الموسيقى المشوَّشة التي تأتي من الأشجار / لويز غليك
«في طفولتنا، ننظر مرّة واحدة إلى العالم، وما يبقى هو مجرّد ذكرى»
ترجمة: الخضر شودار
حياة جديدة
نمتُ نومَ المطمئنّ،
ثم نمتُ بعده نوم الجنين
الذي جاء إلى العالم
حاملًا معه كثيرًا من الجرائم.
أيّ جرائم هذه
لا أحد يعرف منذ البدء.
فقط بعد أعوامٍ كثيرة يُدرك الواحد منّا ذلك،
بعد حياة طويلة يصير المرء قادرًا
على فهمِ المعضلة.
بدأت أرى الآن
طبيعة روحي، الروح
التي أسكنها كلعنة
لا تلين حتى في الجوع.
كنت أعيش في حيواتي الأخرى
متلهّفة، متحمّسة،
تلهفي سبب في شقاء العالم.
أختال كالمستبد؛
لكل هيامي،
بقلب بارد، في ابتذال.
نمتُ نوم المطمئن؛
عشت حياة المجرم
أرد دينا مستحيلا.
ومتُّ بعد أن أجبت
عن جنس واحد من أجناس لا ترحم.
امتنان
لا تظن بأنّي لست ممتنة لطيبتك
الصغيرة تجاهي.
أنا بالأحرى أحبّ الأفعال الطيّبة الصغيرة.
حقا، أفضلها أكثر
على الطيبة الكبيرة التي تحدّق فيك على الدوام
كصورة حيوان عظيم على السّجّاد
إلى أن تنكمش حياتك كلها
إلى لا شيء سوى أنك تستيقظ يوما بعد يوم
صغيرا وهالات الشمس الحارقة تتوهّج.
المرآة
أتساءل وأنا أنظر إليك في المرآة
ماذا يعني أن تكون جميلا
ولماذا أنت لا تحب
سوى أن تجرح نفسك، مثلما أعمى
يحلق ذقنه. أظنّك تتركني أنظر إليك طويلا
كي تنقلب ضد نفسك
بكثير من العنف،
قاصدًا أن تريني كيف تزيل البشرة
بازدراء وبلا تردد
إلى أن أراك تماما كما أنت
رجلا ينزف، وليس الصورة
التي أتوق إليها في المرآة.
الحصان والخيّال
في إحدى المرات، كان هناك حصان، وعلى الحصان خيّال. كم كان جميلا منظرهما في شمس الخريف، وهما يقبلان على مدينة غريبة! احتشد أناس في الطرقات وهتفوا من أعلى النوافذ. نساء عجائز جلسن قرب أصص الأزهار. لكنّك، عبثًا تنظر، حين تنتبه من حولك إلى حصان آخر أو خيّال آخر. صديقي، قال الحيوان، لماذا لا تتركني؟ ستعثر، بنفسك، على طريقك هنا. لكن، أن أتركك، قال الآخر، سيكون عليّ أن أترك ورائي جزءًا مني، وكيف لي أن أفعل ذلك وأنا لا أعرف أيّ جزءٍ من أجزائي أنت.
العودة
في البداية، حين غادرتَ
تملكني خوف: ثم
في الطريق جذبني شابّ
كانت عيناه في عيني
صافيتين وحزينتين: فناديت عليه
بأن يدخل، وكلّمته بلغتنا نحن الاثنان
لكنَّ يديه كانتا يديك
تعبران، بكل لطف، عن توقهما القاتل
ثم لم يعد يهمني شيء
ومن منكما ناديت
كان جرحي عميقًا.
هي ذي ملابسي السوداء
أظنّ من الأفضل ألا أحبّ أحدًا
على أن أحبّك. ها هي ثيابي السوداء،
بيجاماتي المترهلة وفساتيني البالية
في أكثر من مكان. لماذا عليها أن تظلّ معلّقة
بلا جدوى كما لو أني سأكون عارية؟ كنتَ تحبني كثيرا
في الأسود: سأهديها إليك إذن
فقد تشتهي أن تلامسها بشفتيك أو تمرر أناملك
على ملمسها الطري الرقيق، فأنا
في حياتي الجديدة، لن أكون في حاجة إليها.
رجل وامرأة في الحديقة
“رجل يمشي وحيدًا في الحديقة و بالقرب منه امرأة تمشي وحيدة، هي أيضا. كيف لنا أن نعرف؟ كما لو أن خطا بينهما، مثل خط مرسوم في ملعب. ومع ذلك، قد يبدوان في صورة فتوغرافية زوجين، وقد ملَّ كلاهما من الآخر، من الشتاءات الكثيرة التي قاساها معا. ربما كانا، في زمن آخر، غريبين على وشك لقاء بالصدفة. أوقعت هي كتابا، وانحنت لتلتقطه، فلامست خطأ يدَه وانفتح قلبها مثل صندوق موسيقى الأطفال. فخرجت من الصندوق باللرينا صغيرة من الخشب. أنا من صنع هذا، يظن الرجل؛ حتى وإن دارت في مكانها فقط، فهي راقصة من نوع ما، وليست مجرّد قطعة خشب. هذا يفسّر، حتمًا، الموسيقى المشوَّشة التي تأتي من الأشجار”
الفستان
جفّت روحي
كما تجفّ روحٌ في نار، ليس كليًّا،
ولا إلى حدّ العدم،
متفحّمة،
لا تزال هشّة،
لا من العزلة ولكن من عدم الثقة،
وعواقب العنف.
طلب من الروح أن تغادر الجسد،
وتقف أمام الأنظار، لحظة،
ترتعش، كما من قبل
في عرضك على الإله –
روح أخرجتها من عزلتها
وعود المنّة الإلهيّة،
كيف ستصدقين ثانية
حبّ كائنٍ آخر؟
ارتعشت روحي وانكمشت.
صار لها الجسد كثوب فضفاض.
وحين عاد إلي الأمل
كان، كليًّا، أملا آخر.
رعبٌ أرضيّ
وقفت عند بوّابة مدينة غنيّة.
كان لديّ كلّ ما تريده الآلهة؛
كنتُ جاهزة: أعباء
الاستعداد كانت مضنية.
واللحظة المناسبة، كانت
لحظتي.
لماذا كنت خائفة؟
اللحظة كانت مواتية؛
والردّ لا محالة جاهزًا.
على شفتيّ
ارتجفت الكلمات لأنّها كانت
الكلمات الصائبة. مرتعدةً –
كنت أعرف لو أني فشلتُ في الرد
سريعًا بما يكفي، سيقصونني.
تذكار
أين يا ترى أكون بلا حزني،
حزن من صنع حبيبي،
دون بادرة منه، هذه الأغنية
آخر كل الهدايا بقاء؟
كيف لك أن تموتي
فيما أورفيوس يغنّي؟
موتٌ طويل؛ على مدار الطريق إلى ديس
كان يتناهى إلى سمعي.
عذاب الأرض
عذاب قاتل
أحيانا أرى
قد طُلب منّا أكثر مما ينبغي؛
أحيانًا أرى
أن عزاءنا هو أغلى شيء.
على طول الطريق إلى ديس
سمعت زوجي يغنّي،
بقدر ما أنت تسمعني الآن.
ربما كان الأمرُ أفضل كذلك،
حبّي البكر في رأسي
حتى في لحظة الموت
ليس الجواب الأول –
فقد كان ذلك مرعبا –
ولكنه الأخير.
يوطوبيا
حين وقف القطار، قالت المرأة، عليك أن تركبي فيه. لكن كيف لي أن أعرف بأنه قطار وجهتي؟ سألت الطفلة. سيكون قطارك، قالت المرأة، لأنه على التوقيت. اقترب قطار من المحطة؛ سحبُ دخانٍ رماديّ تصاعدت من المدخنة. كم أنا خائفة، فكّرت الطفلة، قابضةً على أزهار التّوليب الصفراء التي ستهديها إلى جدتها. شعرها مربوط في ضفائر محكمة لتحمّل الرحلة، ثم ودون أن تنطق بكلمة، صعدت في القطار، الذي يصلها منه صوت غريب، ليس كاللغة التي تتكلّمها، شيءٌ كأنّه أنينٌ أو نحيب.
رثاء
فظيع ما يحدث- حبي
يموت مجدّدا، حبي الذي مات من قبل:
مات وحزنت عليه. الموسيقى مستمرة،
موسيقى الفراق: الأشجار
وهي تصير آلات عزف.
كم هي قاسية الأرض، لمعان الصفصاف،
انحناءة وتنهدات البتولا.
يا للقسوة، يا للرقة العميقة.
حبي يحتضر؛ حبي
ليس شخصا وحسب، لكنه فكرة، حياة.
ما الذي سأعيش لأجله؟
أين سأعثر عليه ثانيةً
إن لم يكن في حزن، في غابة موحشة،
التي منها صنع العود.
مرّة واحدة تكفي. مرة واحدة تكفي
لنقول وداعا على الأرض.
ونحزن أيضا.
مرة واحدة تكفي لنقول وداعا إلى الأبد.
يتلألأ شجر الصفصاف قرب النافورة الحجرية،
وممرات الزهر المجاورة.
مرة واحدة تكفي؛ لماذا هو حيّ ثانية؟
لوقت قصير في الحلم فقط.
حبّي يموت: الرحيل بدأ من جديد.
من وراء الصفصاف
يلوح ضوء الشمس ويتوهّج،
ليس الضوء الذي نعرف،
والطيور تغرّد ثانية، حتى الحمامة الحزينة.
آه، لقد غنيت هذه الأغنية. وقرب النافورة الحجريّة
يغني الصفصاف من جديد.
برقة لا توصف، ويغمس أوراقه
في المياه المشعة.
من الواضح أنهم يعلمون، أجل يعلمون. أنه يموت مرة أخرى،
والعالمُ أيضا. يموت فيما بقي من حياتي،
هذا ما أراه.
الأعمار السبعة
في حلمي الأول ظهر العالم
الملح والمرّ والمحرم والحلو
وفي حلمي الثاني هبطتُ
كنتُ إنسانًا، لم يكن لي أن أرى شيئا
الوحش الذي هو أنا
كان عليّ أن ألمسه، أن أحتويه
اختبأت في البساتين
وعملتُ في الحقول إلى أن تعرت الحقول-
زمن
لن يعود أبدًا،
حزمة القمح اليابس، صناديق
التين والزيتون.
بل أحببت مرات قليلة على طريقتي البشرية المملة
وككل الآخرين قلت عن ذلك الإنجاز
بأنه حريّة جسديّة
لا معقول كما يبدو.
جمع القمح وخُزّن، جفّ
آخر الفاكهة: الوقت.
الذي ادّخر، الذي لم يستعمل أبدًا
هل ينتهي هو أيضا؟
في حلمي الأول ظهر العالم
الحلو، المحرم
لكن لم تكن هناك حديقة، مواد
خام وحسب.
كنتُ إنسانا
وكان عليّ أن أتوسّل لأهبط
الملح، المر، الضروري، الأولي
وككل واحد، أخذت، أخذوني،
وحلمت
تعرضت للخيانة:
في حلمي منحت الأرض لي
وفي الحلم ملكتها.
أم وطفل
كلّنا يحلم؛ لا ندري من نحن.
صنعتنا بعض الآليات؛ آلية العالم، القرابة العائلية.
ثم العودة إلى العالم، وقد هذبتنا السياط الناعمة.
نحلم؛ ولا نتذكر.
آلية العائلة: فراء غامق، أدغال جسد الأم.
آلية الأم: في داخلها مدينة بيضاء.
قبل ذلك: تراب وماء
طحلب في شقوق الصخور، بقايا أوراق وعشب.
قبل ذلك، خلايا في ظلمة حالكة.
وقبل ذلك، العالم المغشّى.
لهذا ولدت: لإخراسي
خلايا أمي وأبي، لقد جاء دورك
كي تتحوّري وتصيري تحفة.
ارتجلت؛ ولم أتذكر أبدا.
حان دورك الآن للانسياق؛
أنت من أراد أن يعرف:
لماذا أنا أتألّم؟ لماذا أنا جاهلة؟
خلايا في ظلمة حالكة، بعض آليات صنعتنا؛
إنه دورك لمواجهة، أن تعودي إلى السؤال
لأيّ شيء أنا؟ لأيّ شيء؟
تخيّل
فيما طويتُ آخر صفحة، بعد ليال كثيرة، غمرتني نوبة حزن. أين اختفى جميعُهم، هؤلاء الذين كانوا حقيقةً؟ وكي أشغل نفسي، خرجت، تلقائيا، إلى الليل، وأشعلتُ سيجارة. في الظلام، أشعّت السيجارة، مثل نار أشعلها مستغيث. لكن، من يرى هذه النقطة الصغيرة بين نجوم لا حدود لها؟ بقيت فترة في الظلام، والسيجارة تومض وتتضاءل، كل نفَس أسحبه بلذّة يدمرني. كم كان ذلك قليلا وقصيرا. قصير، قصير حقًّا، لكنّه، في داخلي الآن، ما لم تكنه يومًا النجوم.
شباب
أنا وأختي على طرفي الصوفا،
نقرأ (فيما أظن) روايات إنجليزية.
التلفزيون مفتوح؛ كتب مدرسية كثيرة مشرعة،
أو مواضع مشار إليها بورق.
إقليدس وبيتاغوراس. طالما نظرنا في
أصول الفكر والروايات المفضلة.
ألحان حزينة لنمونا –
خفوت تشيللو. لا أثر
للناي أو بيكولو. كان يبدو لحظتها
من المستحيل تصور أي شيء منه
كتقدم أو مرونة.
ألحان كئيبة. حكايات
كانت لا تزال حياة صامتة.
صفحات روايات تُقلب؛
وشخير الكلبين بهدوء.
ومن المطبخ
ضجة أمنا،
عبق إكليل الجبل، ولحم ظأن مشويّ.
عالم في طريقه
إلى التحوّل، للتخلّق أو التلاشي،
ومع ذلك لم نعش بتلك الطريقة،
كل منّا عاش حياته
كتقليدٍ طقوسيٍّ متزامن
لمبدأ عظيم، شيء
شعرنا به ولم نفهمه.
والملاحظات التي خرجنا بها كأنها سطور في مسرحية
تؤدى عن قناعة لا عن اختيار.
مبدأ، لعزم عائلي مُخيف
يحمل رفضًا للتغيير، للتنوّع،
رفض حتى أن تسأل أسئلة –
الآن حين بدأ العالم
يتحوّل ويدور حولنا، الآن فقط
حين لم يعد له وجود.
صار الحاضر: لا نهاية له ولا شكل.
من يوميّات
كان لي حبيب مرةً
كان لي حبيب مرّتين
بسهولة أحببتُ ثلاث مرات.
وفيما بين ذلك
استعاد قلبي نفسه كليا
مثل دودة.
أحلامي، أيضا، استعادت نفسها من جديد.
بعد وقت، أدركت بأنّي كنت أعيش
حياةً سخيفة تماما.
سخيفة، ومهدورة –
ثم فيما بعد، أنا وأنت
شرعنا في الرسائل، مبتكرين
شكلا جديدًا كليًّا.
حميميّة عميقة على مسافة عظيمة!
من كيتس إلى فاني براون، من دانتي إلى بياتريس –
ليس في وسع الواحد أن يخلق
شكلًا جديدًا
في طبعٍ متأصّل. الرسائل التي أرسلتُ ظلت
سخرية خالصة، متحفظة
وبالمثل صريحة. فيما كنتُ أكتب
رسائل مختلفة في رأسي
صار بعضها قصائد.
كثير من المشاعر الحقيقية
كثير من البوح الحار
من الشوق!
أحببتُ مرّةً، أحببتُ مرّتين،
ثم فجأة
انهار الشكل: كنت
عاجزة عن تحمّل التجاهل.
كم كان محزنًا أن أخسرك، أن أخسر
أيّ فرصة لمعرفتك
أو أن أتذكرك على مدار الوقت
كشخص حقيقيّ، كأحد كان ممكنا لي
أن أرتبط عميقا به، ربما
كأخ لم يكن لي أبدا.
كم هو محزن التّفكير
في الموت قبل معرفة
أيّ شيء. أن ندرك
جميعنا، جهلنا الكبير معظم الوقت،
أننا كنا نرى إلى الأشياء
كقنّاص، من زاويتنا فحسب.
كانت هناك أشياء كثيرة
لم أخبرك بها عني،
أشياء ربما جعلتك تميل إلي.
والصورة التي لم أرسل أبدا، التقطتُها
في الليلة التي كدتُ أن أكون فيها فاتنة.
كنتُ أريدك أن تقع في الحب. لكن السهم
ظلَّ يرشق المرآة ويرتدّ عائدا.
وظلت الرسائل تنقسم على نفسها
بنصفها الذي لم يكن صادقا تماما.
محزن، كونك لم تنتبه
إلى أي شيء من هذا، مع أنك كنت دائما تردّ
بإيجاز، دائما بالرسالة المراوغة ذاتها.
أحببتُ مرّةً، أحببتُ مرّتين،
وبالرغم من أنّ الأشياء
كما في حالتنا، لم تنطلق أبدا
فقد كان شيئًا جميلا أن نحاول.
ما زالت الرسائل في حوزتي، طبعاً.
في مآتي الأوقات، سأستغرق أعوامًا
في إعادة قراءتها بالحديقة
مع كأسٍ من الشاي المثلّج.
أشعرُ، بأنّي، أحيانًا، جزءٌ من شيء
عظيمٌ حقًّا، عميق كليا وساحق.
أحببتُ مرةً، أحببتُ مرّتين،
بسهولة، أحببتُ ثلاث مرات.
نظرية الذاكرة
منذ زمن بعيد، بعيد جدا، قبل أن أكون فنّانا قلقًا، لم يعذبه الحب بعد، عاجزًا عن صنع علاقة دائمة، قبل هذا بكثير، حين كنت حاكمًا سيّدًا يوّحد بلادا منقسمة – أخبرتني عرّافة تقرأ كفّي. أشياء عظيمة، قالت، أمامك، وربما وراءك؛ من الصعب القطع باليقين. ثم أضافت، ما الفرق؟ أنت، الآن، طفل تمسك بيديه عرّافة. الباقي كله تخمين وحلم”.
باب بلا لون
أخيرًا في منتصف العمر،
تغريني العودة إلى الطفولة.
البيت هو نفسه، لكن
الباب مختلف.
لم يعد لونه أحمر – خشب بلا لون.
الأشجار نفسها: السنديان والزان.
لكن الناس – سكان الماضي جميعهم –
غادروا: اختفوا أو ماتوا أو رحلوا.
أطفال الجهة الأخرى من الشارع
عجائز رجال ونساء.
كانت الشمس ذاتها، العشب
اليابس المصفرّ صيفًا.
لكن الحاضر مليء بالغرباء.
كل شيء هو، على نحو ما، ذاته تماما،
تماما كما أتذكره: البيت، الشارع،
والقرية المزدهرة –
لا أن أطالب بها أو أدخلها
لكن أن أجعل الصمت
والبعد مقبولين.
المكان والوقت كمسافة،
برهافة عالية من الخيال والحلم –
أذكر طفولتي كأمنية بعيدة في أن أكون في مكان آخر.
هذا هو البيت؛ حتما
هذه هي الطفولة التي في رأسي.
مفترق طرق
جسدي، الآن وبما أننا لن نسافر معا طويلا،
بدأتُ أحسّ بشعور جديد من الرقة نحوك، بكر وغير مألوف،
يشبه ما أتذكره من الحب في شبابي –
حب كان عادة جنونيًّا في مبتغاه
لكن أبدا في اختياراته، وولهه.
يطلب الكثير مسبقًا، الكثير مما لا يمكن الوفاء به –
كانت روحي مخيفة حقا، وعنيفة:
سامحها على قسوتها.
فمع أنها كانت كذلك، كانت يدي تمرّ حولك برفقٍ،
لا نيّة لها في أذى،
بل تتوق، في النهاية، أن تكمل تعبيرها لك كجوهر:
ليست الأرض هي ما سأشتاق إليه،
لكنّه أنت الذي سأشتاق إليك.
عُزلة
مظلمٌ كثيرا هذا النهار؛ في المطر،
الجبل لا يُرى. وحده صوت المطر، ذاهبا بالحياة إلى عمق الأرض. مع المطر يأتي البرد. لا قمر الليلة، ولا نجوم.
تهب الريح ليلا؛ تجلد القمح طوال الصباح – تسكت عند الظهيرة. لكن العاصفة استمرّت، تبلل الحقول اليابسة، وتفيض عليها –
اختفت الأرض لا شيء يرى، وحده المطر يلمع على النوافذ المعتمة. هذا مكان للراحة، حيث لا شيء يتحرك –
الآن نعود إلى ما كنّا عليه من قبل حيوانات تعيش في الظلام بلا لغة ولا رؤية –
لا شيء يقول بأني على قيد الحياة. ليس هناك سوى المطر، المطر الذي لا نهاية له.
في الساحة
لأسبوعين كان يترقب الفتاة نفسها،
واحدة ممن يراهن في الساحة، لعلها في العشرين،
تحتسي قهوة ما بعد الظهيرة، برأسها الصغير الأسود
مائلا فوق مجلة.
هو يتطلع من الساحة، متظاهرًا
بشراء شيء، سجائر، ربما باقة ورد.
ولأنه لا علم لها بوجوده،
قوّتها أكبر الآن، امتزجت بحاجته إلى التخيّل،
هو أسيرها. تنطق بكلمات منحها إياها
في صوتها الذي يتخيله، هادئا وناعما،
صوت من الجنوب كصاحبة الشعر الأسود التي هي حتمّا من الجنوب.
عاجلا، ستعرفه، وتترقب مجيئه.
ربما كل يوم ستغسل شعرها،
وتنظر خارجًا عبر الساحة قبل نظرها إلى تحت.
ثم سيصيران عاشقين.
لكنّه يتمنّى ألا يحدُث ذلك سريعًا
كيما كان تأثيرها الآن على جسده، وعلى عاطفته،
لن يكون لها تأثير حين تلزم نفسها به –
ستنسحب إلى ذلك العالم من الشعور
الذي تدخله النساء حين يقعن في الحب. وأن تعيش هناك، ستكون
كمن لا ظل له، ولا حضور في العالم؛
وبهذا المعنى، غير المألوف له
فإنه نادرا ما تهمّه هي، أن تحيا أو تموت.
نافذة مفتوحة
كاتبٌ مُسِنّ اعتاد أن يكتب عبارة “النهاية” على قصاصة ورق قبل البدء في كتابة قصصه، بعد ذلك يجمع كومة أوراق، عادة ما تكون رقيقة شتاءً حين يكون ضوء النهار قصيرًا، وسميكة صيفاً حين يعود فكرُه ثانيةً طليقا ومترابطا، متداعيًا كفكر رجل في أول الشاب. وبمعزل عن عددها، يضع هذه الصفحات البيض فوق السابقة، ثم يهملها. عندها فقط، تأتيه فكرة القصة، بسيطة ونقية في الشتاء، طليقة أكثر في الصيف. بهذه الطريقة أصبح معلّما معترفا به.
كان يفضّل العمل في غرفة بلا ساعة، واثقًا بالضوء أن يخبره بنهاية النهار. في الصيف، يحب أن يترك النافذة مفتوحة. فكيف إذن، صيفا، دخلت ريح الشتاء إلى الغرفة؟ أنتِ على حق، صارخا تجاه الريح، هذا ما كنت أفتقده، هذا التصميم وهذه المباغتة، هذه المفاجأة – ياه، لو استطعت أن أفعل هذا لكنتُ إلهاً! ثم استلقى على الأرضية الباردة لمكتبه ينظر إلى الريح تتلاعب بالأوراق، مازجة المكتوب منها بغير المكتوب و “النهاية” بينهما.