«الربيع العربي» في سوريا… المقاومة بواسطة الصورة/ سيسيل بويكس
ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف
تتقدم هذه الدراسة باعتبارها تمثيلا لوجه آخر للربيع العربي في سوريا بشكل خاص. يتعلق الأمر ببحث سوسيولوجي في السجل البصري، الذي يؤرخ للحراك الثوري في سوريا، وأقصد تحديدا الصور الفوتوغرافية والفيديوهات، التي واكبت مظاهرات الاحتجاج ضد نظام أسرة الأسد. تعمل الكاتبة أستاذة كرسي لمادة الصورة وأنماط التعبير السياسي في العصر الرقمي في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس. هنا ترجمة النص:
أفرز الربيع العربي حركة تمرد فريدة في سوريا، بسبب امتدادها في الزمن وما رافقها من قمع وحشي وحضور محوري للصورة التي شكلت نبعا نهل منه المتظاهرون. وفي مواجهة محاولة النظام الحاكم تشويه الثورة بالركون إلى تضليل إعلامي، يختزلها إلى مجرد مشروع إرهابي، فإن المتظاهرين وجدوا في الفيديوهات المصورة بواسطة الهواتف المحمولة، أو الكاميرات الرقمية الصغيرة، الوسيط الأكثر مباشرة لإسماع أصواتهم. وقد تنوعت على امتداد الشهور وسائل الاستعمال النضالي لهذه التكنولوجيا؛ ما أفرز متنا بصريا ضخما لم يسبق له نظير، يتسم بتنافره وتغذيته بشكل يومي بمئات الفيديوهات المنشورة على «يوتيوب». وتسبغ هذه الصور شكلا على التجربة الثورية في سوريا، في الوقت نفسه الذي تجعلها فيه جلية للعيان. يتعلق الأمر في هذه الحالة بوثيقة وفعل. تنتشر وتتضافر هذه السجلات البصرية في سياق عملية إخراج وترتيب للصور، تحيل إلى ظروف إبداعها، والطرائق التي تسهم بواسطتها في هذا الصراع الذي يجري أيضا على المستوى الدلالي. يسعى هذا التصنيف المذكور آنفا، فقط إلى إيلاء العناية لثراء وتعقيد الرهانات الخاصة لهذه الفيديوهات الخاضعة لمراقبة وسائل الإعلام التقليدية، التي تختزل وظيفتها في الإعلام والتوضيح.
تشكل المظاهرات وحركات القمع جزءا مهما من المتن البصري الثوري. وخلافا لمصر، حيث كانت القنوات التلفزيونية تنقل الأحداث مباشرة من ساحة التحرير، فإن الرؤية الإعلامية للثورة السورية كانت عرضة للجم، بسبب الحصار المفروض من لدن النظام. وتسهم الفيديوهات المصورة في غمرة الحراك في ملء الفراغ وخلخلة المعايير الإعلامية، لإنتاج الصورة على صعيدي الشكل وصناعة الحقيقة. سوف نلاحظ على امتداد الزمن احترافية في الفيديوهات مردها جزئيا إلى خضوعها لمعيار فرضته بعض القنوات التلفزيونية العربية، التي كانت تتعاطى بشكل مباشر مع الناشطين المتظاهرين، وتشتري الصور والفيديوهات، مقابل مبالغ مالية ضخمة.
تمتح الصور الأولى للثورة من فعل يوشك أن يكون تلقائيا واندفاعيا، وهي تأخذ بعين الاعتبار الخوف والشجاعة اللازمين للتحدي الجماعي للنظام الحاكم. وتسلط مظاهرة جرى تصويرها في مارس/آذار عام 2011 في مسجد الأمويين في دمشق على التزامن الحاصل بين فعل التظاهر وفعل التصوير، وبمعزل عن أي ركون صوب المونتاج والإخراج. كان اهتزاز الصورة ينقل الحالة الانفعالية للشخص الذي يقوم بالتصوير، والطاقة الرهيبة التي تنبعث من المشهد، حيث يختلط الخوف بالحماسة. وهو انطباع يتجلى تخصيصا من خلال كثافة وحدة أصوات المتظاهرين وهم يهتفون: حرية. الله أكبر. سلمية. بالروح بالدم نفديك يا درعا. وبعد انصرام بضع دقائق تخرج الحشود إلى ساحة المسجد، رغم انتشار قوات الأمن حولها. رفعت عناصر من جهاز المخابرات حينها صورا للرئيس السوري كي يعطوا الانطباع بوجود تأييد للنظام. وسوف نشهد خلال دقائق صداما بين الشعارات: الله بشار وبس، في مواجهة سوريا حرية وبس. يبقى شكل هذا الفيديو ومدته سبع دقائق استثنائيا. وسرعان ما سوف نلاحظ تنميطا معياريا للمدة الزمنية سوف يراوح عموما بين دقيقة وثلاث دقائق، بسبب الخطر الناجم عن التقاط الصور. ومشاق التحميل عبر الإنترنت. وسوف يحيل شكل آخر من التثبيت المعياري إلى الامتلاك التدريجي لنوع من المعرفة بآليات إنتاج الفيديو.
احترافية الصورة الحدث
ظهرت إلى الوجود شبكات للناشطين تمكنت عناصرها من امتلاك كاميرات رقمية. وقد أسهم سينمائيون شباب مثل باسل شحادة، الذي قتل في مايو/أيار 2012 في تدريب الناشطين على التصوير والمونتاج. يمر تنظيم الثورة عبر توجيه استراتيجي لتوظيف الصورة. ونلاحظ في فيديو جرى تصويره في فبراير/شباط عام 2012 هذه الظاهرة بجلاء. تتيح زاوية التصوير رؤية شاملة. يوضع المشهد في السياق، من خلال قطعة ورق مقوى كتب عليها اسم المدينة والتاريخ ونداء يوم الجمعة، الذي اتخذ القرار بشأنه من لدن المتظاهرين وبواسطة اقتراع على فيسبوك. وكان ثمة تنسيق بين المتظاهرين والشخص الذي يقوم بالتصوير. وقد جرى تنظيم المحيط بشكل خاص بواسطة يافطات، اعتنت الكاميرا بإبرازها. وفي السياق ذاته حرص بعض المتظاهرين على توجيه صور الشهداء في اتجاه الكاميرا. يتم إنتاج الحركة الاحتجاجية بواسطة تمثيلها الفيلمي وتنهل من دراماتورجيا حقيقية، تستدعي وضع مسافة وترتيبا منظما للفضاء، وتشخيصا صوتيا وجسديا دقيقا. ويجلي هذا التمسرح البعد السلمي للثورة. ويستجيب نمط انتقاء وتأويل الصور الخاص بالكون المعلوماتي لمعايير وغايات مختلفة عن تلك التي للمتظاهرين، والتي تتحدد في تحسيس الرأي العام. يجري اختزال الفيديوهات المحجوبة والمدسوسة في دفق الأحداث الراهنة في وظيفة توضيحية وفرجوية. وقد أفرز امتداد الثورة في الزمن من جهة أخرى، تراكما أسهم في إضفاء طابع روتيني على سيرورة العنف.
تضطلع صور الأحداث أو بالأحرى الالتقاط المتبلور للفعل في لحظة حدوثه، بتوظيف تقنيات خاصة موصولة بالحالات والوضعيات ذات الطابع الاستعجالي حيث جرى تصويرها وباقترابها من السجل الإعلامي. لا يختزل ريبرتوار فيديوهات الثورة في هذا الصنف فقط؛ إذ يستعمل المتظاهرون الأسلوب الفيلمي لصياغة ونشر وتعميم الكلام، أو اتخاذ موقف أو وجهة نظر شخصية. يطرح والحالة هذه سؤال الحقيقة والمصداقية، وفق حدود مختلفة ويفسح المجال أمام طرائق أخرى للإخراج ويحتكم البعض منها إلى المتخيل والتخييل.
الشهادة البصرية
يضطر أولئك الذين ينتجون شهادات، والذين يفتقرون إلى مشروعية مؤسساتية، إلى استخدام إمكانياتهم الخاصة، كي يحكوا ويقدموا الدليل. وفي هذا السياق يمثل عرض صور الشهداء وجراح الأجساد علامات بدهية على حقيقة ومصداقية الحكي. ويمثل الكشف بالصورة عن جسد منكّل به، وسيلة لفضح الهمجية والوحشية وتربية الأمل في الإصلاح. يجلي فيلم مفرط في قسوته، أبا قبالة جثة ابنه الذي قتل أثناء مظاهرة (كانت الترجمة الإنكليزية في الأسفل متاحة) كان يشرح ظروف وأسباب وفاة ابنه وهي غيرها التي يروجها النظام. كان الإطار الذي يلغي رتوش المونتاج، ومن ثم تحويرات محتملة للصورة يسهم في خطة تكريس الحقيقة الملازمة للشهادة. تتأسس هذه الخطة أيضا على دقة الحكي. وكي يثبت صحة ما يقوله كان الرجل يقسم على القرآن. وفي نهاية الفيديو أبرز أحدهم عددا من إحدى الجرائد، كي يؤرخ لتاريخ التصوير. يستند الحكي أيضا على أدلة بصرية. تصور الكاميرا بإلحاح جثة الشهيد في ما يتعرى الأب كي يبرز جراح جسده. يوحد هذا الاحتفاء بالأجساد المنكل بها في موضوع واحد، السؤال المتعلق بالذي ينبغي عرضه وإبرازه، والذي ينبغي الوثوق والاعتقاد فيه. ونقصد هنا طقس إعلانات الانشقاق. ومثلما هو الحال بالنسبة لحركة التمرد في ليبيا فإن الجيش الحر في سوريا، يستعمل تسجيلات الفيديو كي يعلن عن انشقاقات في صفوف الجيش النظامي السوري، علاوة على تأسيس كتائب. وهنا أيضا يتسم السرد الفيلمي ببساطته الشديدة، خلافا للحالة أو الوضعية التي يجري تصويرها والتي تتأسس على عملية إخراج ذات شيفرة دقيقة. يستهل الكلام بطريقة خطابية حماسية بالبسملة. وغالبا ما يقفو ذلك الاستشهاد بآية قرآنية تحيل على الجهاد ضد العدو. يعلن المنشقون الذين يرتدون البزات العسكرية عن أسمائهم ورتبهم، ويكشفون عن بطاقات هويتهم أمام الكاميرا. يشرحون بعد ذلك الأسباب التي دفعتهم إلى الانشقاق، ويدينون فساد ووحشية النظام. ويمكننا أن نرى حولهم بعض الأشياء والقرائن الدالة على الثورة مثل، العلم أو جهاز حاسوب يؤشر بطريقة دالة إلى التمكن من وسائل الاتصال. ويحيل هذا البروتوكول البصري واللغوي والجسدي على توافقات خاصة بما هو عسكري وثوري ويهدف إلى إثبات صحة ومصداقية الانشقاقات، ويتقدم بوصفه أشبه بمحكمة للتعميم والنشر والتوثيق. ثمة أنماط أخرى مصورة من الإعلان أقل حماسة ونمثل لها بالطلبة الذين يعلنون انسحابهم من اتحاد الطلاب المرتبط بحزب البعث والتحاقهم بالثورة. تؤشر هذه الفيديوهات الإعلامية إلى تنسيق في الفعل، وتسهم في التعبئة والتحريض، بما أن أبطالها يحثون الأعضاء الآخرين على الالتحاق بالمنظمات الثورية الحرة.
الاحتفاء الفيلمي بالشهداء
توظف الفيديوهات المحتفية بالشهداء كتابة سينمائية أكثر شخصنة من خلال استثمار المونتاج والموسيقى، وإدراج تعليقات مكتوبة ومؤثرات صوتية. ويحتفي فيديو «عين الحقيقة» بناشطين شباب كانوا يصورون في ضواحي مدينة حمص. كان ملتقطو الصور أهدافا خاصة للنظام وقد اقتلعت عيون بعضهم. ويبدو أن الفيديو يوحي بذلك بواسطة مقارنة بين عدسة الكاميرا وعيون الناشطين. وثمة كلمات مدونة فوق الصور التي التقطها هؤلاء الناشطون تحتفي بشجاعتهم: لقد صوروا ووثقوا وضحوا بحياتهم وواجهوا الخطر وتحدوا وقاتلوا.
ينتهي الفيديو بإطار يحيل على حدقة عين تشير إلى خريطة القطر السوري. يفصح هذا الفيديو الذي أنجزته جماعة من الناشطين الحريصين على إنشاء قناة خاصة بهم عن احترافية حقيقية. وهو يذكرنا بالإعلانات الإشهارية لقناتي «الجزيرة» و»العربية».
أفرز الفيديو أنماط فعل جديدة تتيح التعبير علنيا عن التزامها النضالي، ودون أن تكون عرضة للقمع. ونمثل لذلك بالاعتصام داخل المنازل الذي تنظمه النساء. وهنا يستعيد الفعل الشخصي بعض الممارسات الخاصة بالمظاهرات: يتم إثبات التاريخ والمكان على ملصق، وتستعيد الشخصيات الرئيسة شعارات من قبيل: الشعب السوري واحد. حرية. لسنا سلفيين ولا مندسين. يتأسس هذا النمط من الفعل على أداء أكثر تعقيدا. يبدأ بدقيقة صمت ترحما على أرواح الشهداء، ثم تؤدي النساء النشيد الوطني، فيما تبرز الكاميرا يافطات تحمل شعارات وصور الشهيد حمزة الخطيب، الذي اعتقل في درعا وعذب حتى الموت من لدن قوات الأمن. تتركز الكاميرا على جهاز تلفزيون شكّل المحتجون حوله صفين. يتعلق الأمر بالتلفزيون الرسمي، الذي لا ينقل غير أخبار مالية عادية. ويشكل ذلك شعارا بصريا يفضح التضليل الإعلامي للنظام.
تعبر الإبداعية الاحتجاجية عن حضورها في الشارع والمناطق الأقل عرضة للخطر. يتعلق الأمر في هذه الحالة بترتيب فرجة نستعمل فيها السخرية والهجاء بغاية تحدي النظام وإفقاده الشرعية. كانت الانتخابات النيابية لشهر مايو/أيار عام 2012 التي اعتبرها المحتجون مهزلة، فرصة لمهرجان من السخرية في العديد من البلدات. فقد دس محتجون بطاقات اقتراع تحمل أسماء كبار المسؤولين في حاويات للقمامة في مدينة إدلب. ونظمت في درعا انتخابات للشهداء وضع فيها الجميع نقطة دم على ملصق يمثل شهيدا. وفي حماة داس المحتجون صورا لبشار كتب عليها «ارحل». ثمة تمثيلات فرجوية تنهل مباشرة من الخيال؛ إذ عمد سكان مدينة الرستن إلى ترتيب مشهد قدوم أفواج من كوكب المريخ لمد يد المساعدة في إدانة صارخة لصمت المجتمع الدولي والعنف العبثي للنظام. وفي ضاحية دمشق عمد بعض الناشطين إلى الصاق نعي بشار الأسد على واجهة إحدى البنايات.
تتعارض الأشكال المتعددة لتوظيف الفيديو من لدن الفاعلين الثوريين، مع إسفاف وسطحية الصور التي يروجها النظام، والتي تبقى حبيسة سيناريو فظيع. تلجأ هذه الفيديوهات التي ينتجها التلفزيون الرسمي، إلى أساليب إخراج وقحة ومقيتة كما حدث بعد مجزرة درعا. وقد ذهب فريق من قناة «دنيا» مباشرة إلى عين المكان، رغم التحذيرات المزعومة بوجود إرهابيين. كانت الصحافية الشابة المرتدية لسترة واقية من الرصاص وفي كامل أناقتها وماكياجها، تتجول وسط الجثث. وقد استجوبت امرأة عجوزا كانت تحتضر. وقد حظيت بشرف إسعافها بسبب إجابتها بشكلٍ صائب عن الأسئلة. ثمة فيديوهات صورها جنود نظاميون، ويجري تداولها على «يوتيوب» وتمثل في الغالب مشاهد تعذيب غايتها ترهيب السكان. ونشاهد في أحدها جنودا يرغمون رجلا على السجود أمام صورة لبشار. هل يأتي يوم تستعمل فيه محكمة العدل الدولية هذه الفيديوهات لمعاقبة المجرمين؟ أما الآن فهي لا تعدو كونها شهادات على ذروة الوحشية التي تنكل بالأجساد والمعنى. القدس العربي