحكامه، لجأ حسين إلى نظرية “قلق التأثّر” للناقد الأمريكي هالرود بلوم – Harold Bloom (1930-2019)، ونظريات سيغمون فرويد – Sigmund Freud (1856-1939) والعلاقة بين الابن والأب، وإسقاط ذلك على حقل الأدب. حيث قال: {وفقاً لفرويد فإنَّ “الابن” يرى في “الأب” بوصفه “منافساً خطيراً”، وباستعارة هذين الطرفين إلى المشهد الأدبيّ يتحوّلُ الأدبُ إلى [استعارة حرب]، ساحةِ صَراع بين كاتبين: اللاحق والسَّابق. وتحت وطأة “قلق التأثير” يسعى “الابن”/ الكاتب اللاحق ــ في هذه الحرب المستعرة ـــ إلى مكافحة آثار”الكاتب السَّابق” والتقليل من شأنهِ وأثرهِ، فالأمرً يقتضي التقليل من “العبء المقيّد الثقيل للكتّاب السَّابقين”، فثمة محاولة، محاولات لاغتيال “الأب/ الكاتب السَّابق” سواء على صعيد التَّناص مع آثاره، أي محاكاته بقصد الاختلاف والانحراف والسُّخرية أو انتقاده بتفريغ قوة الكاتب ــ الأب من محتواها لخلق مسافةٍ معه والتنائي عنه.}.
طبقًا لهذا التقييم – السند – الحكم، د. حسين مُطالب بإبراز ما يوثّق حكمه، من متن مقالي، نصًّا وحرفًا، “تؤكّد” أنني في “حرب مستعرة” مع بركات، وأنني حاولت “مكافحة آثار”الكاتب السَّابق”، والتقليل من شأنهِ وأثرهِ”، و”محاولات لاغتيال “الأب/ الكاتب السَّابق”، أو “السخرية” أو “تفريغ قوّة الكاتب ـ الأب من محتواها”…؟ كل تلك الأحكام ـ التوصيفات، ينبغي أن تكون مقرونة ومشفوعة بالنص – المقتبس من صلب المقال، طالما أن المجال الحيوي النقدي والاستراتيجي لردّهِ عليَّ، هو مقالي الذي استفزّ فيه؛ شهوة الكتابة. وهو نفسه، طالبني بالتوثيق، وتعضيد الأفكار والرؤى باقتباسات من أدب بركات، وأكّد وكرر ذلك في مقاله! يعني، أولى به الالتزام بما طالبني به، عُرفًا نقديًّا، واتساقًا مع خطابه النقدي وانسجامًا معه.
طبقًا لميزانه؛ انتقاداتي لأدب نجيب محفوظ، وتناول النقّاد له في مصر والعالم العربي، بما يشبه “الوثن”، هل كان الهدف منها؛ “قتل الكاتب – الأب” للحلول محلّه؟ انتقاداتي لمحمود درويش في متحفِ بـ”رام رالله”، وفي مقامات عدّة بمقالات عدّة، هل كان الهدف منها “قتل الكاتب الأب”؟! انتقاداتي الموجّهة إلى أدونيس، في المقالات وفي رواية “وطأة اليقين” هل كان هدفي ومبتغاي “قتل الأب – الكاتب”؟! وإذا صحَّ حكم د. حسين، فلعمري أنني سأقترف مجازر في حق “آبائي” – الكتّاب، لأنهم كُثُر، لا يمكنني إحصاءهم، ومن ضمنهم بركات.
بخلاف توصيف حسين لمقالي، كاتب هذه الأسطر، كان مِن أبرز مَن دافع عن سليم بركات وسط الهجوم الذي تعرّض له، على خلفيّة الجدل الذي أثارهُ تصريحهُ حول “بنوّة” درويش السّريّة! وكتبت في موقع “درج” مقالاً بعنوان: “سليم بركات إذ يفشي سرّ محمود درويش ويحفظ صداقته” (11/07/2020) https://daraj.com/48266/
المقصد مما سلف، هدف مقالي، كان الحرص على أدب بركات، وليس تشويهه، أو محاولة النيل منه؛ شخصًا ونصًّا. زد عليه؛ أعتقد، ولا أجزم؛ أن هوشنك أوسي، بعد مضي عقدين ونيّف من الكتابة الصحافيّة، البحثيّة، الشعريّة والروائيّة، بات يحظى بقدر من التحقق والحضور، كرديًّا وعربيًّا، و(بلجيكيًّا)، وليس في حاجة لقتل أحد، مجازًا، لتحقيق الغاية أو الهدف الذي أتى على ذكره باحثنا العزيز! بخلاف الأمر، إلقاءُ الشبهة على أيّ ملمح نقدي لأدب بركات، حتّى لو كان في لبوس “نقد النقد” أو يستند إلى نظريات “قتل الأب”، هو نقد مشتبه به، حين يحاول تبرئة ذمّة ذلك الأدب، بالمطلق، والتماس الأعذار له بالمطلق، وفق فقه الذائع، وإصدار الفتوى “اللانقديّة”!
يعزز حسين، حكمه التأويلي – التعسّفي في متن المقال، بما ذكره في الهامش رقم (15) أيضًا، والقول: {“الانحراف (إفساد الشاعر/ الكاتب اللاحق لرؤية الشاعر/الكاتب السابق) والانقطاع (قيام اللاحق بالتقليل من شأن السابق أو تفريغه من محتواه [تماماً هذا مالجأ إليه الشاعر والروائي هوشنك أوسي في علاقته ببركات، يكتب: “ما مدى صواب الحديث عن الإبداع مع حضور التكرار والمراوحة اللغويّة، أو عدم التزحزح اللغوي عن تلك التقنيّات والسياقات والمعاجم التراثيّة، في تجربة سليم بركات؟”] ثم التفوق ــ المضاد (أي بوضع التفوق اللاحق أمام تفوّق السابق)،…إلخ}. “التفوّق ـ المضاد” الذي يحدّثنا عنه، يمكنني سحبه على مسعى خالد في ردّه أيضًا، على أنه يريد تحطيم أوسي ومقاله، وتحويله أنقاضًا، لإظهار تفوقه (النقدي، الثقافي، الأدبي، على مستوى والوعي والذائقة والأدوات) عبر مسلكٍ مناهض ومضاد، يمثّله ناقدنا الجليل! مع فارق؛ أن هوشنك ليس “أبًا” أدبيًّا أو ثقافيًّا لخالد حسين.
أيضًا، في ما يتعلّق بالمدخل: أيجوز للناقد أن يباشر بحثه أو دراسته برصف الأحكام – الخُلاصات – النتائج؟ أوليس مِن المفترض أن يعثر القارئ عليها في ختام الدارسة وليس في مستهلّها؟ لئلا يظهر المتن على أنه تحصيل حاصل، ومحض سعي حثيث لإعادة تأكيد تلك النتائج والأحكام؟ ذلك أننا، حين نقرأ: { ليس بالأمر اللاــ متوقع أَنْ يأتي مقالُ الشَّاعر والرّوائي هوشنك أوسي (…) وفق هذه الصُّورة، بل ما ليس من المتوقع أن يستديرَ المقالُ على “المتوقع “ذاته، ليتخذ مَسَاراً مغايراً وينتمي إلى اللاـ متوقع النقديِّ (..) وما المقالُ إلا مساحةٌ موسّعةٌ لتلك الشَّذرات الأُولى أو أصداءٌ لها. (..) ويستعيدُ المقالُ هذه “الصُّورة” النمطية، المتناثرة في المشهد الثَّقافي عن أدب/نصية سليم بركات، صُوْرةٌ لا تقبضُ على مُسَوّغاتِهَا من الكَوْنَيْن الشِّعري والسَّردي تحليلاً لهما بقدر ما تكتسبُ وجودَهَا من الطّارئ النّصي والقراءات المتعجّلة (..) وما شابه ذلك من آراء انطباعيةٍ وبتناءٍ عن إجراءاتِ التَّحليل النَّقدي الواجبة.}، وبضبط التوصيفات ومتابعة رصفها وترتيب وتتابعها في المدخل: استدارة المقال نحو “اللاـ متوقّع النقدي”، “وما المقالُ إلاّ مساحة موسّعة للشذرات الأولى”، “على وجه التحديد”، “الصورة النمطيّة للمقال”، ” صُوْرةٌ لا تقبضُ على مُسَوّغاتِهَا من الكَوْنَيْن الشِّعري والسَّردي تحليلاً لهما بقدر ما تكتسبُ وجودَهَا من الطّارئ النّصي والقراءات المتعجّلة”…الخ، وطرح السؤال عن جواز هذا النسق من الخطاب النقدي الاستباقي في أحكامه على الموضوع – المنقود، في المدخل، وهل من مبادئ وأعراف البحث ومنهجيته، اقتراف ذلك؟! إن كان جواب أرباب النقد وأهله؛ بـ”نعم”، فللدكتور حسين، كلّ الحقّ في ما اقترف. وإن كان الجواب: “لا”، فحاله كحالٍ من ذهب إلى الخيّاط، وأعطاه زرًّا، وطالبه “أن يخيط له سترةً على ذلك الزرّ”! بمعنى، ثمّة سعي استباقي في إطلاق الحكم على المقال، سواء أكنت كاتبه أو لم أكن، فقط لأنه حرّك أسئلة “نقديّة” حيال تجربة بركات، الذي بات يمثّل “المعبود النقدي” لدى البعض، ربّما يكون ناقدنا منهم. سعيٌ يتعلّق بتسفيه الاقتراب من تركة بركات الإبداعيّة، وإثارة الشبهة والشكّ حول أيّة محاولة طرح أسئلة تلامس “صحيح”ـه، الذي بات أشبه بـ”صحيح البخاري”، الذي يسعى السلفيون تحريم وتجريم الاقتراب منه، حتّى ولو أتى ذلك الاقتراب، من أهل الاختصاص، ورجال الدين، وفقهاء الحديث!
وإذا كانت الإجابة على سؤال جواز تضمين مدخل الدراسة – البحث أحكامها، استباقًا لمتنها وخاتمتها، بأنه “مستحبّ” أو “مكروه” وليس “محرّمًا” منهجيًّا، أو أن ذلك “منزلة بين منزلتين”، فعلى الإجابة يُبتنى مقتضاها.
معطوفًا على سؤال المنهج، تبادر إلى ذهني سؤال يتعلّق بجواز تضمين المدخل عبارات تفيد التأكيد والقطعي الثبوت والدلالة. وإذا كان المنهج النقدي السديد يبيحُ ذلك، فهذا أمر. وإذا كان بخلافه، فماذا أفعل بعبارات “وما المقالُ إلاَّ مساحةٌ موسّعة…”، أو ” ما ليس بالمباغتِ عَلَى وَجْهِ التَّحديدِ أنْ يصوغَ و/أو يستعيدُ المقالُ هذه “الصُّورة النمطية”…الخ، الواردة في المدخل؟! فإذا كانت النتيجة تسبق المتن، أوليس هذا من صنف مقام – ميزان “الاستعجال” أيضًا، تمامًا؛ كما حاول د. خالد أن يزن ويكيل به مقالي؟!
في تقديري، وآمل أن أكون مخطئًا؛ يعاني مدخل الدراسة – الردّ، من علّتين. الأولى: استباق نتائجهِ مقدّماته – متنه، ويفترض أن يكون الأمر؛ عكس ذلك. والعلّة الثانية: الحكم القطعي المشكوم المبرم، دون إفساح المجال للاحتمال. أو أقلّه؛ فتح قوس لـ”ربّما”. فالمعروف عن د. خالد ميله إلى التأويل، إلى درجة “الذرائعيّة” والتماس الأعذار لعيوب ومثالب النصّ حينًا، وبل قلبِ العيبِ ميزةً أحيانًا. وسيكون لي وقفة قادمة توثّق ذلك. ومعلومٌ أنه صاحب كتاب “اقترافات التأويل” (جميرا للنشر – دبي 2015). والتأويل مفتوح على الاحتمال. لكن في أن مدخل دراسته – ردّه، يوصد باب الاجتهاد – الاحتمال، وارتأى ضرورة إطلاق الحكم القطعي، قبل الخوض في المحاكمة النقديّة.
هكذا طريقة في التناول النقدي، ربّما لها توصيف ومنزلة ومقام، ضمن المدارس والأعراف والتقاليد النقديّة، آمل من أهل المهنة، الإفصاح عنها، وإطلاعي عليها، كي أكون على بيّنة واضحة جليّة منها، لئلا أصيب د. خالد حسين، بجهالة قولي ورأيي، كما سعى أحد (النقّاد) إلى تسفيه وتتفيه مقالتي، على صفحة د. حسين في الفيسبوك، وكان سندهُ في ذلك، الردّ على مقالي.
هكذا، نكون خرجنا من المدخل.
اختلاف التجربة:
استنادًا على ثقتي وتأكُّدي من إطلاع د. خالد حسين على تجربتي الشعريّة والروائيّة، واطلاعه وإلمامه بتجربة سليم بركات، كنافد، فإنه يعي ويدرك مدى الاختلاف البيّن، بيننا. ومنسوب تأثّري ببركات، أفصحت عنه، بنفسي، في مقالي، موضوع النقاش {عن سليم بركات ولغته…}، وفي أماكن أخرى. إلاّ أن بون الاختلاف أيضًا، من الشساعة على صعيد التكوين النفسي والمعرفي، الأمزجة وطبائع البشر، ما يفترض ألاَّ تخطئه عين ناقدة ثاقبة ممحّصة متابعة ملمّة مدركة…، كعين د. حسين. تمثيلاً وليس حصرًا، يمكنني عرض بعض نقاط الاختلاف:
أولاً ـ انغماسي في العمل السياسي الكردي – القومي – اليساري، الثوري، في مطالع صباي، وما ترتّب على تلك الحقبة من متابعة وقراءات في كتب اليسار، والفلسفة، والسياسية، الأدب…الخ. وانهماكي في العمل الصحافي الكردي – الحزبي، الآيديولوجي، وما ترتّب على ذلك من تراكم خبرات، وكتابة باللغتين الكرديّة والعربيّة. (وهذا ما لم يفعله بركات، واكتفاؤه بالعربيّة ملاذًا ومأوى وأداةً وحيدة). ثم اتخاذي مسارًا خاصًّا، يشبه حراك ذاتي – انشقاقي، وانقلاب فكري، سياسي، ثقافي على الماضي الحزبي، ومزاولة النقد، بحزم وصرامة، للذات، وللتيّار الذي انتميتُ إليه.
ثانيّا ـ كتابة مقالات الرأي والبحوث والدراسات السياسيّة، على امتداد عقدين، وحتّى اللحظة. ما لم يفعله بركات، إلاّ ما ندر، على صعيد المقال السياسي فقط. بالإضافة إلى كتابتي مقالات رأي في النقد السينمائي، الأدبي، التشكيلي، حتّى لو كانت ذات منحى انطباعي.
ما وددت قوله، ويعرفه عنّي د. حسين، كناقدٍ راصد ومتابع: طيلة عقدين ونيّف من الكتابة الدءوبة المتنوّعة، تشكّل لدي حضور مقبول في الحراك الأدبي والثقافي، الكردي والعربي، وحتّى في بلجيكا أيضًا. ولست في حاجة إلى ما يشبه التحرّش بسليم بركات أو غيره، حتّى أحقق لنفسي حضورًا. وأيّ توصيف أو تلميح من هذا الصنف، هي محاولة تشويش وتحوير فاشلة، لصرف أنظار القارئ عن الأسئلة الاستراتيجيّة النقديّة التي طويتُ عليها مقالي، وتشكيك في الهدف من المقال، وإلقاء الشبهة على صاحبه، على أن ضاّلته؛ ليس الحرص على أدب بركات من الذيوع والشيوع والتداول الدولي، بل “محاولة اغتيال فاشلة” لبركات، على اعتباره “الكاتب – الأب”، كما ذهب فقه التأويل التعسّفي والذرائعي، لدى خالد حسين في ردّه عليّ!
حين وصف حسين مقالي بأنه ينطوي على “آراء انطباعيةٍ وبتناءٍ عن إجراءاتِ التَّحليل النَّقدي الواجبة”. فهذا صحيح، شكلاً ومضمونًا، باعتباره مقال رأي (1829 كلمة) وليس دراسة أو بحث، يفترض أن يتراوح حجمهما بين الـ3000 إلى 5000 كلمة، طبقًا للمعايير المعتمدة في أغلب مراكز البحوث والدراسات والمجلاّت المحكمّة، في ما يخصّ أحجام ومنهج البحوث والدراسات. وعليه، لا تنطبق على مادّتي – مقالتي، مواصفات وخصال البحث النقدي، منهجًا، حجمًا وهدفًا، حتّى يُسقِطَ عليه المعايير النقديّة المنهجيَّة الأكاديميّة الصارمة، ذات الصلة. فمقال الرأي هو مقال الرأي، يُردُّ عليه بمثله، وليس رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه، يمكن إخضاعهما لاعتبارات وصرامة المنهج، وما يترتّب على ذلك من مقتضيّات، الاقتباسات الموثّقة، والمراجع والمصادر…الخ. بخلاف ذلك، مع رشق المقال بالأحكام والتوصيفات التي يمكن العودة إليها، “نمطي”، “مستعجل”، “لا تومئ بأيّ جديد في تمظهرها نقدًا وتأمّلاً”، مقال “مفاجئ”، مثير لـ”التعجّب المتّسع أكثر وأكثر”…، ثم بعد كلّ ذلك، أضاف مبرر ردّه بالقول: {… ومهما يكنْ سَوْفَ تُشكّلُ هذه الصُّورةُ أرضيةً لهذه المُسَاجلة “النّقد النّقدية” بروح المسْؤوليةِ وضمن أَخْلاقَياتِ المناقشةِ البحتة.}. والمسؤوليّة تملي وتقتضي أن يزن مقال الرأي بميزان مقال الرأي، وليس بميزان الدراسة والبحث النقديين الأكاديميين!
تحت عنوان فرعي “أسلوبيةُ التَّقويضِ” يقول د. حسين: {يَشْرَعُ مَقالُ الكاتبِ بدلالةِ التأكيد إثباتاً ليقبضَ على عُنُقِ الحقيقةِ منذ عتبة العنوان “عن سليم بركات…”، فالأمر، هكذا، وبرميةٍ واحدةٍ، مرتبطٌ بخيالٍ متصّدع بفعل لغةٍ، بفعل استعمال بركات الخاصّ للغة”}. ثم يزيد في موضوعة التأكيد الذي ((ينضح)) به مقالي، أو ما يفترضه، تأويلاً وتحويرًا، بالقول: {من جهة أخرى، وكما جرت الإشارة، فالعنوان يتخذُ من الدِّلالة التأكيدية إقامةً وإثباتاً وقطعاً وحسماً: “عن سليم بركات الذي جارتْ لغتهُ على خيالهِ”! ووفقاً لهذا المنطق التأكيدي فالنتيجة التي حتّمت هذه الصّيغة للعنوان إنما انبثقت من تأمّلٍ نقديٍّ للمسار التاريخي لــ”أسلوبية” بركات شعراً وروايةً}.
فرض تأويل “التأكيديّة” وصفًا وحكمًا، في ردّ د. خالد حسين، تدحضه بعض الأمور التقنيّة البسيطة، المتعلّقة بالمفردة والجمل والسياق. وأيّة قراءة متأنّية ودقيقة في بنية مقالي؛ (1829 كلمة)، لغويًّا، سيلحظ أنني كرّرت كلمة “ربّما” سبع مرّات، بينما وردت عبارة “قطعًا لا” مرّة واحدة فقط. علمًا، أن دراسته – ردّه، المؤلّفة من 3851 كلمة، (الهوامش وحدها 900 كلمة تقريبًا)، وردت فيها كلمة “ربّما” مرتين فقط، ووردت في الهوامش، مرّة واحدة فقط. يعني، الدراسة، من العنوان إلى نهاية الهوامش (4750 كلمة) وظّف فيها الدكتور خالد كلمة “ربّما” ثلاث مرّات فقط. بينما مقالتي (1829 كلمة) تكررت فيه “ربّما سبع مرّات. ماذا يعني ذلك؟ أيّ منّا مال إلى التأكيد والقطعيّة واليقين في إطلاق الأوصاف – الأحلام؟!
علاوةً على ما سبق؛ عنوان مقالي ومتنه، لا ترد فيهما كلمات: “أؤكّدُ، أكّدتُ، تأكيدًا، بالتأكيد…، إلى آخر اشتقاقات الفعل الثلاثي؛ أكَّدَ. بينما تكررت اشتقاقات نفس الفعل (التأكيد، التأكيديّة، التأكيدي…) في متن دراسته ثمان مرّات، في سياقات مختلفّة، كما تكررت كلمة “يقين – اليقين” ثمان مرّات! وخلا مقالي من نفس المفردة تمامًا. ومع ذلك، “فقه التأويل” التعسّفي لدى د. حسين، ذهب به ذلك المذهب نحو؛ الحكم المبرم على أنني ألغيت مساحة الاحتمال والافتراض من مقالي، على حساب زيادة وجود الأحكام القطعيّة التأكيديّة اليقينيّة! وعليه؛ أيّة غرابة وظرافة “نقديّة” تلك، قدّمها ناقدنا، بأن ألبس مقالي، ما تحلّت وازدانت به دراسته – (ردّه)!؟ أحيلُ السؤال إلى القرّاء والنقّاد، مع ضرورة قراءة مقالي وردّه عليه، وقياس منسوب “اليقينيّة” و”التأكيديّة” لدى كلينا، حتّى يتبيّن الخيط الأبيض من الأسود، وتتبدد سحابة التحوير والتعالي والتبخيس.
من طبائع الأمور، أن يطرح المبدع نفسه مختلفًا عن السائد أو مجددًا، عبر طرح أسلوبيّة واضحة المعالم، مغايرة، وخاصّة. هل فعل بركات ذلك. نعم. وقد ذكرت ذلك في مقالي ذلك. أعاد د. خالد تكرار ذلك في ردّه، لكأنَّني غفلتُ، أو تغافلت عنه! وقال: {… بركات يتشارك مع أهل العربية والمتكلمين بها معجماً ونحواً وطرائقَ التصريفٍ ذاتها. إذن فما يختلفُ فيه بركات مع الآخر ليس اللغة، وإنما يكمن في “الأسلوب”style، أسلوبه في صياغة العربية الذي ابتكره ونمّاه وينميّه حتى راهن الكتاب الأخير له}. لا أعلمُ ما الجديد المختلف الذي أتى به، الناقد والباحث، توضيحًا وتفسيرًا، وتفنيدًا، لم أذكره في مقالي عن لغة بركات وتمايزها؛ شعرًا ونثرًا؟ كلُّ هذا التوصيف – التوضيح، هو لزوم ما لا يلزم، وتأكيد المؤكّد، بالنسبة لي ولغيري، بدليل متن مقالي الذي يمكن العودة إليه. معطوفًا عليه، قراءاتي المقبولة لأدب بركات.
الخلاف هنا، ليس على ميزة الأسلوب اللغوي، التراكيبي، البلاغي، في بنية النصّ الشعري والروائي لدى سليم بركات، والمهارات التي يمتلكها، والطاقة التعبيريّة اللغويّة المهولة لديه، الخلاف أن هذا التمايز، على الصعيد العربي، معرقل على صعيد الترجمة إلى اللغات الأجنبيّة الأخرى. بتعبير آخر، بالنسبة لي؛ الخيال له الأسبقيّة على اللغة، والأخيرة تتبعه. في حين أن بركات، لغته، على دهشتها، كأنِّي بها؛ وضعت خياله تحت الإقامة الجبريّة! وهنا أسّ وأساس وهدف مقالتي المنحاز لخيال بركات وأدبه. وتصاعد وتيرة الصعوبة والوعورة في لغة بركات، على صعيد الأسلوبيّة التي لا خلاف على تمايزها، من الصعب إلى الأكثر صعوبة، يؤكّد ذلك. فديوانه الأوّل، الذي يبدو سهلاً الآن، كان صعبًا ومغايرًا ومختلفًا في حينه، مطلع السبعينات. وبقياس “تِرمومتر” اللغة أو مؤشّرات الخط البياني، لجهة الصعوبة، نجد أنها في تصاعد، إلى أن وصلت مرحلة معينة؛ نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات، فاستقرّت الوعورة والصعوبة، لديه، لأنها وصلت إلى حدودها القصوى، على ما أظن وأعتقد، ولا أجزم أو أقطع في الأمر.
وأيضًا، يصف خالد مقالي بالقول: {هكذا، وبرميةٍ واحدةٍ، مرتبطٌ بخيالٍ متصّدع بفعل لغةٍ، بفعل استعمال بركات الخاصّ للغة}. وهنا، أجدُ عليَّ لزامًا التأكيدُ والقطع في أنني؛ لم أصف أبدًا ومطلقًا، لا تلميحًا أو تصريحًا، خيال بركات أنه “متصدّع” بفعل أو تحت ضغط صعوبة لغة. بالضدّ من ذلك تمامًا؛ مبنى ومعنى، مقالي والأفكار والملاحظات والانتقادات التي طويتها عليه، إن لم تكن في كلِّها، ففي جلِّها، انحيازٌ لخيال بركات على حساب مراوحة الأسلوب ـ اللغة، مكانه، على ما تظهره تلك اللغة من صخب بلاغي هادر، مجلجل، و(عنف) بلاغي مُستعذب، لجمهوره من القرّاء والنقّاد. وأن فعل “الجور” آتٍ من اللغة الصعبة، على الخيال المدهش. وأن ذلك القالب الأسلوبي البلاغي يمارس عسفًا على خياله. فمن أين أتى ناقدنا بوصف “خيال متصدّع”، مع أن متن مقالي بكلماته الـ1829، لا يرد فيه كلمة صدع أو متصّدع، بتاتًا؟! كيف، وبأيّ حقّ أو سند، سمح فقه التأويل لدى ناقدنا الكبير أن يمارس التعسّف النقدي بحقّ مقالي، وأنني قلت أو أوحيت فيه على أن خيال بركات متصدّع بفعل لغته، أو أنني أطلقت حكمًا يفضي إلى ذلك التوصيف المغلوط؟! هذا الجنوح التعسّفي في التأويل، وتلبيس مقالي ما ليس له، ماذا يمكن تسميته وتوصيفه في العُرف النقدي، وميزانه؟!
ولئن افتراض المحال ليس من المحال، فإنّ ناقدنا يعاضدُ عسفه بطرح سؤالين افتراضيين: {ماذا لو أنَّ بركات افتقد أسلوبه المميز الذي يتلاءم و”خياله الشرس”؟ ماذا لو أن هذا “الخيالَ الجسورَ”: ظلَّ مدفوناً في كَفَنِ أسلوبٍ يخضعُ للسّائد من أساليب الكتابة؟}. لاحظوا: “الخيال الشرس”، “الخيال الجسور”، وليس “المتصدّع”، وتلك توصيفاتي!
ثم يجيب حسين على نفسه بنفسه بالقول: {إنّ الخيال الشّرس لا يرتضي إلا أنْ يتواءمَ مع “أسلوبٍ” صعب المراس، مغاير، يتخذ من التَّبايُنِ منطقاً ووسماً وجرحاً له. إن بركات في صنيعه هذا، وعلى غرار الأسلوبيين الكبار، أحدثَ جرحاً في جَسَدِ “العربية”؛ لكيلا تفغو في نعيم بلاغتها السائدة وتستكين”}. وهنا، قصّتي لست الإشارة إلى أن السائل والمُساءل – المسؤول هما واحد، أو أنه مع وجود الإجابة تنتفي جدوى السؤال، بل الإشارة إلى أن مقالي لم يطالب بركات بالتخلّي عن تلك الأسلوبيّة، إنّما مراجعتها ومحاولة تطويرها. فمَن كان في مقدوره رفع وتيرة ومنسوب أسلوبيّته الكتابيّة من الصّعب إلى الأكثر صعوبة، يفترض أنه قادرٌ على العودة بها إلى سابق عهدها؛ إلى حيثُ (“هاتها عاليًا”، “السيرتان”، “فقهاء الظلام”…)، بنفس طريقة الاختلاف عن السائد، والانسجام مع الزيادة في ترشيق اللغة وترشيد البلاغة، والتخفيف من أعباء زخرفها الشديد الوعورة، وتسليساً وتحقيقًا متطلبّات الترجمة.
عودٌ على بدء، واصل حسين رشق مقالي، لجهة منسوب التأكيديّة فيه، عبر تأكيدٍ صارم حازم، محلّ شبهة ومساءلة، يعوزه الدليل، حيث قال: {من جهة أخرى، وكما جرت الإشارة، فالعنوان يتخذُ من الدِّلالة التأكيدية إقامةً وإثباتاً وقطعاً وحسماً: “عن سليم بركات الذي…”! ووفقاً لهذا المنطق التأكيدي فالنتيجة التي حتّمت هذه الصّيغة للعنوان إنما انبثقت من تأمّلٍ نقديٍّ للمسار التاريخي لــ”أسلوبية” بركات شعراً وروايةً لكننا في الواقع لا نجد في تضاريس المقال الطّويل نسبياً أيّ اختبار نقدي لهذا المسَار المثمر والمدهش من الكتابةِ لدى بركات باستقطاع شذراتٍ من الأعمال الأولى ومقارنتها بالأعمال الوسطى وهذه مع الأعمال التي صدرت وتصدر راهناً حتى نُدرك المسوّغات التحليلية والمعرفية والجمالية التي دفعت بالكاتب إلى نعيم هذا اليقين الذي أَودعَ فيه “عنوان” مقالته بكلّ راحةِ بال واستكانةٍ}.
والحقُّ أن “نعيم اليقين” هو ما يصول ويجول في جنباته الدكتور حسين، من عنوان دراسته – ردّه (فضيلة “اللغة الجائرة”: شؤون الكتابة لدى سليم بركات)، مرورًا بالمتن، وصولاً إلى الخاتمة. علمًا أنه ليس هناك اختلاف بيّن كبير، بين المدخل والخاتمة. فـ”نعيم اليقين” النقدي لديه، يكاد أن يخلو تمامًا من أيّة ملحوظةٍ أو نقطةٍ، يمكن تسجيلها على متون بركات الشعريّة والروائيّة، لغويّاً وأسلوبيًّا وبنائيًّا – فنيًّا. ويبدو أن تجربة بركات المشرّعة على هذا الكمّ المهول والمريع من المدائح (النقديّة) باتت تشكّل حالة رهاب، تعصم التجربة نفسها عن أيّ مثلب، أو علّة، أو زلّة أو عيب، أو خلل…، أو أيّ شيء. هنا، “نعيم اليقين”؛ يقين الكمال اللغوي، الفنّي، الإبداعي، يتمظهر في أعتا صورهِ ضمن ردّ ناقدنا الفاضل. وحين يصف مقالي بأنه مغلول أو معلول أو مكتوب بـ”نعيم اليقين” فأنّه ينصِّبُ معروضه النقدي – الردّ، ضمنًا، وكأنَّه سند الشكّ، أو اليقين المناهض – المضاد لـ”نعيم اليقين” لدي! زد على هذا وذاك، حين يطالبني حسين بـ”اختبار نقدي لهذا المسَار المثمر والمدهش من الكتابةِ لدى بركات باستقطاع شذراتٍ من الأعمال الأولى ومقارنتها بالأعمال الوسطى وهذه مع الأعمال التي صدرت وتصدر راهناً…” لِعِلمه؛ البيّنةُ على المعترض، المنتقد، بالدرجة الأولى والأخيرة. وهذا ما لم يفعله حسين، بكل “راحة بال واستكانة”، ولم يأتِ على الاقتباسات التي طالبني بها، والتي يمكنه عبرها؛ دحض فكرتي وتفنيدها، توثيقًا وتأكيدًا لفكرتهِ، بل اكتفى بتحقير المقال وتبخيسه بلغةٍ مواربة ترتدي لبوس الاتزان والتعالي الأستذي، عبر تفريغ المقال من أيّ محتوى أو جدوى موضوعي حريص على أدب بركات، وبالنظر إلى مقالي بسخف، من علوٍّ “نقدي” شاهق، لا يدانيه الخلط والغلط والخطأ! ظنًّا منه أن المذهب في القسوة والعنف “اللاـ نقدي”، سيخلق رُهابًا، يجعل من كلمة كاتب هذه الأسطر، مغلولةً الأيدي، معصوبة، مذعورة. وهذا ما لم، ولن يكون.
الحقُّ أنني عاجزٌ عن معرفة رهان د. خالد حسين، أو على ماذا يراهن في محاولة تشويه وتسفيه مقالتي، عبر إطلاق أوصاف، تنطبق على “ردّه” أضعاف ما تنطبق على مقالي؟! ومن ذلك وصفه المقال بـ”الطويل نسبيًّ”! وهذا صحيح في العرف الصحافي، لأنه يتألّف من 1829 كلمة. لكن، ما قوله في ردّه المؤلّف من 3851 كلمة، والهوامش وحدها 900 كلمة تقريبًا، ما يعني؛ 4750 كلمة؟! فإذا كان مقالي طويل نسبيًّا، فأيّ وصف يمكن أن يطلقه القارئ على ردّه، قياسًا بحجم مقالي؟!
يواصل حسين تحجير منطقي في الكتابة وإبداء الرأي وطرح الأسئلة التشكيكيّة، بكلامه: {هكذا ومنذ عتبة العنوان نجد ذواتنا إزاء مقال يملك خزائن “الحقيقة” الواحدة “عن سليم بركات الذي…”، كيف حَكمَ الكاتب على ثلاث وعشرين مجموعة شعرية وثلاثين كتاباً سردياً عبر مساحةٍ من الزمن (1973ــ 2021) بهذا التأكيد، بهذا “اليقينِ”، الذي لا يختلفُ عن أيّ يقينٍ أيديولوجي في وسم حدثٍ كتابيّ “مدهشٍ” بكونه لم يتأثر بأيّةِ طعناتٍ من الزَّمن بالمقارنة مع أحداثٍ/أساليب أُخرى سابقة أو متزامنة معه تتنفَّس التَّاريخ؟ على هذا النحو وبتوجيهٍ من هذه الميتافيزيقا الانطباعية التي تضخُّ العنوان بالطاقة تنبسط تضاريس المقال لتأكيد الحكم النقدي المسبق شرحاً وتفسيراً وتوسيعاً}.
لنفترض جدلاً، أن خالد حسين، مع حفظ الألقاب، صائب في تقييمه ذاك، فليأتنا ببرهانه النقدي البحثي، (وهو الضليع والملّم بتجربة بركات) حيال التحوّلات التي طرأت على لغته، عبر احتكاكه باللغات الأخرى؛ السويديّة، تمثيلاً وليس حصرًا؟ لئلا يُقال أن باحثنا وناقدنا المعروف؛ ينطق عن هوى تأويله، فأطلق أحكامًا، ما زالت نزيلة الافتتان، ومغلولة بالانبهار بتجربة بركات على صعيد البيان والبنيان؟ مجددًا؛ البيّنة والبرهان على المشكك، المعترض – الغاضب “المنتقد”!
البراهين المرتدّة:
اللافت والغريب، أيضًا وأيضًا، في معروض خالد حسين المناهض المعترض؛ أنه أتى باقتباسات من مقالي، على أنه يُقيم الحجّة والبيّنة عليّ، وإذ بالمقتبس، المستخدم في فقرة “اللغة/الأسلوب” يفنّد زعم أوصافه التي أطلقها على مقالي. ويمكن للقارئ العزيز العودة إلى ردّه، والتدقيق في اقتباساته ومدى انسجامها واتساقها مع أحكامه. تمثيلاً وليس حصرًا، يورد هذا المقتبس {“فبالنسبة إلى كاتبٍ كردي، (…)[فـ] الانتماءُ الأصيلُ، الوحيد، العميق المنتج والمجدي، والتحدّي الوجودي الذي وجده أمام نفسهِ، ويكاد يكون الحبل السرّي الذي يربطه بالحياة، هو الانتماء إلى اللغة العربيّة، شعراً ونثراً، وطناً وهويّةً(…) [ليبلغ الكاتب الفكرة الأكثر أهمية]: ولأن العقدين الأوّلين من عمرهِ؛ أسّسا وخصّبا خيالهُ، والعقود الخمسة اللاحقة كانت عطفاً وتأسيساً على ما سبق، وتعضيداً وتخصيباً له، فالأصل والجذر لخيال بركات، هي تلك السنوات الأولى”}. ثمّ يبني عليه “وجاهة” اعتراضه على وصف “الانتماء الأصيل” لبركات إلى اللغة العربيّة، بإيراد قولة هايدغر على اللغة “بيت الكينونة”، ويضيف: {لكنَّ الإنسان، ولاسيما الكاتب في الواقع، يتخذ أكثر من لغةٍ مأوىً له. بل إنّ بعضاً من المآوي (اللغات) تُفرض على الإنسان رغم إرادته ورغبته كحال “الكردي” في سوريا ومن ثمَّ فانتماءُ “بركات” للعربية مأوىً ليس بالانتماء الأصيل، كما يمضي الكاتب، بل هو انتماءٌ مُرْغَمٌ عليه، انتماءُ المتغلِّب على المتغلَّبِ، المهيمِن على المهيمَن. وإذا كانت حتّى اللغة ـ الأم، البيت الأول، تمارس إكراهاتها وإراداتها على الكائن في تشكيل عالمه/عوالمه؛ فماذا يمكن القول بما يخصُّ لغةً أُرْغمَ الكردُ (سوريا) على اتخاذها مأوىً؟ ففي مشهد إبادة اللغة الكردية ونسفها لم يكن بحوزةٍ بركات والكرد قاطبةً في سوريا سوى “العربية” ممراً لعرض الكينونة الكردية ومن ثمَّ فاتخاذ بركات للعربية ليس “انتماءً أصيلاً” وإنما هو من قبيل “التحدي الوجودي”ــ حيث يصيب الكاتب هنا تماماًــ إذ لم تكن الكتابة بـ”العربية إلا تحدياً وجودياً مهارةً وإتقاناً وبلاغةً للردّ بالكتابة ذاتها}.
معلومٌ أن مقدّمة مقالي في موقع “درج”، وهي مقتبس من جسد المتن، تقول: “اللغة يمكن أن تكون وطناً، شريطة ألاَّ تتحوّل إلى سجن. ويبدو أن سليم بركات استعذب الإقامة الاختياريّة في تلك اللغة التراثيّة. أصدقاؤهُ الشعراء والنقّاد لم يساعدوه على التحرر من لغةٍ اختارها لنفسه، كتحدٍّ بوصفه كرديّاً، غريباً. وحجم الترحيب والافتتان بلغته، جعله ينحاز إلى خيار أبدي بأن يجعل من تلك اللغة التراثيّة قفصاً ذهبيّاً.”. أمّا عن الوطن – اللغة، أو اللغة – الوطن، فهو وارد في مقالي، مشفوعًا بالإمكانيّة – الاحتمال، وليس بالقطع والإطلاق، وبل مشروطًا أيضًا، بكذا وكذا! وأمّا اختيار بركات للغة العربيّة، كتحدّ باعتباره كرديًّا، أيضًا وارد في المقال. والسؤال؛ أيّ جديد أتى به د. حسين، غفله أو تجاهله مقالي؟! ليس في هذه الفكرة وحسب، وبل ثمّة أفكار أخرى، طويت عليها مقالي، أتى حسين على إعادتها، في قالب لغوي آخر، على أنها التفسير المُبين، والحجّة البيَّنة عليّ!
الحقُّ أن الانتماء الأصيل، لأيّة لغة، طبقًا للفهم التقليدي الهوياتي – القومي، الذي أتى على ذكره حسين؛ وارد وصحيح ومتداول. لكن، الشخص المختلف عن أيّة لغة، واختياره لها موضوعيًّا أو ذاتيًّا، كمأوى وبيتًا للكينونة، وبالقدر الذي أبدع به بركات، في بدايته، كان انتماءًا طارئًا، خاضعًا لاعتبارات الإكراه السياسي – القومي بوصفه كرديًّا، لكن بالتقادم وتراكم الإبداع، لدى بركات، تحوّل ذلك الانتماء من طارئ إلى آبد، من مفروض – (مكتسب) إلى أصيل، فاعل ومؤثّر. إذن؛ لا يمكن لبركات أو أي كاتب أن يبدع في أيّة لغة، ما لم يشعر في قرار نفسه أنه أصيل وصاحب انتماء إلى تلك اللغة، حتّى ولو كان الكاتب من أرومة قوميّة لغويّة أخرى. في تقديري؛ لو ساور بركات، أدنى شكّ، في انتماءه الأصيل إلى اللغة العربيّة، لما قدّم لنا وللعرب والكورد والبشريّة كلّ تلك الخزانة الكبيرة العامرة من الشعر والنثر المميّز والمثير للدهشة. وهنا، أودّ لفت عناية ناقدنا الكبير إلى فكرتي بشكل أوضح: الانتماء الأصيل إلى أيّة لغة، لا تعني بالضرورة الانتماء الأصيل إلى الكينونة الهوياتيّة القوميّة لتلك اللغة. وهذا كان مقصدي من كلامي ذلك، وفكرتي تلك. بالتوازي مع التفسير السابق، يمكن أن أورد مثال الشاعر “شيركوه بيكه س” الذي بدأ كاتبًا للشعر باللغة العربيّة، مع وجود اللغة الكرديّة مصرّحًا بها. لكنه هجر العربيّة، واستقرّ في اللغة الكرديّة نهائيًّا. بينما فضّل بلند الحيدري (الكردي)، خيار العربيّة، واستقرّ فيها وأبدع. خيار بركات كان إكراهًا وطوعًا في آن. أمّا الإكراه، فمعروف أسبابه وخلفيّاته القوميّة – السياسيّة. وأمّا طوعية الاختيار، فتعود لحبّه للعربيّة وشغفه بها، بالإضافة إلى المحيط؛ البيت، المدرسة. ذلك أن الواقع السياسي القومي المفروض على بركات وعموم كرد سوريا، لم يدفع شاعرًا كـ”جكرخوين”، أو “قدري جان”، أو “تيريز”… إلى اتخاذ العربيّة خيارًا وحيدًا يتيمًا، لا ثاني له، للتعبير عن ذواتهم. كاتب هذه الأسطر وأبناء جيله، أيّضًا، خير أمثلة على ذلك. إذن، اختار بركات الانتماء إلى العربيّة حبًّا وشغفًا وإبداعًا أصيلاً، فانتمت إليه العربيّة وبادلته شغفه. وعليه، مع كلّ تلك الأمثلة، وأضعافها، يسقط التبرير الذرائعي النقدي الذي طرحه حسين بقوله: {..في مشهد إبادة اللغة الكردية ونسفها لم يكن بحوزةٍ بركات والكرد قاطبةً في سوريا سوى “العربية” ممراً لعرض الكينونة الكردية}! لا. كان هناك خيار اللغة الكرديّة، لمَن هو مستعدّ لدفع الأكلاف والأثمان والضرائب، المعنويّة منها والماديّة. ذلك التبرير، على إطلاقيّته، ويقينيّته، يفتقد المزيد من وجاهة الدليل والإلمام والمراجعة.
حاصله؛ أعتقد أنه ما عاد هناك غموض أو لبس في فكرة “الانتماء الأصيل” إلى اللغة العربيّة، بالنسبة لأيّ كاتب، سواء أكان من أرومة كرديّة أو سريانيّة أو أرمنيّة أو تركمانيّة!
يضيف الناقد جديدًا إلى معروضه النقدي – النقضي لمقالي، ويسمه بـ”النتائج القاب قوسين أو أدنى من التناقض”. وحين يورد مقتبسًا من مقالي، كسند يدعم أحكامه التعسّفية، فإن المقتبس – السند، يكون حجّة على الناقد في مكان آخر، داحضًا زعمه – فهمه – تأويله – حكمه المربك المرتبك. ليس هذا وحسب، بأنه رأى، في ما رآه؛ أن لدي خلط بين “اللغة” و”الأسلوب”، في حين أنه من الواضح أنني عنيت باللغة الأسلوب مجازًا، ولم أقصد اللغة بحرفيّة اللفظ والفهم والاصطلاح. وهو نفسه، استخدم تعبير “لغة سليم بركات” في الإشارة إلى أسلوبه، في قوله {وفي الحقيقة ابتكر “لغةً أجنبية ضمن اللغة” التي يكتب بها، جعل الجملة العربية تتلعثم وتتشوّه وتتلوّى من ألم الاختلاف() وهذا مطلب الإبداع ــ الأصيل}. كذلك درج الحديث في الدراسات والمباحث النقديّة؛ لغة أدونيس، لغة محمود درويش، لغة نزار قبّاني…الخ، والمقصود هنا؛ الأسلوبيّة في تطويع واستخدام اللغة تعبيرًا وتركيبًا، على صعيد المبنى، لاستدرار المعنى. وهذا ما عنيت به أيضًا. زد على هذا وذاك، الاستفاضة في الشروح وإظهار الفوارق بين اللغة، كملكيّة عامّة للجماعة، والأسلوب، كملكيّة خاصّة، وإمضاء، للكاتب، تلك الاستفاضة، هي أيضًا، لزوم ما لا يلزم، ومن فذلكات تمظهر الأستذة النقديّة (المتعالية). إذ يقول: {… ليكون القارىء إزاء حدثٍ نصيٍّ فريدٍ وبتوقيع متفردٍ: (هكذا أبعثر موسيسانا، 1973، الجمهرات، 1978، بالشِّباك ذاتها؛ بالثعالب التي تقود الرِّيح،1986، طيش الياقوت، 1992، المجابهات، المواثيق الأجران، التصاريف، وغيرها، 1996 تنبيه الحيوان إلى أنسابه، 2019.. على سبيل المثال)، (…) بيد أن هذا القطع الحاسم بتلاشي “الوهج” عن كتابة بركات سرداً وشعراً يقتضي وحسب أصول النَّقد واشتراطاته نماذج، عناوين، شذرات نصية تحت طائلة التحليل من منجز بركات في المرحلتين الوسطى والراهنة شعراً ونثراً حتى يكون الحكم النقديُّ حاسماً أي يكون محايثاً للأعمال الأدبية وليس ضرباً من نزق القول}.
مجددًا، أعيد التذكير بأن مقال الرأي، مقامه لا يتحمل أصول واشتراطات البحث. وليس من العدل في شيء، محاسبة المقال بمنهج البحث! وأكرر أيضًا، أن الحجّة والبيّنة على المعترض، المخالف – المختلف. فالتأكيدات اليقينيّة التي ينضح بها ردّ خالد حسين، تملي وتوجب، ولا تفترض فقط، بأن تكون أحكامه واجتهاداته على حيويّة “لغة – أسلوبيّة” بركات، مقرونة ومشفوعة بالمقتبسات 1من كل عناوين كتبه الشعريّة والروائيّة التي أورها، وألاَّ يكتفي بالإشارة إلى عناوينها وحسب! علمًا، وبحسب ما قاله لي د. حسين نفسه، أنه لم يقرأ كل عناوين كتب بركات. تمثيلاً وليس حصرًا: رواية “سماء شاغرة فوق أورشليم” بجزئيها. وعليه، ما طالبني به، هو الأولى والأجدى أن يقدّمه، للقارئ، دعمًا وسندًا شاهدًا على صواب فكرته المناهضة والمناقضة لفكرتي. ولا يستقيم أن ينهى الناقد عن مسلكٍ، يقترفه هو، في معروض ردّه “النقدي”. وطالما أن الناقد {لم يجد فاقةً لاستحضار أمثلةٍ من قبيل اليقين التام الذي يستغرقُ خطابَهُ بهذا الحسم، أي حقيقة ما اقتنصه من تقييم؛ فالعدالةُ تتوجّبُ مسايرة هذا اليقين التأكيدي ذاته والسّير به إلى راهن التَّحليل النقدي بصورةٍ مباشرة عبر التحايُث مع نصوصٍ لبركات}. أمّا قوله: {ربما المرء لا يحتاج هنا لأكثر من قراءةٍ بسيطةٍ، ليدرك أنّ كلَّ خطابٍ من هذه الخطابات يؤسّس لعالم دلاليٍّ مفارقٍ، وعلاماتٍ تنبىء بالمختلف والمغاير ومع ذلك نلمسُ بكلّ بساطةٍ تغيّر المنحى الدلالي إلى الانتقال من التعبير عن الذات (1) إلى التعبير عن العالم بعوالمه المتعددة (2، 3، 4، 5، 6)}. طالما الأمر هيّن بسيطٌ لهذا الحدّ، يا ليته أسعفنا بالاقتباسات، دعمًا لأقواله. وإلاّ، فهذا التهرّب والتنصّل النقدي بعينه. كقارئ، أنا بحاجة من حضرة الناقد، أن يقدّم لي معروضًا، موثّقًا بالمقتبسات من كل عناوين الكتب التي أوردها، لا أن يحيلني إلى القراءة البسيطة لتلك الكتب التي تشكلّ تركة أو ترسانة أو عمارة بركات الإبداعيّة الهامّة والصعبة والمُشكلة على القارئ العميق الضليع، فما بالكم بالقارئ البسيط العادي، شأن كاتب هذه الأسطر. وتلك مهمّة د. حسين النقديّة – التفسيريّة، لأدب بركات، وواجبه النقدي، وحقّي وحقّ القارئ على ناقدنا العزيز. ذلك أنه يقول: {وفي العناوين الشعرية لبركات ونصوصها لا أثر للتماثل البتة، يحضرُ الاخـ(تـــ)ـلاف différance برمّته. هل يفتقدُ العنوانُ الأخيرُ: الشَّظايا الخمسمائة (أين يمضي هذا الذي لا تلمسه يداي؟) إلى “جذوة التوهج، ودسم الألق، وعسل الدّهشة” بالمقارنة مع العنوان (1)، قطعاً لا…! (…) ويمكن للقارىء أن يلمس المنعطفات التي مرّت بهذه أسلوبية بركات السّردية من البساطة (قياساً إلى عمل بركات وليس بالإحالة إلى أعمال خارجية وطرداً مع الموضوعات السَّردية) كما في “السيرتان” إلى أسلوبية الاكتناز والقوة والجمال الفائق في (فقهاء الظلام، الريش، معسكرات الأبد، أنقاض الأزل الثاني) إلى أسلوبية مركّزة، تندفع بغموضٍ هائج [ثلاثية: الفلكيون في ثلثاء الموت: عبور البشروش(1)، الكون(2)، كبد ميلاؤس(3)، الأختام والسديم، دلشاد(فراسخ الخلود المهجورة]، لتأتي الأسلوبية ذات السّمت الميثولوجي [كهوف هَايْدْرَاهُوْدَاهُوْس، ثادريميس، موتى مبتدئون، السَّلالم الرملية، لوعة الأليف اللاموصوف المحيّر في صوت سارماك، حوافر مهمشة في هايَدْرَاهُوْدَاهُوْس، حورية الماء وبناتها، سجناء جبل آيايانو الشرقي، أقاليم الجن، موسوعة الكمال بلاتحريف (نشوء المعادن)، ميدوسا لاتسرّح شعرها]، لتليها تلك الأسلوبية بتوصيفها التاريخي(السَّماء شاغرة فوق أورشليم(1،2)، زئير الظلال في حدائق زنوبيا، سيرة الوجود وموجز تاريخ القيامة) وأخيراً الأسلوبية الواضحة، المرنة[هياج الإوز، سبايا سنجار، ماذا عن السيدة اليهودية راحيل، الثلوج أكثر خداعاً في غابات التنوب]. بناء على ما تقدم لا يمكن الركون إلى “اليقين القطعي” الذي خرج به الكاتب في توصيف أسلوبية بركات (المفاجأة اللغوية) بكونها قد تخلّت عن ألقها ودهشتها وبشكلٍ قاطع!}.
لأكنْ صريحًا أكثر مع ناقدنا الكبير، كقارئ غير مجتهد، أنا في أمسّ الحاجة إلى الخدمات النقديّة للدكتور خالد، بأن يقدّم لي، مقتبسًا من كلّ نصّ شعري وروائي، لبركات، حتّى يتبيّن لي حكمه النقدي المرفق بعنوان الكتاب. المسألة ليس إطلاق أحكام نقديّة مدائحيّة، إبهاريّة، تعريفيّة توصيفيّة، اعتمادًا واتكاءًا على العناوين وحسب، بل تدعيم الحكم بالبرهان ـ المقتبس الداعم، السند، المفسّر الموضّح.
وحين قرأت قولته: {إنّ ما يجمع هذه العناوين ونصوصها يتمثّل بأسلوبية بركات، أسلوبية التقويض ذاتها}، ألاّ يحقّ لي التساؤل: رأيتُ عناوينًا، ولم أرَ مقتبسات من نصوصها! والسؤال الآخر، كيف لناقد أن يعتدّ ويستشهد بنصّ روائي، تأكيدًا وتعضيدًا لفكرته، وهو لم يقرأ ذلك العمل الروائي أصلاً؟! هذا “المنهج” والمسلك النقدي، بأيّ ميزان يمكن أن نزنه؟!
الأكثر خطورةً ومجازفةً بإطلاق الأحكام القطعيّة الثبوت والدلالة لدى ناقدنا العزيز، قوله: {الأسلوبية الفريدة إذ شرعت بالانبثاق في المجموعةِ الأولى لتغتني عبر المجموعات الأُخَر اللاحقة تركيباً ومعجماً وصورةً وتجربةً تعكس علاقة الشَّاعر ذاته ليس بالمشهد الثقافي العربي وإنما العالمي أيضاً}.
فإذا كان تحقق بركات وشيوع وترسّخ أدبه في العالم العربي، ليس محل شبهة أو خلاف أو اختلاف، فبأيّ سند بحثي، نقدي، (تأويلي)، مهني، يضفي ناقدنا صفة “العالميّة” على علاقة بركات بمحيطه العالمي؟! لنفترض أن هذا الحكم والتقييم صحيح، لا تشوبه شائبة، هل يمكن أن يدلّنا ناقدنا العزيز، على عناوين كتب بركات التي ترجمت إلى الإنكليزيّة، ومدى حضوره في الصحافة البريطانيّة – الأمريكيّة، والحقول النقديّة هناك؟ ود. خالد يتقن الانكليزيّة. هل يمكن أن يدلّنا على عناوين كتبه المترجمة إلى الألمانيّة، ومستوى حضور أدبه المترجم في الصحافة الأدبيّة الألمانيّة؟ ود. خالد يجيد الألمانيّة أيضًا. وكذا السؤال مطروح عليه، في ما يتعلّق بعالميّة بركات، أو علاقته بالمشهد العالمي، عبر منجزه، الحالي، المترجم منه على وجه التخصيص والتحديد. وهل بركات مُترجم إلى الروسيّة، الصينيّة، البرتغاليّة…؟ يفترض أن خالد حسين، وعلى أرضيّة إلمامه وإطلاعه على أدب بركات، و{شيوع عالميّته}، أن يأتينا ببرهانه وسنده، بالأرقام، والأسماء، ودور النشر، وأسماء المترجمين، والمقالات والدراسات النقديّة التي تناولت أدبه المترجم، حتّى يمكنه بكل يقين وتأكيد واستكانة وثقة توصيفه بـ”الأديب العالمي”، وتوثيق علاقته بالمشهد العالمي!؟ كاتب هذه الأسطر، لا يرضى بأقلّ من ذلك. لأن أس مقال الرأي كتبته بعنوان “عن سليم بركات ولغته التي جارت على خياله” هو سؤال الترجمة واللغة أو الأسلوبيّة العويصة الصعبة في معالجاته الأدبيّة البلاغيّة المعجميّة، التي هي سند إبداعه عربيًّا، هي نفسها المعطّلة والمعرقلة لخياله من التسرّب إلى اللغات والثقافات والآداب الأخرى.
نفي التأثّر:
حاول ناقدنا تبرئة ذمّة تركة بركات الأدبيّة من أي ملمح من ملامح التأثّر بدرويش، صديقه الأكثر قربًا منه. إذ يقول: {بدايةً إنَّ التَّحليل النَّصيَّ لأعمال بركات لا تكشف عن أيِّ تأثير مارسته أعمال درويش عليها}! والسؤال: أين هو ذلك التحليل النصّي؟ ولمَن هو؟ ومن أجراه؟ ومتى؟! لئلا يغدو الأمرُ محض “شلف” أحكامٍ يقيقنيّة! إذا كانت الكتب المقدّسة اللاحقة، تأثّرت بالسابقة، إذا كانت الميثولوجيات اللاحقّة، تأثّرت بالسابقة، وكذا حال الحضارات والعلوم ومنطق الحياة والتاريخ، فكيف لتلك العلاقة الإنسانيّة الثقافيّة الأدبيّة بين قامتين شعريتين؛ اللاحقّة بركات لم تتأثّر بالسابقة؛ درويش؟! هذا الحكم، ما مدى انسجامه مع منطق البشر، التاريخ، الآداب والفنون، والأدب المقارن، والنظريات النقديّة؟! هكذا نسق من النقد، بحكمه هذا، الذي يبرّئ ذمّة نصّ بركات من التأثّر بأدب درويش، دون دليل، هو نفسه الذي يضع نصّ بركات ضمن سكونيّة غريبة! ويعطي د. حسين الاحتمال المعكوس، المرفق بـ”ربّما” (ولله الحمد)، على أن عمليّة التأثّر معكوسة من السابق؛ درويش، باللاحق؛ بركات! وهذا جائز وممكن، مقدّمًا سندًا مفاده: صريحُ اعترافٍ من درويش نفسه: {“بذلتُ جهداً كي لا أتاثر بسليم بركات”}. فعمليّة التأثّر ليست دومًا حكرًا على اللاحق، وحرصًا فيه، بل يمكن للسابق الأديب، أن يتأثّر باللاحق الأديب. أمّا أن يخرج حسين؛ بركات من دائرة ومستويات التأثّر بمحيطه الشعري الأدبي القريب منه، فهذا أقلّ ما يقال فيه أنه إخراج لبركات من دائرة البشريّة، ومن أعراف وتقاليد الآداب والفنون والتاريخ أيضًا، ويرفعه إلى مقام الواحد الأحد، الذي ليس كمثله شيء، يُؤثِّرُ في الشِّعر، ولا يتأثّر بشعر الأقربين إليه! وهو التقويض والحجر بعينيهما! كذلك؛ أحكام القيمة التي يقدّمها حسين، أثناء مقاربته بين تجربتي الشاعرين الكبيرين؛ أدونيس وبركات، أيضًا، أراها معقولةً، قابلةً للأخذ والردّ، لكنه يعوزها السند – الاقتباس. كما في أماكن عدّة، يقول حسين ها هنا: {قدّم الكاتب رشقةً من الأمثلة الدّالة على التغيُّر الذي أصاب خطاب الشَّاعرين على نحو نظريّ دون أيّ إجراءٍ تحليليّ، دون اللجوء إلى آليات الحجاج والإقناع في حين غيّب ذلك بما يخصُّ بركات للتأكيد على “اليقين” الذي يحرّك خرائطَ النظر لديه واتهام بركات بميتافيزيقا الثبات الأسلوبي}! طيب والحال هذه، أين أسانيدك النصيّة – التطبيقيّة المقاربة، حين عزلت بركات عن التأثّر بدرويش؟ وأين تلك الأسانيد الحِجاج، في آرائك – أحكامك النقديّة على تركة أدونيس، ومقاربتك تجربته بتجربة بركات، وتفضيلك ترجيحك كفّة أسلوبيّة بركات على أسلوبيّة صاحب “الثابت والمتحوّل” بقولك: {هي الأكثر شراسةً وتحرُّراً من عبءِ التَّاريخ و”الجماعة” قياساً إلى أسلوبيةِ أدونيس التي حافظت إلى جانب ذلك على شيءٍ من الغنائية والاحتراس من الذهاب باللغةِ إلى حدودِ “الصّمت”}؟! هات الأسانيد عاليًا. هات برهانك على آخره!
في ظنّي؛ أن أيُّ علم من العلوم، إذا كان الرأي يستوجب السند قراطًا، فما بالكم بالحكم النقدي القيمي، فهو يستوجبه 24 قراط! وإذا كان على مقال الرأي إبراز السند – المقتبسات، ويحوّل نفسه إلى دراسة نقديّة مطوّلة، أجدى وأولى بدراسة خالد حسين الـ”4750″ كلمة، أن تكون معززة بالأسانيد الداعمة لأحكامه! أحيلُ الأمر، إلى أولي النقد، وجمهور القرّاء، حتّى يتبيّنوا من معقوليّة ومنطقيّة أيّ طرح من طرحينا!
هنا، لا يطبّق خالد حسين، نظريات “قتل الأب” على بركات، ويعزلهُ عنها، كأنَّ “لا أب أدبي، شعري، له”! حتّى على تصريحه الذي أثار زوبعة الجدل في حقّ درويش، العام الماضي. بل يكتفي بأن يطبّقها عليّ فقط! فإذا قال أن تصريه ذاك، من صنف محاولات “قتل الأب” بعد موته، فهذا يعني أنه إقرار بأستاذيّة درويش على بركات، التي نفاها، قطعًا، في ردّه عليّ.
في فقرة “اللغة في ابتكارها الأدبي” يسطّر د. حسين حُكمًا آخر، في تنزيهه أسلوبيّة بركات الأدبيّة بقوله: هي أبعد ما تكون عن القاموسية والتراثية التي وردت في كلام الكاتب، نتحدّث عن قاموسية العلامة وتراثيتها حين تُستدعى إلى السّياقات النّصية الجديدة دون إلحاق أيّ أذى بدلالتها المتحجّرة، لكنَّ هذا النمط لا حيّز له، لا قيامة له في شعرية بركات شعراً وسرداً}. يالرعب المجازفة الإطلاقيّة اليقينيّة في هذا الحكم، الذي يعوزه أيضًا؛ السند القويم. وآيةُ التشكيك فيه، أن عنوان أحد كتب بركات هو “المعجم” (دار المدى 2015)! دون الإتيان بمقتبس منه، في تماهٍ مع ناقدنا الذي كرر مطالباته بالمتقبسات، وعفا نفسه منها!
وطالما يطرح د. خالد الصواب من لدن “فقه التأويل التعسّفي” (النقدي) لديه، فهو يرمي بمقالي، بقضّه وقضيضه، معنى ومبنى، في حاوية التخطئة، وذلك بقوله: {والصّواب أنَّ اللغة مع نصية بركات تقاسي من محنةٍ، تدخل في شهيق الصَّمت وتلك هي المعضلة، المعضلة في الاستقبال لا في النّصِّ، فنصُّ بركات يبدو من شدّة الانزياحات والانحرافات واللعب لا يعبأ بالمعنى الأحادي، المعنى المرسوم وفق ذائقة التداول والتراث أو القاموس، وإنما ينفتح على لامتناهٍ من الدّلالة، لذلك وصفته بالنص المفتوح على شهيق الصَّمت}، إذن، والحال هذه، العيب والعطل والشلل في “التلقّي: الاستقبال – المُستقبِل” وليس في النصّ وصحابه. وهما كلّييّ البراءة من عُسرِ الفهم وعويصه، الذي ربّما يصيبَ أيّ قارئ! يالهُ من زهدٍ، وتقّشف وتواضع في الأستذة النقديّة، آناء إطلاق الأحكام، وتسطير الذرائع، في إعلاء شؤون نصوص بركات، والحطّ من شأن منتقديه، وتسطيح مستويات الفهم والتفاعل غير المستسيغة لهذا الطوفان البلاغي الهادر في نصوصه! بينما، د. خالد حسين، وأقرانه من النقّاد الأصلاء، العميقين، الـ”سليم بركاتيين” الأفذاذ، وحدهم، يمكنكم فهم وهضم هذا “الإعجاز” البلاغي الأدبي؛ السليم بركاتي في {النصَّ الذي يصنع قارئاً جديداً على وجه التحديد.} على وحد وصف ناقدنا العزيز، حرفيًّا! وكاتب هذه الأسطر، وأمثاله كُثر، هم خارج دائرة ذلك القارئ الجديد الذي صنعه ويصنعه سليم بركات بنصّه! عجيبٌ، وأكثر، هذا الفقه التأويلي (النقدي) الذرائعي والتعسّفي، المستعدّ دومًا لأن يمنح ما لذَّ وطاب، من بدائع الوصف والأحكام، لنصّ أدبي، وتبرئته مِن أيّة زلّة أو علّة، بشكل مطلق ويقيني، مبرم، لا يطاق! هكذا نسق من النقد، ثمّة من يهزّون له الرؤوس، عن فهم أو نصف فهم أو جهل في لبوس الفهم، حالهم في ذلك؛ حالُ الجمهور الذي رفض الاعتراف بعري الملك، على أنه يرتدي ثيابًا أنيقة قشيبة، ليس يراها إلاّ الأذكياء وحسب، كما هو وارد في حكاية الكاتب الدانماركي؛ هانز أندرسن – Hans Christian Andersen (1805-1875). ذلك أن من يفهم أدب بركات، بسلاسة ويُسر، بديهي أنه يجب أن يفهم “نقد” خالد حسين التمجيدي التحميدي لذلك الأدب! لا أكثر، ولا أقلّ. إلى درجة أن أحدهم، هبط من علياء أستذته النقديّة، بـ”معوله” المثلوم الصدئ، على مقالتي، وغرّد ساخطًا عليه، على أن الكتابة الصحافيّة تفعل فعلها القبيح كذا وكذا، وتسيء الظنّ والفهم، عن قصد أو عمد، في أدب بركات!
خلاصة المسعى “النقدي” الذي تفضّل به الدكتور خالد حسين مشكورًا، هو تجريف مقالي، بقسوة وغبن، من أيّ ملمح ثقافي، نقدي، أدبي، ممعنًا في إدخال المقال وصحابه في خانة الاحتراب والصراع مع كاتب كبير، بهدف الحصول على قسط من شهرته. هذا الظلم والعسف والجور الذي نضح به إناء “عدالة” فقه التأويل التعسّفي والذرائعي لديه، وإليكم ما قاله: {مقال الكاتب (هوشنك) الانتقادي في الإحاطة بعالم سليم بركات الأدبي، على هذه الصُّورة، من منظور “قلق التأثر” من قلب المسرح الأدبي، سعياً للبحث عن حضورٍ للكاتب، عن مكانٍ له، لكن من وجهة نظري المتواضعة جرى الحدث باستراتيجيةٍ تفتقد إلى الحِجَاج النقدي والإقناع؛ لينتهي الأمر بمحاولةِ اغتيالٍ فاشلةٍ وفق مفاهيم قلق التأثُّر! ذلك أنَّ الانتصار في حربٍ إبداعيةٍ يقتضي تقديم نصوصٍ أدبيةٍ قويةٍ ومفارقةٍ ولاسيما في مواجهة نصية لا تعرف المهادنة والسُّهولة لا بالاتكاء على آراء نقدية قادمة من مهبّ الانطباع}.
في ردّ د. خالد حسين على مقالي، إلى جانب ظهور ما يمكن اعتباره “نقد النقد” (وهو، لم يرَ أصلاً مقالي إلاَّ من طينة المقالات المستعجلة الفاقدة لمقوّمات النقد)، كذلك تمظهر النقض – الدحض – التفنيد، والتخطئة، إلى درجة التحطيم، ارتكازًا على منطق وفقه التأؤيل، والذرائعيّة النقديّة التي يمكنها التماس الأعذار لأيّ شيء، وإلباس ذلك العذر – التبرير، لبوس “الإفتاء” أو الفتوى “النقديّة التي يمكن أن تخرس عقول وألسنة البعض، على كميّة الضديّة والذرائعيّة الكامنة فيها. وسيكون لي وقفة أخرى، أزيد في هذا المسلك شرحًا وتفصيلاً، تعليقًا على تناول د. خالد حسين رواية “مخطوط بطرسبورغ” للروائي الكردي جان دوست، استنادًا على دراسة كتبتها، وغير منشورة.
لحينه، أجدد الشكر للدكتور خالد حسين على ما بذله من وقت وجهد ودحض، في ردّه ذاك.
********
مقالتي في موقع درج
مقالة الدكتور خالد حسين في موقع رامينا
———————————-
“بضدّها تتبيّن الأشياء”: في النقد التعسّفي الذرائعي (الحلقة 2)
هوشنك أوسي
الحكاية كما جرت:
أثناء تواجدي تونس من 17 ولغاية 23 نوفمبر 2021، ضيفاً على معرض الكتاب الدولي، من ضمن ما اقتنيته من كتب؛ روايتان للكاتب الكردي جان دوست، هما “ممر آمن”، و”مخطوط بطرسبورغ”. فور عودتي إلى بلجيكا، بدأت بقراءة الرّواية الثانية، بسبب ما في عنوانها من طاقة جاذبة. وكنوع من التّواصل والاستئناس بين الأصدقاء، كنتُ أرسل ملاحظاتي على الرّواية، بين الفينة والأخرى، لبعض الأصدقاء المقرّبين جدًّا، للاطلاع وتبادل الرأي والفائدة المتبادلة. ومن أولئك الأصدقاء المقرّبين، الناقد والباحث، الأستاذ الدكتور، خالد حسين. لاحقًا؛ سجّلت ملاحظاتي وانتقاداتي ضمن دراسة. وإذ أتفاجأ بخبرٍ سارٍ ومفرح، مفاده؛ وصول رواية “مخطوط بطرسبورغ” إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب. ورغم الخلاف والقطيعة بيني وبين الكاتب جان دوست، إلاّ أن ذلك، لم يمنعني من اقتناء كتبه من المعرض، وقراءتها والكتابة عنها. كذلك، تلك القطيعة، لم تمنعني من توجيه التهنئة إلى جان دوست على صفحتي الفيسبوكيّة، وبل طالبت الأصدقاء بنشر التهاني له على صفحاتهم، كنوع من الاحتفاء به وبروايته. أفصحُ عن هذه التفاصيل، لأنّ الضرورة اقتضت ذلك، وهي موثّقة لدي، وبعض الأصدقاء يعرفون تفاصيلها أيضاً.
حين أرسلت دراستي عن رواية “مخطوط بطرسبورغ” لبعض الأصدقاء والصديقات، المقرّبين جدًّا، وأغلبهم أصدقاء مشتركين بيني وبين جان دوست، وفي مقدّمتهم د. خالد حسين، (في يوم 10/12/2021)، طالبتهم بعد النشر، لئلا يفهم الأمر على نحو خاطئ، على أنه استهداف وحسد وغيرة، إلى آخر هذه المتوالية من الكلام التافه عديم المصاديق، وكثيرة الشّوشرة والتداول. وكرّرت الرّجاء بعدم النّشر. أكثر من ذلك، طالبت الدكتور خالد حسين بكتابة مادّة عن الرّواية دعمًا لها، مع الرّجاء أن تكون قراءته، بعيدة كلّ البعد عن قراءتي؛ مادّة دراستي للرّواية، المرسلة إليه. وكرّرت الرّجاء، بهذا الخصوص. ووعدني بذلك.
في 3 يناير 2022، وأثناء زيارتي لألمانيا، أرسل لك د. حسين دراسته عن رواية “مخطوط بطرسبورغ” لإبداء الرأي، قبل النشر، تحت عنوان: “مخطوط بطرسبورغ: التاريخ رمادًا”. ولأنني كنت على سفر وفي جولة بين الأصدقاء، لم يتح لي قراءة الدراسة. فنشر دراسته في موقع “مدارات كورد” يوم 04/01/2022. بعد عودتي إلى البيت، أرسل إليّ مرّة أخرى الدراسة على شكل PDF، فقرأتها، وراعني ما رأيت. قام الدكتور خالد بدمج ما يزيد عن 60% من الأفكار والملاحظات والانتقادات التي طويت عليها دراستي، في مادّته، وبدأ بطحنها، ودحضها وتفنيدها، نقطة نقطة، وقلب ما اعتبرتُه مشاكل تقنيّة وأخطاءَ وعيوب شابت الرّواية على الصّعيد الفنّي، والبناء – التحرير، إلى محاسن فنيّة. هكذا، منح د. حسين، نفسه التفويض ورخصة استثمار ملاحظاتي وانتقاداتي، دحضًا، نقضًا وتفنيدًا، وقلب العيوب الواردة في الرواية إلى محاسن ومفاتن وخصال مائزة، إلاّ أنه أتى إلى جرم الاختلاس، وقفز من فوقه. وهنا، أصيب فقه التأويل التعسّفي والذرائعي لديه بالعجز والشلل. إذ كيف له أن يبرر الاختلاس، بنفس المهارة التي قلب فيها عيوب الرواية إلى محاسن ومفاتن عالية الجودة والفنيّة؟!
بعد إبداء سخطي وغضبي، عبر المراسلات البينيّة، واعتراضي على سلوك د. خالد حسين، وأنه أساء إلى الصّداقة، وانتهك رجائي بعدم الاقتراب من دراستي واستثمارها، وانتهك وعدهُ لي بذلك. حاول تبرير الأمر، وتأويله على أنها محاولة اشتباك نقدي بين صديقين أو كاتبين، وألبسَ سلوكه لبوساً نقديًّا؛ وأنّه وظّف جزءًا من أفكاري وملاحظاتي وانتقاداتي، كحوار، ضمن دراسته. والحقُّ أن تلك الطريقة، على جمالها وتميّزها وحداثيّتها وفرادتها، وسبقها، في الأعراف والتقاليد النقديّة، (وأعني؛ دمج الحوارات ضمن الدراسة النقديّة)، إلاّ أنّ دراسة د. حسين عانت من بعض العلل، في مقدّمتها:
1 ـ دارستي لم تكن منشورة، ليتخذها د. خالد، سندًا ووثيقة، ويقدّم مطارحته النقديّة لها. فهل يجيز العُرف النقدي، الاشتغالَ على مادّة غير منشورة (مخطوط) سواء أكانت رواية، قصّة، قصيدة، بحث، دراسة، أو مقالة؟! أطرح تساؤلي هذا، وفي ظنّي أن استثمار أيّ نصّ نقدي – انطباعي، غير منشور، سابقة وسقطة مهولة، لها وزنها ومقامها، في العُرف النقدي! وآمل أن أكون على خطأ، وظنّي ليس في محلّه.
3 ـ كتابة ونشر ردّ استباقي على دراسة غير منشورة، ضربَ الأخيرة في مقتل، وجعل الدراسة غير المنشورة، تبدو وكأنّها مقتبسة أو مختلسة من دراسة د. خالد حسين. علمًا أن الأخير، لم يشر إليّ أو إلى دراستي غير المنشورة في معرض دراسته الآنفة الذكر! وهذه أيضًا اعتبرها سقطة، غير متوقّعة أبدًا، من لدن ناقد هام وحصيف ومعروف، من وزن د. خالد حسين.
4 ـ تغافل د. حسين، وبل قفز من فوق، مثلب وعيب استراتيجي في رواية “مخطوط بطرسبورغ”، وقد وثّقته ضمن مادّتي. إلاّ أنه وظّف أغلب أفكار المادّة النقديّة، بهدف دحضها وتخطئتها، ملتمسًا المبررات والأعذار، وقلب المثالبِ محاسنًا ومفاتنا، وامتيازات فنيّة إبداعيّة في الرّواية، وقفز من فوق عيب الاختلاس الذي أوردته في دراستي. وهذا أيضًا له وزنه وتوصيفه في الأعراف والتقاليد النقديّة.
اللافت والغريب، وغير المتوقّع؛ أنه حين وصفت نقد د. خالد، بـ”التعسّفي والذرائعي”، صارَ يبرزُ في وجهي تلك المقالات والدراسات القديمة، التي كتبها عن نصوصي الشعريّة والرّوائيّة، على أنّ قناعتي هذه مستجّدة، وراءها؛ ما وراءها! أو أن الأمر محضُ خلافٍ شخصيّ، وأن نقد خالد حسين، بالنسبة إلي؛ يتخلّى عن تعسّفه وذرائعيّته، حين يطاول نتاج كاتب هذه الأسطر، شعرًا ورواية. وهذا الانطباع – الموقف، غير دقيق، وغير صحيح. كل ذلك، في مسعى “تتفيه” و”تسفيه” الردّ عليه، حتّى قبل نشري له!
وفي ظنّي أن ذلك الاستنفار في استحضار تلك المقالات والدراسات القديمة، يمكن تفسيره على نحو أنه من صنف “الترهيب” و”الابتزاز” المعنوي، بهدف الحؤول دون مواصلة تسلط الضّوء على تلك الخصلة التي باتت تتمظهر في نقد خالد حسين، مع الأسف. تلك الخصلة المكروهة، تسمم نقده؛ المتين اللغة والمراس والأدوات، ما يجعله مثار شبهة، أحيانًا، على صعيد الأحكام والخلاصات والنتائج. وعليه؛ تلك الحجّة (الدراسات القديمة)، جاءت عليه، وليس عليّ. إذ كان في إمكاني اتخاذ الصّمت ملاذًا، حافظًا على العلاقة والصّداقة. إلاّ أنني لم أخضع لذلك الترهيب المعنوي، ولم أدخل في أيّ شكل من أشكال المساومة أو الصفقة معه، وكتبت ما قرأتموه في الجزء الأوّل، وستقرؤون، ها هنا، الجزء الثاني. هذا الطبع الذي أفصح عنه ناقدنا العزيز، يمكن أن يتعرّض له أيّ كاتب/ة، في حال سجّلا انتقادات على نقد خالد حسين أو غيره. ولعمري أنه مسلكٌ مريب، وغير متوقّع.
حاصل القول: اعتذرَ الرجل مشكورًا. لكن، ذلك الاعتذار، على احترامي له، لن يعفيني من الردّ عليهِ. وكنتُ أجلّته، أيضًا بسبب وجود رواية جان دوست في القائمة الطويلة، لئلا يتمَّ تصدير موقفي على انه مناهض، حاقد، حاسد، كمّا عبّر جان دوست، نفسه، تعليقًا، على بوست لأحد الأصدقاء، ملمّحًا للدراسة التي كتبتها حول روايته “نواقيس روما” التي وثّقت فيها العديد من العيوب والمثالب الفنيّة والتقنيّة التي شكت منها تلك الرّواية، مع ذكري الإيجابيّات في العنوان والمتن أيضًا! لتأتي دراسة د. خالد حسين، وردّه على مقالي “عن سليم بركات ولغته التي جنت على خياله”، مكررًا نفس سلوك الاستهداف والتخطئة، والتأويل التعسّفي والذرائعي. فما كان منّي إلاّ الردّ عليه، على جزئين، هذا ثانيه. وأدنى هذه المقالة – الردّ، تجدون دراستي عن رواية “مخطوط بطرسبورغ”، وأدناها؛ تجدون رابط دراسة د. خالد حسين عن نفس الرواية.
توصيف لابدّ منه:
كي أكون واضحًا في مقصدي من “النقد التأويلي، التعسّفي الذرائعي”، اسمحوا لي بقول التالي: معلوم أن التأويل هو أحد أوجهه النقد، اعتمادًا على النصوص، والأدوات النقديّة، واجتهادات الوعي النقدي. ولأن النقد، دأبه الشرح والتوضيح، وجَسرُ الهوّة بين النصّ والقارئ، يندرج التأويل ضمن قائمة تلك الشّروح والتفاسير. وحين يشتطّ التأويل إلى مناطق، يمنح فيها النصّ ما ليس له، عبر استحضار واستنفار واستنهاض كل الخزينة من النظريات النقديّة، وتشبيكها وتعقيدها، بحيث يصبّ ذلك التعاقد والتعاضد والتضافر في طاحونة التأويل؛ رافعًا النصَّ إلى مقام زائدٍ عليه، أو إنزالهُ إلى مقام مجحفٍ، لا يليق به. وفي كلتا الحالتين، أرى في هكذا سلوك؛ تعسّفًا وغبنًا، وذرائعيّة “مع” أو “ضد” النصّ، لأبعد الحدود. نقدٌ من هذا الصنف، يلبس النصّ ما ليس له، إمّا فضفاض؛ لكثرة المدائح في فنيّة ومحاسن ومفاتن النصّ، أو شديد الضيق، يشدد الخناق عليه. نقد من هذا النوع، دومًا يعمل كدار الإفتاء، أربابه من النقّاد/النقادات، لا يتوانون عن إصدار الفتاوى، لصالح النصّ، يذهبون عنه العيوب والأخطاء والمثالب، وبل يقدّمونها على أنها محاسن ومفاتن، ويرون في أيّ نقد مناهض يحاول تسليط الأضواء على علل النصوص على الصّعيد الفنّي، اللغوي، التّحريري، على أنه نقد مثالبي، وراءه ما وراءه من الحسابات والأحقاد والحسد والمكايدة…، إلى آخر تلك المتوالية من النعوت – الأحكام الضّاربة في عرض النقد المناهض، الهاتكة له، ودائمًا وفق منظور استعلائي، أستذي، مشيخي، شكيم وعليم بأسرار النصوص، والنفوس أيضًا! وبالتالي، النقد التأويلي التعسّفي الذرائعي، يبيح لنفسه، ما يحرّمه على النقد المناهض له، ويسعى إلى تسخيف وتتفيه وتسفيه النقد الذي يضع في متناول القارئ والباحث، قسطًا من قبائح النصوص ومشاكلها التقنيّة، بالبرهان والدلائل الموثّقة من النصّ نفسه.
بهذا، أكون أوضحت؛ رؤيتي لما عنيته بـ”النقد التأويلي التعسّفي الذرائعي”. وأدناه الدراسة التي أتيت عليها ذكرها، مع تقديم الاعتذار للقرّاء على الإطالة.
****
كما في عالم الموضى، قصّات الشّعر، العطور، والاكسسوارات…، كذلك في عالم الرواية، بين الفينة والأخرى، تطفو على حركة الكتابة والنّشر بعض “التّقليعات” أو “الصّيحات” التي تصبح رائجة لفترة، ثمّ تتراجع، لتتيح مكانها لـ”صحيات موضى روائيّة” أخرى، وهكذا. في تعبير آخر؛ بعض الأفكار الرّوائيّة تصبح متداولة وشائعة، سواء على مستوى العناوين أو المتون، بدليل؛ في الثّلاث سنوات الأخيرة، راجت الأعمال التي تستند إلى “المخطوطات”. على سبيل الذّكر لا الحصر: “مخطوطة ابن اسحاق” (حسن الجندي)، “المخطوط الأزرق” (صبيحة الخمير)، “مخطوطة وجدت في عكرا” (باولو كويلو)، “المخطوط القرمزي” (انطونيو غالا)، “مخطوطة ابن الشيطان” (عمرو المنوفي). ويرى الروائي السوداني أمير تاج السرّ؛ أن تلك الحيلة في الكتابة: “قديمة بالفعل، فأرى أن الأوان قد حان للتخلّي عنها” (الرواية في شكل مخطوط. 8/7/2018 – القدس العربي). لكن، هل مِن تقنيّة استخدمها أو فكرة طرقها روائيّة أو روائي في العالم العربي، ولم تكن مطروقة، بشكل أو بآخر في العالم؟! وعليه، لبُّ الإشكال وأسّه ليسا في طرق ما كان مطروقًا من أفكار، بقدر ما هما في طريقة التطرّق، ونسبة الإبداع فيها.
يفترض أن لكلّ روائي أو روائيّة خاصّتهما من الأصدقاء المقرّبين الذين ربّما يكونون من أرباب حرفة الكتابة؛ مبدعين ونقّادًا، أو من المثقفين ذوي الذائقة الأدبيّة العالية، يطلعهم الروائي أو الروائيّة على أعمالهما، والاستماع لآرائهم، قبل إرسال تلك المخطوطات إلى النشر. وإن لم يكن للروائي، أصدقاء من ذلك الصنف، عليه خلقهم، كي يكونوا عونًا له. وإن لم يستطع، فليجعل من ناشرهِ أو محرّرهِ الأدبي، صديقًا، يصدقهُ القول والرأي في جودة النّصوص الروائيّة من عدمها، واعتلالها، وما يشوبها من هفوات وهنات وعثرات. وحين نجد تسطير الناشر وتصديره للرّواية مكتوبًا على غلافها الخلفي، هذا يعني، بالقطع، أنه قرأ العمل بتأنّ، وأعجبَ به. وإلاّ ما الذي يجبرهُ على نشر وتقديم عملٍ يكون خلاف تصديرهِ؟!
تصدير النّاشر:
“يتقفّى جان دوست في هذه الرواية آثار مخطوط ضائع كتبهُ الملا محمود البايزيدي في منتصف القرن التاسع عشر، بطلب من القنصل الروسيّ أوغست جابا في مدينة أرضروم. مخطوط عن تاريخ الأكراد وثقافتهم، كُتب ليحفظ ذاكرتهم في رفوف الأكاديميّة الروسيّة في بطرسبورغ. لكنه ضاع، وضاعت معه قطعة من الذاكرة. وهكذا تغدو الرواية رحلة بحث للعثور على الكنز الكردي المفقود، كنز الهويّة والمصير المحفوف بالمحن. ولئن ضاع المخطوط وتلاشى، فإن الخيال الروائي نفخ فيه الروح، فدوّن التاريخ وسرد وقائع شاءت الأقدار أن تخرج من السراديب. فليست الحقيقة دومًا صنو التاريخ والواقع، وإنما قد يتيح الخيال الخارق كنزًا حضاريًّا أغنى معرفةً، تحتضنه المكتبات وتتداوله. أفليس الخيال الخلاّق على رأي جان دوست هو من يرمّم ثغرات التاريخ ثغرةً ثغرة؟ ـ الناشر”.
أعتقد أن الأسطر السّالفة، تصلح أن تكون توطئة لتسجيل بعض الملاحظات على رواية “مخطوط بطرسبورغ” للرّوائي الكردي السّوري المقيم في ألمانيا؛ جان دوست. الرّواية التي صدرت عن دار “مسكيلياني” التّونسيّة، في 190 صفحة من القطع المتوسّط. ذلك أنني اقتنيت العمل من معرض تونس الدولي للكتاب، وقرأته، واستفدت منهُ كثيرًا.
1 ــ متن الرواية ليس فيه اقتفاء أثر “المخطوط المفقود” إلاّ في الفصل الأوّل “مخطوط بطرسبورغ: بداية المتاهة” من الصفحة 7 ولغاية الصفحة 16. وباقي الفصول والصفحات، في جلِّها، تتناول حياة المستشرق البولوني – الروسي أوغست زابا (August Kościesza-Żaba)، وحياة كاتب المخطوط؛ الملام محمود البايزيدي الكردي. والحديث عن أماكن وأشياء أخرى. وعليه، ربّما الرّواية هي أقرب إلى أن تكون رحلة في معرفة أثر المخطوط وأين وكيف ضاع؟، بخاصّة في الفصل الأوّل “مخطوط بطرسبورغ: بداية المتاهة”، والفصل الأخير: “مخطوط بطرسبورغ: المصير” من الصفحة 179 ولغاية الصفحة 188. يعني؛ لم يكن المتن محاولة استحضار تخيّلي لمخطوط مفقود، يتناول تاريخ الكرد وثقافتهم عاداتهم وتقاليدهم، و”كنز الهويّة والمصير المحفوف بالمحن” على حدّ وصف الناشر. فنحن لا نعرف مضمون المخطوط المفقود، حتّى نفضّل عليه؛ المخطوط “المتخيّل” الرّوائي؛ الذي يفترض الناشر وجوده في الرواية!
معطوفًا على ما سلف؛ أغلب عناوين مقاطع – فصول الرواية، الـ23، لا علاقة لها بالتاريخ أو المدن الكرديّة: “مخطوط بطرسبورغ: بداية المتاهة”، “السمرقنديّة”، “دفينا”، “لقاء في القنصليّة”، “كراسلافا”، “قصر إسحاق باشا”، فيلنيوس”، “ورقة من المخطوط”، “نيفا-سانت بطرسبورغ”، “الأسطوانة التّاسعة”، الدفلى البيضاء”، “نخلة مار بطرس”، “شجرة البرتقال”، “مخطوط بطرسبورغ – الإنجاز”، “مخطوط بطرسبورغ – المصير”. يعني؛ الرّواية تتحدّث عن أشياء كثيرة؛ جانب من التاريخ الروسي، التاريخ العثماني، التاريخ البولوني، فلسطين، والعلاقة بين شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي…، وأمور وأشياء كثيرة أخرى، بينما كانت نسبة الحديث عن الكرد وتاريخهم لا تتعدّى 20 بالمئة من العمل. فأيّ “كنز الهويّة”، يشير إليه الناشر في تصديره للرّواية؟!
2 ــ المتن، بما فيه من تفاصيل، لم يكن أبدًا من صنف ما “نفخ في روح (المخطوط) فدوّن التاريخ، وسرد وقائع شاءت أن الأقدار أن تخرج من السراديب”. ذلك أن القليل من تفاصيل التاريخ الكردي، الوارد في الرواية، مشاع ومتداول، ويعرفه الكرد، وبعض المتخصّصين في تاريخ هذا الشّعب، وليس من قماشةِ كشفِ المتواري المغيّب المقبوع في السّراديب! وفي إمكان الناشر التّأكّد من ذلك، عبر الاستعانة بالمستشار العزيز؛ الأستاذ “غوغل”.
مقصدي؛ التّصدير الموجود على الغلاف الخلفي، زد على أنه لا يوازي المتن وتفاصيل الرّواية، بنسبة كبيرة، فهو ينمّ عن عدم قراءة المتن أصلاً، بتلك الدقّة وذلك التمحيص المفترض. ولعمري أن متن الرّواية حتّى لو كان وليد المتخيّل الروائي، لا مناص من المتابعة والمراجعة، لئلا يصبح المرء على مزالق إطلاق الأوصاف والأحكام المبالغ فيها على النصوص الروائيّة، لجهة الفرادة والتميّز، على أن الخيال الروائي “قد ينتج كنزًا حضاريًّا أغنى معرفةً، تحتضنه المكتبات وتتداوله الأجيال” بحسب تسطير الناشر وتصديره للرّواية.
فخّ العنوان:
هذه كانت المرّة الرابعة التي يستخدم جان دوست أسماء المدن في عنوان رواياته: “كوباني”، “نواقيس روما، “باص أخضر يغادر حلب”، و”مخطوط بطرسبورغ”. والتوظيف الأخير لاسم حاضرة روسيّة وعالميّة مهمّة، له سحرهُ على المستوى اللفظي والدّلالي والإيحائي أيضًا. عنوان جاذب إلى المتن، ودافع باتجاهه، لجهة إثارة الفضول، والسّعي نحو معرفة طبيعة ذلك المخطوط المنسوب إلى تلك المدينة الرّوسيّة العريقة الفاتنة. وعليه، أتى العنوان موفّقًا في تحقيق وظائفه. والسّؤال؛ ماذا عن المتن، النّص، حزمة السّرود الموزّعة على المقاطع – الفصول؛ الثّلاث والعشرين؟ الحقُّ أنّه في جُلِّها؛ لا هي كانت عن مضامين المخطوط المفقود، ولم تكن عن بطرسبورغ أيضًا، إلاّ ما ندر، بل أتت متنوّعة، ورد فيها بعض المعلومات عن المخطوط؛ الفكرة، العمل، الانجاز، الفقدان، الاحتراق. كما وردت بعض المعلومات عن بطرسبورغ، موزّعة هنا وهناك. وعليه، البون كان شاسعًا بين العنوان والمتن. وإذا اعتبرنا جدلاً ذلك الفارق، وفق فقه التّأويل لدى بعض النقّاد، (حين يفتحون باب الأعذار والفتاوى للكتّاب والرّوائيين)، فإن عدم الانسجام بين عنوان الرّواية ومتنها، يمكن تفسيرهُ على أنّه حيلة بارعة ولؤم إبداعي نجح فيه جان دوست، فإن حيل وتقنيات تدبيج العنوان لدى المبدعين، يفترض ألا تنحصر في العتبات الرئيسة والفرعيّة لرواياتهم وحسب، بل أن يستخدموا حيلهم ولؤمهم وعقبريتهم تلك في تريب وهندسة العمارة الداخليّة لمتون تلك الروايات أيضًا. ومن ينجح في تقليل المسافة بين العنوان والنصّ، مع ترك برزخ أو أرخبيل فاصل بينهما، فتلك مهارة قلّ نظيرها، واحترافٌ باهر، تُرفعُ له القبّعات.
العلاقة بين المثقف والسياسي:
الرّواية على عللها ومشاكلها التقنيّة التي سآتي على ذكرها لاحقًا، فإنها تنطوي على أفكار هامّة، منها:
1 ـ العلاقة بين السّياسي (الدبلوماسي) والمثقّف. بخاصّة إذا كانا على طرفي نقيض، أو أقلّه؛ مختلفين في القوميّة (مسيحيّة – إسلام)، قوميّة (روسيّة – كرديّة)، واحترام السّياسي للمثقّف، والاستفادة من خبراته. كذلك استفادة المثقّف من الإمكانات التي يوفّرها السّياسي له، بخاصّة منها الماليّة. الرّواية تذهب، ولو بشكل خافت وخفي، في اتجاه تطبيع العلاقة بين المثقف والسّياسي. تلك العلاقة المتوتّرة، القديمة – الجديدة، المشوبة بالاستثمار والاستفادة المتبادلة.
2 ـ العلاقة بين المثقف والسّياسي، ليس بالضرورة أن تكون محكومة بمنطق تبعية الأول للثاني. وهذه أيضًا من الأفكار التي يطرح العمل عكسها. فما كان بين القنصل الرّوسي والمثقف الكردي (العثماني) علاقة عمل ثقافي، علمي، بحثي، قوامها الاحترام المتبادل، ولا يشوبها منطق وعادات وتقاليد تبعية المثقف للسّياسي، المتعارف عليها.
3 ـ يمكن للمثقف أن يقفز من فوق الجراح القوميّة والشخصيّة، ويتواصل مع جهة، تناصب العداء لبلاده (الصّراع الرّوسي – العثماني)، ويقيم علاقة مع تلك الجهة حتّى لو كانت أيديها ملطّخة بدم شقيق أو أقارب المثقف (العلاقة بين الملا محمود والقنصل الرّوسي)، طالما أن الهدف من تلك العلاقة ثقافي؛ خدمة عامّة للكرد. وعليه، لم يكن ملا محمود يرى في علاقته مع القنصل، خيانة للسلطنة العثمانيّة، او للكرد، أو لشقيقه القتيل في حرب القرم. كذلك القنصل البولندي الأصل، لم يكن يعتبر عمله كدبلوماسي روسي، خيانة لبني جلدتهِ الذين اضطهدتهم روسيا القصيريّة. وبالتالي، تناولت الرّواية، ولو بشكل عرضي وعابر، مفهوم الخيانة القوميّة، ورفضت الفهم التقليدي لها.
4 ـ تدفع الرّواية في اتجاه توطيد العلاقة بين المثقّف والسياسي، إذا كان الأخير مثقّفًا.
مشاكل تقنيّة:
أغلب الأعمال الروائيّة التي يتجاوز عدد صفحاتها 350 صفحة، سواء من القطع المتوسّط أو الكبير، تشترك القراءات النقديّة حولها؛ أنها لا تخلو من الحشو والثّرثرة والتّكرار والإطالة المملّة التي لا تخدم تلك الرّوايات، بل تسيء إليها، وتتسبب في ترهّلها وزيادة الشّحوم والدّهون اللغويّة الفائضة، لديها. وفي هذا الرأي، الذي أميل إليه أيضًا، الكثير من الصّواب. لكن، ماذا عن رواية جميلة الغلاف، أنيقة التصميم والطباعة، رشيقة القدّ والقوام، كـ”مخطوط بطرسبورغ” التي عدد صفحاتها 190؟ مع حذف الصفحات الأولى والأخيرة التي تحتوي بيانات الكتاب وفهرسه، يبقى أن الرواية؛ 180 صفحة تقريبًا. هكذا رواية، في ظاهرها رشيقة أنيقة، بعنوانها الجذّاب، إذا شاب متنها التكرار والحشو، فهذا يعني أن هذه المشكلة، لا تخلو منها الروايات المتوسّطة والقصيرة الحجم أيضًا. أثناء قراءتي للعمل، راعني حجم التكرار، على مستوى الأفكار والمعلومات والمقولات. ما أورده هنا، نماذجًا، على سبيل الأمثلة وليس الحصر:
1 ـ في الصّفحة 12، يذكر الكاتب: “أسبوعًا كاملاً نبحث. موظّفة الأرشيف مارينا وأنا، في ردهات المكتبة العملاقة (…) عبث، في عبث، في عبث”. وفي نفس الصّفحة يكرر الكاتب نفس الفكرة، بعبارة أخرى: “يمرُّ أسبوع دون أن نعثر على المخطوط الذي كتبه البايزيدي”! ألم يكن في الإمكان ذكر معلومة واحدة، مرّة واحدة في الصفحة الواحدة!؟
2 ـ في السّطر الثاني من الصّفحة 17 نقرأ على لسان ورقة من المخطوط: “سمعتُ هذه العبارة وأنا رمادٌ تذروه الريح (..)”. وفي السّطر الرّابع، نقرأ: “رددتها الريح التي كانت تذروني”! يعني؛ أن الرّيح هي هي، لم تتغيّر، فهل هناك أيّ داعٍ لتذكيرنا بذلك!؟
3 ـ في الصّفحة 22 نقرأ: “سيمنحه الرّوس خلال دراسته في جامعة بطرسبورغ اسم الكسندر”. وفي الصفحة 33 نقرأ: “أوغست جابا الذي اكتسب لقب الكسندر، أثناء دراسته في الأكاديميّة القيصريّة في بطربسبورغ…”. وفي الصفحة 63، نقرأ: “كان الكسندر، وهذا هو الاسم الروسي الذي حصل عليه الشاب أوغست، بمقتضى العرف الغريب المعمول به في الأكاديميّة الروسيّة”. وفي الصفحة 174، نقرأ نفس المعلومة مكررة: “نادى الجد أوغست، أو الكسندر، كما كان يحلو لبعض الأحفاد أن ينادوه حسب أعراف الأكاديميّة القيصريّة العلميّة في بطرسبورغ”! ما علاقة الأحفاد، في أزمير وقتذاك والرجل في التسعين من عمرهِ، بأعراف الأكاديميّة القيصريّة؟! وما الجدوى من تكرار هذه المعلومة في بداية ومنتصف ونهاية الرّواية؟ أليس هناك ثقة بذاكرة القارئ؟! هل لهذا التّكرار أيّة قيمة جمالية مضافة إلى السّرد؟!
4 ـ في 65 نقرأ: “وصف القيصر الروسي نيقولاي الأوّل السلطنة العثمانيّة بالرجل المريض”، وتكرر المعلومة في الصفحة 135، بصيغة أخرى أيضًا. بل من الصفحة 135 ولغاية الصفحة 138، ضمن فصل “وثبة المحتضر”، يتكرر وصف “الرّجل المريض” 5 مرّات، وتكررت مفردة المريض في وصف السّلطنة العثمانيّة في نفس الصّفحات، 4 مرّات. في تقديري؛ ما مِن داعٍ لهذا الإفراط في تكرار الوصف. خلاص، القارئ اكتشف هذه (المعلومة العظيمة) على أن صاحب وصف “الرجل المريض” هو القيصر الروسي، وانتهى الأمر.
5 ـ على صعيد الإكثار من تكرار المفردات، في الصفحة 23، كرر الفعل الماضي الناقص “كان” 9 مرّات، وفي الصفحة 96، كرر نفس الفعل 8 مرّات. وفي الصفحة 51، كرر كلمة “حرب” 5 مرّات، وكلمة “حروب” 3 مرّات.
كذلك من مظاهر التّكرار على صعيد ذكر نفس المعلومات في سياقات مشابهة؛ الحديث عن الانتفاضات الكرديّة على السلطنة العثمانيّة، وأسباب ونتائج فشلها. تمثيلاً وليس حصرًا: في الصّفحات 56، 57، 58، 59 وفي الصفحات 90 و91. كذلك معلومة مغادرة الملا محمود مدينته “بايزيد” واستقراره في “أرضروم” ومقتل شقيقه في حرب القرم، تكررت في أكثر من مكان، على سبيل الذكر؛ في الصّفحات 27 و53، و128.
أيضًا معلومة تكليف السّلطنة العثمانيّة الملا محمود بايزيدي بالتوسّط لدى الأمير بدرخان باشا الكردي، كي يوقف عصيانه، هذه المعلومة، تكررت في في الصّفحات 57، و125، و156.
في السّطر الأول من الصّفحة 102، نقرأ على لسان الشّجرة: “جلس الاثنان تحت أغصاني على كرسيين صغيرين”، وفي السّطر التّاسع من نفس الصفحة، نقرأ: “جلس الاثنان، كل واحد منهما على كرسيه…”!
6 ـ إذا كان الكاتب يودُّ تفصيح لغته الرّوائيّة، فلا لوم عليه أو حرج، ويتجنّب استخدام كلمة “القرفة”، ظنًّا منه أنها عاميّة دارجة، ويستبدلها بمفردة “الدارصيني” (ص18)، فعليه أيضًا تجنّب استخدام مفردة “أوتوبيسات” (ص7)، والاستعاضة عنها بـ”حافلات”. ذلك أن “القرفة” متداولة ومعروفة وشائعة، وفي حكم الفصيحة، وأخفّ وأكثر استغاثة على النطق والسّمع والقراءة، من “الدارصيني”.
7 ـ في الرّواية، يشير الكاتب إلى أن عدد صفحات المخطوط المفقود 200 صفحة. بينما في مكان آخر، يذكر أنها ألف صفحة! (راجع مقدّمة ترجمة جان دوست لكتاب: “رسالة في عادات الأكراد” لملا محمود البايزيدي. ص20 – هيئة أبو ظبي للثقافة – مشروع كلمة، 2010).
8 ـ في الصفحة 141 يذكر الكاتب أن جلد المخطوط “من رقبة وعلٍ أحمر صادهُ رعاةٌ من نواحي جبل سيبان في مدينة أخلاط على شاطئ بحيرة وان”. بينما في الصفحة 145 يذكر الكاتب أن جلد المخطوط من “جلد الأيل الأحمر الذي تمّ اصطياده في شعاب جبل سيبان قريبًا من بحيرة وان”! فهل الجلد كان جلد وعلٍ أم أيل؟! على الكاتب أن يختار أحدهما!
9 ـ في الصّفحة 156، يذكر الكاتب على لسان الملا محمود بايزيدي (1797-1867) عبارة: “نحن وجيراننا متأخّرون عن ركب العالم”! والسّؤال: هل كان الملا، سنة 1867، تاريخ وفاته، مطلعًا على ركب العالم وما يجري فيه من تقدّم وتطوّر، حتّى يطلق حكم القيمة على الكرد وجيرانهم؟! ولا يحيل البايزيدي حكمه ذاك، إلى الحروب وحسب، بل لأن الكِتابَ عند الكرد وجيرانهم، “أقلّ قدرًا من الحذاء، ولأن أولي الأمر منّا يهتمّون بالمِغرفةَ، أكثر من المعرفة” (ص156-157)! طبقاً للحكم وأسبابه ومبرراته، من المفترض أن البايزيدي يعلم أن أولي الأمر في البلدان الأخرى يهتمّون بالكتاب، ويرجّحون المعرفة على المغرفة!
10 ـ بحسب القليل من البحث والتحرّي عن القنصل الروسي – البولوني، اتضح لي أن اسمه آوغست زابا (August Kościesza-Żaba)[1]، فما سبب تغيير كنيته إلى “جابا”، كما جاء في الرواية؟
إضافة: (لاحقًا، تحرّى د. خالد حسين وقال: أن حرف (Ż) يلفظ على أنه (J) في الأبجديّة البولنديّة. وبتكرار الاستماع للمقطع الصوتي، ظهر لي أن صوت الحرف (Ż) هو دمج بين Z وJ.). بل هو أقرب إلى الأوّل من الثاني. وربّما أكون مخطئًا).
اقتباس:
جاء في الصفحة 68 من رواية “مخطوط بطرسبورغ”: “تأسس في عهده (نيكولاي الأوّل) المتحف الآسيوي الذي يعتبر منعطفًا جديدًا في تاريخ الاستشراق الأكاديمي، وصار مخزنًا مهمًّا للنوادر والآثار والمخطوطات والوثائق والنقود والمسكوكات تأتي إليه من خلال قنوات عدّة، وكان المستشرق الألماني فرين أول مدير له. وقد بقي فرين يشرف عليه ويرعى أعماله أكثر من عقدين من الزمان حتى خلفه المستشرق الألماني الآخر آلبريخت دورن”… إلى نهاية الصفحة.
شعرتُ أن هذه الفقرة، مأخوذة من مكان ما. وضعت جملاً منها في محرّك البحث “غوغل” فأحالني إلى كتاب “جهود الاستشراق الروسي في مجال السنّة والسيرة: دراسة ببليوغرافيّة” للدكتور سليمان بن محمد الجارالله. ففي الصفحتين 10 و11، مذكور المقتبس المشار إليه من رواية “مخطوط بطرسبورغ” بالنصّ والحرف. أولم يكن في مقدور الكاتب الاستفادة من المرجع على صعيد استِقاء المعلومة وحسب، وإعادة تحرير المقتبس، لا أن يستسهل الاقتباس نسخًا ولصقًا، وإدراجه في متن الرّواية؟!
منطق الأشياء والأحوال:
من جماليات هذه الرّواية، أن الرّوائي حاول أنسنة الأشياء؛ أنهار، أشجار، أوراق…، وتلك تقنيّة اتبعها ويتّبعها آخرون أيضًا، سواء في الشّعر أو الرّواية، وليست سبقًا مسجّلاً باسم صاحب “مخطوط بطرسبورغ”. وكذلك سبق وأن اتبعها جان دوست نفسه في روايتيه؛ “دم على المئذنة” ورواية “نواقيس روما”.
صحيحٌ أن تقنيّة تعدد الرّواة في “مخطوط بطرسبورغ” كانت من الثيمات الرّئيسة البارزة، وأن أولئك الرّواة في أغلبهم، لم يكونوا بشرًا؛ ورقة من مخطوط، نهر ديفنا، مدينة كارسلافا، قصر إسحاق باشا، جبل، شجرة الدفلى، نخلة، شجرة البرتقال، مدينة أرضروم، مسبحة الكهرمان…الخ. لكن، منطق الأشياء، وكذلك التخيّل الروائي، يفترض به أن يراعي مسألة في غاية الأهميّة؛ وهي الإمتاع والإقناع. فلا حرج أبدًا على الرّوائي أن يؤنسن شجرة البرتقال في مدينة يافا الفلسطينيّة، على أن تتحدّث تلك الشجرة عن ذكرياتها، مشاهداتها، تفاصيل الأحداث في محيطها القريب. أبعد من ذلك، يمكنها التحدّث عن عموم مدينة يافا. أبعد من ذلك، في عموم فلسطين. أبعد من ذلك، في بلاد الشام. لا أن تتحدّث شجرة البرتقال اليافاويّة عن التفاصيل التاريخيّة في بولونيا، والثورة البولونيّة على السلطة القيصريّة، وسحق الرّوس لها (ص100). فقط؛ لأن القنصل الروسي – البولوني؛ أوغست زابا، مرّ من يافا وسكنّها لفترة!
“انطلقت بنا العربة التي كان يجرّها جواد تركماني أشقر رشيق القوام، يقودها حوذي شاب من قوم اللاز، بعد شروق الشمس بحوالي ساعة، واتجهت إلى الغرب مسافة أربعة فراسخ قبل أن تنعطف شمالاً بدأ الجواد التركماني ينهب الطرقات كأنّه له معها ثأرًا قديمًا حتى بلغنا تخوم جبل مسجد داغ، وكانت قممه لا تزال مكللة بالثلوج” (ص179). هذا المشهد الروائي المكتوب بعين سينمائيّة، راصدة للتّفاصيل، بحيث وصفت الحصان، لونهُ، قوامهُ، حركتهُ، وحدّدت هويّتهُ (تركماني)، وهويّة الحوذي، واتجاهات السّير، وحدّدت الزّمن (بعد شروق الشمس بساعة) وقدّرت المسافة (أربعة فراسخ)، ووصفت الجبل، وأن قمّته (وليس قممه. الجبل له قمّة واحدة)، ما تزال مكللة بالثّلوج، تلك العين الرّاصدة البارعة الحاذقة، الدّقيقة في الوصف والتّقدير، يفترض بها أن تكون عين الحوذي، أو مرافقيه، أو الحصان، أو العربة. لا أن تكون عين ورقة داخل المخطوط المغلق، الموجود داخل كيس، الموجود داخل صندوق محكم الإغلاق، داخل العربة! تلك الورقة الرّاكنة في ظلمة مكانها، كيف لها تعطي القارئ تلك المشهديّة التّصويريّة الدّقيقة الوصف؟! ربّما وفق فقه التأويل والشّرعنة لدى بعض النقّاد، يمكن ذلك. لكن، ماذا لو عرفنا أن الورقة التي تتحدّث إلينا هي في الأصل محترقة!؟ يعني، رماد الورقة، أو روحها المحلّقة، يفترض أن تقصّ علينا ذلك الفصل الأخير من الرواية!
“قال الحوذي جملتهُ مبتسمًا ثم شدّ لجام الجواد الأشقر فتوقّف لفوره ونزل المرافقان بعد أن قاما بترتيب أكياس البريد المبعثرة والصناديق الصغيرة التي كنتُ مع زميلاتي أقبع في قعر صندوق منها، في صندوق العربة” (ص180). هذا ما تقوله الورقة المحترقة، وهي تستحضر ذاكرتها!؟
السّؤال المحيّر:
على أهميّة الرّواية، والأفكار التي تطرحها، والجرعة النقديّة للماضي الكردي بما فيه من انقسامات وصراعات بين الأمراء والقبائل والعشائر، (وتلك كانت سمّة العرب والتّرك والفرس أيضًا، ولم تقتصر الانقسامات والصّراعات الدمويّة الداخليّة على الكرد وحسب) الغريب في الأمر، حتّى على مستوى التخيّل الروائي، أن يختتم جان دوست روايته هذه بتحميل الكرد مسؤوليّة ضياع ذلك المخطوط، وحرقه من قبل قطّاع طرق كرد أميين وجهلة. كان في إمكانه عدم نسب قطّاع الطرق إلى ملّة بعينها، بل إلى الجهل والجريمة وحسب، لكنه نسبهم إلى الكرد. تلك النهاية، على جمالها، خلقت لدي سؤالاً محيّرًا وبسيطًا؛ لماذا؟!
خلاصة القول: هذا العمل الروائي، ليس مخطوطًا، ولا يمكن نسبه إلى بطرسبورغ، إلاّ لضرورات العنوان التي ذكرناها آنفًا. ويمكن إدراج هذه الرواية ضمن الأعمال المقبولة، لكنها ليست أفضل ما كتبه جان دوست، على امتداد مسيرته الروائيّة التي أثمرت ما يزيد عن 12 عمل روائي.
*******************
دارسة د. خالد حسين
مخطوط بطرسبورغ: التاريخ رمادًا
[1] اسم القنصل
August Kościesza-Żaba
https://en.wikipedia.org/wiki/August_Ko%C5%9Bciesza-%C5%BBaba
August Kościesza-Żaba
https://pl.wikipedia.org/wiki/August_Ko%C5%9Bciesza-%C5%BBaba
https://www.kurdishstudies.pl/?en_august-kosciesza-zaba,36
==========================