فيسبوك الزراعة وغوغل المبيدات: العملاق الرقمي وقوت البشر/ صبحي حديدي
قد يُفاجأ البعض، أو الكثيرون ربما، إزاء معطى يقول إنّ نطاق العولمة الكونية في قطاع الزراعة وإنتاج الأغذية والتخضير وما يرتبط بها من توفير مؤشرات مناخية وبيئية وتحليلية، إنما باتت أسيرة احتكار خمسة عمالقة، مُعولَمين تماماً كما يتوجب القول، لا تخطر أسماؤهم على البال بسهولة حين يتصل الأمر بالحقول الزراعية السالفة. هؤلاء هم: ميكروسوفت، ألفابيت (أي غوغل) أبل، أمازون، وميتا (أي فيسبوك وملحقاته)؛ مكوّنات المركّب المالي/ الرقمي الذي يسيطر، في ميادين الزراعة إلى جانب قطاعات أخرى كثيرة، على سياسات الحكومات كما يتمّ فرضها مباشرة أو عبر وساطات البنك المركزي الأوروبي ECB، والاحتياطي الفدرالي الأمريكي، وعمالقة شركاء آخرين أمثال فانغارد وبلاكروك (اللذين يمتلكان أصولاً مختلفة تفوق ما يمتلكه الـECB والفدرالي مجتمعين!).
فوق هذا وذاك، تقول أحدث التقارير النقدية (التي، للإيضاح المفيد، لا يكتبها دائماً أخصائيون ينظرون خلفهم بغضب إلى اقتصاد السوق أو توحّش العولمة أو تطورات النظام الرأسمالي العالمي المعاصر)؛ إنّ سياسات المفوضية الأوروبية، وليس في مسائل الزراعة وتشجيع المبيدات والمنتجات الكيميائية فقط، باتت خادمة مباشرة لاستثمارات العمالقة الخمسة وشركائهم. وفي بلد/ شبه قارّة، مثل الهند تبسط ولمورت وأمازون سيطرتها على قطاع البيع الإلكتروني بالمفرّق، تؤازرها في استثمارات مباشرة شركات أدوية وكيميائيات مثل باير وكورتيفا وكارجيل، والحكومة من جانبها تسهم في سيرورة الشراكة عن طريق توفير معطيات الإنتاج وخطط التحكم والبرمجيات التي تفيد العمالقة في تحديد مَن يحتاج ماذا وأين وكيف. وفي كانون الأول (ديسمبر) الماضي أصدرت منظمة «أوروبا أصدقاء الأرض» تقريراً قاتماً حول تأثير مجموعات الضغط العاملة لصالح العمالقة في الدفع باتجاه إبطال علامات الفحص والتدقيق الهادفة إلى ضمان الأمن الغذائي للمستهلك، وأشار التقرير إلى أنّ تلك المجموعات أنفقت 36 مليون يورو في هذا السبيل، وعقدت 182 اجتماعاً مع كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي.
المرء، مع ذلك وسواه كثير من الوقائع الصارخة، يندر أن يعثر في مؤتمرات منظمة الأغذية والزراعة، الـFAO، على سجال فعلي وفعّال حول انحطاط الزراعة، سياسة واقتصاداً وثقافة، بفعل تأثيرات العمالقة على أصعدة عديدة ومتكاثرة. ويكتسب هذا الغياب بُعداً أكثر خطورة حين تُعقد مؤتمرات المنظمة لتغطية أوضاع مناطق واسعة شاسعة، مثل الدورة الـ36 التي احتضنتها العاصمة العراقية بغداد قبل أيام. النطاق هنا يُدعى «الشرق الأدنى وشمال أفريقيا» حسب رطانة الأمم المتحدة؛ ودُعيت إلى أعماله الدول التالية: أفغانستان، الجزائر، أذربيجان، البحرين، قبرص، جيبوتي، مصر، إيران، العراق، الأردن، الكويت، قرغيزستان، لبنان، ليبيا، مالطا، موريتانيا، المغرب، عُمان، باكستان، قطر، المملكة العربية السعودية، الصومال، السودان، سوريا، تونس، تركمانستان، الإمارات العربية المتحدة، تركيا، واليمن. وأمّا الشعار فإنه لا يقلّ طموحاً عن أعداد الدول الغفيرة هذه: «التعافي ومعاودة التشغيل: الابتكار من أجل نظم غذائية زراعية أفضل وأكثر اخضراراً وأكثر قدرة على الصمود لتحقيق أهداف التنمية المستدامة».
وإذْ يواصل عمالقة أمثال ميكروسوفت وغوغل وأبل وأمازون وفيسبوك تحويل قوت البشر إلى «بزنس» هابط إلى أدنى أصعدة التوحش، لا يُعنى باعتبار آخر يسبق تكديس مليارات الأرباح، تواصل منظمة الأمم المتحدة اجترار اللغة الخشبية العتيقة ذاتها، التي تتكرر في كلّ مؤتمر ومنتدى؛ فلا تسلم من البلاغة الجوفاء حتى تلك الملتقيات التي تُعقد في قلب أوروبا، على غرار المؤتمر السنوي الذي تستضيفه برلين. وخلال مشاركته في هذا المؤتمر (ولكن عبر الفيديو فقط!) اعترف المدير العام للـFAO شو دونيو بأنّ ما يقارب 95٪ من الإنتاج الغذائي العالمي يعتمد على التربة، هذه التي «يعاني ثلثها أصلاً من التدهور» وتتعرّض كلّ يوم لأخطار جسيمة بسبب «الممارسات الزراعية غير المستدامة، والاستغلال المفرط للموارد الطبيعية». كذلك هتف دونيو: «قلب مسار تدهور التربة أمر شديد الأهمية إذا أردنا إطعام سكان العالم الذين يزداد عددهم، وحماية التنوع البيولوجي، والمساعدة في التصدي لأزمة المناخ التي تعصف بالكوكب».
وغنيّ عن القول إنّ كلام الرجل، وتوصيات مؤتمراته وموائده المستديرة وتقاريره، في واد لا صلة تجمعه بالوديان التي فيها ينشط العمالقة ومن داخلها يحتكرون قوت البشر وموارد الأرض الزراعية. ومؤتمر بغداد، مثل مؤتمر برلين الذي سبقه، لا يقطع خطوة واحدة إضافية على الدرب الذي اقترحه «إعلان المنتدى الدولي حول الزراعة الإيكولوجية» الذي انعقد مطلع 2015 في سيلينغي (مالي) على هامش المنتدى العالمي للسيادة الغذائية؛ ونطق باسم منظمات وحركات دولية مختلفة تمثّل صغار منتجي أغذية ومستهلكين، ومزارعين، وتجمعات وشعوب أصلية (في عدادها الصيادون والقاطفون) ومزارعين أسريّين، وعمّال ريفيين، ومربّين ورعاة، وبحارة حرفيّين وسكّان مناطق حضريّة. جميعهم ينتجون ما يقارب الـ70٪ من الأغذية التي تستهلكها البشرية، وكانوا بذلك أكبر المستثمرين في الزراعة على نطاق العالم، وأكبر مصدر للشغل وسبل العيش.
هنا، في ترجمة «شبكة شمال أفريقيا للسيادة الغذائية» فقرة ثمينة من ذلك الإعلان الفريد: «قطعت شعوبنا وقطاعاتنا ومنظماتنا وتجمعاتنا شوطاً كبيراً في تحديد مفهوم السيادة الغذائية باعتبارها راية للنضال التضامني من أجل العدالة وإطاراً أوسع للزراعة الإيكولوجية. تطورت نظم إنتاج أجدادنا على مدى آلاف السنين، وسُمّيت زراعة إيكولوجية خلال السنوات الثلاثين إلى الأربعين الماضية. الزراعة الإيكولوجية، كما نفهمها، تشمل ممارسات ناجحة وإنتاجاً عالي الجودةِ؛ فهي تنطوي على علاقات متجذّرة بين المزارعين في مناطقنا، في مراكز التدريب لدينا، وهياكلنا النظرية والتقنية والسياسية التي تطورت في مناطقنا (…) يولّد تنوّع أشكال الإنتاج الغذائي على مستوى المستَغلات الصغيرة، والتي تستخدم المسارات الإيكولوجية، معارف محلية ويعزز العدالة الاجتماعية، كما يكفل تألق الثقافة والهوية ويعزز الحيوية الاقتصادية للمناطق الريفية. يدافع صغار المنتجين عن كرامتنا عندما نختار الإنتاج وفق الزراعة الإيكولوجية».
ولم يكن الإعلان في حاجة إلى استبصار الهيمنة الراهنة التي يمارسها العمالقة الرقميون، فالقسط الأعظم من المشكلات والعلل التي يواجهها قوت الأرض بسبب أنساق تلك الهيمنة كانت قائمة لتوها، آخذة في التكوّن التدريجي والمنهجي، ماضية على طريق الاستقرار كقاعدة وليس كاستثناء. كانت شركات الصناعات الغذائية، مثلما هي اليوم، تنتج الأطعمة التي تسمّمنا، وتدمّر خصوبة التربة، وتلوّث المياه، وتجتث أشجار الغابات، وتفسد شطآن الصيد، وتسرق بذور المزارعين لإعادة بيعها بأثمان باهظة أو لإعادة إنتاجها طبقاً لتعديلات كيميائية ملوِّثة… كل هذا عدا عن آثار «اتفاقات التجارة الحرّة والاستثمار وآليات تسوية النزاعات بين المستثمرين والدول، والحلول الخاطئة مثل أسواق الكربون والسَّلعنة المتزايدة للأراضي والغذاء» حيث لا تؤدي هذه إلا «إلى تفاقم هذه الأزمات» كما يقول الإعلان.
وفي قمّة روما 1996 كان جاك ضيوف، المدير العام الأسبق للـFAO، قد قرع نواقيس الخطر، في كلّ فقرة من فقرات خطاب طويل كان من الممكن أن يحسده عليه توماس مالتوس، القسّ والمنظّر الأشدّ تشاؤماً حول مآلات أغذية البشر. ولقد تحدّث ضيوف عن سباق ضدّ عقارب الساعة لتدارك الإيقاع المتسارع للمجاعة الشاملة القادمة، وحسد قطط العالم المتقدّم وكلابه على ما تنعم به من تسامح حكومي وشعبي إزاء ميزانيات أغذيتها، وناح واشتكى وتباكى. ولكنه تأتأ طويلاً بصدد الاتهامات الصارخة المشروعة التي أشار إليها وسردها تقرير المؤتمر الموازي للمنظمات غير الحكومية، الذي انعقد على هيئة مؤتمر مضادّ، وطرح حزمة أسئلة، كانت وحدها الجديرة بالدراسة والتحليل والحلّ.
هي ذات الأسئلة، مع فارق وحشي هائل وهمجي أدخل العمالقة الرقميين إلى بيت مؤونة الإنسانية وكرّس أمثال فيسبوك الزراعة وغوغل المبيدات.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي