نقد ومقالات

منابر النشر وحرية ما يُنشر/ نادية هناوي

تتنوع وسائل النشر الثقافي وتتباين في توجهاتها وأغراضها وتعدد مبتغياتها لكنها تلتقي في أنها ملتزمة في نشر المقالات والأخبار والمتابعات بالبنود المعهودة التي تواضعت تلك الوسائل على اتباعها بهذه الدرجة أو تلك وإن تفاوتت في حجم المساحات المتاحة للتعبير عن الآراء وإثارة الجدالات في مسائل وظواهر معينة، يُراعى فيها ألا تتعارض أو تتضاد مع المبادئ الأساسية والسياسة المركزية لجهة الإصدار، جريدةً كانت أم مجلةً أم موقعاً.

ولا خلاف في أن التمتع بحدود معينة في التعبير الحر هو دليل على الروح الثقافية المتفتحة ومؤشر مهم على النزوع التمدني، تماشياً مع ما يشيع في العالم اليوم من تعدد وتنوع واندماج في اللغات والهويات والثقافات والأديان والحضارات.

ولا يفهم من القول بحرية الرأي أن ننشر ما نشاء وكيفما اتفق فلا نراعي ضوابط النشر وآلياته التي في مقدمتها احترام الآخر/ فرداً كان أم مؤسسةً، وعدم التعدي على خصوصيته مع ضرورة مراعاة الجدة في النشر والإضافات العلمية الناجمة عن تحري الدقة وتوخي الموضوعية وعدم الانتقاص أو الابتذال في التعابير كمفردات وتراكيب وكل هذه أمور مفروغ منها ويعرفها من مارس النشر الثقافي وتمرس فيه.

وصحيح أن لكل موقع ثقافي أو جريدة ومجلة منهاجها كما لها توجهاتها الفكرية الخاصة، إلا إن حرية التعبير تظل سياقاً مهماً من سياقات النشر في العموم. ولسنا نريد بحرية الرأي أن تنشر الجريدة ما يعارض مبادئها أو أن ينشر الموقع ما ينافي توجهاته ومبدئيات عمله، كما لا نعني بحرية الرأي التمادي في الحرية الشخصية. إذ من حق أي منبر ثقافي أن ينشر ما يلائم الغرض الذي تأسس من أجله وبحسب مبادئ متفق عليها وبقناعة ضمنية تكفل حرية الرأي وتعدديته. وهو ما تحرص أغلب المنابر على تطبيقه من خلال وضع ملاحظة في مكان واضح من واجهتها تؤكد فيها أن حرية التعبير مكفولة من جانب، وبسياقات وضوابط معترف بها ولا يجوز تخطيها من جانب آخر.

وبسبب هذه الحرية المنضبطة كتب أدباء ومفكرون مقالات مهمة في الثقافة والفكر والأدب صححت مساراتٍ ونشرت وعياً وخلقت تنويراً وعرّفت بما هو جديد ومبتكر. وهذا هو ديدن الصحافة الثقافية الحرة والواعية التي شهدت جدالات ومحاورات أبان القرن الماضي ثم أخذت بالانحسار تدريجياً حتى انقرضت في الآونة الأخيرة تقريباً، فلم نعد نجد مثل تلك المحاورات الأدبية والسجالات الفكرية مع أنها دليل جدية ومؤشر على النزعة الديمقراطية والانفتاح في التفكير.

وإذا كانت مساحة النشر اليوم قد توسعت في صورتها الرقمية فكثرت المواقع الثقافية الإلكترونية المهتمة بمسائل الشعر والقصة والرواية والمسرح والدراما والفنون وبأبواب متنوعة، فإن من الطبيعي أن يصير النشر متحصلاً وميسوراً لمن يشاء ومتى شاء داخل بلده أو خارجه.

ومما يزيد في الإقبال على النشر في مثل هذه المواقع الثقافية الإلكترونية ليس لأن أغلبها متاح وسهل حسب، بل أيضا لأن القائمين عليها قد لا يدققون في المواد المرسلة إليهم، ومن ثم ينشرون ما يصل إليهم على علاته اللغوية والعلمية على أساس أن مَن يَنشر هو الذي يتحمل مسؤولية ما ينشره سلباً أو إيجاباً وبحجة إتاحة فرصة النشر لغير المعروفين مما لا توفره وسائل النشر الورقية مثلاً.

بيد أن أمر الإتاحة والمجانية قد تكون له عواقب سيئة على الثقافة بالعموم والصحافة الثقافية بالخصوص وذلك حين لا تُراعى شروط النشر الثقافية بقدر ما تُراعى المنافع والمبتغيات غير الثقافية وبطريقة قد تخرج عن اللياقة والموضوعية. وما دام لا رقيب ولا حسيب في مواقع معينة، إذن فلينشر المرء ما يريد نشره، ساطياً كان على بحث هذا أو مغيراً على مقالة ذاك أو سارقاً من هذه الدراسة سطوراً أو مغتصباً من تلك المدونة مثلها. والمحصلة نشر مقالة يكتب عليها اسمه، مدعياً العلم جهلاً، ومغالطاً نفسه زوراً، وخادعاً القراء بهتاناً. وفي هذا كله نسف لتقاليد الصحافة الثقافية التي طالما عمل الجيل الرائد والأجيال التي لحقته على ترسيخها وجعل العمل على وفقها مفروغاً منه ضمنياً وشكلياً.

وقد يساهم الموقع الثقافي نفسه في عملية نسف هذه التقاليد حين يتهاون في تدقيق ما يصله من مقالات وكتابات تتخذ أشكالا شتى أدبية ونقدية وفكرية، فلا يراعي في نشرها الجدية والموضوعية، بل ينشر الغث مع السمين والمهلهل مع الرصين، وقد يقدم زيفاً وتصنعاً أسماء أناس ككتّاب ونقاد مع أنهم ما تمكنوا من حرفة الكتابة بعد، ولا امتلكوا شروطها.

ومثل هذه التهاونات من لدن بعض مواقع الثقافة الإلكترونية وأحيانا الورقية هو ما يجعلها تجذب من تسول له نفسه أن يكون كاتباً على حساب غيره ساطياً على كتابات الآخرين وينشرها باسمه. وإذا كاشفنا هذا الموقع بأن فلاناً نشر عندهم مقالات سطواً وسرقةً، فانه يعتذر بأن لا معرفة له بالأمر ويطالبنا بالتستر وعدم فضح السارق لما في ذلك من ضرر على مستقبل الأخير، بل الأدهى من ذلك أن يرفض نشر إيضاح صاحب الحق الذي يبغي وضع الحقيقة في نصابها فينبّه القراء ويفضح السارق. وهذا الرفض يتنافى مع سياسات الملكية الفكرية المقررة والراسخة كحق مصون لا تهاون فيه.

ولقد مررت شخصياً بتجربة من هذا القبيل مع موقع ما، وفيه سطت أحداهن على مقالاتي ونشرتها فيه من دون أية إشارة إلى اسمي أو مصادري حتى إذا أعلمت الموقع وبينت مواطن السطو، أقرّ بها؛ لكنه ناشدني التستر على الموضوع، فاستجبت إلى ذلك، مكتفية بتكفله إخبارها بالأمر وإيقاف التعامل معها لكن الموما إليها لم ترعوِ ولم تكتفِ بالنشر الأول فراحت تكرر نشرها في أماكن أخرى مما يدلل على إصرارها في نسبة ما ليس لها لنفسها، فأرسلت إلى الموقع مقالة توضيحية لكنه اعتذر عن نشرها.

أليس خطراً على الثقافة أن تتهاون منافذ النشر في أمر السرقات والتجاوز على إنتاج الغير؟ ثم ما ذنب القراء وهم يقرأون في مثل هذه الوسائل ما هو مسطو ومسروق؟ وهل يصح أن نجعل من الصفحات الثقافية مكانا دعائيا تُصنع فيه نجومية موهومة أو زائفة؟

إن ما هو مهم وينبغي العمل به دوماً هو ضرورة ألا تغيب ضوابط نشر المقالات والأعمدة عن أعين القائمين على وسائل النشر، وحريٌّ بكل محرر ثقافي أن يكون كالموظف العام واجبه الخدمة العامة للمبادئ الخاصة والعامة وأن ينأى في تعامله مع المواد المرسلة إليه عن سلوك الاستبداد والتفرد والتعصب، فالصحافة الثقافية ليست ملكاً شخصياً لمحرريها.

إن خطورة هذه الظاهرة ليست في التعدي على الملكيات الفكرية حسب، بل في انتهاك حرمة النشر واللامسؤولية في إشاعة سياقات زائفة تحل محل تقاليدنا الرصينة وتتيح المجال لمن يريد التسلق بطرق غير مشروعة، متصوراً أن الثقافة هي السلّم الذي عليه يصعد زيفاً وتزلفاً، متعكزاً على الغفلة والصدفة.

*كاتبة من العراق

القدس العربي

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button