عمر عزيز يدخل غيابه العاشر/ حسام جزماتي
ربما كرر رئيس دورية المخابرات الجوية قراءة المهمة التي أوكلت إليه بعد ظهر ذلك الخميس، 20 تشرين الثاني 2012، ليتأكد من أنه التقط العنوان بشكل صحيح؛ المزة – فيلات غربية. هو الذي اعتاد، خلال أكثر من سنة ونصف من عمر «الأزمة»، أن يتوجه إلى أرياف العاصمة وأحيائها الطرفية أو الفقيرة. وربما تجدد استغرابه حين قبض على الشخص المطلوب؛ هذا الستيني بمظهره اللطيف. فما عساها تكون التهمة؟!
ولد عمر عزيز عام 1949 في حي العمارة الدمشقي لعائلة من أصول تركية. درس والده، محمد كامل، الحقوق وعمل في استيراد العدد الكهربائية ووكالة شركاتها. أما والدته، بوران طرزي، فقد كانت أول محامية سورية. وهي صاحبة مذكرات شخصية/عامة عن دمشق، قبيل الانتداب وفي أثنائه وبعده، ظهرت بالفرنسية.
أنهى عمر الثانوية في مدرسة اللاييك بدمشق. وحاز بكالوريوس العلوم الاقتصادية والسياسية من جامعة غرونوبل في فرنسا عام 1973. انتقل للعمل في الرياض عام 1980. وبعد ثلاثة عقود ترك السعودية ليتفرغ للعمل الثقافي، سنة واحدة فقط قبيل اندلاع الثورة في سوريا التي وجدها فرصة مناسبة لتطبيق أفكاره عن المجالس المحلية.
يُجمع من عرفوا عمر عزيز أنه كان مثقفاً من طراز خاص، يقرأ بالعربية والفرنسية والإنكليزية. وقد تجلى هذا في الآثار القليلة التي تركها. التي تتبدى فيها قدرة على التركيب غير مألوفة في الثقافة السورية المتخشبة على العموم وقتئذ. وقد ساعده في ذلك بناؤه على تراث حر من اليسارية الأناركية المنفتحة على ما بعد الحداثة.
وبخلاف ماركسيين أنِفوا من أن يجرفهم الحراك الشعبي عن طاولاتهم، يصح في وصف عمر عزيز استخدام الفعل «انخرط» دون ابتذال. كان أبو كامل يتردد إلى بؤر الاحتجاجات كجزء منها، يوزع المساعدات ويلتقي بأهلها من دون أن يتخذ دور «الأستاذ الزائر». وحين بدأت مجتمعاتهم تتحرر من سلطة النظام قدّم لهم مقترحه الخاص، في الشهر الثامن من الثورة، الذي سيؤدي إلى اعتقاله بعد عام، تحت عنوان «ورقة نقاش حول المجالس المحلية في سوريا». وهو ما سيطوره ويوسعه، بعد أشهر، إلى «تشكيل المجالس المحلية في سورية: اقتراحات عملية لاستمرارية الثورة».
وفيهما يميز عزيز بين زمنين؛ زمن السلطة وزمن الثورة. ويلحظ أن الناس، وقتئذ، كانوا يقسمون يومهم بين الحراك الثوري والأنشطة الحياتية المعتادة. وسعياً وراء إدماج الأخيرة في زمن الثورة اقترح تشكيل مجالس محلية تعمل على مساندة البشر في إدارة حياتهم بشكل مستقل عن مؤسسات وأجهزة الدولة (وإن بشكل نسبي)، وتكوين فضاء للتعبير الجمعي يدعم تعاضد الأفراد ويرتقي بأنشطتهم اليومية إلى التعامل السياسي، وتفعيل أنشطة الثورة الاجتماعية.
ومما يدخل في صلب اهتمامات المجلس المحلي رفع المعاناة المادية وتخفيف الألم المعنوي للعائلات المهجرة نتيجة همجية السلطة، والتضامن النفسي والمادي مع العائلات المنكوبة بفقيد أو جريح أو معتقل أو متوار، وتنظيم بيانات المعتقلين ونقلها إلى الجهات المعنية في الثورة وترتيب الاتصال مع الجهات القانونية ومساندة الأهل في متابعة أحوال ذويهم في الاعتقال، ومساندة الجهات القانونية في الثورة لتوثيق الانتهاكات التي يقوم بها الجيش وقوات الأمن والشبيحة من قتل واغتصاب واعتقال وتدمير للممتلكات وسرقات، وتدوين الوقائع المدنية في المناطق التي حققت فيها الثورة حيزاً من الاستقلالية بمسك كل الوقائع من ولادات ووفيات وزواج وطلاق، وتحديد المنازل التي تتوافر فيها الحدود البيئية الدنيا لتحويلها إلى مشاف ميدانية وتأمينها من أصحابها وتجهيزها بالتنسيق مع اللجان الطبية ولجان الإغاثة لتحديد المتطلبات الطبية والإسعافية والعمل على تسلُّمها وتخزينها، وتحديد المتطلبات التعليمية لجميع المراحل والتنسيق مع الهيئات التعليمية في المنطقة و/أو مع من تتوافر لديه الإمكانية والرغبة في التدريس، وتكوين «ساحة اجتماعية» تمكّن الناس من مناقشة مشكلاتهم الحياتية وتداول أحوالهم اليومية وابتكار الحلول المناسبة في الشؤون المحلية والبنية التحتية والتوافق الاجتماعي، وتحصيل إيرادات المنطقة والنظر في المسائل التي تتطلب حلولاً من خارج الجمهور المحلي كالتمويل.
تبدو هذه الأفكار مضمّخة بظروف كتابتها، في الأشهر الأخيرة من 2011 والأولى من 2012. غير أن ما يدفع إلى استعادة نموذج هذا الرجل النبيل اليوم هو أنه حملها إلى مواقع التنفيذ، فأسهم في تأسيس مجالس محلية عديدة في دمشق وريفها، منها مجلس برزة الذي ربما يعدّ الأول. فضلاً عن أن حساسية أبو كامل لم تنفصل عن الناس؛ فلم يستنكر دور علاقات القربى في التضامن الأهلي باسم مجتمع مدني مفترض مكوّن من مواطنين. بل إنه رأى أن مسؤوليات المجالس المحلية لن تكون بديلاً عن الأقارب أو المعارف (على الأقل في مرحلة أولى) كما لا يجب أن تكون ملزمة بأي حال من الأحوال. فالبشر التي بدأت تأنس الخروج عن خدمات الدولة بحاجة إلى وقت وممارسة كي تدخل في تماس وسلوك اجتماعي جمعي أكثر تطوراً وفعالية. كما أنه رأى في تسلح الثورة مآلاً طبيعياً بعد تجربة كبيرة في التعاطي السلمي مع «عنف خارج عن القياس من شدة وحشيته». ولذلك قال إن من مهام المجلس المحلي توفير المأمن والمسكن والغذاء لأفراد الجيش السوري الحر، والتفاهم معهم على الاستراتيجية الدفاعية عن المنطقة، والتنسيق على تمكين المجتمع من منطقته أمنياً وإدارياً. من دون استخدام مكثف للسلاح تصبح فيه الثورة والمجتمع رهينتين للبندقية.
يصعب التنبؤ بمآلات تفكير عزيز لو لم تنهِ حياته الجلطة التي أصيب بها في سجن عدرا في 16 شباط 2013. لكن الأرجح أنه كان سيبقى حيوياً، مبنياً على معايشة واقعية وملاحظات مطابقة، وفياً للمبادئ الأساسية لدور المثقف الرائد في اقتراح حلول غير منفصلة عن حياة الناس ولا متعالية عليهم في المفاهيم أو في الانحيازات.
تلفزيون سوريا