إسلاميون وعلمانيون أو في القيصرية وحكم المتألهين/ برهان غليون
عن بناء الأمم وهدمها
تحتاج المجتمعات كي تحظى بالاستقرار إلى أن تتغيّر وتحافظ على نفسها في الوقت ذاته، فالاستقرار لا ينجم عن ثبات الأوضاع، وإنما عن تحقيق التوازن، القابل دائما للتخلخل، بين المصالح المتنافسة، تلك التي تسعى إلى الحفاظ على الوضع القائم، وتلك التي تسعى إلى التغيير دفاعا عن مصالح أخرى أو عن تقاسم أفضل للسلطة. ويتوقف نجاح المنظومات الاجتماعية أو فشلها على صلاحية مؤسساتها السياسية والاجتماعية، لتحقيق غرض الاستقرار والتوازن بين المصالح هذا، فبقدر ما تنطوي على آليات واضحة وفعالة للتغيير والحفاظ على النظام، في الوقت نفسه، تضمن الاستقرار الذي هو شرط ازدهار الأعمال والأفكار.
هذا ما رسّخ الاعتقاد بصلاح الديمقراطية وتفوّقها بالمقارنة مع النظم الأخرى، فبالاعتماد على مبدأ السيادة الشعبية وانبثاق السلطة عن الشعب، تضمن الديمقراطية أمرين: وجود قواعد وآليات ثابتة ومقبولة لتداول السلطة، حسب مبدأ الأكثرية الحسابية، ومن خلال اقتراعات عامّة من جهة، وتغيير الفريق الحاكم ومعه تغيير السياسات وتعديل الخيارات والأهداف الاجتماعية، بما في ذلك إمكانية تعديل القوانين نفسها، من جهة ثانية. هكذا تتوسّط السياسة في الديمقراطية بين المصالح الاقتصادية المتضاربة، وتساهم في حسم الخلافات بين المفاهيم والأيديولوجيات والثقافات المتنازعة وتعايشها من دون الحاجة إلى إلغائها، فتجنب بذلك، حسبما تشير مبادئها وتاريخها، المجتمعات خطرين يهدّدان جميع المنظومات الحية: الفساد والاستنقاع والتعفن أو الثورات التي يمكن أن تكون لها عواقب مدمرة يستدعي ترميم ما أحدثته عقودا طويلة، وربما استحال.
في المجتمعات المشرقية فشلت الحكومات العثمانية على مدى القرن التاسع عشر في تحقيق التغييرات الضرورية لمواكبة تقدّم المدنية والحضارة. وحال الفساد المديد، وضغط المصالح القوية المكرّسة منذ قرون في قمة السلطة، وعلى مستوى قاعدتها الاجتماعية، دون نجاح “التنظيمات”، أي الإصلاحات التي شرعت الدولة في تطبيقها منذ الثلاثينيات من القرن نفسه تحت ضغط الدول الأوروبية. ونتيجة العجز المتراكم في هذا الإصلاح، عصفت الأحداث بالسلطنة من كل جانب. فكان انقلاب حزب الاتحاد والترقي (1908) الضربة الأولى التي وجهت لها قبل أن تؤدّي هزيمتها في الحرب العالمية الأولى واحتلال عاصمتها إسطنبول إلى تفكيكها واتفاق الدول الحليفة على تقاسم أراضيها.
في هذه الحقبة الفارقة، التي كانت تغلي بالحروب والصراعات القومية على اقتسام المستعمرات، سوف يتقرّر مصير القوميتين العربية والتركية ومآل دولتيهما المقبلتين، فبينما ضمن الانتصار في حرب التحرير الوطنية التركية التي قادها مصطفى كمال، إعادة توحيد ما تبقى من أراضي السلطنة وطرد الاحتلال، وإعلان الجمهورية التركية (1923) دولةً مستقلة وسيدة، مكّنت أتاتورك وحزبه من تطبيق مشروعه التحديثي بحرية، دفن نظام الانتداب الذي فرضه التحالف الأوروبي على المناطق التي حرّرها جيش الأمير فيصل بن الحسين في سورية الطبيعية والحجاز والعراق باسم “الثورة العربية الكبرى” (1916)، القومية العربية الوليدة في المهد. فما كاد القوميون العرب يعلنون قيام المملكة العربية التي وعدوا من الحلفاء حتى أطاحتها بعد أشهر معدودة (أغسطس/ آب 1920) قوات غورو الفرنسي تطبيقا لاتفاقية سايكس بيكو (1917) الشهيرة التي قسمت الأراضي العربية المحرّرة بين فرنسا وبريطانيا. لم تكتف السلطة المحتلة بفرض الانتداب والوصاية على الحكومة العربية، ولكنها أضافت إلى ذلك تفتيت المملكة الوليدة، وتقسيمها إلى دويلاتٍ غير قابلة للحياة، كما سوف تعاين باريس ذلك بنفسها، وتعيد تجميع بعض عناصرها تحت اسم الاتحاد السوري.
هكذا تم تحطيم أول التعبيرات السياسية للقومية العربية الحديثة بالسلاح. وبدل الدولة التي حلم بها وخطط لها القوميون العرب لتكون على مثال الدول العصرية، مملكةً دستورية ديمقراطية، كما يبيّن ذلك الدستور الذي أقرّه المؤتمر السوري (1920)، حل محل السلطنة جمعٌ من الدويلات الضعيفة والهزيلة التي لم تلبث حتى تحولت إلى ما يشبه الإمارات والمشيخات المرسومة على حجم المصالح والمطامح الضيقة العائلية والمحلية التي تتماهى معها وتتنافس فيها على إبراز تميّزها وتأكيد تباين هوياتها وثقافاتها. هكذا فرض على شعبها أن يهبط في تصوّره لهويته وطموحاته إلى مستوى الجمع الهجين من الطوائف والأقليات الإثنية والمذهبية، بدل الارتفاع إلى مستوى القيم السياسية والإنسانية والأخلاقية.
فشل القوميون العرب فيما نجح فيه القوميون الترك الذين لم يقبلوا الاحتلال ولا الوصاية، وخاضوا حربا وطنية ناجحة للحفاظ على وحدة أراضيهم المنذورة للتقسيم والإلحاق بالدول الأوروبية كما حصل للمشرق العربي. وبهذه الحرب، لم ينتزع الترك استقلالهم فحسب، وإنما انتزعوا أيضا حقهم في إقامة دولة قومية، أي سيدة، ولا تنشأ دولة قومية، أي دولة/ أمة، من دون سيادة. وصار من تحصيل الحاصل أن يعلنوها، كما فعلوا في 1923، جمهورية علمانية ديمقراطية. لم يتحسّر الشعب التركي على السلطنة (الإسلامية)، كما يمكن أن يتوقع منظّرو رفض الإسلام الفطري الحداثة، ولم يحتج أحد على إسقاط ما سمّيت الخلافة الصورية، وترحيل آخر سلاطينها، وإنما جعل من مصطفى كمال بطلا قوميا ورمزا لتركيا الحديثة، ومنحه لقب أتاتورك (أبو الأتراك). بل إن بعض الجمهور الذي ألهبته الحماسة للدولة القومية الجديدة رأى فيها عودة الخلافة الراشدة التي أصبحت في المخيلة الإسلامية رمز دولة العدل والإخاء. ومثل هذا حصل لجمهور العرب في الخمسينيات من القرن ذاته، عندما آمن بأن جمال عبد الناصر هو صلاح الدين العصر الحديث.
سارت الجمهورية التركية من دون تردّد في خط تحديثي راديكالي لم يتغير خلال نصف قرن. وتعاملت بندّية مع الدول الأوروبية التي كادت تمحوها من الوجود، وأصبحت منذ عام 1952 عضوا في التحالف الأطلسي العسكري الأقوى في العالم، وحكمها حزب واحد (الشعب الجمهوري)، حتى رحيل زعيمه عام 1945. وكان ضعف أحزاب المعارضة التي ربحت انتخابات 1952 وانقساماتها السبب الأبرز في تشجيع البيروقراطية العسكرية على تعطيل الانتقال نحو الديمقراطية، وفرض وصايتها الطويلة على الحياة السياسية.
لكن، على الرغم من هذه الوصاية، وما كان يتمتّع به الجيش الأتاتوركي من مكانةٍ معنويةٍ وتماه مع الفكرة القومية، لم يستطع العسكريون، في النهاية، سد الطريق أمام الانتقال من نظام الحزب الواحد إلى التعدّدية الحزبية والديمقراطية. لم يحتج التحول في هذا الاتجاه إلى ثورة شعبية، دموية أو سلمية، ولكنه جاء نتيجة الضغوط الشعبية وتنامي قوى المعارضة السياسية التي أجبرت العسكريين على القبول بالعودة إلى العمل بقانون تعدّد الأحزاب (1983). وكان من الطبيعي أن يشكل ذلك فرصة لتشكل الأحزاب الاسلامية وصعود شعبيتها بعد حرمانٍ طويل، وفي مقدمتها حزب السلامة الذي شكل أول حكومة ائتلافيةٍ برئاسة زعيمه نجم الدين أربكان، المعادي صراحة للعلمانية، عام 1996، قبل أن يطيحها العسكريون في السنة التالية، وينتهي الأمر بإغلاق حزب الرفاه ذاته. لكن تفاقم الأزمة السياسية وإرادة الخروج من المواجهة دفعت الطرفين، الإسلاميين الجدد والعلمانيين القوميين، إلى تعديلاتٍ جوهريةٍ في تصوّراتهم وخياراتهم السياسية، ومهّدت لما ينبغي تسميتها التسوية التاريخية التي سمحت بتجاوز العداء التاريخي والإنكار المتبادل اللذين طبعا الحقبة الأتاتوركية. هكذا بدأ العلمانيون بالتخلّي التدريجي عن سياسة الإقصاء والحظر الشامل على الممارسة الدينية، وأصبحوا أكثر انفتاحا وتفهما لمبدأ التعدّدية واحترام حريات الأفراد واعتقاداتهم الشخصية، وانفتح الإسلاميون على قيم العلمانية والسياسات البراغماتية، كما جسّدتها آخر تشكيلاتهم، حزب العدالة والتنمية (تأسس في أغسطس/ آب 2001).
والعامل الأبرز الذي سمح بمثل هذا التحول كان السيادة التي تمتّعت بها الدولة التركية الحديثة منذ ولادتها، والتي جعلت من الشعب المرجعية الوحيدة في الحياة السياسية. وهذا ما لم يتغير منذ تشكيل الجمعية الوطنية التي تأسّست خلال حرب التحرير، واستمر حضورها قويا في السياسة التركية، فبمقدار ما تستمد الدولة سيادتها من الشعب تبقى رهينة أيضا لإرادته. وليس من الصعب على أي مراقبٍ عاش في تركيا أو مرّ بها أن لا يلاحظ الحضور الطاغي لشارات هذه السيادة ورموزها، سواء عبر الانتشار الواسع للعلم الوطني أو لصور أتاتورك، باللباسين، العسكري والمدني، وفي كل الأوضاع، في كل مكتب ومصنع ومدرسة وشارع وحي وقرية من أراضي الجمهورية بعد قرن من إعلانها. وبوجود هذه الروح السيادية، نجحت تركيا، بعد حلحلة عقدة السياسات الإقصائية، وفتح حقل المنافسة السياسية في إطلاق موجة جديدة من التحديثيْن، السياسي والاقتصادي. وقبل أن يولد حزب العدالة والتنمية من بقايا الإسلامية التقليدية وبعض القوى الليبرالية اليمينية، كان تورغوت أوزال المهندس الحقيقي لهذا الانفتاح المتبادل في الحقل السياسي، كما كانه أيضا في الحقل الاقتصادي والتطوير الصناعي وفي حقل العلاقات الدولية. وهو أول من ساهم في تقويض قواعد الديكتاتورية العسكرية بتبنّيه، منذ توليه رئاسة الوزارة عام 1983، مصالحة العلمانية المتجذّرة في الدولة والمؤسسة العسكرية مع الحريات الدينية، والحدّ من هيمنة القومية المتطرّفة التركية، والاعتراف بالهويات القومية الأخرى، فهو بالفعل رائد النهضة التركية المعاصرة التي جعلت من هذه البلد واحدا من بين أكبر 17 اقتصادا عالميا، ومن الدول الديمقراطية الحديثة المعترف بها، حتى لو كانت لا تزال تعاني من بعض سلبيات الإرث الماضي والجموح الراهن.
من التسوية التاريخية إلى الفتنة الدائمة
في المقابل، سار المشرق العربي في الاتجاه المعاكس، فقد قبلت نخبه جميعا الليبرالية والقومية والإسلامية، بنظام الانتداب، ولو على مضض. ووطّنت نفسها على التعايش مع الهزيمة والعمل بنتائجها. وكما راهنت على الوعود البريطانية، واعتقدت بإمكانية التعاون مع لندن، لتحقيق الاستقلال القومي، ارتضت أن تتكيّف مع سياسات الانتداب كأمر واقع. ووجدت نفسها أمام مشروع تجزئة إجبارية حوّلت الدولة الموعودة إلى دويلات، روعي في إنشائها المعيار الطائفي والجهوي، أي نفي الاعتراف بشعبها أمةً أو قوميةً بالمعنى الحديث. وتكيّفت بسرعة قياسية مع جغرافيا سياسية مقطّعة الأوصال، وقبلت بالحكم في دويلاتٍ تابعةٍ ومستتبعة، تعتمد في بقائها واستمرارها على الحماية الخارجية، ولا تملك شروط إعادة إنتاجها، لا على الصعيد الاقتصادي ولا السياسي ولا الأمني بشكل أخص، فانتهى مشروع الدولة العربية القومية إلى طريقٍ مسدود. وبقيت الدويلات التي تأسّست على ركامه في أزمة مزمنة: أزمة نمو أو تنمية، وأزمة هوية، وأزمة أيديولوجية.
لم يساعد مرور الوقت كما أملت النخب الجديدة على تجاوز التناقضات والانقسامات التي رافقت نشوء هذه الدويلات. ولا أثر انتشار الثقافة الحديثة وبعض التقدّم الاجتماعي والاقتصادي على تقارب الجماعات الأهلية داخله، ولكنه عمّق الهوّة التي تفصل بينها، وفجّر مزيدا من النزاعات الداخلية التي استدعتها ضرورات تثبيت هوية الدويلات الجديدة، أو خدعة الحفاظ على “سيادة الدولة” أو هيبتها التي لم تكن تعني شيئا سوى تثبيت سيطرة العصائب التي سطت عليها، وجعلت منها، بالتعاون مع حماتها الخارجيين، ممالك وإقطاعات خاصة، بصرف النظر عن تسمياتها، ملكية أم جمهورية. وبعكس ما حلم به “قوميوها”، لم تنشئ هذه الدويلات أمما أو وطنياتٍ جديدة، لكنها فجّرت حساسياتٍ، وأشعلت نزاعاتٍ دفينة بين القوى الأهلية، من طوائف وعشائر وعوائل، بمقدار ما غابت الفكرة القومية، أي معنى السيادة، عن مفهوم السلطة الجديدة، فأصبحت السيطرة على الدولة بأي ثمن غاية السياسة وموضوعها. ولم يعد للدولة نفسها قيمة ولا وظيفة في نظر الجماعات المتنافسة عليها، إلا بوصفها أداةً لخوض الصراع الداخلي، وآلة إقصاء جبّارة للآخر، وتحيل الموارد العامة إلى غنائم حرب.
من هذه الحقبة، بدأت أزمة الدولة المشرقية. وفي سياق هزيمة القومية هذه وتقويض فكرة الدولة أو تفريغها من مضمونها، جاء انقسام النخبة واستقطابها بين إسلاميين سلفيين وعلمانيين متشدّدين، وتباعدت بينهما الطرق بشكل متزايد بمقدار ما زال الرهان المشترك الذي جمعهما. هكذا ارتدّت الإصلاحية الإسلامية عن المواقف الليبرالية نحو مواقف سلفية محافظة، ونزعت إلى التمترس وراء العقيدة الدينية، أو “العروة الوثقى”، في مواجهة خطر الانحلال أمام الغزو الثقافي، وتحوّل الغرب الذي قال محمد عبده إنه وجد فيه إسلاما مطبقا لكن من غير مسلمين، مثلما كانت الأقطار العربية تزخر بالمسلمين من دون إسلام، إلى شيطان أكبر. وبالمثل، تغيرت مواقف الطرف المقابل، وأصبحت العلمانية تختلط بالعداء للدين الذي أصبح في نظر معظم مريديها سبب التخلف والعقبة التي تحول دون توطين الحداثة والالتحاق بركب المدنية والغرب.
هكذا انقسمت النخبة الاجتماعية على أرضية مواجهة المسألة الاستعمارية بين استراتيجيتين وأجندتين، لا مجال للتقريب بينهما: الحفاظ على التراث، والدين خصوصا، بصفته الحافظ للهوية من خطر التغريب من جهة، والدفاع عن أفكار الحداثة وقيمها وإرثها الإنساني بوصفها الحامل لأسرار التقدّم العلمي والتقني من جهة ثانية. وفي هذا الاستقطاب السياسي والفكري الذي أدار فيه كل فريقٍ ظهره للآخر، انتفت أي إمكانية للحوار والنقاش، وأهملت الخيارات الاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية التي تتعلق بتسيير المجتمع ومصيره، فلا حل ممكنا في نظر السلفي لأي مشكلةٍ من دون تغيير النظام الكلي وإقامة حكم الشريعة، كما يقول شعار “الإسلام هو الحل”، ولا يتصوّر العلماني تقدّما ممكنا ما دامت السيطرة للخرافة على العقل، والدين على العلم، والظلام على النور.
هكذا التقى الفريقان في موقف “جهادي” في سبيل الفوز بمعركة المرجعية، فلا مجال للتعايش، كما يقول بعضهم، بين العقل أو العقلية الدينية السحرية والعقل أو العقلية العلمية. ومن الصعب أن لا نعترف بأنه كان لهذه المنازعة، وبالأحرى الفتنة، أكبر الأثر في التشويش على ثورات الربيع العربي، وطمس الجوهر التحرّري الذي ألهمها وقاد خطى شبابها، وحرف بعض جمهورها نحو مواقف طائفية وبعضه الآخر إلى تأييد حرب الإبادة الجماعية أو تبريرها.
من الواضح، إذن، أنه، كما عزّز الأمل بالدولة القومية المستقلة، أي السيدة، روح التعاون بين النخب المختلفة المشارب الفكرية والأصول الدينية والمذهبية، في حقبة ما نسميها النهضة العربية أواخر القرن التاسع عشر، أحدث الإخصاء الاستعماري لهذه الدولة والقومية التي ارتبطت بها، منذ بدايات القرن العشرين، شرخا لا يلتئم داخل صفوفها، حرمها من إمكانية بناء أجندةٍ وطنيةٍ جامعة، والانخراط في العمل لتغيير شروط حياة شعبها وتحرير إرادته وتوحيد قواه. وبالمثل، بمقدار ما أغلق تقويض الدولة أفق التقدّم والتحديث الاجتماعيين الفعليين، دفعها الشعور الطاغي بالأزمة إلى الهرب نحو معارك فكرية فارغة، للتغطية على إخفاقها التاريخي، وتأمين قسطها من المصالح الخاصة والآنية، فيما بقي لها من موارد، بالتعاون، إذا لزم الأمر، مع أصحاب النفوذ، من القوى والعصبيات الداخلية والدول الأجنبية، فما عرفته المجتمعات العربية في نصف القرن الماضي من أيديولوجيات مأزومة، وما رافقها من تناحر واقتتال أهليين هو الانعكاس المباشر لأزمة الدولة القومية البنيوية ذاتها ووسيلة إعادة إنتاجها في الوقت نفسه. وليست النظم الطفيلية الاستبدادية التي عرفتها هذه المجتمعات في تلك الحقبة الوليد الشرعي لهذه الأزمة والاقتتال، فحين تخفق النخب الاجتماعية في التفاهم على أجندةٍ وطنيةٍ تتجاوز الصراع على المصالح الخاصة، وتغرق في حرب المرجعيات المتنافية التي لا مخرج منها، تحكُم على نفسها بالموت السياسي، ومن ورائها تحييد المجتمع المدني بأكمله، تنهك لا محالة نفسها، فهي لا تحيّد نفسها في الصراع على السلطة فحسب، ولكنها تحيّد المجتمع المدني برمته، وتقدّم للمغامرين، من عسكريين وغير عسكريين، السلطة على طبقٍ من ذهب، فهي فرصتهم الفريدة للانقضاض على السلطة/ الفريسة، بذريعة إنقاذ البلاد أو من دونها. ولن يجدوا، حينئذٍ، صعوبة في تحويل الدولة التي تحوّلت إلى قوقعة فارغة، بعد أن فصلت عن شعبها، إلى مستعمرة، وإعلان سيادتهم المطلقة عليها إلى الأبد. وليس لديهم وسيلة لتأكيد هذه السيادة إلا بنفي سيادة الشعب وتقويض أسسها وتحويل أفراده إلى اتباع وزجهم في حربها ضد النخب ذاتها التي كان من المفروض أن تنظمه وتقوده وتحتمي به. ولا وسيلة للإبقاء على هذه الحرب وتحقيق أهدافها سوى بإشعال حرب دينية أو أيديولوجية موازية، أي حرب هويةٍ لا مخرج منها إلا بإبادة مستحيلة لأحد الطرفين. وهي ما كان أسلافنا يسمّونها الفتنة التي لا يمكن لاستبداد أن يعيش من دونها، فهي لا تموت، ولكنها تظل نائمة في انتظار من يشعلها.
في حتمية تعدد الاعتقادات والمذاهب والأديان
لا تهدف هذه الحرب الأيديولوجية إلى تحييد النخب الاجتماعية بعضها لبعض، وترك الشعب من دون قيادة فحسب، ولكنها تحرم نفسها فيها من فضيلة الاحتكام للعقل، فبينما هي تخوض حرب مقدّسات، من حول أفكارٍ هي بمثابة أوثانٍ لا تنطق ولا تسمع ولا وظيفة لها إلا الإبقاء على نار الفتنة الدائمة، يستفرد الطاغية بحق المتاجرة بالعملتين، بالدين والعلم معا، من دون رقيب أو حسيب، فلا يغيب عن أحد أن اللعب على ورقتي العلمانية والإسلامية أصبح اليوم أحد أبرز استراتيجيات السلطة الاستبدادية وصندوق عدّتها لتحييد الشعوب وحرمانها من أي حق، وفي مقدّمه الحق الطبيعي بالحرية، حرية الرأي والضمير قبل الحرية السياسية. وفي هذه الحرب، لا يبقى إسلامي ولا علماني، وإنما تحوّل الجميع، كما هو الحال في أي حرب، إلى مجرّد أعداء، والكراهية هي المعتقد الوحيد الذي يجمع بينهم.
هكذا، ما كان يمكن للسياسة، وهي على هذه الحال، إلا أن تخون ثورات شعوبها، وتفشل في مواكبة تضحياتهم. وما كان لهذه الثورات إلا أن تقضي بإسقاطها وتعرية إيديولوجياتها المأزومة التي هي وقودها. لكن، بمقدار ما يترك هذا السقوط المجتمعات في الفوضى السياسية والفكرية المعمّمة، يضع الشعوب، وشبابها بشكل خاص، أمام تحدّي شقّ طريقهم الجديدة في الصخر، والتجرؤ على التحرّر من المفاهيم والإشكالات النظرية الملغومة التي لا تقود إلا إلى طرق مسدودة، فلا يحتاج النهوض ومدّ رأس الجسر نحو المستقبل إلى مماحكاتٍ فلسفيةٍ وإيديولوجيات مسمومة، ولكنه يستدعي، بالعكس، الوضوح في الهدف وصدق الإرادة والانخراط في العمل مع جمهور الناس العاديين، وبينهم لتجاوز المحنة والخروج معا من الهوّة المظلمة التي دفعهم إليها عنف الطغيان وعطب الفكر والسياسة.
كنا ولا نزال في حاجةٍ الى مصلحين ومجدّدين إسلاميين يساعدون المؤمنين على التصالح مع قيم عصرهم والتفاعل معه، وبلوغ السعادة فيه، لا تغذية العداء له أو الخوف منه أو الاغتراب فيه والعيش في يأس وحداد دائميْن. ونحتاج، بالمثل، إلى فلاسفة عقلانيين يصالحون الحداثة مع واقع مجتمعاتنا، ويفتحون لها طريق التفاهم والتعاون لتغيير الشروط المادّية والمعنوية السيئة التي تعيشها، من فقرٍ وتهميش وحرمان وسيطرة واضطهاد وقهر، لا إلى من يجلدونها حتى تقرّ بدونيتها وتتخلّى عن اعتقاداتها الدينية، وهي رأس المال الوحيد الذي بقي لها بعد أن جرّدت من كل ما يبني ذاتية الإنسان: الحقوق والحرّيات والكرامة والثقافة والسلام والأمن والأمل بالمستقبل، ويحكمون عليها بالعيش في حدادٍ لا ينتهي وقنوط روحي لا يزول.
ليست المشكلة في وجود الفكرة الإسلامية كتأويل جديد للمعاني الدينية أو استلهام القيم الدينية في مشاريع سياسية واجتماعية، ولا في وجود العلمانية كمفاهيم ومنابع إلهام وقيم إنسانية يستنير بها الفرد، كما هو الحال في أي منظومةٍ اعتقادية، ويسترشد بها في ترتيب علاقاته الكبرى مع الذات والآخر والطبيعة والكون والعالم. إنما تنبع من تصنيم المفاهيم والأفكار وإغلاقها، حتى لا يعود يرى الإنسان الواقع الحي إلا من خلالها، جامدا وخائبا وميتا. وليس أخطر ما في هذا التصنيم للفكرة قتل الواقع الحي أو حرمان الإنسان من رؤيته على حقيقته، إنما قتل قدرته على نقد الذات، أي على وضع نفسه موضع السؤال الذي من دونه لا يوجد تقدّم فكري ولا تغيير اجتماعي، ولا تطور علمي.
لن يصبح الناس جميعا علمانيين، ولن يكونوا جميعا إسلاميين، ولو حصل استعادوا انقساماتهم، فصائل وشيعا وفرقا تتنازع من داخل الدين والعقيدة ذاتهما، كما نشاهد ذلك أمام ناظريْنا اليوم. سوف يبقى الناس دائما كما هم، متعدّدي الاعتقادات والمذاهب والأديان، وإلا تحنطوا واندثروا. ولا يوجد طريقٌ للخلاص إلا التعايش والقبول بحتمية التنوع والاختلاف. وهو عين ما نسميه الاعتراف بحرية الاعتقاد، وهذا الاعتراف بشرعية التعدّد والاختلاف في الاعتقاد، كما هو الحال في كل مخلوق، هو وحده الذي يعلمنا نبذ الكراهية، ويساعدنا على الترحيب بالتعاون في سبيل الارتقاء بشروط حياة الجميع وثقافتهم وتربيتهم المدنية. وفي النهاية، لم توجد الفلسفات والقيم الدينية والعقلية لتعظيم الكراهية والتحريض على العدوان، لكن لمساعدة الناس على التفاهم والتعايش والتعاون لإعمار الأرض وازدهار الإنسان والارتقاء بفكره ومشاعره وعواطفه، فكل ما ينمّي التفاهم والتعاون بين البشر يعبّر عن التقدم في المدنية والسمو ومكارم الأخلاق، وكل ما يدفع إلى الكراهية والعداء والاقتتال يدلّ على إخفاق العقل وفشل الثقافة وموت الروح وفساد عقيدة الإنسان. والنتيجة أن الشعب الذي لا يعرف أن يحكُم نفسه بنفسه محكومٌ بأن يُحكم من خارجه. ولا يَحكم نفسه إلا إذا استبطن قانون الحرية الذي هو عينه حكم القانون، ونقيضه حكم الشخص المتألّه، وهي القيصرية التي تحول الحاكم إلى إله، وجميع من عداه إلى عبيد.
العربي الجديد