عن «عودة طوعية وآمنة» إلى سوريا/ ولاء صالح
أجابتني على الهاتف بصوتٍ مضطرب، فسألتها: «مروة، إنتي منيحة؟ سألتُ عنك بكل مكان ببيروت!».
بدت مروة، الفتاة العشرينية، منطفِئةً وغير مستعدة للحديث، وطلبت مني أن أحادثها في اليوم التالي لتخبرني عن قصة اختفائها لشهورٍ عدّة.
بقامة متوسطة وعينين متقدتين، وحجاب أبيض ذي قطعتين ومثبّت بدبوس واحد في المنتصف، واجهت مروة كثيراً من مصاعب حياتها المحكومة بالتنقل من مكان إلى آخر. حيث كانت تعيش مع أفراد عائلتها اللاجئين في الشمال اللبناني، ولكن سرعان ما تقطّعت بالعائلة سُبل العيش والحياة الكريمة، إذ فقدَ والدها في تلك الفترة عمله، وأصبح تأمين أدنى مقوّمات الحياة أمراً شاقاً.
قرر الوالد حينها ركوب البحر نحو ألمانيا أملاً بحياة أفضل، لتنشطر العائلة إلى قسمين، ثم تبعثرَ أفرادها بعد هذا الانشطار وراحوا يغرقون في بحر من اليأس والخوف. بعدها كان ما كان في لبنان خلال العامين الماضيين، من انهيارٍ اقتصادي وكارثة انفجار مرفأ بيروت، فازدادت هموم مروة ومشكلاتها، أسوةً بكثيرين غيرها من اللاجئين السوريين في لبنان. فوق ذلك، تأتي المطالبات اللبنانية المستمرة بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم لتزيد من مستوى الخوف. هكذا، وجدت مروة نفسها غارقةً في دوامة من الحيرة، بين بقاءٍ مرهون بتداعيات الأحداث في لبنان وبين العودة إلى سوريا، فكان خيارها العودة «طوعاً» إلى سوريا، في مرحلة «ضرورية ومؤقتة» قبل الذهاب في سبيل نجاة جديدة، بعد أن استنفدت جميع فرص النجاة في لبنان.
تُمارَس على اللاجئين في لبنان ضغوطٌ كثيرة لإجبارهم على العودة، أبرزها تعقيد معاملات الإقامة والعمل والتعليم المدرسي والجامعي، وهو ما يدفع أعداداً منهم للتفكير جديّاً بالعودة «طواعيةً» إلى سوريا. واستناداً إلى التقرير الذي أصدرته منظمة العفو الدولية في شهر أيلول (سبتمبر) من العام الماضي، بعنوان أنت ذاهب إلى الموت، جرى توثيق عشرات الحالات من الانتهاكات المروعة ضد اللاجئين العائدين إلى سوريا، تشمل الاعتقال والتعذيب والاغتصاب. وقد أكد بعض العائدين خلال حديثهم للمنظمة أن ضباط المخابرات استهدفوهم بشكل صريح بسبب هربهم من البلاد، متهمين إياهم بخيانة الوطن، ليلاقوا تعذيباً عنيفاً بعد أن توجه لهم هذه التهمة.
مثل كثيرين غيرها إذن، تعلّقت مروة بأحد حبال الأوهام في محاولة للنجاة والعبور من ضفة إلى أخرى؛ ذاك الحبل الذي أودى بها من مرارات اللجوء في لبنان إلى جحيم أحد الأفرع الأمنية في دمشق.
عمل بلا أجر
«تملّكني شعورٌ الخجل، وبأني أصبحتُ عبئاً ثقيلاً على أخي الذي ظلَّ معي في لبنان يقاسمني الشتات والضياع وقلّة الحيلة». لهذا السبب قررت مروة الشروع في البحث عن عمل يؤمن لها قوتها اليومي ويكفل الحصول على «مكان آمن يسترها» على حدّ قولها، وتبدأ معه حياةً مستقلةً عن أخيها.
«أضعُ الواقي الشمسيّ على بشرتي، وبشجاعة المغامِرة أبحث عن عمل بلا مؤهلات كافية. بدا لي حينها أن بشرتي التي اكتسبت درجات جديدة من السُّمرة كانت سبباً إضافياً للرفض». استطاعَت مروة بعد عناءٍ كبير الحصول على عمل كمتطوعة في إحدى المنظمات الإنسانيّة، بلا مقابل مادي، ولكن مع السماح لها بالمبيت في مركز المنظمة في عكّار، وهو ما جعل الصفقة جيدةً لها ريثما تجد عملاً آخر.
كانت بداية كأيّ بداية طازجة، انقضّتْ عليها بنهمٍ، وبذلتْ في سبيلها ما استطاعت من جهدٍ وكدّ. وما أن انخرطت في جوّ العمل حتى أُوكِلت إليها مهام وأعباء لم تستطع تحمّلهما لولا السماح لها بالإقامة في غرفة صغيرة ضمن مكان العمل؛ الغرفة التي لطالما خشيت فقدانها بسبب عدم وجود بديل، وعدم قدرتها على تحمل تكاليف الإيجارات المرتفعة.
تزامنَ عملها آنذاك مع الحملة التي أطلقتها وزارة العمل اللبنانية عام 2019 لتقييد عمل اللاجئين، ومنعهم من العمل دون إذن عمل، وهو ما كان من شبه المستحيل استخراجه وتحقيق شروط الحصول عليه. صار يُمارس عل مروة نوعٌ من الاستقواء والاستغلال كونها لا تملك إقامة صالحة وإذن عمل، الأمر الذي يتعارض مع قانون العمل في لبنان، حتى لو كان العمل تطوعياً.
بدأت دوريات الأمن اللبناني بالتقصّي عن العاملين «غير الشرعيين» في أماكن عملهم. وكانت مروة تتخبط عندما تسمع عن خبر استنفار الدوريات التي يقوم عناصرها بالتأكد من جنسيات الموظفين ومن حيازتهم على أوراق نظاميّة، فلو جرى القبض عليها متلبسةً بـ«جريمة» عدم حيازة إذن عمل، فسيصدر بحقها ترحيل فوري. تقول مروة: «لطالما كانت حقيبتي مجهزةً للرحيل، مع لباس مريح وحذاء رياضي يمكنني من قطع بعض المسافات». عاشت مروة خلال هذه الفترة حالةً من التشتت والتنقل بين شمالٍ وجنوب، وما أن تسمع عن توقف المداهمات الأمنية حتى تعود إلى عكار لاستئناف عملها: «تُرى هل كان ذاك العمل يستحق كل جرعات الفوضى والغضب والشعور بالدونية؟» تسأل مروة نفسها.
في ذاك العمل التطوعي، كان أمامها بضع ساعات للنوم، أما باقي اليوم فعمل لا ينتهي إلا بنفاد صبرها وقوتها معاً: «كنتُ طوال الوقت بين إنجاز مهمّة وأخرى، أجهز وأسجل جميع المعونات التي كانت توزَّع على بعض مخيمات الشمال. وفي بعض الأحيان أقوم بالمساعدة في حملها وإيصالها». لم تستطع مروة تحمّل جرعات الألم كلها، فبدأت تتمرّد على الظلم والاستغلال الواقعين عليها.
مع أن مروة كانت تثمّن العمل للغاية، وأرادت أن يضيف هذا التطوع غير المأجور معنىً مختلفاً لوجودها، «وإلا ما الذي يستحق العيش لأجله؟» بحسب كلماتها، إلا أنها طُردت بعد مطالبتها بتقليص ساعات العمل ومنحها أجراً رمزياً.
لم تكن حاجة مروة المُلحّة للعمل تنبع من حاجتها للمال والمسكن فقط؛ بل أيضاً من حاجتها إلى مساحة تعبّر فيها عن ذاتها. وقد عانت بعدها ظروفاً بالغة السوء: ضائقة ماديّة شديدة، واللجوء إلى عدّة أصدقاء في مناطق مختلفة بسبب عدم وجود سكنٍ دائم. ولعل أكثر ما كان يخفف من وطأة الخوف والنار التي تتقد في صدرها أنّ والداها يعملان على لمّ شملها إلى ألمانيا.
عودة، جواز سفر، ثمّ مذكرة اعتقال!
لم تفكر مروة يوماً بالعودة إلى سوريا للاستقرار ولاستئناف العيش هناك بعد كلّ هذه السنوات، بل كان ما أرادته من عودتها أساساً هو إنجاز معاملة جواز سفرها المفقود في دمشق، لأنّ استخراجه من القنصلية السورية في لبنان سيكلّفها أضعافاً مضاعفة من المال والجهد. كانت مروة بحاجة لأن يكون بين يديها جواز سفر ساري المفعول كي يكون لديها وسيلة لمغادرة لبنان إلى غير سوريا عند الضرورة أو عندما تحين الفرصة، ولم تكن تعرف في ذلك الوقت أنّ معاملة استخراج جواز سفر بدل ضائع في سوريا ستودي بها إلى مخاطر ما كانت لتتخيلها من قبل.
في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريراً قالت فيه إن «العائدين إلى سوريا من لبنان والأردن، بين 2017 و2021، واجهوا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان واضطهاداً على يد الحكومة السورية والميليشيات التابعة لها». وخلص التقرير إلى أنّه من بين 65 من العائدين أو أفراد عائلاتهم، تمّ توثيق 21 حالة اعتقال واحتجاز تعسفي، و13 حالة تعذيب، وثلاث حالات اختطاف، وخمس حالات قتل خارج نطاق القضاء، و17 حالة اختفاء قسري، وحالة عنف جنسي.
وصلت مروة إلى الحدود السورية، فسألها الموظف عن جوازها الذي غادرت به، وعندما علم أنه مفقود حدث استنفار شبه كامل للموظفين، ودُعي الموظف الأعلى رتبةً. دار بينهم حينها حديثٌ قصير، وبدأت تشعر بمدى خطورته عندما أعطوها ظرفاً مغلقاً مُنعت من فتحه، وطلبوا منها تسليمه فور الوصول إلى فرع الهجرة والجوازات. بالنسبة لها، بدا كل شيء مبهماً بشكلٍ يثير الهواجس والرعب.
«يومٌ واحدٌ سار فيه كل شيء على عجل، فقدتُ خلاله معرفتي بالزمن وإحساسي بالأشياء. كانت الأحداث متتالية ومرتبة بشكلٍ مخيفٍ، وكلّ ما فهمتُهُ لحظتها هو أنّي متهمة بتهمة خطيرة، وأنّي على بعد أمتار من الأمن السياسي»؛ بهذا تصف مروة رحلة تنقلها بين فرع الهجرة المسؤول عن إصدار جوازات السفر، ثم تحويلها من قبل الموظفين هناك إلى أحد أفرع الأمن.
«حين اقتربتُ من بوابة فرع الأمن السياسي بدأتُ أسير بتثاقل. كانت خطواتي ناقصة. لم تنقصني الشجاعة، لكنّ الشجاعة هنا ليست عنواناً جيداً لوصف الحالة. أرسلتُ رسالةً إلى أهلي قلت فيها إني أحبهم وأشتاق إليهم، ولطالما تمنيت أن ألقاهم قريباً، وأن أرى سماءً غير سماء الوطن وسماء المنفى القاسي. هذا ما فكرت به وقتذاك».
أماطَت عن عينيها غباشة الخوف ودخلت إلى فرع الأمن محاولةً أن تتجنب النظر إلى داخل الغرف. لم تكن عيناها في وجهها، بل على الرجال المرميين في الممرّ ويتم الدوس عليهم: «لم أكن معصوبة العينين، وكم تمنيت ذلك». كان الضابط الذي يريد استجوابها جالساً على كرسيه المهترئ، وكان غليظ الصوت والمعاملة.
«سيدة مروة، هذه إجراءات روتينيّة يُعمل بها مع أي شخص فقد جواز سفره خارج القطر». فتحَ جهاز الحاسوب، وقام بالولوج إلى صفحتها الشخصية على فيسبوك. «بلعتُ ريقي، بلعته أكثر حتى كدتُ أختنق». نظَرَ إليها من أعلى وألقى سلسلةً من التهم التي اعتادت مخابرات النظام رميها على الناس: بيع جواز سفرها للإرهابيين، والتعامل مع جهات أجنبيّة معارضة. «غبي، قلت في سرّي، أغبياء. تذكّرت عملي في لبنان وازددتُ بؤساً».
تتابع مروة: «قلتُ للضابط إنْ كانت عملية توزيع المساعدات للاجئين في المخيّمات جريمة، فلتكن. وصمتت، والتَهمني الصمت. فردّ عليّ: إذاً، لا تنكرين. حسناً، جيد. تبدين مهذبة ومتعاونة».
في اليوم التالي لم يكن الضابط وحده، بل كان معه أبو ميّار، وهو رجل طويل القامة كريه الرائحة. أمرها بالجلوس، ثم أعطاها ورقةً وقلماً طالباً منها أن تدونّ كل التفاصيل، صغيرةً وكبيرة، منذ خروجها من لبنان وحتى دخولها إلى دمشق، بالإضافة إلى أسماء المنظمات التي عملت وتعاملت معها، وأسماء المشرفين، والعاملين، والحراس… كل شيء، كل شيء.
بدا أبو ميار على معرفةٍ وثيقة بعمل المنظمات وأسمائها، حتى إنّه ذكر الأسماء الحقيقية لبعض الأشخاص الذين يعملون بأسماء مستعارة في بعض المنظمات. في حين كانت مروة متصلّبة كتمثال، كتفاها وظهرها في وضعيّة مستقيمة، تبتلع كل الإرباك وتشعر بأنّ قلبها الذي يرتعش سيتوقف بعد دقائق. كان يريد سبر أعماقها، وأن يشدها من ذاكرتها نحو أكثر المواقع استفزازاً واشمئزازاً، إلى درجة أن تحتقر نفسها وهي تشي بكل هذه المعلومات.
«أمسكتُ بالورقة وبدأتُ بكتابة أسماء وهمية بينما كان يحدّق من أعلى في أصابعي التي كانت ترتجف وهي تحاول أن تنكمش على القلم حتى لا ينزلق منها بفعل الخوف، وأنا أفكّر: تُرى، هل سأخرج من هذا المكان حيّة؟».
لم يكتفِ أبو ميار بالأسماء، بل بدأ بابتزازها. أخرجَ ورقةً من جيبه فيها معلومات «تثبت تورطها في العمل مع منظمات مموّلة من جهات خارجية معادية»، واتهامات لها ببيع جواز سفرها للإرهابين، إضافةً إلى عثورهم على منشورات لها في فيسبوك تؤكد معارضتها للنظام. في تلك اللحظة اقترب منها أكثر حتى شمّت رائحته، وأضاف مُهدٍّداً: «أستطيع بهذه الورقة سجنك ما لا يقل عن سبع سنوات» ثمّ طلب منها التعاون معهم.
تمّ إطلاق سراح مروة في اليوم الثالث، ولكنها خرجت من فرع الأمن السياسي مُكبّلةً بشروط العفو عنها، حيث لم يكن إطلاق السراح هذا مكرمةً، بل وقتاً للتفكير بالعرض الذي قدمه المحقق وأبو ميّار، والذي ينص على التعامل معهما. وفي الحقيقة، لم يكن عرضاً قبلت بمضامينه بقدر ما كان منفذها الوحيد للخروج من الفرع.
عن الشّمس التي رأيتُها مُجدّداً
استمرّ الضابط بالاتصال بمروة ومغازلتها والتحرّش بها لفظيّاً، مستخدماً ألفاظًا جنسية، وقدّم لها الكثير من الإغراءات، كإسقاط جميع التهم الموجهة إليها وتقديم تسهيلات تمكّنها من العيش بحرية، في محاولة منه للضغط عليها وقبول التعاون مع المخابرات. أمّا الفكرة الوحيدة التي كانت تراودها فهي الهروب، لأن هذا يبدو موتاً محتّماً.
رفضت كل العروض المقدمة لها وحاولت الاختباء. تخّلصت من رقم هاتفها، وعلمت بعدها بصدور مذكرة اعتقال بحقها عبر أحد أقاربها، الذي استطاع الاستفسار عن اسمها لدى أفرع الأمن عبر دفع رُشى لعناصر يعملون هناك.
كان جسدها، الذي عولّت على قوته سابقاً، قد بدأ بالنحول، وتدهورت صحتها النفسية، ولم تعد تعرف النوم ليلةً واحدةً دون أن تأكلها الكوابيس والهواجس. انتشرت بقعٌ في أنحاء جسدها، وهي لا تزال تُذكرها بتلك الأيام عندما تعاود الظهور في جسدها بين حينٍ وآخر حتى يومنا هذا.
وقفت مروة مركزّةً نظرها نحو الأرض، تُحاول أن تُشيح به عن العيون المارة والمحدّقة وهي تنتظرُ أحد كبار المسؤولين في منطقة قريبة من فرع الهجرة والجوازات، بعد أن دفعت لهُ رشوةً كبيرة بملايين الليرات السورية، استطاعت تأمينها بفضل أهلها المقيمين في ألمانيا وبعض الأقرباء والأصدقاء. كانت الملايين ثمناً لاستخراج جواز سفر جديد وتأمين طريق خروجها من سورية. رافقها المسؤول بسيارته المفيّمة من داخل دمشق وصولاً إلى الحدود السوريّة، وأشرف على وضع ختم الخروج على جواز سفرها ثم رحل. لم تصدّق أنها نجت، قالت لي: «كانت المرة الأولى التي أرى فيها الشمس حلوةً ولاذعة، كما لو أني ولدتُ من جديد. أدركتُ حينها أني خارج أسوار سوريا فعلاً، وأنّ هذا ليس حلماً ولا تهيؤات». جاء مهرّب بناء على اتفاق مسبق إلى المنطقة الفاصلة بين النقطة الحدودية السورية والنقطة الحدودية اللبنانية، وقام بنقلها متجاوزاً الحدود اللبنانية بطريقة غير شرعيّة.
من لبنان، نجحت مروة في الانتقال إلى مكان آخر أكثر أمناً وأقل خوفاً، وهي لا تزال تنتظر لمّ شملها إلى ألمانيا لتستأنفَ حياتها من جديد.
موقع الحمهورية