قاموس البحر الأبيض المتوسط… من آدم إلى كرة القدم/ محمد تركي الربيعو
تعود فكرة البحر الأبيض المتوسط في العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى القرن التاسع عشر على الأقل. مع ذلك إلى يومنا هذا لم ترسم حدود هذا الفضاء بدقة، ولذلك توجد حوله تصورات متعددة، فمنها مثلا ما يتبع لمعايير جغرافية، إذ يعتقد هذا التصور أن حدود المتوسط تقتصر على المدن التي تطل عليه. وسيأتي فرناند بروديل ليوسع هذا المنظور عبر إطلاق فكرة «البحر الأبيض المتوسط الأكبر» فالمتوسط وفقاً لهذا المنظور هو كما يصنعه البشر، الذين ينطلقون في السير ليتسللوا إلى داخل افريقيا، ويجوبوا في شمال القارة الأوروبية، ما يعني أنّ المتوسط بات يشمل جميع المناطق التي أثرت فيها ثقافة أهله.
وبالتوازي مع ذلك حاولت الأنثروبولوجيا البريطانية أن تسير خطوة إضافية في رسم صورة عن المتوسط وأهله، من خلال حديثها عن قيم موحّدة تجمع بين أطراف ضفتيه؛ مثل قيم الشرف والعار والضيافة والصداقة والقرابة والأسرة. وعلى الرغم من أنّ هذا التصور خلق صورة نمطية أحيانا ومبالغا فيها، لكن القائمين على هذا المشروع، بدوا وكأنهم يحاولون من خلال هذا الربط الإفلات من نقطة انقطاع الاتصال بين أوروبا الجنوبية المسيحية، والشرق الأوسط المسلم. ويمكن القول من خلال هذا التنوع في الطرح، إنّ البحر المتوسط لا هوية ثابتة له، فهو فضاء يعاد ابتكاره كل مرة، وفقاً للبؤرية التحليلية.
ويمكن الإشارة من ضمن الجهود الثقيلة في إعادة تخيل هذا البحر وثقافة أهله ودراسته، إلى «قاموس البحر الأبيض المتوسط» الذي أشرف على إعداده 177 باحثاً، واستغرق العمل عليه قرابة العشر سنوات (2006 إلى 2016) (الطبعة الفرنسية) وترجم قبل فترة قريبة للعربية عن مؤسسة الملك عبد العزيز بن سعود في الدار البيضاء، بإشراف الأنثروبولوجي المغربي محمد الصغير جنجار، والمترجم الحسين سحبان. حاول المشاركون في هذا القاموس تقديم مفاتيح عديدة لقراءة التاريخ الثقافي والاجتماعي والعمراني للمتوسط. وقد اختار المشرفون عليه ترتيب الموضوعات أبجدياً، ورغم أن هذا الترتيب أحيانا قد يبدو صعباً على بعض القراء، لتمازج مواضيع عديدة في كل باب، لكن القارئ في هذا القاموس والمكون من مجلدين ضخمين (1800 صفحة) سيدرك أن هناك خطوطا عامة تحكم المشروع، وهي خطوط تتركز حول المعارف والثقافة والمكان المتوسطي، كما أنه ضم فصولا عديدة تتناول تواريخ شخصيات ساهمت في ثقافة هذا الحوض، من أمثال ابن رشد وفرنان بروديل وألبير كامو.
ولن نبالغ إن قلنا في هذا الصدد، إنّ ترجمة هذا القاموس قد يكون من أهم ما تُرجِم في العلوم الاجتماعية والتاريخية في السنوات العشر الأخيرة في العالم العربي، خاصة أنه يضم مقاربات عديدة وقراءة غنية لواقع بعض المؤسسات الاجتماعية والثقافية المتوسطية في يومنا هذا.
آدم… الإنسان
نلاحظ في الباب الأول (حرف الألف) تطرق إحدى الأوراق، إلى معنى آدم وحواء كما يردان في النصوص العبرية، فحواء هي الحياة بينما يرد آدم في اللفظ العبري ليدل على الإنسان. ونعثر في الباب نفسه، على ورقة حول ابن خلدون (غابرييل غروس). وقد لاحظ هذا المثقف من خلال دراسته للفترة الممتدة بين 1000 قبل الميلاد و1400 بعد الميلاد، أنّ الوسيلة الضخمة لتكوين الثروة كانت تتم من خلال الضريبة، وكلما كان المحصول الضريبي أوفر، كان تنوع المهن والحرف وتخصصها أكبر في العاصمة، ولذلك لم يتردد ابن خلدون في أن يكتب بأنّ منطق الدولة يقتضي أن تنشر الجبن والنذالة (من خلال الخضوع للضريبة) وأن تحارب كل شكل من أشكال التضامن بين الرعايا. بيد أنّ هذا التصور خلق تناقضات في المقابل، فالدولة في أمس الحاجة إلى قوة عسكرية لتخويف شعوبها وترهيبهم، ولذلك وفي ظل تخويف أبناء المدن تلجأ للبحث في عالم القبائل، أي ذلك الجزء من الإنسانية، الذي لا يعيش تحت رقابة الدولة ولا يؤدي الضريبة، للقيام بوظائف العنف (الجيش والشرطة). وفي البداية يبدو هؤلاء العنيفون غرباء عن الساكنة الحضرية المستقرة، التي يحكمونها ولا يتقاسمون أي قيمة معها، لكن المدينة تتمكن مع ذلك من تدمير عصبيتهم واجتثاث جذورهم، وسرعان ما تجعلهم يتحولون إلى حضريين غير قادرين على العودة للقبيلة وعصبيتها، وهذا، وفق تفسير ابن خلدون، يعود لإدراك القبلي أن الحضرية هي غاية كمال الثقافة البشرية.
وفي باب «استشراق» يرى فرانسوا بويون (مدرسة الدراسات العليا باريس) أن هذا المصطلح يقيم افتراضيا تقابلا بين شرق وغرب، وربما لم يفلت البحر الأبيض من هذا التقاطب، فحتى لو لم يوجد إسلام لكي يمنح شكلاً لهذا الانقسام فإننا نرى في الفكر الإغريقي، كما في المسيحية البدائية، أنباء تعارض بين الشرق والغرب، كما يُلاحظ في الجهة الشمالية كذلك تعارض قائم لمدة طويلة بين قوى أوروبا الشمالية، التي اختارت، وفق ما كتبه فرنان بروديل، منذ العصر الوسيط النمو الرأسمالي المبني على التكنولوجيا الصناعية، والجنوب الذي يركد في اقتصاد النخاسة. لكن ما يلاحظه معد هذا الباب، أن هناك عودة للاستشراق في ظل الدولة الوطنية وأسواقها. إذ أن نرى الصور الاستشراقية تنتشر اليوم بشكل واسع في أسواق تركيا ولبنان (صور ولوحات نمطية والتقاط صورة فوتوغرافية سلطانية) ولذلك أخذت هذا الأسواق تفرض واقعاً يقبل بهذه الصور بدلا من رفضها الذي يعبر عنه عادة بعض المثقفين.
بازارات ومقاه
وكما ذكرنا، رغم التقسيم الأبجدي للفصول فإنّ هناك خطوطاً وثيمات أساسية بقيت تحكم الكتاب، ومن بينها دراسة بعض الأماكن المتوسطية، كما في حالة مؤسسة البازار؛ التي تمثّل روحَ المدن الإسلامية، وفي هذا الصدد يعقد هذا الباب مقارنة بين معنى البازار والعلاقات فيه سابقا، ودوره اليوم، إذ يرى أنّ المساومة كانت تمثل حجر الزاوية في العلاقات، كما أن العلاقة فيها كانت تقوم على طابع شخصي بين البائعين والمشترين، ما كان يضفي نوعاً من الضمان والموثوقية التي لا تحتاج لقوانين أخرى لضبطها، كما أنّ العلاقة لم تكن تحركها المنفعة فقط بل الثقة وتلبية رغبة الآخر، وفي الأخص المشتري، بينما نلاحظ اليوم تغير هذه العلاقة، فالزائرون لهذه البازارات، مثل بازار السوق المصري في إسطنبول، باتوا زواراً عابرين، ولذلك لم يعد الشاغلُ تلبيةَ طلب المشتري، بقدر الاستفادة من وجوده بكل السبل، ما أدى إلى غيابِ أخلاقيات السوق، والثقة داخل بازارات اليوم، فأخذت تنشأ معركة رمزية بين قوتين تريد كل منهما إخضاع الأخرى. بينما لم يكن الأمر هكذا في البازار التقليدي؛ فالمساومة التقليدية كانت تقوم على التزام متبادل وحر بين شخصين، يقرران التعامل مع بعض بصورة مستديمة وتفترض المساومة التقليدية التكرار، في حين تتسم المساومة الحديثة بمنطق اللحظات والأشخاص العابرين. وعلى صعيد مؤسسة المقهى، تلاحظ الوي كوراليس (جامعة برشلونة) أن هذه المؤسسة جاءت مع العثمانيين وامتدّ تأثيرها من دمشق حتى شمال افريقيا ولم يفلت من ذلك سوى السعديين في مراكش، ولعل ذلك ما يفسر تفضيل أهل المغرب الأقصى للشاي، الذي كان يستقدمه الهولنديون ومن ثم الإنكليز في العهد العلوي.
ومع بدايات القرن العشرين لعب المقهى دوراً جديداً، ففي ظل تسارع التطور الاجتماعي بين الحربين العالميتين وتعاظم الهجرة القروية، سيقوم المقهى باستيعاب هذه التحولات، وبوظيفة الانفتاح على الحداثة وقبول صيغ اجتماعية ومعالم مجتمع مديني محلي وتحوله لمركز للحركات الوطنية مع ذلك لن تتوفر لهذه المؤسسات الشروط والأدوار، فمع قدوم التسعينيات كانت هذه المؤسسة تذبل ليؤول دورها إلى مجرد فضاء لممارسة أدنى مستويات التآلف الاجتماعي.
أولاد العم وألف ليلة
وفي فصل الحرف ج نعثر على تعريف بالأنثروبولوجية الفرنسية جيرمين تيلون. في مقابل جمهوريات الأصهار، التي تمثل خاصية المجتمعات البدائية التي يسودها الزواج بين القبائل، بينما تقف الجمهوريات المتوسطية لأبناء العمومة التي تحرّم التبادل وتتأصل في زواج الأقارب من سلالة الأب، وقد ثمن كلود ليفي ستروس في رسالة له لم تنشر، هذا العمل، لكن ما لا يشير إليه التعريف هنا أن كتاب تيلون «جمهورية أبناء العمومة» قد تعرض لمراجعات عديدة، إذ أظهرت دراسات عديدةأنّ فكرة الزواج بأبناء العم قد تكون أسطورة غير دقيقة، أو هي تعود للقرن العشرين، إذ تكشف مثلاً سجلات حلب الشرعية في القرن الثامن عشر، أنّ الزواج من أبناء العمومة كان نادراً.
ومن الموضوعات المهمة أيضاً ورقة حكاية ألف ليلة وليلة (جان كلود كارسان/جامعة إيكس مرسليا) الذي يرى أنّ الحكايات الفارسية/البغدادية دخلت إلى الفضاء المتوسطي عندما عُرِفت في سوريا ومصر في القرن الثاني عشر، لتكتسب اسمها النهائي ألف ليلة وليلة، وسيواصل هذا المصنف تطوره إلى قبيل أواسط القرن الثامن عشر، إذ سيقوم شيخ مصري بطباعة الليالي في مجلدين ضخمين في مطابع باشا مصر محمد علي في بولاق، ومما يلاحظ في هذه الطبعة أن نصف حكاياها قد كتبت بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، ومن ثم يمكننا اعتبار ألف ليلة وليلة، كما نعرفها اليوم إنتاجاً أصيلاً للعصر المتوسطي المصري السوري، ومع قدوم العثمانيين عام 1517 كان من الضروري انصرام جيل بكامله لكي يستعيد السوريون والمصريون رغبتهم في تأليف الحكايا من جديد؛ لكن القصص والحكايا ظهرت بصورة أوسع فهي تمتد شمالا إلى غاية إسطنبول، حيث يتعين على العثمانيين مواجهة مملكة الهابسبورغ، ما يطرح تساؤلاً إن كان بمقدورنا أن نستخلص منها لوحة لمجتمع متوسطي أم أنّ هناك مخيالا متوسطيا.
زيت وجبنة وسكر
وعلى مستوى الغذاء، نعثر في أبواب القاموس على موضوعات عديدة تناقش هذا الجانب. إذ نرى الزيتون والقمح والفواكه، شكلت تاريخياً أساس المطبخ في إيطاليا وإسبانيا وسوريا ولبنان، كما نعثر في هذا الفضاء على تقنيات متشابهة على صعيد تحضير الطعام من قبيل المحشوات وأنواع الحساء (مثل الشوربة) ومثل القلي والشواء، كما أنّ مفهومي لذة الأكل والمؤادبة الاجتماعية حول (مقبلات أو تاباس أو ميزي) يبدوان مهيمنين في النظام الغذائي، لكن هذا التشارك لا ينفي بالمقابل أنّ تغيرات عديدة حصلت منذ خمسينيات القرن الماضي في أوروبا أولاً، وقد قيل إنها مرحلة انتقال في مجال الغذاء، أسهم فيها تبني النموذج الأمريكي، ما أدى إلى تراجع بساطة الغذاء أمام الوفرة، كما أدى تحرر النساء المتوسطيات، اللواتي جعلت قيمتهن في السابق في معرفتهن بفنون الطبخ، إلى تقليص الزمن المخصص للطبخ وإلى اضطراب في الإطار الأسري والمجتمعي، وقد وصلت هذه التغيرات إلى الضفة الجنوبية، ما خلق انقساما من نوع جديد بين جيل قديم يتبع نظاماً تقليدياً متوسطياً (الزيت) وجيل آخر منكب أكثر على ثقافة الطعام المعولمة. كما نعثر في هذا الصدد على مقال آخر حول تاريخ الجبنة في هذه المنطقة، وكيف أنّ المتوسط خلال العقود الأخيرة لعب دوراً على صعيد عولمة أكل الجبنة، ولذلك يفضل أهل أمريكا الشمالية استهلاك الموزاريلا الإيطالية أكثر من غيرها. وفي باب السكر يرى (محمد ورفلي/مارسيليا) أنّ هذا المكون استطاع قهر جميع المقاومات فدخل إلى المطابخ الارستقراطية وصار استعماله موضة، بوصفه عنصراً لتحلية الأطباق وتلطيف التضاد بين المالح والمحلي وتزيين منظر الأكلات عن طريق رشها بمسحوق السكر. وكان على الطباخين أن يغزوا عين الأمير قبل دغدغة ذوقه، وذلك بانتباه خاص إلى طريقة تقديم الأطباق، وهكذا ساهم استعمال السكر في تغيير الأذواق والممارسات الغذائية وفي تمييز غذاء الأغنياء عن غذاء الفقراء، كما يرى الكاتب.
قيلولة وكرة القدم
من الأبواب الطريفة في القاموس الفصل المعنون بـ»قيلولة» التي يقوم بها الناس بعيد الغداء مباشرة. وهي عادة موجودة في جهات عديدة من حوض البحر الأبيض المتوسط، ولعبت دوراً حاسماً في تدبير الزمن الاجتماعي وفي الإيقاع اليومي للحياة. وقد أفلتت القيلولة من حيث هي مؤسسة اجتماعية من هيمنة نظام التوقيتان، الذي تأثرت به أخلاقيات العمل في المجتمعات الصناعية الصاعدة؛ ففي إسبانيا وإيطاليا تغلق على وجه التقريب جميع المتاجر والمتاحف والكنائس من أجل القيلولة. وتتزايد في الوقت الراهن أعداد الأسواق والمتاجر الكبرى التي تبقى مفتوحة طيلة النهار، لهذا السبب فإنّ عدداً متزايداً من الناس يعملون أو يقضون احتياجاتهم بدلاً من نومة القيلولة. لكن ذلك لم يقضِ على هذه المؤسسة، ففي إسبانيا نشأت حركة من أجل القيلولة للحفاظ على هذه المؤسسة بوصفها تراثاً ثقافياً لا مادياً. وعلى صعيد كرة القدم نرى أنّ هذه اللعبة على الرغم من تراثها الاستعماري، غدت في وقت مبكر رياضة شعبية؛ أنشئ في وقت مبكر نادي غلاته سراي التركي في إسطنبول عام 1905 والأهلي في القاهرة في عام 1907 ومع الخمسينيات أصبحت اللعبة مرتبطة بالاستقلال الوطني، وخير مثال على ذلك التشابك بين الكرة والنضال لدى فريق جبهة التحرير الوطنية في الجزائر، ففي سنة 1958 قام هذا الفريق مع مجموعة لاعبين مرموقين بجولة حول العالم، واليوم غدت اللعبة مرتبطة أكثر بالمشاعر الطائفية، وهذا ما نراه في بيروت على مستوى توزع حماسة المشجعين بين فرق سنية (النجمة) وشيعية (شباب الساحل) ودرزية (الصفاء) ومارونية (الحكمة) وحتى في معزل عن ذلك، فإنّ مباريات كرة القدم تجري في أجواء متوترة ومسرحية، كما غدت لعبة جماهيرية تشارك فيها النساء، ما أضفى تغيرات جديدة على واقع الفضاء العام في العالم المتوسطي الجنوبي بالأخص.
كاتب سوري
القدس العربي