مراجعات الكتب

مؤلف مجهول… عن بلاغة المؤامرة على “حيواتنا”/ عمار المأمون

“مانيفستو مؤامراتي”، هذا عنوان الكتاب أو “البيان” الصادر بداية هذا العام عن دار سوي الفرنسية (le seuil)، لا يحمل الكتاب اسم مؤلف على غلافه الأسود، لكن البعض “يتهم” اليساري المتطرف Julien Coupat بتأليفه. لكن هذا لا يهم، نحن أمام ما يقارب الـ300 صفحة، يتدفق عبرها الغضب والانتقاد الشديد للوضع القائم والدعوة لـ”التآمر”، ذاك الفعل الذي يجتمع فيه الأفراد خارج البلاغة الرسميّة والدعاية للبحث عن إجابة لسؤال: “كيف وصلنا إلى ما نحن عليه الآن؟”.

وباء قديم وباء جديد

تحيط بالكتاب هالة من الرعب، خصوصاً أن غياب اسم المؤلف وتبني دار سوي للكتاب، يشير بأننا أمام “نص” قد يخلخل العالم، ويكشف لنا عمّا فيه، فهذا “مانيفستو”، دعوة للتحرك، خطة عمل لأجل التغيير ونقطة علّام نحو مستقبل “جديد”، لكن لا يقدم الكتاب أي نموذج واضح أو “بديل” متماسك، ويتداخل فيه الشعر والاقتباسات الكافكاوية مع تصريحات وزراء الخارجيّة وبيل غيتس ومارك زوكربيرغ ومسؤولي وزارات الدفاع في أوروبا والولايات المتحدة.

يقارن الكتاب ما يحدث منذ عام 2019 مع ما حدث عام 1914، أي انتشار “الانفلونزا الإسبانيّة”، ويضع كلاً من اليمين واليسار في ذات الخانة، بوصفهم متهمين، يولدون خطابات وانتقادات، ولو اختلفت شكلاً، فهي تسعى إلى ذات الهدف: السيطرة على الناس، والهيمنة على كافة جوانب الحياة، عبر تطويع “البشر” وتغيير وعيهم إلى حد أن يسلموا حيواتهم وحرياتهم للـ”سلطة” ( لا جديد في ذلك على كل حال).

الملفت للانتباه وما يحاول مؤلف/مؤلفو الكتاب دفعنا نحوه، هو إعادة النظر في مفهوم “المؤامرة” وبلاغتها التي تحولت إلى تهمة تطلق على كل من يحاول تفسير ما يحصل الآن، أو الوقوف بوجه السلطة التي تزداد سطوتها يومياً إلى حد التحكم بعدد خلايا الدم و مكونات جهاز المناعة.

تهمة تبني نظرية المؤامرة وسوء السمعة المرتبط بها، سببه التالي: منذ بداية التسعينيات، هناك جهود “عالميّة” لإطلاق وباء يعيد تكوين السلطة السياسية العالميّة لمصادر سيادة الأفراد على أنفسهم وحرياتهم، هذا المُخطط الذي “يتكشف ويطبق حالياً” أساسه البيولوجيا، وهنا يستعيد الكتاب كل السيناريوهات والاجتماعات التي شهدها العالم، والتي تدرس وتناقش احتمالات حرب عالمية فيروسيّة.

ويطرح حججه عبر الاقتباس من كل المؤتمرات (لن نذكرها هنا لكثرتها) العسكرية والأمنية (العلنيّة) التي تضع خططاً مستقبلية في سبيل رفع مستوى “الجاهزية-preparedness “، أي الاستعداد لمواجهة أي خطر بيولوجي، والتخطيط لكيفية التعامل معه بحيث تحافظ السيادة السياسية على حضورها، وتعمق هيمنتها على البشر حتى في ظل عالم ديستوبي. تتضح هذه “المُخططات” حين الحديث عن “عملية الشتاء المظلم”، ذاك السيناريو الذي وُضع مطلع الألفية الثانية لرصد جاهزية التعامل مع حرب بيولوجيّة قادمة.

وهنا تظهر تهمة “نظرية المؤامرة”، فأي محاولة لانتقاد هذه الجهود، أو ترتيب أحداث العالم بالشكل السابق، تحول الفرد إلى أحمق لا يدرك ما يمر به العالم، ومتعاطف مع الإرهاب البيولوجيّ، و”متآمر” على أمن الناس.

يرى الكتاب أن المخططات الافتراضيّة والسيناريوهات المتعلقة بالحرب الفيروسيّة، ليست إلا استعداداً لبدئها لا لتفاديها، بوصفها أسلوبا جديداً لمصادرة حريات البشر، خصوصاً أن كل الغرب وأمريكا، “يحلمون بالصين” ونظام المراقبة فيها، وأهمية الوباء أو الحرب البيولوجية تكمن بأنها تخلق أرضاً مناسبةً، سمادها الخوف، والهدف منها أن يسلم الأفراد حرياتهم “طوعاً” إلى السلطة.

ينسحب الأمر على حذلقة عمالقة التكنولوجيا من مشروع بيل غيتس الإنسانوي إلى حلم زوكربيرغ بامتلاك كل معلوماتنا من أجل “تطوير البشر” على حساب سلبهم أرواحهم، حتى الدولة نفسها تبنت أسلوب هؤلاء “السُذج”، فاستخدام “الجواز الصحي” ليس إلا وسيلة لرصد المطيعين من غير المطيعين، وتقديم أرقام وإحصائيات عن مدى نجاح “الخطة”، لمعرفه عدد الأفراد الذين يسلمون أنفسهم طواعية إلى السلطة، ومقارنتها مع أعداد أولئك الذين لن ينصاعوا، ناهيك أن حملة التلقيح العالميّة بقيادة “منظمة الصحة العالميّة” لا تقوم على أي أساس طبي، بل هي جزء من تكتيك حربيّ هدفه التجنيد والسيطرة.

في فخ “لغة” المؤامرة وضدها

لا يمكن الاستمرار في تلخيص واقتباس حجج الكتاب، خصوصاً أنها لا تقدم خطة واضحة لأجل “قلب” النظام القائم أو مواجهته، ناهيك أن لغة هذا المانيفستو تتحرك بين الشعرية المفرطة والاتهامات التي تطال الجميع، لا أحد بريء، الملقحون وغير الملقحين، اليسار واليمين، أصحاب الهواتف الذكيّة وأولئك الذين يقاطعون التكنولوجيا كلياً، “الكلّ” جزء من هذا المخطط الكبير الذي يمتد من الصين إلى الولايات المتحدة.

وهنا تكمن الإشكاليّة التي يتسم بها كل مانيفستو، والتي تبرر الانتقادات الشديدة التي تعرض لها الكتاب ودار النشر “المرموقة” التي تبنته، إذ لا أحد يمتلك اليقين، في ذات الوقت حين يشتد تدفق الحجج في الكتاب يظهر الشعر، الذي في بعض الأحيان لا معنى واضحاً له، إذ نقرأ “نحن تحت الحقيقة/ المدينة، هي ديكتاتورية الضعف/ السياسات الحيويّة، هي طغيان الهشاشة”، لا نعلم كيف يمكن التعليق على هذه (الخواتيم)، كونها بصورة ما، تتبنى مفاهيم اليسار، وتأخذها حد التطرف شعراً، أشبه بأحلام بعيدة لابد من وقفة نيتشوية لالتقاطها، ثم الجنون، إذ لا فعل لاحق على ذلك.

هناك أيضاً، ضمن أسلوب المانيفستو السابق إشكالية “الكلّ”، فالخطة شديدة العالميّة، “الكل” متورط فيها، إما منصاعاً غافلاً، أو مشاركاً فعالاً مدركا لما يحصل، فالأطباء والسياسيون والعسكر والشرطة وبائع الفول والأكاديمي، ووجافان ميزرو نسانغيرا ذو الـ22 عاماً والذي اعتقل لأنه لم يقم “بحجر نفسه صحياً”، كلهم جزء من الخطة العالميّة، وكأن الحقيقة فقط ملك “المؤلف/المؤلفين المجاهيل” الذين كتبوا المانيفستو، (للأسف سنضطر لاستخدام الشعر لوصفه)، الذي يشبه ” رمية نرد، لن تبطل الحظ، ولو كانت على رقعة من أبديّة…” ( مالارميه).

لغة اليسار المفرط في تطرفه هنا تتهم الجميع، دون تبرئة أحد، سوى أولئك الذين رصدوا ” الاستعداد العالميّ” الذي شُرحت خطواته في المانيفستو، الذي المفترض أن “نتحول” بعد قراءته إلى “متآمرين”، نعي ما يحصل (ولو بعد سنوات حسب المقدمة) ونبدأ بالنقاش والحديث سراً وعلناً عن الأسلوب الذي يتم عبره انتهاكنا وتحولينا إلى “أعداء”، نسلم أنفسها للسلطة التي تحافظ على أمننا، حسناً… ماذا بعد؟

يقتبس المانيفستو من فرانز كافكا، من بيير بازوليني، من راينر ريلكه وغيرهم، نقرأ كلماتهم بالخط العريض للفت انتباهنا، فهم من “رأوا” الحلّ/ المشكلة وأشاروا إليه/ـها، بالرغم من أنهم لا يمتلكون مشروعاً سياسياً ولا يقدمون أي تخيّل للـ”حكم”، بل تلفظوا بما يثير المشاعر ثم مضوا، لا ينفي ذلك امتلاء الكتاب باقتباسات من أطباء ومفكرين في علوم الصحة، الذين يشيرون دوماً إلى أن المرض والتعامل معه هو جهد سياسيّ والجانب العلمي منه ثانوي، هنا يطرح السؤال مرة أخرى: ماذا بعد؟ ما الجديد في كل ما سبق؟

هناك ما يلفت الانتباه في تدفق الحجج في الكتاب، وهذا ما نلاحظه حين نقرأ ، ونبدأ بترتيب الحجج ضمن قائمة عقلية يرددها صوتنا الداخلي (بعض المصابين بعسر القراءة لا يمتلكون هذا الصوت، بالتالي لن يفيدهم المانيفستو)، فبمجرد رصد الأحداث العالميّة، والقمم المناخيّة ومؤتمرات الأمن العالمي ضمن ترتيبها الزمني من التسعينيات إلى الآن، تسري القشعريرة مباشرة في أجسادنا، هل هناك فعلاً مؤامرة؟ هل كل ما سبق عام 2019، ليس إلا تجهيزاً للحظة التي نفقد فيها سيادتنا على أنفسنا؟ النسق واضح، وعلنيّ، يكفي فقط الترتيب والبلاغة، لكن ما تلبث هذه الأفكار أن تتلاشى (بعكس ما يقول الكتاب) فسواء قرأنا بنبرة الغاضب أو المتوعد أو المدرك لما يحصل، تسري القشعريرة لأننا فجأة نتحول إلى مؤمنين بنظرية المؤامرة، التهمة التي تفقد الواحد منا مصداقيته، والسبب بلاغي، ترتيب الأحداث وراء بعضها البعض. وحتى لو استغنينا عن كل الشعر والانفلات اليساري، يبقى هناك ما ينخز، وسؤال يرن بشدة: هل من المعقول أن ما يحدث سيناريو مخططاً له مسبقاً؟

يأتي الجواب من صوت داخلي: “مستحيل !” وتقفز التبريرات لتفادي التفسير المستحيل مباشرة إلى المقدمة: تغير شكل العصر، التطور التكنولوجي… الخ، هناك ما هو منطقي في كل هذه الأسباب (أو ربما هي البروباغاندا التي أثرت في عقولنا)، لكن اللامنطقي هو أن يُصمم العالم قصداً بحيث نفقد فيه حريتنا، وهذا بالضبط ما ينفيه وعينا وصوتنا الداخلي (وحرية قرارنا المفترضة)، ويحاول المانيفستو تثبيته، ببلاغته وأسلوبه وتهمه التي تطال الجميع، وذلك كي يقول لنا باختصار: ما يحدث غير طبيعي، لكن “أخاف أننا لن نكون قادرين على جعل أنفسنا مفهومين أمام الغوريلا المحترمة التي تتحكم بمصير هذه المؤسسة”، (البير كامو-السقطة).

رصيف 22

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button