مراجعات الكتب

سمر يزبك تروي احتضار جندي بريء أصابته شظايا صديقة/ ديمة الشكر

“مقام الريح” تسترجع ماضي منطقة وجماعة في قرى الساحل السوري

قال السينمائي السوري عروة نيربية مرة مجيباً عن سؤال يتعلق بتلقي السوريين للأفلام السورية الجديدة: “يتحول فعل المشاهدة إلى فعل تفحص أو تأكد… مثل فعل رقابي، عنيف تجاه الفيلم… هل تعجبني الـ’أنا’ الرمزية في الفيلم، هل تشبه الـ’أنا’ التي أراها أو أحب أن أراها؟ هل يهاجم الفيلم كل أولئك الذين أرغب في إدانتهم؟” ثم يختصر الأمر بتعبير بليغ “نظارة الفاحص”، تلك التي توضع ومن خلالها نشاهد– نحن السوريين- ونقرأ ونسمع كل نتاج إبداعي سوري جديد. نظارة قاسية لا ريب إذ ابتكرت “وظيفة” نقدية تتراوح بين حدين إما التصفيق للرمز- الأيقونة أو الاستنكار والوصم.

والحال أن على المرء ألا يضع تلك النظارة بل عليه أن يتأنى كثيراً وهو يقلب ورقة ورقة، رواية الكاتبة السورية سمر يزبك “مقام الريح” الصادرة حديثاً عن منشورات المتوسط. فالروائية التي تقيم خارج سوريا، اختارت هذه المرة مكاناً تعرفه منبتاً وسكنى وسبق أن زارته روائياً: الساحل السوري. بيد أنها زادت الجرعة- لو جاز التعبير- مكرسة روايتها لجندي دون العشرين من العمر، جندي في الجيش العربي السوري.

التاريخ الحديث والقديم

لطالما شغفت يزبك بإنشاء قوام سردي يروي الساحل السوري في تاريخه الحديث غير المنفصل عن سرديته التاريخية القديمة الغامضة، ففي “طفلة السماء” و”صلصال” و”لها مرايا” كانت مدن الساحل السوري وقراه مكان السرد بامتياز. إلا أن ما يميز “مقام الريح” هو النفس الإيقاعي المتمهل وغياب الأحداث: ثمة حدث وحيد يزين لمن يهوى الاختصار سرد الرواية بجمل قليلة.

تحكي الرواية قصة الدقائق الأخيرة من حياة جندي سوري من الجيش العربي السوري في نزعه الأخير، وحيداً على قمة جبل من جبال اللاذقية، مصاباً جريحاً، فقد ضربت قذيفة “صديقة” من طريق الخطأ الجندي علي، قتلت رفاقه في الجيش، وأبقته هناك يهذي ويغيب عن الوعي لشدة الألم، وتطوف في ذهنه المتعب لحظات قوية من حياته القصيرة قبل أن يكون جندياً.

اختارت يزبك الراوي العليم في “مقام الريح”، فجاء سارداً خفراً، محاذراً الوقوع في عطب مزعج ثقيل: كأن يبث في كل حين موعظة تزن أو حكمة تطن أو تأملاً بليداً يعكس رأي راو غير ناجح في التخفي وراءه، ميال للثرثرة. على العكس من ذلك كله، جاء الراوي العليم بقلم سمر دقيق الوصف، متأنياً في اقتناص “حسن التخلص” ليترك علي الجريح، غارقاً في هذياناته وعواطفه الغامضة وانشغالاته الغريبة: “كان يفتح عينيه على وسعهما ويتخيل أشجار تلك الجبال تركض كقطعان ماعز، تتسلق القمم، وكان يرى جذورها، وقد اقتلعت من الأرض، وجرّت وراءها صخوراً عملاقة الجذور، تحولت إلى أصابع مثل أصابعه، تمشي وتركض، وهو فوق شجرته التي تمشي به مع قطيعها الشجري، ولم يخبر أحداً بسره ذاك وبأنه قاد جيشاً من الأشجار تهرول”.

الطبيعة والخبل

تضفر سمر يزبك شخصية علي من خصلتين: شغف بالطبيعة وعقل على حافة الخبل، ثم تصوب طلقة مشرقطة: مسحة صوفية ضخمتها أمه المفجوعة بعقله الخفيف، فقررت أن علي شأنه شأن الشيوخ القدماء الأنقياء، وعملت كي تكون حياته منساقة نحو هذا الهدف: خادم للمقام والشيخ القديم أولاً، ثم شيخاً على مثال شيخه القديم.

وعينت سمر للشيخ القديم والشيخ الجديد أوصافاً واضحة: الخير والنقاء للقديم، والشر والفساد للجديد. ولا يحتاج القارئ إلى نباهة أو معلومات إضافية ليعرف التاريخ الفاصل بين زمنين: “حينها كان من يخدم المقام رجالاً صوفيين وزهاداً، وكان المشايخ يقضون أيامهم في القراءة والكتابة وتعليم أصول اللغة والدين والشعر. ولهم سلطة روحية واجتماعية على طائفتهم، ثم نشأت طبقة جديدة من المشايخ، ظهروا في ثمانينيات القرن الماضي مع تعزيز سلطة الرئيس الأب، وهؤلاء لم تقترب منهم الحميرونة، أخذت علومها من شيوخ كبار رحلوا”.

تمثل الحميرونة بدورها الماضي التليد، فلا تنفك تتذكره وتستحضره من دون أن يكون كلامها مباشراً أو ثقيلاً. وقد أوتيت تلك العجوز البذيئة “علوماً غريبة”، وهي بمثابة أم ثانية للجندي علي، كما أنها صورة عن التمرد في وجه أصحاب الزمن الجديد، إذ لا تتردد أن تبصق في وجه أبناء الزمن الجديد.

الولاء للوطن

ثمة في الرواية جمل قد تبدو إخبارية بيد أنها تشع بالمجاز: “وانزلق علم البلاد في الحفرة” أو “ثم صاروا يرددون أنهم تحالفوا مع الخونة الذين يريدون قتلهم، لذلك لا بأس أن يختفوا، حتى ولو كان أحدهم معلم أولاد القرية كلها، وحتى ولو كان ابنه طبيب القرية، فالولاء للوطن كان أهم من المراتب العلمية كلها”. وتضطلع جمل مماثلة بدور إنشاء المفارقة تارةً وإعلاء المقارنة بين سرديتين متناقضتين تارة أخرى. تشع تلك الجمل بالمجاز إذ إنها تخفي تحت طبقتها الإخبارية معنى آخر: معنى يطلق الرصاصات إذ يمتح من فداحة- وبشاعة وأثر- ما حصل لا في الساحل السوري فحسب، بل في سورية كلها. بيد أن سمر لا تنساق وراء تلك الجمل الإخبارية التي في ما لو زادت، لأخفضت منسوب الأدب وأعلت منسوب السياسة، الأمر الذي كان سيميل بالرواية نحو البروباغندا.

تبتعد يزبك عن السياسة المباشرة، تبتعد صوب تاريخ غير واضح– فقير بالمدونات فعلاً- وترى في الفروق الطبقية جواباً عن عنف مستشر وفساد لا حد له. فمن جهة عالم علي عالم الفقر: “كان عليها أن تكد وتكد، علها تضع فائضاً من المال يجيرها في حال توقف العمل، وهذا المال الفائض لم تحصل عليه أبداً، كانت وزوجها يحصلان على ما يكفي لسد قرقرة بطون أكوام اللحم”. ومن جهة أخرى عالم الزين أحد أبناء الزمن الجديد: “ثم رأى انعكاس السماء الزرقاء والغيوم في المسبح العريض والأشجار والنباتات الغريبة والزهور الملونة ورأى رجالاً كثيرين يتحركون ويحملون الأسلحة وفكر أن ذلك يشبه قصصاً خرافية عن قصور وسلاطين سمع عنهم من الحميرونة. هناك قبة تتوسط القصر، تلمع تحت الشمس، القبة بهرته! كانت أجمل مما يحتمل”. والمقابلة بين العالمين قليلة شأنها كشأن الجمل الإخبارية أعلاه. وتخطو يزبك خطوة أخرى نحو عالم “الزين”، بماذا يفكرون وماذا يسردون. تحدق بقوة بـ”الأخبار المتداولة” هناك وتكتب: “لقد تحركوا ليلاً حسب أوامر الضابط المسؤول، وهم على خط الجبهة في جبال اللاذقية، حيث سيطرت كتائب عسكرية معارضة للنظام على بعض القرى. لا يعرف عن تلك الكتائب شيئاً سوى ما رآه في تلك الفيديوهات التي كان يتبادلها أهل القرية فيما بينهم، عن رجال بلحى طويلة، وثياب غريبة طويلة، يحملون أسلحتهم ويتوعدونهم فيها بالذبح والقتل”.

آثرت سمر الانحياز إلى الطبيعة والشجر والريح، ونسجت منها عالم روايتها وعالم الجندي علي، جعلته نقياً بريئاً يكاد لفرط بياض روحه يصير ملاكاً. لعله التفكير الرغبوي، ولعله أيضاً ما لن تراه عين ترتدي “نظارة الفاحص”.

الأمور لا تأتي مصادفة، فصغر سن علي سيدفعه إلى السؤال وهو شبه مسجى: “وعندما يشعر أن تلك الأمتار المتبقية هي حياة كاملة بقيت له، يسأل نفسه عما يفعله هنا؟! ومن يقاتل؟! ومن أجل ماذا؟! ومن هو؟!”. الأمور لا تأتي مصادفة فالنقي يلوثه الخبل. وهي ليست المرة الأولى التي ترسم فيها يزبك لبطل روايتها الأثير صورة مماثلة. ففي رواية “صلصال” كان “حيدر العلي” أيضاً نقياً نقاء لا ينبع من الطبيعة كالجندي الصغير علي، بل كان رجلاً مثقفاً ينهض عالمه من الكتب، وكان له نصيب من الخبل مساو لخبل الجندي علي. الفكرة كلها ها هنا، أن تكون بريئاً ومخبولاً في آن لتحتمل سرد جزء مما جرى ولتكون، شئت أم أبيت، جزءاً منه.

كتبت سمر يزبك رواية متسقة وقوية، بلغة انسيابية مرهفة دقيقة، لها إيقاع متمهل وجمال شفيف. رواية ليتها لا تقرأ بـ”نظارة الفاحص”، بل بالتخدير الذي يبثه الأمل وبنقاء التفكير الرغبوي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى