نصوص

المَجِيءُ من البَحْر/ بِيلِيندا كَانُّون

الذّاكرة غير آمنة، غير مُؤكّدة أو محجوبة. كيف نَجِدُ ما لم “نحفظه” والذي تمّ إيداعه فينا بالرّغم من ذلك؟ عندما يُطْلَبُ منّي التّفكير في هُويّتي المتوسّطيّة، هذا ما تأتي به شِبَاكِي…

غذّى البحر الأبيض المتوسّط ، على جميع شواطئه وجزره، خيال طفولتي. ينحدرُ والدي من عائلة صقلّية، أمّي من كورسيكا، وُلِدْتُ في تونس وترعرعتُ في مرسيليا. ربّما يُفسِّرُ هذا التعدّد في الأماكن الأصليّة سبب الانطباع لديّ بعدم وجود أرض من حيث جئتُ حقّا، ومن عدم وجود أيّ مكان في العالم يمكنني أن أقول عنه: هذا هو بَيْتِي. ربما لأنني جئت من بَحْرٍ؟

أتذكر خيبة أملي عندما أدركتُ ذات يوم أن أوديسيوس لا ينفكُّ يحاول العودة إلى منزله: أهذا كلّ شيء؟ الملحمة الأولى، الملحمة الأكثر استثنائية في ثقافتنا لا تُخبرنا إذن إلاّ عن الرّغبة العنيدة في الرّجوع إلى مخادعنا؟ هو ببساطة يرغبُ في الرّجوع إلى المنزل؟ لأنّ الأوديسة لا تروي الرّغبة في المغامرات (حتّى لو واجه أوديسيوس كلّ أنواع المغامرات في رحلة العودة تلك)، أو الرّغبة في التغلّب عليها، والرغبة في تخطّي الحدود، لا، إنّها تكشف عن الحنين إلى إيثاقا، وعن أمنية الرّجوع إلى المنزل والزّوجة والابن والأب والكلب…

ربما تكون خيبة الأمل هذه مرتبطة بأصولي البحريّة: المتوسّط هو البحر الذي من خلاله تركوا صقليّة إلى تونس وبعد ذلك، بعد ثلاثة أجيال، تركوا تونس للرّحيل إلى فرنسا. يُمثّلُ دائما ركوب البحر الذّهاب إلى المجهول والجديد، هي طريقة لإعادة توزيع أوراق الوجود… في طفولتي سمعت أنه في سنّ الثّانية عشرة، حاول جدّي أن يعمل كبحّار على متن سفينة ليتمكّن من الذّهاب إلى أميركا، لدرجة أنّه اليوم، في كل رحلة من رحلاتي عبر المحيط الأطلسيّ، تَغْمُرُنِي صورته. روابط غريبة تشكّلت من خلال الأساطير العائليّة. في أميركا، أفكّر في عائلتي. في فلوريدا على وجه الخصوص، رافقتني ذكرى جدّي، ولا شكّ في ذلك بسبب جماليّات ميامي التي أكل منها الدّهر وشرب. كنتُ قد بدأتُ حتّى في كتابة بضع الصّفحات حيثُ يظهرُ.

فيلم إِيلْيَا كَازَانْ “أميركا أميركا”، هو السّبب الآخر وراء ارتباط هذه القارّة، في ذهني، بجدّي. لقد ذهبتُ لمشاهدته دون تفكير، عندما كنتُ في العشرين من عمري، وخرجتُ مستاءة وباكية: كما لو أنّ العمل الإبداعيّ كَشَفَ لي صورة نفسي التي لم أتمكّن من الوصول إليها مُطْلَقًا (كما لو أنّي اكتشفتُ رَقَبَتِي على سبيل المثال). عند مشاهدة هذا الفيلم، علمتُ، من خلال المشاعر العنيفة التي أثارها في داخلي، أنّ أحلام المهاجرين هذه كانت أحلامي (أحلام أهلي) وأنّ حساسيّتي عرفتها قبل وعيي. وهكذا، من خلال وساطة فيلم، بدأتُ في تحليل وفهم سمات معينة من شخصيّتي، وحساسيّتي، وسلوكي، على أنها سمات مُهَاجِرَةٌ.

من كُنْتُ؟ البحر الأبيض المتوسط و… “لُغَتِي أَنَا”، وهذا ما سَأَعُودُ إليه.

من صقلّية إلى تونس

كانت عائلة والدي قد غادرت صقلّية في نهاية القرن التّاسع عشر، ثمّ تونس في بداية الستّينات: لهذا السبب لم يكن أيّ مكان في العالم لنا، في كلّ مكان وطوال الوقت كنّا قادمين من مكان آخر، ولا من قرية، ولا من أرض كنّا مرتبطين بها، ولم تكن هناك من حرب لموطننا (لأنّ عاطفيّا حتّى إيطاليا نفسها لم تكن كذلك حقّا)، ولا عار أو فخر نُشاركهُ مع أيّ شعب كان. أن تكون من اللاّمكان له مزاياه: الشّعور بالحريّة القصوى، فكرة أنّ الحياة إعادة لاختراع الذّات باستمرار، استحالة الإيمان ببعض الأوهام، مثل القوميّة أو الهويّة، التي يُمكنُ اعتبارها مرضا معاصرا خبيثا، والكلُّ يُحاولُ تعريف “هويتّه”: أن تكون ذاتك؟ ما معنى ذلك؟ العشيرة، كلّ عشيرة مساحة ضيّقة جدّا. لطالما كان لديّ الشُّعورُ المثير للحماس بالعيش في المنزل المشترك، تحديدا العالم الواسع الذي أنا من العابرين فيه، وأُحِبُّ المنزل المشترك، وأعتز به وأحترمه، فهو يجعلني أتنفّس بعيدًا في عرض البحر.

لكنّ الخروج من اللاّمكان له عيوبه أيضًا: الشّعور بالاحتيال. حتّى لو تلقّيتُ تعليمي في فرنسا، وأنا أتكلّمُ هذه اللّغة، التي شكّلتها تلك المدرسة (عندها كانت لا تزال فاعلة للغاية في طفولتي)، فقد عشتُ لفترة طويلة في قلق غامض من عدم إتقان القواعد.

يبدو لي أنّ شُعُورًا منتشرا بالغربة كان يكتنف طفولتي، ممّا جعلني أَعْبُرُ العالم وأُرَاقِبُهُ بقوّة عينيّ وأنا حابسةُ أنفاسي. واحتفظتُ بانطباع أنّي فقط “مُتَشَابِهَةُ”، لكن لستُ حقّا مُتَنَاظِرَةٌ.

لدي سيرة ذاتيّة خاطفة للعائلة (وهي من ناحية جدّ الأمّ، لكن لا أعرفُ شيئًا تقريبًا من ناحية جدّ والدي) بفضل خالي الأكبر الّذي كان ينتمي إلى مدرسة الرسّامين الإيطاليّين في تونس. قدّم، لكتاب جماعيّ عن هذه المجموعة، بعض المعلومات الموجزة الشيّقة. بعد مغادرة صقلّية حوالي عام 1896، استقرّ بعض أسلافنا في منطقة عربية في تونس العاصمة، “من جهة باب الفلّة”، بينما استقرّ الآخر في صقلّية الصّغيرة، على مقربة من الميناء، حيث وُلِدَ أبي وعاش حتّى بلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا، وحيثُ وُلِدْتُ.

كان والدي قد حَملَ من جذوره الصقلّية العار الذي سيلاحقه طوال حياته. كان يُفسّرُ ذلك من خلال واقع المجتمع التّونسيّ الّذي كان مُنَظَّمًا وفق تسلسل هرميّ محدّد مرتبط بالوقائع العرقيّة والاقتصاديّة الخاصّة به، والتي أدّت إلى توزيع حضريّ. في الجزء العلويّ من الهرم الفرنسيّون، وهم الأغنى. ثمّ الإيطاليّون. أخيرًا، في القاع، تقريبًا مُحْتَقَرُونَ كالتّونسيين، الصقلّيين الذين كانوا عُمُومًا بائسين تمامًا. كان هناك أيضًا اليهود، والّتي جعلت والديّ محبّين للسّاميّة عند مُعاشرتهم، لكنّي لا أعرف كيف كانوا يتوزّعون في المدينة.

في هذا السّلف المتعلّق بجدّتي من جهة الأم، كان الجميع يذهبون إلى المدرسة الفرنسيّة، وأبي كذلك. ليس من الصّعب عليّ تخيّل الشّعور بالنّقص الذي كان يستحوذُ على الصقلّيين الفقراء بين “المعمّرين” الفرنسيّين الأغنياء (المصطلح ليس سليما: كانت تونس تحت نظام الحماية)، لكن يبدو أنّ أبي تأثّر بالأمر أكثر من الآخرين. هنا يقع التّقاطع بين الاستعداد الشّخصيّ والتّاريخ الاجتماعيّ ويُعَزِّزُ كلٌّ منهما الآخر. لا بد أنّ أفراد الأسرة الآخرين عانوا أيضًا من حالتهم المتواضعة، لكنّني لم أسمعهم يشتكون من ذلك مطلقًا. هو وحده أصرّ طوال حياته على الحفاظ على سرّية أصوله وطالبنا بها، وأتذكّرُ أنّه كان يُزَمْجِرُ غضبا، في مرسيليا، عندما كان يُخاطبهُ أحد جيراننا، وهو صقلّي، بهذه اللّغة. أروي ذلك لأنّ هذا النّوع من هوس الوالدين لا يخلو من التّأثير على ذواتنا. استغرق الأمر منّي حتّى نهاية سنّ المراهقة لأدرك أنّ الحظر الأبويّ كان سخيفًا، وأن تكون صقلّيًا في فرنسا كان ببساطة غريبًا وممتعًا إلى حدّ ما (خاصة عندما أضيفُ أنّ والدتي كورسيكيّة). لكنّني نشأتُ مع هذا التصوّر الإشكاليّ للجذور، ولا عجب أّنني اليوم أعتقدُ أنّني أفهم عن قرب جوانب معيّنة من الهويّة اليهوديّة، أو أنّني أستطيع البكاء بعاطفة على الأداء الرياضيّ لكيني أو جزائري (لأنني أحبّ السّباق)، مع الشّعور بالانتقام السلميّ: بالكاد هو شعور شخصيّ، بل هو إرضاء من نفس النّظام الذي توفّره الأعمال الأدبيّة، عندما يغمرنا انتصار البراءة أو العدالة التي يتمّ الحكم بها للمعذّبين. كلّ من عانوا من وصمة العار المرتبطة بالأصول هم إخواني، وهو ما يُفسّرُ اهتمامي بالشّعور بالاحتيال (ومعرفة عميقة بالموضوع).

إذا لم أذكر كورسيكا في ملخّص مسار الأسرة هذا، فذلك لأنّ أمّي وُلِدَتْ أيضًا في تونس، حيث كان والدها عسكريّا، ولأنّها قطعت علاقتها بأسرتها مبكّرًا، لم أعرف شيئا كبيرا عن كورسيكا لفترة طويلة. حدث ذلك متأخّرا، عندما انتقلت والدتي إلى هناك، واستفدت من التّسهيلات المرتبطة بوجودها، فتقدّمتُ بطلب للحصول على وظيفة في جامعة كورتي حيثُ درّستُ لمدّة تسع سنوات، وهكذا ربطتُ الجسور بتلك الجزيرة الرّائعة، حيثُ أعدتُ تذوّق كرم الضّيافة، والشّعور بالفخر وثقافة الصّمت التي ذكّرتني بصقلّية كما يُنْظَرُ إليها من خلال عائلة أبي.

“كما يُنْظَرُ”: هنا يجبُ أن أروي حدثًا حميميّا صغيرًا آخر. ربّما بسبب الصّمت النّسبيّ لوالدي، لم أكن أعرف الكثير عن صقلّية. في حوالي سنّ الثّانية والعشرين، قرّرتُ أن أذهب إلى هناك، وأرى القليل. وبهذه المناسبة قرأتُ الكتاب الجميل لِشِيَاشِيَا، “صقلّية بمثابة الاستعارة”. يا لها من مفاجأة إذن! خصوصيّات لا حدود لها، سمات شخصيّات، سلوكيّات (ذوق السرّ، الإفراط في التكتّم، وطُرُقُ البقاء على عزلة، وما إلى ذلك) الّتي اعتقدتُ أنّها تخصّ عائلتي، كانت في الواقع خاصّة بالصقليين بشكل عام! لقد كان اكتشافا باهرا. مرّة أخرى بفضل وساطة عمل إبداعيّ.

مرسيليا

لا أتذكّرُ أيّ شيء عن الرّحلة على متن السّفينة التي جئنا بها إلى فرنسا وراء جدّتي القويّة التي قرّرت ذلك: كان عمري أقلّ من عامين. يبدو لي أحيانًا أنّني احتفظتُ للتوّ بالانطباع المرتبك لحدث مأساوي، كان من الممكن أن يحدث في طفولتي المبكّرة، والذي كنتُ سأهربُ منه… وهكذا كان لديّ دائمًا شعور غامض ودون أدنى شكّ، لكوني أحد النّاجين، وأظنّ أنّ ذلك ينبعُ من انطباع الكارثة التي خلقتها محنة من حولي، والتي ترسّخت في ذاكرة طفولتي…

كنّا نعيش في ضواحي مرسيليا في وقت كانت فيه المدينة قد استوعبت بالفعل القرى المجاورة بينما بقيت بعض الآثار القديمة، حقل من الأعشاب البرّية والخشخاش والسبيغو (نجيليّات)، ومنزل غسيل، وتلال مغطّاة بالوزّال المعطّر، صخرتان كبيرتان بالقرب من الطّريق، “ضيعة”، أي قصر محاط بأشجار الصّنوبر، مغنولية كبيرة ومحاطة ببوّابة جميلة، حيث بقيت الطّبيعة، قريبة جدًا، بين المناطق المبنيّة، أو أبعد ولكن على مسافة قريبة مشيا على الأقدام. كانت هوايتنا المفضّلة تتمثّلُ في التنزّه طويلا باتّجاه “الجبل الأخضر” (الأبعد وهي تُمثّلُ بعثة) أو “الجبل الأحمر” (تلّ من الجبس المحض يُمثّلُ مَقْطَعًا في الهواء الطّلق، وقع اليوم دكّه ليؤوي مركزا تجاريّا).

في بعض الأحيان كنّا نسيرُ على طول خطّ السكّة الحديد ونتعمّق أكثر في التلال. عندما أفكر في هذه الممرّات، أتذكّرُ صورة قصر غنيّ مهجور ولكنّه لا يزال يؤوي بقايا جميلة من روعة الماضي، الخان العظيم، وكذلك صورة قنوات الرّي الصّغيرة التي تعبر الغابات والثقافات، بعيدًا جدّا عن المنزل، نحو الجبل الأخضر: لا أعرف لماذا أتذكّر الخان العظيم والقنوات بهذه القوّة. كانت أماكن غرائبيّة تُشيرُ إلى عصر آخر (البيت)، أشياء (قنوات الرّي) ذات مواهب غامضة أو غريبة على حياتنا: أعتقدُ أنّها راسخة في ذاكرتي لأنّها ركّزت عندي بشكل خاصّ الشّعور بأنّ هذا العالم ليس ملكا لنا. نحن غرباء فيه ويمكننا عبوره في كلّ الاتّجاهات… ولكن على رؤوس أصابعنا.

في الصّيف، كان البحر هدف رحلاتنا. كنّا نستقلُّ قطارًا بخاريًّا صغيرًا، لا تزال رائحته في أنفي، والّذي كان يتبع السّاحل  مؤمّنا النّقل إلى الواطئ. كنّا نذهبُ إلى “كورونا”، وهو شاطئ رمليّ، لكنّنا كنّا نحاذي شواطئ أخرى أكثر جمالًا على الرّغم من أنّها لا تلائم الأطفال، فهي أكثر معدنيّة وكثيفة الأشجار. أعرف عن ظهر قلب ألوان الحجر الأبيض، السّماء الزّرقاء والبحر. وهكذا، على الرّغم من أنّنا من سكّان المدن، فقد نشأنا بالقرب من طبيعة البحر الأبيض المتوسّط، وإذا بقيتُ أنا في باريس، فإنّ إخوتي، بعد أن مكثوا في العاصمة أثناء دراستهم، عادوا إلى مرسيليا، لاسيما لإعادة اكتشاف الطبيعة.

حكايةٌ ستكشفُ بطريقة أخرى ذلك الشّعور بالغربة، طريقة الشّعور هذه بأنّي مدعوّة مؤقّتة إلى المأدبة الجماعيّة، التي تميّزت بها طفولتي. في إحدى الحكايات التي كان والدي يخترعها لنا، قام في إحدى الأمسيات بتشخيص مرّيخيّين. بقي مقطع منها راسخا في ذاكرتي، ذلك الذّي يروي دهشة الكائنات الفضائيّة وهي تكتشف غرابة البشر. أستطيعُ أن أراه من جديد مقلّدا إيماءات الدّهشة: “أوه! البشر، البشر!”، بينما كنّا الأربعة نضحك بجنون على الفكرة المعتوهة بأنّنا، نحن البشر، من يمكن أن نكون مضحكين بالنّسبة إلى الآخرين. في هذا الانعكاس للغرابة، ربّما كان هناك بعض العزاء وقليل من الثّأر، هي فكرة قويّة على أيّ حال: دائمًا ما يكون المرء غريبًا بالنّسبة إلى شخص آخر، حتّى وإن كنّا نعتبر عاديّين، وربّما كان ذلك مُطَمْئِنًا لنا نحن آل كانّون، نحن الذين لم نكن متأكّدين أنّ هذا العالم لنا.

من هذه الأصول وهذه الطّفولة، احتفظتُ بالانطباع الحميم الّذي لا يُمْكِنُ محوه عن قضاء حياتي “في التّظاهر ب”. صحيح أنّي أعرفُ القواعد ولا أُفكّرُ كثيرًا بها بعد الآن، ومع ذلك لا يزال هناك هذا الاعتقاد، العميق وغير القابل للتّفسير، بخلاف الأجزاء والقطع التي أُقدّمها هنا، المتمثّل في أنّي غير متشابهة و، في الواقع، غريبة عن المحيطين بي، نوع من المرّيخيّين الذين تسمح لهم مرونة مظهرهم أو مهارتهم في التّنكّر بالاختباء بين البشر، دون أن يُلاَحِظَ وجودي أحد.

أن أكون لغتي أنا

إذن، وأنا آتية من البحر، من أكون؟

لقد قُلْتُ ذلك، لقد كان الوطن الأكثر أمانًا هو لغتي أنا، ولهذا السّبب عندما يسألني الناس من أين أَتَيْتُ (سمراء جدّا كي لا أكون من مكان آخر)، أُجيبُ بأنّني من جنسيّة لغتي أنا. إنّها، علاوة على ذلك، طبيعة ثانية لجميع البشر: كلّ شخص يعيش دافئًا في لغتي أنا، وهي مساحة فكريّة تغطّي جميع الأراضي المأهولة بالسّكان ولكنّها تُعْرِبُ عن عدد كبير من التّنويعات (هناك ما بين 3000 و7000 لسان على هذا الكوكب).

انتمائي الحقيقي الوحيد هو للّغة التي أتحدّث وللثّقافة المرتبطة بها. لا شكّ أنّه بالنّسبة إلى والدي كانت للفرنسيّة طبيعة مزدوجة (كلاهما حميميّ – لغته التعليميّة – ومستعارة – في ما بينهم يتحدّثُ أفراد عائلته الصقليّة)، فقد أحبّها بانبهار ما انفكّ يعبّرُ عنها نحونا: من خلال تعلّم الكلمات والعبارات التي ينقلها إلينا مثل درر جديدة، لطف إضافيّ للفكر؛ من خلال الرّغبة في ابتكار عبارات جديدة (حاول دائمًا – عبثًا – وضع عبارات جديدة في التّداول)؛ بحبّ القراءة وواجب الكتابة (اليوميّات).

إذا سألنا أنفسنا كيف يُصْنَعُ كاتبٌ (ليس “كاتبًا جيّدًا”، ولكن ببساطة كائن له هوس الكتابة ويُنَظِّمُ حياته كلّها بطريقة تُرْضِي هذا الهَوَسَ)، فلا شكّ في أن نسعى في البحث في الطّفولة عن ركائز هذا التّرتيب وبشكل أكثر تحديدًا في العلاقة الافتتاحيّة مع اللّغة. قام والدي بالتّأسيس لإرثي الوحيد (غير المادّي إذن) من خلال استلهامه من كنز اللّغة المشترك.

أَتَذَكَّرُ أيضًا كيف تعلّمتُ رقّته في دروس قواعد اللّغة والتّحليل المنطقيّ، والتي أعطتني شُعوُرًا بالتغلغل في حميمية اللّغة، وفهم كيفية عملها. هكذا إذن، أرض فرنسا هذه لم تكن لي (إن كانت أبدًا لأحد ما)، لكنّ اللّغة، نعم، كانت لغتي.

ما الذي أمتلكه إذن بإعلان نفسي، في فرنسا، حاملة لجنسيّة لغتي أنا؟ الفلسفة (التي يَجْبُ التطرّقُ إليها بالمعنى الواسع الّذي أعطاه لها القرن الثّامن عشر: جميع المحاولات لفهم العالم والتّفكير في حياة جيّدة)، والأدب بما هو مستودع اللّغة والرّوح. وشعر هذه اللّغة: في المعهد، كان لي شرف (الذي هو بصدد الضّياع) حفظُ مقاطع كاملة من رَاسِينْ. مُلاَحِظَةً لاَحِقًا المتعة التي لا توصف عندما كانت تغمرني في كلّ مرّة سَمِعْتُ فيها إلقاء هذا المسرح، أَدْرَكْتُ أنّني تعلّمتُ الفرنسيّة أيضًا في “فِيدْرْ” و”بِيرِينِيسْ”. كان رَاسِينْ لغتي الأمّ، وكان بالنّسبة إليّ مؤثّر كما عند الآخرين تلك التّنويمة التي تغنّيها الأمّ أو هذه الأغنية الشّعبيّة الرّقيقة التي تهدهد أمسيات الصّيف. أنا لا أقول أنّ راسين “نموذج”. بل هو القالب الذي تكوّن فيه تفكيري وشعوري باللّغة، أي هذه الأَلَفَةِ التي تَحْدُثُ معها، ممّا يجعلنا نقولُ أنّها مِلْكٌ لنا (بقدر ما نكون نحن ملكا لها، كما هو الحال في الحبّ)، والذي يُتَرْجَمُ إلى العاطفة الإستيتيقيّة الشّديدة الّتي تُسَبِّبُهَا التّحديثات الجميلة. إن إمكانيّة هذه المشاعر، الحميمة للغاية، والغامضة تقريبًا، هو ما يجعلني أقولُ أنّ رَاسِينْ ليس فقط مُعَاصِرِي ومِلْكٌ لي، بالطّبع، ولكن لغته مستجدّة تَمَامًا، لأنّه واحد من أجناس الفرنسيّة كما لا يَزَالُ يُوجَدُ ويتجلّى فينا (على الرّغم من بلوغه الذّروة الشّعريّة)، والتخلّي عن نقله من شأنه أن يُقَوِّضَ استخدامنا المشترك والعاديّ والمشاع للّغة. الشّعر (للشّعراء والمسرحييّن والرّوائيّين)، في جانبه غير القابل للاختزال (غير القابل للتّرجمة)، هو مصدر إحساسنا باللّغة وبالتّالي بإمكانيّة التّفكير.

هكذا تنتهي هذه النّزهة في ذاكرتي المتوسّطيّة. من خلال هذه المقتطفات من التّاريخ الشّخصيّ، نرى أن بناء الإحساس بالهويّة يمكن التوسّط فيه من خلال اللّقاء مع الأعمال الفنّية (كازان الّذي كشف لي أنّني مهاجرة، شِيَاشِيَا الذي جعل منّي صقليّة). نرى أيضًا أن هوس الوالدين (عَارُ أن تكون صقلّيا) يُمْكِنُ أن يفتح الأبواب نحو الأخوّة والعالميّة، وأخيرًا كيف أنّ عنف المنفى، الذي يختبره الآخرون (الكهول)، قَادِرٌ على غرس الشّعور الحيويّ بالرّغم من كونه سخيفا، بأنّي ناجية إلى الأبد.

أُدْرِكُ وأنا بصدد إعادة قراءة ما كَتَبْتُ، كم أنّ البُعْدَ المُظْلِمَ للبحر الأبيض المتوسّط قد كُتِبَ في داخلي قبل كلّ شيء. هل عَبَّرْتُ عن الفرح الذي يَعِيشُ في داخلي أيضًا بما فيه الكفاية؟ بالطّبع ليس لديّ إيثاقا، لكن لهذا السّبب لم أتوقّف عن محاولة إعادة توزيع أوراق وجودي، وعن إعادة اختراع نفسي، ولديّ لغتي، هذه اللّغة الفرنسيّة الجميلة الّتي أعرفها، والتي أَقُومُ بتدريسها والّتي أُحَاوِلُ إثرائها بتجديدها (قدر الإمكان) في عملي ككاتبة مِمَّا يَشْهَدُ على انخراطي في البَيْتِ الوَاسِعِ المُشْتَرَكِ.

• تعريب أيمن حسن والنص كتب خصيصا لـ”الجديد”

بِيلِيندا كَانُّون

كاتبة من فرنسا

الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى