صفحات الحوار

نجوى بركات: مهنة الكاتب الحفر في قذارات العالم

دارين حوماني

ذات يوم وفي روايتها “مستر نون” كتبت نجوى بركات (1960): “انقطع هكذا فجأة، كخيط، دونما قرار أو نية مسبقة. ألقى القلم من يده وخرج من الخط. أنف الكتابة كمتخم ما عاد يقوى على ابتلاع حرف واحد إضافي. وجد نفسه مستغرقًا في حمية اللاكتابة، مرتاحًا، خفيفًا..”، ونجوى بركات هي مستر نون في هذه السطور، الذي دفعه عنف هذا العالم وقبحه إلى الصمت عن الكتابة، ثم من جديد كانت الكتابة بالنسبة إليه علاجًا بديلًا عن الأدوية والمهدئات. ومستر نون هو كائن هش ومكسور شكّلته التشوهات النفسية المتتابعة في بلد “كيف لك أن تبقى سويًا فيه لا يخضع لعرف أو قانون” والحرب جاهزة للنهوض في كل وقت والتمدد داخل أمعاء بيروت بكامل قبحها. تحكي صاحبة “لغة السر” في رواياتها عن بيروت وعن الشارع العربي بكل أوجاعه، في فعل توثيقي وتسجيلي لأوجاع المهمشين والمتروكين والهاربين من الزمن الذين ينامون بأمان فيستيقظون على سطح صفيح يطل على الجحيم.

تقيم نجوى بركات حاليًا بباريس، ولها ست روايات آخرها “مستر نون” (2019) التي صدرت مؤخرًا بالفرنسية (ترجمة فيليب فيغرو، دار آكت سود)، ونقلت عددًا من أعمال ألبير كامو إلى العربية، ونالت عددًا من الجوائز، كما أسّست محترف نجوى بركات للرواية. عن روايتها “مستر نون” والكتابة والمحترف، كان لنا معها هذا الحوار.

(*) نود أن نبدأ من ترجمة روايتك “مستر نون” إلى الإنكليزية، وقد صدرت قبل ذلك بالفرنسية ولقيت ترحابًا في الصحافة الفرنسية. كما اعتبرها الناشر- دار “أكت سود” الباريسية- أنها إحدى أهم الروايات التي صدرت باللغة العربية في السنوات الأخيرة. كيف تنظرين إلى هذا التقدير لك؟

قد أبدو أنني أريد أن أخرّب الأجواء. صحيح أن الكتاب لقي ترحابًا وكُتب عنه مقال موسّع في جريدة “ليبراسيون”، وحُكي عنه في عدد من الإذاعات، لكن إذا أراد الإنسان أن يضع نفسه في المشهد العام يشعر أنه منتمٍ إلى أدب قاسٍ، أي أنك قادم من العالم العربي فإذا أحبوا كتابك يربّتون على كتفك ويقولون لك “والله إنتو بتعرفوا تكتبوا”. إضافة إلى أننا نشعر هنا أنه يجب أن تكون الكتابة مرتبطة بظرف سياسي أو أيديولوجي. وبغض النظر في أننا نفرح بالترحاب في البداية لكننا نعود لنطرح على أنفسنا الإشكاليات التي نواجهها عندما نكون في بلد آخر، ونكون قادمين من لغة أخرى، أي أن القادمين من أصول عربية ويكتبون بلغة البلاد الجديدة يُستقبلون بشكل مختلف، ويعتبرونهم منتمين إلى هذا البلد “إنتو بتحكوا لغتنا”. لكن عندما نكتب بلغة مختلفة نشعر أن المسافة بيننا وبين الآخرين يصعب ردمها بسهولة، وأننا بحاجة إلى أن نمدّ يدنا ونصوّب ونصحّح. لا أتكلم عن تجربة شخصية، فأنا أعيش في باريس منذ زمن وأتقن اللغة الفرنسية وأعرف المفاتيح الثقافية والفكرية بهذا البلد، ولكن دائمًا يكون لديك إحساس أنك رقم زائد خاصة أنه لا يمكننا أن نفصل الفعل الثقافي عن الفعل السياسي عن الفعل الاجتماعي، وفرنسا حاليًا تعاني من أزمة بعلاقتها مع الآخر وبالتحديد مع الآخر العربي والمسلم. طبعًا بنفس الوقت الترجمة إذا نزعتِ عنها كل طبقات الماكياج التي تُضاف هنا وهناك حيث الكلام الفارغ عن العالمية، وإذا عدنا للأصل بمعنى الترجمة فإنه ممتع جدًا أن يقرأك شخص لا يملك لغتك، يتعرّف على همومك، وتتواصل معه حول موضوع ما، وفي ذلك نوع من الاعتراف بك كشخص منتج وكثقافة منتجة وليس فقط ثقافة تهويل ولطم وإرهاب.

(*) اليوم وأكثر من أي وقت مضى، تحيلنا العلاقة مع “الآخر” إلى محاولة التعرّف عليه وتعريفه علينا، كيف تصفين هذه العلاقة مع “الآخر”، من قبل وحاليًا، وخصوصًا أنك تقيمين في فرنسا منذ عام 1985 وأنت من أصدقاء الوسط الثقافي الباريسي؟ ما مدى القبول ومدى صعود ونفاذ الأصوات القلقة من العالم العربي هناك؟ وماذا تقدّم لنا الترجمة في طريق حوار الثقافات؟

الترجمة أصبحت آفة عربية، ولكن في نفس الوقت إذا أردنا أن نكون محقين بالنظر إلى الأمور، الكاتب العربي الحقيقي (وليس “أنصاف الكتاب” وما أكثرهم) ليس مقروءًا بشكل حقيقي ولا على مستوى النقد. يشعر أنه بحاجة لمن ينقده ويضيء على جوانب في عمله ويحرّك دولاب الإبداع لديه، وبنفس الوقت هو مظلوم من قبل القارئ. لا يوجد قرّاء، هناك قرّاء مستحدثون لا يملكون ثقافة ويلاحقون الجوائز ومن كتب عن من. وفي جزء من ذلك يتبدّى ضياع لدى الكاتب العربي ويشعر أنه قد تكون له فرصة أخرى في لغة أخرى. هناك وهم حول فكرة الترجمة، أنه إذا تُرجمت أعمالنا فإننا نصبح عالميين، وهذا شيء مبالغ فيه لأننا ما زلنا في طور إثبات الذات بالنسبة للغات التي ندخل إليها. هذا الكلام واقعي، القدوم من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى ما زال مشوبًا بنظرة الآخر إليك أنك متخلفة، وأنه لا يمكنك أن تخترعي موقعًا ثقافيًا لك كفرد وأنت قادمة من مكون ثقافي معين، وللأسف العالم العربي لا يزال يُنظر إليه بصورة سلبية بشكل عام. وأقول إنني غبت عشر سنين عن باريس، فقد جئت صغيرة إليها، تعلمت وعانيت واشتغلت وأُغرمت، كبرت ونضجت، هناك جزء من ذاكرتي مرتبط بهذا البلد، وتم ترشيح روايتين لي إلى جائزة أدبية مهمة جدًا في فرنسا لم تُرشّح لها أي رواية عربية مترجمة قبل الآن، Femina étranger، وهي جائزة للرواية المترجمة، ولكن عندما عدت إلى باريس بدا لي كأنني أدخل إلى بلد لا أعرفه، اختلفت باريس، وأحكي عنها لأنها بالنسبة لي مركز فرنسا. هناك خوف من الآخر وحذر منه، وثمة أصوات كارهة تحرّرت عقدة اللسان لديها وصارت قادرة لأن تعبّر عن كرهها للآخر، ولكن في الآن نفسه لستُ من الذين يدافعون عشوائيًا ويردّون التهم عشوائيًا. كما أنه من الجانب العربي لا يوجد جهد ثقافي حقيقي لتغيير صورتنا وتبديلها عند الآخر، وأن نخرج من هذه الصورة المنمطة البشعة. هناك حالات تشذ وتُسمع أصواتها، ولكن المطلوب جهد من الطرفين ليس فقط من الغرب. مطلوب أن نحسّن صورتنا ونعترف بأخطائنا. تبدو جسور الحوار منقطعة تمامًا بيننا كجماعة بشرية وبين هذه البلدان، نرمي أنفسنا في البحر لنهرب من بلادنا وعندما نصل إلى هذه البلاد لا نريد احترام قوانينها، ونتهمها بالعنصرية وبالعداء؛ المسألة أصبحت معقدة.

عن الترجمة وإشكالياتها ومنافعها

(*) منذ عام 1985 وأنت مقيمة في فرنسا، درستِ فيها وعملتِ وترجمتِ عددًا من كتب ألبير كامو، لماذا أُنجزت ترجمة رواياتك إلى الفرنسية بإبداع مترجم آخر، وخصوصًا أن الترجمة هي نقل روح الكاتب، ومن هو أفضل من الكاتب نفسه في حال إتقانه اللغة؟ ألا تخافين أن يعمد المترجم إلى تحرير نصوصك؟

الترجمة عمل حقيقي، أحب أن أضع طاقتي في روايتي وليس بإعادة كتابة رواية أنجزتها سابقًا. كتبت روايتي باللغة التي أتقنها ولن أعود من جديد لإعادة كتابتها من أجل ترجمتها، ولديّ إحساس دائم أنه يجب وجود وسيط بينك وبين الجهة الأخرى وهو المترجم، وكان من حظي أن الدار التي نشرت فيها كتابي رشحت لي مترجمًا وجعلتني أشعر بالراحة المطلقة أن هذا الشخص هو الذي يترجم عملي، واسمه فيليب فيغرو، وأنا لا أفوّت فرصة حتى أشكره وأشيد بعمله وأنه كاتب وليس مترجما فقط. عمل الترجمة له أربابه. صحيح أنني ترجمت لألبير كامو، لكنني فعلت ذلك بناء لاقتراح من دار الآداب لأنهم يعرفون علاقتي بهذا الكاتب أنها علاقة تتجاوز معنى القراءة الأولية، وهكذا كان، لكن لا يمكن أن أعتبر نفسي مترجمة ولا أقبل أن أترجم كتبي.

بالنسبة للتحرير فهو ليس من عمل المترجم. من المفترض أن يكون المترجم أمينًا، وغالبًا أن يعمل بمكان قريب من الكاتب وعندما تكون لديه شكوك يتصل ويتناقش معه. لم يكن عندي هذا الهم لأن فيليب فيغرو ترجم أعمالي وبدأ بأصعب رواية، “لغة السر”، وأذكر إنني كنت أقول “يا إلهي، كيف سيتمكن من الدخول إلى الكتابة الصوفية وابن عربي..” وإذ أفاجأ بعمله، بدأت دموعي تنهمر وأنا أقرأ ترجمته، استطاع أن يجد المرادف بنسبة 95% للنص الذي كتبته، وهذا هو معنى الترجمة. عندما تكون الترجمة جميلة ونتقن اللغتين هناك فرح أن نعيد قراءة نصنا بلغة أخرى. لكن عندما لا يكون المترجم جيدًا نفضّل أن لا نُترجم. قصة التحرير ليست خاضعة للمترجم بل لدار النشر، وهذا من حقها، وهناك كتب عربية أُنقذت بالترجمة، لأن الترجمة تفضح الثرثرة وتفضح التكرار، فعندما نقرأها بلغة أخرى نشعر كم تحسّن الكتاب، لأن فكرة التحرير معدومة بالعالم العربي.

(*) في مقال لك عن حركة الترجمة تقولين: “الترجمة لم تعد مبنية على القيمة حصرًا بقدر ما باتت لاعتبارات تسويقية ومالية”، هل تؤمنين أن هناك أعمالًا أدبية ضاعت في هذه الطريق في غياب خطط ثقافية عربية للترجمة؟

إذا انتبهنا لحركة الترجمة بالعالم العربي فإنها تحصل أحيانًا بشكل عشوائي لأنها ليست ممأسسة ولا ممنهجة، بالتأكيد أن المترجم عندنا يستحق الثناء، فعندما يقرأ رواية تعجبه أو يسمع عنها يبادر إلى ترجمتها، وعندما نجد مترجمًا جيدًا نشعر أنه يجري عملية إنقاذ من الغرق لأنه في النهاية هو نافذتنا للآخرين، لأنه لا يوجد عندنا وزارات للثقافة ومؤسسات ثقافية تُعنى بالترجمة إلا في حالات نادرة. هناك مشاريع للترجمة في مصر وأبو ظبي مع مشروع “كلمة” لكن هناك كم هائل من الكتب لا يمكن العمل عليها كلها، والأهم منها هي الكلاسيكيات التي يجب ترجمتها.

(*) ماذا أعطاكِ الفضاء الباريسي والبيت الصغير في الدائرة الخامسة بباريس؟

باريس أخذت مني الكثير وأعطتني الحرية، وعندما أقول حرية لا أقصد حرية بالمعنى المتعارف عليه، وأنني كنت مقموعة في بلدي وخرجت منها وتحرّرت. لم أكن مقموعة وكنت أتمتع بنفس الحرية الموجودة في باريس، بل كنت محمية أكثر في لبنان لأنني كنت محاطة بعائلة. المعركة في باريس لم تكن معركة استقلالية بل كانت معركة كيف أُثبت وجودي بعين الآخر، وكيف أعيش في مدينة كبيرة. في لبنان مدننا هي قرى، لا يمكن أن نقول بيروت عاصمة كبرى. عندما جئت إلى باريس بدأت أتعلم لوحدي كل شيء فيها من الألف إلى الياء، إضافة للحرب التي كنا نحملها على ظهورنا، فقد جئت إلى باريس في ظرف غير اعتيادي لكن باريس أتاحت لي المكان الوحداني وهذا النوع من الغربة التي بقدر ما هي مكلفة هي أيضًا ضرورية وأساسية، إذ عليك مواجهة الآخر ومضطرة لأن تدخلي في امتحانات جديدة وتثبتي نفسك، وأن تسألي نفسك أسئلة حقيقية بحيث لم يعد يمكنك اللعب، من أنا.. ما هي الثقافة التي أحملها.. إضافة إلى أن باريس كانت مركز العالم تمر فيها كل الثقافات، الأدب والمسرح والسينما. رأسي انفتح فيها بشكل كبير، ولكن الثمن هو إحساسك بالبعد وأهلك الذين يكبرون بعيدًا عنك. أحيانًا كنت أقول: لو لم يكن في لبنان حرب هل كنت مضطرة لأن أهاجر وأعيش بباريس كل هذا الوقت، جئت لأدرس سنة أو سنتين فبقيت 25 سنة، وكانت النتيجة هي الحصول على هذه الجزيرة الصغيرة بالدائرة الخامسة وكانت أكلافها صعبة، كنت أشعر كل شيء يتهاوى حولي، وكم ستكونين قادرة أن تنتفضي بوسط بحر هائج على جزيرة صغيرة.

دلالة اختيار الصمت

(*) تبدأين روايتك “مستر نون” بجملة لصموئيل بيكيت “قادتني الكتابة إلى الصمت”، هل يجبرنا الواقع ببشاعته ووحشيته على اختيار الصمت كعالم بديل لنا؟ وهل يمكن أن نقول العكس، يقودنا الصمت إلى الكتابة، كردّ فعل على الاغتراب الوجودي والنفسي المزمن؟

لم يجبرني الواقع على اختيار الصمت، أنا اخترته. أحسست فعلًا في فترة معينة أن الكلام كله بشع وقاتل وبذيء. حتى التعليق على الذي كان يحصل كان يبدو وقحًا وأننا وصلنا إلى الدرك ونتعوّد عليه. اليوم يقولون إن هناك قتيلًا تصرخين، غدًا يقولون قُتل عشرة، تقولين آه، بعد غد يقولون قُتل مئة تقولين آه حسنًا. نشعر بضياع كل الأفكار الإيجابية عن الإنسان، فكرة المستقبل، الأخوة، المساواة، والعدالة، كلها لم تعد تعني شيئًا. شعرت أنني لا أريد أن أقول أي شيء ولا أن أكتب، وأنه ينبغي أن أصمت وأفكر ماذا يجب أن أفعل. أصابني نوع من النفور من الكتابة ومن الأدب ومن الثرثرة، ومن أن نستنكر وفي اليوم الثاني نكمل كأنه لم يحدث شيء. ثم هذا الانفجار “كلهم أستاذ كبير.. عظيم”، هناك شيء يشبه الانهيار وهذا الانهيار ليس بعيدًا، تشعرين أنك في قلب الداخل ومحاطة به ولم يعد لديك لغة مشتركة مع الذي يحدث حولك كي تجيبي، فصمتت 15 سنة، لكني اشتغلت على محترف للكتابة لأتقرّب من الشباب الذين يكتبون، ففتشت عن تمويل للمشروع، وفتحت لهم هذه المساحة، أي أنني أنتجت بهذا المعنى. ربما احتاجت نجوى هذه الـ15 سنة لكنني أنتجت بإطار المحترف 23 رواية، وهذا العمل استنفدني ولكن بنفس الوقت أنا ككاتبة أعتبر أنني كنت صامتة، وهذا لا يعني أنني لم أكن أكتب بمكان ما برأسي. كنت بموقع مشاهدة كأنني أعود إلى بناء اهتمامي بالرواية من جديد. أسباب هذا الأمر عديدة، منها أني كنت قد كتبت سابقًا عن ثيمة العنف والقسوة، وتوقفت لأني كنت مقتنعة أن الكاتب لا يجب أن يكتب فقط ليكتب ويجب أن ينشر رواية كل عامين، وكل الاعتبارات الأخرى أن الناس ستنساكِ وتسأل لماذا لم تكتبي، هذا كله لم يعد يعنيني وهذه المفردات لم تدخل في قاموسي. شعرت أنه من الأفضل أن أسكت وعندما يأتي الوقت لأكتب سأكتب، لكن هذا الالتزام كل سنتين لا يخاطبني ولا أحبه ولا يعني لي وأحب أن أحافظ على حريتي تجاه الكتابة. بالنسبة لي الكتابة ليست مهنة كما يعتبرها الكثير من الكتّاب، ولا أريدها أن تكون مهنة. أحب أن تكون علاقتي حرة معها، أي أني قادرة أن أتركها وقت أشاء وهي أيضًا يمكن أن تتركني متى تشاء. أنا بحاجة لهذا الأمر كي تبقى جذوة الرغبة بالكتابة، إضافة إلى أنني أكره التكرار، ولا أحب أن أكتب كتابُا يشبه كتابُا سابقُا لي. يجب أن تأتي الرواية التالية بشيء جديد بالكامل أو يجب أن تنتظر ليأتي بجديد. أسمّي تلك الفترة فترة صمت، وعندما عدت للكتابة شعرت أنها جاءت بكل سهولة وبلطافة، وفعلًا اختصرت الخمس عشرة سنة. “مستر نون” جَلَت علاقتي بالكتابة ككاتبة لأن مستر نون كاتب وتوقف أيضًا عن الكتابة لفترة، لأنه بالنهاية الحياة عندما تصبح مصدر قلق وقهر وموت وتدمير لن يتمكن الكاتب من أن يكتب، أنا لم أستطع الكتابة بشكل سويّ، وأحببت أن أحكي عن لحظة الاضطراب هذه برواية “مستر نون”. بالنهاية، نحن كائنات لا نخترع فقط بل نحن أيضًا مخترَعون، أنتِ ككاتبة تخترعين لدرجة تصبحين أنتِ أيضًا مخترَعَة كأن الواقع يجري والحياة تجري بمكان آخر، لهذه الدرجة يغرق الكاتب بكتاباته، هناك نوع من الشيزوفرينيا بين الأشياء كيف تحصل وكيف تفكرين أنك تسبقين الأمور، خاصة أنني اشتغلت على ثيمة العنف والقسوة وشعرت أن الواقع سبقني بكثير. كان ذلك عام 2000 قبل الربيع العربي وما تلاه من عنف وقتل. ولم يُكتب مثل هذه المقاربة من قبل.

(*) “محترف نجوى بركات – كيف تكتب رواية”، الذي أنتج روايات مهمة حصلت على جوائز، ماذا يعني لك أن تكون روحك موجودة في كل رواية من إنتاج المحترف وضعتِها بيديك على الطريق الصحيح؟ وما هي رؤيتك للرواية العربية حاليًا؟

لا أقول إنني لم أتدخل مع الكتّاب لكن هذه طبيعة الشغل. الفكرة تمامًا أنكِ تصوبين وتتدخلين وتستفزين الأفكار والمخيلة وحتى نهاية العمل عبر تحرير النص، لأن الرواية العربية تفتقد إلى التحرير. بالنسبة للرواية العربية، الكثرة دليل صحة وأحيانًا هي دليل انحطاط. لا توجد مراقبة ولا متابعة. أنا حمّلت دور النشر المسؤولية، هناك دور نشر مستعدة أن تقبض 1000-2000 دولار وتوهم الكاتب أنه كاتب جيد وتنشر عمله، ثم جاءت الجوائز وضاعفت ذلك. الكل يريد أن يكتب رواية وأن يتقدّم إلى الجوائز ويريد أن يكون موجودًا بالسرعة التي تستتبع هذا النوع من الممارسة. لا أعرف إذا كان هذا دليل صحة لأنه ضاع الصالح بالطالح. أحيانًا أفتح روايات وأقول كيف ترك الناشر هذا الأمر يمر؟ بالتأكيد هناك كتّاب ليسوا بحاجة لإعادة تحرير رواياتهم لكن هناك كتّاب مهمين يحتاجون إلى تحرير رواياتهم أي القراءة بعين أخرى، لأن الكاتب لا يملك دائمًا المسافة النقدية الكافية من عمله، ولا يشعر أن هناك إطالة في مكان ما أو تكرار للكلام. هناك ناقد مغربي يسميها الرواية البدينة أي أن الرواية إذا لم تكن 500-600 صفحة فهي ليست عملًا مهمًا، لكننا حين نقرأ رواية من 500-600 صفحة نجد أنه يمكن حذف 300 صفحة بكل سهولة وهذا الحذف يجعل منها رواية رشيقة. لا أقول إنه لا يجب كتابة رواية من 500 صفحة، لكن أن نقرأ رواية من 200 صفحة جيدة أفضل من رواية من 700 صفحة يمكن حذف نصفها. ليس عندي ثقة بالنقد، لذلك فأنا لا أقرأ كل ما يُنتج، ليس عندي وقت وأفضّل أن أعود إلى الكلاسيكيات القديمة وأعيد قراءتها أفضل من أن أقرأ لهذا وذاك وأمضي وقتي “يا كبير ويا جميل”. هناك شيء فظيع، لم يعد من معيار لنبني على أساسه قراءاتنا، لا يوجد نقاد ولا حركة نقدية ولا معايير للنشر وللحكم على الأدب ولا لماذا هذا ذاع صيته وذاك لم يُعرف، ولا لماذا أخذ هذا جائزة وذاك لم يأخذ. أشعر أننا أمام مسودة بخط غريب بالطول وبالعرض لا يمكن قراءتها. لا أمتلك مفاتيح قراءة الأمور بالشكل التي تجري فيه حاليًا، أشعر بالضياع وبالإرباك.

(*) الغياب الذي تقترحينه في “مستر نون” وهو الانتحار، انتحار الوالد، انتحار مستر نون الذي يتبين أنه شخصية في رواية لكاتبة تعيش في مصح نفسي انتحرت بعد أن أكملت روايتها “مستر نون”، هل ثمة شكل آخر للصمت أكثر قسوة، هو الانتحار؟

بالطريقة التي أخبر فيها قصة مستر نون نشعر أن هناك أمورًا بالحياة نقدر أن نتحملها وهناك أمور تفوق قدرتنا على الاحتمال، وممّا يفوق قدرتنا على الاحتمال هو هذا الذي نعيشه حاليًا والذي أحاول قوله، والذي يتضاعف 30 و40 مرة عند الكاتب، لأن مهنة الكاتب أن يحفر في قذارة العالم، وإذا لم يحفر الكاتب في القذارة عميقًا فلا يمكن أن يكتب ما يريد أن يحكي عنه، فكلما غرقتِ في الوحل والدم وبالبشاعة والحثالة تصلين لوقت تقولين فيه إن لا معنى لهذه الحياة. هناك حرية هذا الخيار، الانتحار، كاعتراض نهائي على العالم، أن “توقّفي أيتها الحياة”. كأنني أقول إني لا أريد أن أساهم في هذا كله ولا أريد أن أنتمي إليه. الانتحار هو انسحاب واستقالة وإنني أغسل يدي من دم الصدّيق الذي بنيتموه، هو علامة اعتراض على حياة لا أريد أن أشارك فيها.

كتبت عن بيروت كأنها نموذج مصغّر لمّا آل إليه العالم

(*) أمكنة رواياتك مثل شواهد على الحزن المشترك في العالم العربي حتى لا نكاد نعرف في أي بلد حدثت، لكن “مستر نون” هي رواية بيروتية صافية، هل هو حق لهذه المدينة القلقة علينا بأن نصغي إلى عذاباتها المرئية وغير المرئية ونقدّمها للعالم بحيث نوثّق ونكتب ما يسكت عنه التاريخ؟

كان عندي انتماء مقسوم، أشعر أنني لبنانية جدًا، لكن هذا الجزء معذِّب ومعقد بسبب الحرب، وفي الوقت نفسه ثمة شقّ عربي بحكم الكتابة وبحكم قراءاتي وسفراتي، هو انتماء للشارع العربي وأريد أن أحكي عنه، ولم أكن أسمّي الأمكنة لأن هناك شيئًا مشتركًا بين الأمكنة العربية، فليس مهمًا أن يكون ببيروت أو بمصر أو بالعراق. هناك سمة مشتركة هو هذا الشيء المخبأ والمضغوط، والذي سينفجر ذات يوم، وحاولت أن أقول هذا الأمر في “باص الأوادم”. بعدما سكتت ثم رجعت إلى بيروت، شعرت بلبنانيتي بالمعنى القومي وببيروتيتي لكن وأنا أنظر إلى لبنان كجزء من العالم، ليس فقط كجزء من عالم عربي. بيروت في هذه الرواية أصبحت جزءًا من العالم خاصة عند انفجار المرفأ. تدور أحداث الرواية قبل انفجار مرفأ بيروت، لكن الذين قرأوا الرواية شعروا أنه من غير الممكن أن يحدث الانفجار بعد الرواية. كتبت عن بيروت كأنها نموذج مصغّر لمّا آل إليه العالم من بؤس وشقاء. كتبت عن منطقة معينة، هي حزام البؤس ببيروت حيث يجتمع النازحون من الحروب والعمالة الأجنبية، من عراقيين وآشوريين وأفارقة وأهل القرى النازحين إلى المدينة. هي منطقة تاريخيًا عرفت نزوح الأرمن والفلسطينيين والسيريلانيكات وغيرهم. كان شيئًا مخيفًا بالنسبة لي. هذا لم يكن متوفرًا إلا في بيروت – فيما يخص منطقتنا- وبأمكنة أخرى، في العواصم العالمية الكبيرة، حيث نرى واجهة خارجية براقة فيما هناك خلفية بائسة وحزينة. ولكن الفرق في بيروت أن أهلها يشتركون مع هؤلاء النازحين بالشقاء وبالبؤس ويختلطون معهم بذلك. فلم تعد في بيروت طبقة وسطى، وأنا من الذين عاشوا في هذه المنطقة، برج حمود، لمدة 3 سنوات وبخيار مني. شعرت أنه من الضروري أن تُقال بيروت بالظرف الذي كانت تعيشه بشكل استثنائي مع خراب البلد ومع كل ما يحدث في البلد والثورة التي أجهضت الفديات الفظيعة التي كان لبنان يدفعها. شعرت أنه لا يمكن أن أكتب ما أريد قوله إلا عن بيروت، بالدقائق الصغيرة في وصف الأمكنة والأحياء والمقيمين فيها.  

(*) “كيف تنام ملاكًا وتستيقظ وحشًا قادرًا على ارتكاب الفظائع؟” بهذه الكلمات المؤثرة بقسوتها وواقعيتها تعبّرين عن الحرب في بيروت، ومن هناك بدأت تهيمن موضوعة “القسوة” و”العنف” على رواياتك، كتنبؤ لما حدث فيما بعد في العالم العربي، هل هو النوم وسط الموت منذ طفولتك حتى خروجك عام 1985 من بيروت المنشطرة إلى نصفين ما يجعل المنطقة المحسوسة والمعاشة جزءًا من ذاكرتنا التخييلية أيضًا وخلفية لها؟

هذا الشيء جعلتنا الحرب نعيشه. أنا من الجيل الذي تلقى الحرب، لم نبدأها، ولم نقاتل، كنت في سن المراهقة، وبسبب الحرب لم أتربى بشكل طبيعي. فجأة يصلني الإحساس الذي يصل للحيوانات عندما يشعرون بالتسونامي أو بالبركان قبل وصوله، إنها غريزة البقاء، رأسي صار يلحقني فيما بعد، لم يكن عندي فكر أيديولوجي أو أني أريد أن أغيّر النظام وأن انتمائي يساري وضد هذا المشروع في لبنان. جو الحرب بدأ يُسقط علينا، ولم أكن أعرف ماذا يحصل. نذهب إلى المدرسة صباحًا، وفجأة لم نعد قادرين على ذلك، وصرنا نسمع عن شخص رموه في الوادي وآخر قصوا أذنيه، وآخر خرج ولم يعد كما حدث مع والد صديقتي الذي لم يعد إلى الآن وفُقد أثره. الحرب وقعت على رؤوسنا مثل طابة فولاذية ثقيلة. لم أشارك بالحرب ولا تمنيت أن تكون ولا عرفت مبرراتها، عشتها في الملاجئ وخفت وفقدت إيماني بالأمكنة بقدر ما فقدت إيماني بالناس. بنفس الحي الذي عشت فيه، صرنا نسمع عن هذا حَمَل سلاحًا وذاك قتل فلانًا، أصبح العنف بالنسبة لي مشهدًا يوميًا تتلقينه لكن ليس معك مفاتيحه؛ نمنا استيقظنا وجدنا أنها حرب، كما قال الشاعر الراحل محمد عبداللـه، “وقفت في النافذة فإذا بها حرب”. الذي بقي برأسي هو شحنة العنف وقدرة الإنسان على أن يتحول من شخص عادي ينام إنسانًا فيستيقظ وحشًا. وهذا السؤال لا يزال يرافقني، كيف بإمكاننا نحن البشر أن نرتكب أبشع الأمور، ثمة شيء وجودي ميتافيزيقي. كيف يمكن أن يرتكب الإنسان هذه الكمية من الشر، وبنفس الوقت قادر على هذه الكمية من الحب. أضيفي على ذلك، أنه كان عندي مثل الحيوانات اللصيقة بالأرض أن مجتمعاتنا هي مجتمعات مثل الرماد النائم على حجر، في لبنان حرب وتذهب إلى سورية، إلى تونس، إلى المغرب تشعر أنك ممنوع من أشياء كثيرة. هذه البلاد لم تكن طبيعية وشعرت أن شيئًا ما سينفجر، ولم أعرف أن أقول ذلك إلا عبر الرواية. بالتأكيد هناك مكان للحدس في الرأس لدى الكتّاب المبدعين.

(*) يجبرنا هذا الـ”لبنان”، الجحيم الذي لا يمكننا التخلي عنه ولا يمكننا العبور إلى خارجه تمامًا من وجداننا، على أن نختار المنفى أو الهجرة، فهل الكتابة من خارج الخوف تصبح كمن يرى الأرض من بعيد بحيث تصير الرؤية أكثر عمقًا، أم ثمة خوف آخر من أن يدفعنا السكون إلى منطقة ذهنية منزوعة الهواجس التي تخصّب مخيلتنا؟

هذا ينطبق تمامًا على هجرتي الأولى عام 1985 حتى 2010 قبل أن أعود إلى بيروت من دون قرار حقيقي بالاستقرار فيها. الآن أعيش هجرتي الثانية، ولا أعتبرها هجرة، وأنا بحاجة لأن لا أشعر أنها هجرة لأني إذا شعرت بذلك أوضّب حقيبتي وأعود. أخذت قرار المجيء إلى باريس لأني أعرفها ومع قرار أني سأعود مجددًا إلى بيروت عندما تتحسن الأوضاع فيها، ولا أتحمّل فكرة أني مهاجرة بشكل دائم لمدة عشر سنين أو أن أموت هنا، هذا يفوق قدرتي على التحمّل. أنا في باريس محتمية فقط، وعلى بُعد خطوة من العودة إلى بيروت، وأحيانًا أقول فلأعد، مثلي مثل الناس هناك، ربما بسبب اعتراضي على ما آل إليه العالم كله ولم يعد العيش يُحرز، لم تعد عندي أحلام كبيرة ولم أعد أفتش عن السعادة، أفتش أن تكون ابنتي بأمان، وأحيانًا أتساءل أين الأمان الحقيقي في بلد لا تتعرّض فيه ابنتي لشيء سيء أو بالقرب من أهلنا وقريتنا وفي أمكنة طفولتها التي اعتادت عليها. عندي أسئلة وليس عندي أجوبة لها. أين هو الأفضل والأكثر أمانًا لنا. فكرة الهجرة مرة أخرى لا يمكنني أن أتحملها وفكرة العودة هي صمام أمان يجب أن أشعر به، لكن لا أعرف متى وبأي ظرف أعود.

(*) توجهتِ ذات يوم بكلمات مؤثرة في يوم المرأة العالمي، إذ تقولين: “اهتديت أخيرًا إلى الرضى لكوني امرأة، أحب فيها هذا الجانب الذي يبني حيث الهدم، ويعطي حيث الأخذ، ويبعث السلام حيث التناحر”، أود أن أسألك عن علاقتك مع المرأة التي في داخلك، ولماذا “أخيرًا” حصل الرضى عن كونك امرأة؟

مع مرور العمر لم يعد عندي أجوبة حاسمة أو آراء قاطعة أو معرفة واضحة المعالم والحدود عن نفسي أو عن علاقتي بنفسي، لكن أصبحت أكثر قبولًا لذاتي كامرأة، وربما صرت أكثر تعاطفًا. لم أكن يومًا شخصًا نسويًا، ولم أكن متحمسة للنساء ورواياتي تعبّر عن هذا الأمر، فشخصياتي النسائية ليست بريئة ولا مظلومة وليست ضحية وقد تشارك بالبطش وبالقسوة وبالعنف مثلها مثل الرجل. عندما أحكي عن مجتمعات عربية معينة لا أميز بين المرأة والرجل، وهي أكثر شراسة من الرجل بتخلّفها. الآن أصبحت أكثر رحمة ليس فقط مع المرأة كمكّون، أصبحت أكثر رأفة بالطبيعة الإنسانية من الناحية التي يمكن أن تكوني ضعيفة فيها وجبانة. عندما نكون أطفالًا نحب الأبطال ونشعر أننا قادرون أن نكون أبطالًا. مع العمر، يصبح مفهوم الفجاعة مختلفًا، وفكرة النضال أيضًا، الآن أجد أن المرأة قادرة أن تكون بطلة بقدرتها على المقاومة السلبية على التحمّل. صرت أفهم ماذا يعني أن تحبسي فتاة داخل فكرة أو داخل زواج أو حجاب أو لا حجاب.

الكاتب ليس مصلحًا اجتماعيًا

(*) في إحالة إلى قول ميلان كونديرا: “المعرفة هي واجب الرواية الأخلاقي”، هل من واجب المبدعين أن يخترقوا الأمكنة المظلمة والمشوهة في العالم العربي في التعامل مع المرأة وحيث يتم دفن قصص كثيرة؟

ككتّاب يجب أن يكون لهم موقف، وخصوصًا قصص قتل النساء وجرائم الشرف عن شخص ذبح أخته وغير ذلك، وهناك سهولة في تعنيف المرأة. لكن برأيي لا أحد يجب أن يكتب عن موضوع ما. الكاتب ليس مصلحًا اجتماعيًا، وليس بباحث. هو يكتب عن الموضوع الذي يعنيه وقد يكون وضع المرأة من ضمن هذا المواضيع وقد لا يكون. بالتأكيد يجب أن يكون لهم موقف داعم للمرأة لكن أنا ضد أن يضطلع الأدب بدور تبشيري اجتماعي موعظي. الكتابة هي مجال حرية.

(*) يقول ألبرتو مانغويل في إشارة إلى مكتبته: “كل فرد مهووس بالعثور على آخرين سيخبرونه من هو”، ويكمل: “كل وصال مع الصور، مع الكتب، مع الناس الافتراضيين يورّث الحزن لأنه يذكّرنا في النهاية بأننا وحيدون”.. هل قراءاتنا للروايات هي بحث عن أنفسنا، أو شبيه لها، أو بحث عن شيء مفقود؟ وما هو دور الكتب في حياتك وأنتِ الخارجة من عالم سينمائي يتكل على الصور ليجسّد المعنى ويقّربه لنا؟ لماذا لم تقولي ما تريدين قوله سينمائيًا؟

أنا درست سينما، وبجانب السينما وقبل السينما وبعد السينما كنت أقرأ أدبًا وأكتب أدبًا حتى قبل أن تكون فكرة السينما عندي. السينما تستهويني كثيرًا ولا تزال. السينما عالم جميل ويقول أشياء لكن لا شيء يعلو على الرواية كهوى وكشغف وكهوس. ولا مرة ذهبت إلى الكتابة الروائية لأني لست قادرة على قول ما أريد سينمائيًا. لا علاقة لهما ببعض. السينما تحتاج إلى مقومات وعلاقات وتواصل وفي ذلك صعوبة بالنسبة لي. تستهويني السينما من موقع الكتابة، كتابة السيناريو أو كتابة المسرح، درست كل ذلك، لكن ولعي بالأدب يسبق السينما بكثير، وربما الأدب هو الذي أتى بي إلى السينما. عندما نكون مراهقين ونقرأ ونتخيل ما نقرأ، ما يبقى من الأدب في رأسي أشبه بفيلم. القراءة هي دربي الحقيقية، ربّتني وعلمتني وفتحت مناطق الشك واليقين في رأسي. لم تكن القراءة بالنسبة لي شيئًا ممتعًا ولملء الوقت. كانت أمرًا استفزازيًا ومحفّزًا ويُبكي ويُعذّب ويجيب على الأسئلة التي لا أجد أجوبة لها في عمر المراهقة الذي نحتاج فيه لأجوبة. الكتب ساعدتني وجعلتني أجد حدًا أدنى من التوازن وأشعر أنني لست بكائن غريب على وجه هذه الأرض. وأكتشف مثلًا أن هناك كاتبًا يحكي عن الشيء الذي أشعر به فأشعر بتناغم روحي معه. ومن دون مبالغة، الكتب مثل أصدقائي أتحاور معهم وأتصالح معهم. كل ديناميكية رأسي كيف تشتغل حتى اليوم، صنعتها القراءات وليس فقط الأدب والرواية، فقد كنت أقرأ كتبًا علمية أيضًا. هذه القراءات المؤسِسة نقرأها قبل التخرّج من الجامعة بعدها تصبح القراءات متخصصة. لكن القراءات الأولى هي التي تربّيكِ وتجعلك تفهمين العالم وتتصالحين معه وتربّت على كتفكِ. القراءة لم تكن يومًا بالنسبة لي أن أجلس تحت الشجرة لأقرأ وأتسلى. لكن الروايات تذكّرنا بأن الإنسان هش وكيفما هربنا هناك قصة فنائنا التي نكتشفها على مراحل ونحن نحاول أن نتقبل أننا سنموت والأرض ستظل تدور والشمس تشرق ولن نكون هنا، إنها هشاشة الشرط الإنساني. فكيف نهرب من فكرة أننا عابرون والحياة قصيرة ولا يمكننا أن ننجز كل ما نريد إنجازه فيها.

ضفة ثالثة

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button