شعر

في رحيل أنخيل غيندا.. للمهاجرين قلوبٌ كثيرة

ترجمة وتقديم: خالد الريسوني

لم تكن الأشهر والسنوات الأخيرة من عُمر أنخيل غيندا فترةً للاستسلام أمام مرض السرطان، الذي ظلّ في صراع معه طيلة السنوات الخمس الأخيرة من حياته (1948 ــ 2022). ففي عام 2020، نشر الشاعر الإسباني كتابه “الانخطافات، تليها تلخيصات”، الذي قدّم فيه خلاصة حياةٍ شعرية نشر خلالها أكثر من عشرين ديواناً والعديد من الترجمات والمؤلّفات في المقالة والسرد.

وفي الفترات التي كان يعرف فيها تحسُّناً نسبياً في وضعه الصحّي، كان الشاعر المولود في سرقسطة يعمل مع ترينيداد رويث مارسيلان، ناشرة أعماله في دار “أوليفانتي”، للإشراف على إنجاز عملَيْن أخيرَيْن: “الوحي والتمرُّد” الذي جمع فيه مقالاتٍ له في النقد الفنّي، و”إقدامٌ على الحياة”، الذي يضمّ قصائد حبٍّ مختارة من أعماله. ولم يرحل غيندا، في مدريد، في 29 من كانون الثاني/ يناير الماضي، إلّا وكان هذان العملان قد خرجا إلى الضوء، في ما يشبه تحيّة وداعٍ أخيرة إلى مَن قرأوه وأحبّوه. عملان تحتفي بهما الدار، هذه الأيام، بتقديمهما إلى القرّاء في مسقط رأسه، سرقسطة.

لطالما ارتبط اسمُ صاحب “بعد كلّ شيء” بدار “ليفانتي”، التي نشر لديها، بالإضافة إلى العديد من دواوينه، أنطولوجيات شعرية وترجمات لشعراء إيطاليين وبرتغاليين وكتالونيين. كان غيندا أستاذاً للكلمة الدقيقة، وصورةً شعرية حيّة لإقليم أرغون (أو راقون)، الذي كرّمه عام 2010 بجائزته للأدب. وقد تناول الشاعر عدداً كبيراً من القضايا خلال مسيرته، من التمرّد والالتزام إلى جانب المهمّشين والمقهورين، مروراً بالشعر الميتافيزيقي، وصولاً إلى الحُبّ والشعر التجريبي.

لم تكن القصيدة، بالنسبة إليه، فضاءً للهرب من الواقع، بل مسألة حياةٍ ومواجهة: “ليس الشعر حلية جمالية فحسب، بل هو أيضاً موضوعٌ للسلوك؛ هو الشعر الذي يخدم الكائن الإنساني: أخلاقياً لممارسة الحياة، وجمالياً لتحقيق المتعة، وثقافياً لتوسيع المعرفة”. ولم يغب الموت، كثيمة، عن كتابات الشاعر الراحل، وهو الذي اعتاد أن يتذكّر أمَّهُ التي توفّيت خلال ولادته العسيرة. لكنْ، كما في سيرته الخاصّة وفي النحو الذي جاء به إلى الحياة، فإن الموت لا يأتي من دون حياةٍ: كلٌّ منهما يتغذّى على الآخر، يقول لنا صاحب “سيرة الموت”.

    غيمةٌ، جذْرٌ، ترنيمة طير: كلُّ شيءٍ يتناغمُ بالاختلاف

عمل أنخيل غيندا على تأسيس سلسلة “بويال” الشعرية عام 1977، وأدار مجلّة “مالفيس” الشعرية في الثمانينيات، كما ساهم في تشكيل جماعة شعرية مع كلٍّ من روسيندو تيُّو، وإيلديفونسو مانويل خيل ومانويل فيلاس. جُمعت أشعاره التي كتبها في السبعينيات والثمانينيات في ديوان تحت عنوان “حياة شرِهة” (1981)، وقام بتوسيعه في ديوان آخر يحمل عنوان “دير” في 1990، ليصبح هذان العنوانان أكبر عملَيْن في تجربته. انتقل إلى مدريد في سنة 1987، وهناك ستبرز تجربته المتحوّلة نحو أبعاد وتصوّرات وجودية بالأساس. على أن عزلته وانشغاله بأسئلة المعرفة والكينونة والخير والشرّ لم يمنعاه من الالتزام والتضامن مع قضايا الإنسان المقهور، والغريب، والمختلِف، والذي هو تحوّل، مع السنوات، إلى مرجعيّة لدى الأصوات الشعرية الشابّة القادمة من شتّى بقاع العالَم إلى إسبانياً.

هنا ترجمةٌ لعددٍ من قصائده.

صياغة

لا أستطيع نحْت الهواء

لا أستطيع نحْت الماء

لا أستطيع نحْت الضوء

سأصنع لؤلؤةً بالصمت.

■ ■ ■

رجلٌ سعيد

كان سعيداً وهو يقتسم

الأغاني والضحكات

العوزَ والألم.

وهو يمرح في الصقيع،

يأكل ويشرب جيِّداً،

مبتهجاً في غمرة الشمس الساطعة

وحدَه في الخلاء

أو بين الحشد.

كان سعيداً لأنه على قيد الحياة

وهو يواجه بلايا

الآخرين مثلما يواجه بلاياهُ الشخصية،

هادئاً أو مضطرباً

فاجراً يتظاهر بملامح الميّت

فوق جِلد البحر.

كان سعيداً في منفاه

عن الواقع.

سعيداً في كنَف الليلة

المتوّجة بالمصابيح،

في معارك الحبّ

التي تجعلُ الشراشفَ ترتعِشُ.

كان سعيداً وهو يهدمُ أسوار

الدمع العالية،

وهو يتحدّث إلى النجوم،

ويستمع إلى الموت.

لا يستبعد

أن يكون سعيداً تحت الأرض

ما دامت الحياة تستمرّ.

■ ■ ■

المهاجرون

يسير المهاجرون في الشوارع بأكفانٍ على أكتافهم، شواهد قبور على أكتافهم، صلبان على أكتافهم، دموع على أكتافهم، قلوب في الأيدي، سماء فوق صحراء في نظراتهم. وبأُسْرَةٍ وبلادٍ تختبئ في رؤوسهم.

للمهاجرين أكتافٌ كثيرة وقلوبٌ عديدة وأيادٍ عديدة وسيقانٌ عديدة.

يدخلون إلى المتاجر والبنوك، وإلى مخادع التلفون العمومي والحانات: بصور فوتوغرافية موشومة تحت ذراع، وتوابيت تحت الذراع الأخرى.

لا أحد يرى تلك الأكفان، شواهد القبور تلك، تلك الصلبان، وتلك الدموع، وتلك القلوب، وتلك الأُسَر، وتلك البلدان، وتلك الصور، وتلك التوابيت، لا السماوات ولا الصحارى.

هُم لا ينظرون إلينا في أعيننا: يعلمون أننا عميان!

■ ■ ■

لربما أنتم تعرفون

لستُ أدري، أستمع إلى أناشيد داخلَ الدموع.

كان لديّ بيتٌ بنوافذ في السقف:

وكنت أرى أسماك القرش وسلاسل جبلية وقطارات تحلّق.

ربما أنتم تعرفون، أنا فقط أغنّي.

لا أعرف جيّداً ما السلام:

لقد أتيتُ متأخّراً إلى الحرب.

العاصفة خلف الجبل،

أحمل على كاهلي دويَّ ضوئها.

ربما أنتم تعرفون، أنا فقط أغنّي.

ترتعشُ قدماي

عندما يتردَّدُ صدى الصمت

لست أدري ما إذا كان للكلمات دمٌ.

ربما تعرفون، أنا فقط أغنّي.

لست أدري لماذا يترنَّح الدُّوار

لمَّا أنظرُ إلى القِباب،

لكني أحسُّ فوران النفط في صدري.

ربما تعرفون، أنا فقط أغنّي.

بلادي لعبةٌ مُلغِزةٌ

عند أدنى ضربة ستتفكّك أشلاؤها:

حينئذٍ لن تكون لي بلاد.

ربما تعرفون، أنا فقط أغنّي.

من الطائرة كنت أرى فوق البحر

قطعانَ فيلةٍ متحجّرة،

جِمَالاً متمدِّدَة وظلالَ تماسيحَ:

قالوا لي إنها جُزُرٌ يونانية.

ربما تعرفون، أنا فقط أغنّي.

أهربُ، دائماً أهربُ: ربما خلْفَ الأبواب

التي انتُزِعَتْ مفصلاتُها وأقفالُها

وعلى مَتْنِ الجذواتِ، تركضُ غير قابلةٍ للكبحِ

لكي تهتف لنُباح البحر.

ربما تعرفون، أنا فقط أغنّي.

يجبُ أن يكون الشِّعْرُ قَصِيّاً،

دويَّ العوالَمِ وعناقَ البارود،

تشذيبَ الظُلماتِ بالمشاعِلِ،

ثُقْبَ الدهشةِ والسُّكْر.

ربما تعرفون، أنا فقط أغنّي.

لست أدري ما تطلبه أشجارُ الليمونِ من الشمس.

أجهلُ أسرار الطحالب وقناديل البحر.

ولستُ أدري أيضاً ما إذا كانت هذه قصيدةٌ

أو ممَرٌّ صغيرٌ للنَّمْل.

ربما أنتم تعرفون، أنا فقط أغنّي.

■ ■ ■

النظرة

مثل مفتاحٍ كان يفتحُ الهواءَ

لألغازِ الشفافية.

كان يستدعيني مثل نافذة

أو موعدِ السماء مع البحر.

كان بإمكاني أن أعيش في وهجها

أو أنتظر أن أموت مثل حادثة غرق سفينة.

لأن تلك النظرة لم تكن لعيونٍ

وتلك العيون لم تكن من أيّ عالَم.

■ ■ ■

الاختلاف

كلُّ شيءٍ يتناغم بالاختلاف:

صحراء الصقيع، الشجرة في الصخرة،

الغضب الناعم للبحر والنجوم.

نُوْلَدُ شفيفين مثل الهواء،

ونصير مُعتمين مثل الرخام.

يستطيع المرء أن يتحمّلَ الكثير من الألم

مثلما المتعة قادرة على تلقّيه.

حجرٌ، عشبٌ، نارٌ، ماءٌ،

نورٌ وظلامٌ وعاصفةٌ من رمال:

كلُّ شيءٍ يتناغم بالاختلاف.

المدينة بينما أنتَ تنام

تُطهِّرُ الصمتَ الذي يجعلُ كلّ شيء جديداً.

ليس لأحد موطنٌ آخرُ غير عزلته،

لا أحدَ يصل إلى أحدٍ إذا لم يكن للرّحيل.

يمتلكُ الحُبَّ بين ذراعيه

النَّهجَ الفظيعَ لكتمِ الأنفاسِ.

كلّما ملأنا بالآخر أفرغنا.

غيمةٌ، جذْرٌ، ترنيمة طير:

كلُّ شيءٍ يتناغمُ بالاختلاف.

■ ■ ■

موتٌ

الموت هو ألّا تكون موجوداً مرّةً أخرى

في الوقت ذاته،

في الأماكن نفسها،

مع الأشخاص ذاتهم.

ألّا تظهرَ كُلَّ صَبَاحٍ،

مثل ذلك الضوء الجديد الشاسع

المتحلّل بين الأشياء؛

هو ترْكُ الأشغال مُتوقّفة،

والأسفار في نقطة اللاحركة.

غريباً عن البحار وعن النجوم.

الموت هو أن تكونوا ساكنين وَصُمَّاً،

عميانَ وخُرساً ومفقودين،

منفصلين عن الجميع وعن كلّ شيء،

وعَنَّا أيضاً.

ألّا نَعود إلى البيتِ أبداً.

ألّا نُصدر إشاراتٍ، وألّا نستقبلها أيضاً.

الموتُ هو ألّا نعود.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى