تيري إيغلتون: تفكيك الشر/ سعدون يخلف
يقوم الوجود على العديد من الثنائيات المتضادة؛ الحياة والموت، السعادة والشقاء، الصحة والمرض، الفرح والحزن، الخير والشر.. وغيرها، وفي كل هذه الثنائيات يميل الإنسان بطبعه إلى الأولى، لأنها تجلب له اللذة والفرح والصحة، لكن ما ينبغي الإشارة إليه هنا أنّه لولا الضد، الألم مثلا، لما عرف الإنسان قيمة للراحة، ولولا الحرب لما عرف قيمة السلام، وهكذا؛ صحيح، تتغير نظرة الإنسان إلى مفهوم اللذة حسب معتقده، غير أن المتفق عليه أن اللذة مطلوبة، يسعى كل إنسان إلى تحصيلها، والألم مذموم يعمل كل واحد منا على تفاديه.
من ناحية أخرى، هناك مصطلحات يلفها الغموض، إذ يصعب تعريفها، وتحديد مفهومها، من تلك المصطلحات التي تتميز بهذه السمة «الشر»، لذا حاول الفلاسفة أن يعبّروا عنه بتعابير بديلة ودالّة، من أجل إزالة الغموض العالق به، ومن ثمّ، يسهل تفسيره، لأنّ تفسيره يسهل تقويضه، البعض جعله قرينة للخطيئة، في حين حدده آخرون في الألم، بينما فسره البعض بأنه الموت، وهناك من قال إنه الخبث.
غير أنّ كل هذه التفسيرات لا تخلو من نقد، إذ لاحظ النقاد أن تفسيره بمثل هذه الطريقة زاده إبهاماً، وربما يعود ذلك، بحسب بول ريكور، إلى أننا نضفي على الشر مجموعة مشتتة من الظواهر حيث قال: «إن ما يصنع لغز الشر، هو أننا نضع تحت مصطلح واحد، على الأقل في التقليد الغربي اليهودي المسيحي، ظواهر مشتتة، في مقاربة أولى للخطيئة، التألم والموت»، لهذا يرى بأنه لا يمكن «فهم الشر والنفاذ إلى عمقه إلا بواسطة الفعل أو الممارسة».
الشر عمل مبهم
يكاد تيري إيغلتون الفيلسوف البريطاني، يتفق مع هذه المقاربة، بالأخص في غموض الشر وصعوبة فهمه، ففي كتابه «عن الشر» الصادر عن دار نينوى (2020)، ترجمة عزيز جاسم محمد، يرى أنّ الشر «عمل مبهم ولا يمكن فهمه»، لذلك لا تجده عبر صفحات كتابه يجرؤ على تحديد مفهوم معين له، يزيل من خلاله غموضه، بل يستدعي السرد الروائي، كي يصل إلى خلاصات، قد تساهم في تقريب مفهومه، أو على الأقل تفكك بعض ألغازه.
الأطفال والشر
حاول إيغلتون في المقدمة أن يجيب عن سؤال لطالما شغل تفكير الباحثين، وهو: لماذا يقترف الأطفال الشر؟ منطلقاً في ذلك من حادثة واقعية حدثت في بريطانيا، عندما أقدم طفلان يبلغ كل واحد منهما عشر سنوات على تعذيب طفل يصغرهما، ثم قاما بعد ذلك بقتله؛ وُصِفَ هذان الطفلان بأنهما شريران، على أنّ السؤال الذي يطرح: هل وصفهما بالشر مقبول؟
يرى إيغلتون «أن نعت الصبيين بالشريرين أدى إلى صعوبة التسامح معهما»، وهذا في حد ذاته ظلم لهما، لأنه يأتي قبل محاولة إدراك الأسباب، التي أدت بهما إلى اقتراف هذا العمل الشنيع، ما يؤدي حسبه إلى «قطع دابر استدعاء الظروف الاجتماعية»، ووفقاً لهذا الرأي، فإن «السلوك السيئ أو الخبيث باقٍ دونما تغيير»، ما يجعل الإنسانية أمام معضلة حقيقية، وهي كيف تتعامل مع الأشرار؟
لأن هناك، كما هو معلوم، ظروفاً اجتماعية، ومؤثراتٍ شخصية، تساهم في ظهور هذه السلوكات السيئة، وعلى ضوئها نحاول فهم دوافع الفعل الحقيقية، وربما تؤدي معرفة الأسباب إلى فضيلة التسامح، مع أن إيغلتون لا يعوّل كثيراً على هذا التفسير، إذ يقول: «الافتراض أن التفهّم سيؤدي إلى مزيدٍ من التسامح، وفي الواقع إن العكس هو الصحيح في كثير من الأحيان».
غير أنّ البحث عن مسوغ الفعل الشرير من أجل الصفح ليس بإطلاق، فهو إن كان مبرراً في مثل حالة الطفلين لصغرهما، فإن تعميمه يساعد على انتشار الجرائم؛ فالشر، كما يعلق إيغلتون، هو «مسؤولية الشخص عن أفعاله»، وبالتالي فارتكاب جريمة من طرف شخص، مثلا، يفترض فيه أن يتحمل مسؤوليته، دون النظر إلى ظروفه الاجتماعية أو اعتبار لشخصيته.
بناءً على ما سبق، يتوصل إيغلتون إلى نتيجة مفادها بأنّ كلمة الشر لا تقودنا إلى اليقين عند مناقشة مسألة ما، بل على العكس من ذلك، يتحول النقاش إلى توالد الأسئلة، وإلى إثارة الجدل أكثر، حيث يقول: «ولعل كلمة الشر عموماً ما هي إلا وسيلة يراد بها خلق جدل حول غاية معينة».
روايات الشر
يتكئ إيغلتون على السرد الروائي كي يفهم الشر، ربما لأنّ الروائي يعبّر عن مكنونات نفسية بلغة رمزية، لا يستطيع الكثيرون فك ألغازها، أو أن الروائي يقول ما لا يستطيع غيره أن يقوله، من تلك الروايات التي استند إليها في كتابه: «بنتشر مارتن»، و«السقوط الحر» لوليام غولدينغ، و«صخرة برايتون» لغراهام غرين، ومسرحيات شكسبير، و«الضحك والنسيان» لكونديرا، و«الفردوس المفقود» لملتون، وهي روايات يتجلى فيها الشر والموت والجحيم بشكل طاغٍ.
يناقش إيغلتون حقيقة الموت، التي تجعل من الجسد مادة بلا معنى، أي أنه يمثل الانفصال ما بين المادة والمعنى، وبانفصال الجسد وخسوف المعنى (الروح)، يبدأ الشر الجالب للدمار والخراب والضياع، هنا، يستحضر تلك الرواية التي مات فيها البطل في بداية القصة ثمّ يظهر حياً بعد ذلك، أو تلك الرواية التي تصور «شخصية بطلها المتوفى من دون أن يكون مستلقياً على ظهره»، هل هذا التصوير هو رمز لحالة الإنسان الغربي، الذي قام بتغييب الإله، ليجعل من نفسه سيداً؟
قد تشير صورة البطل المتوفى من دون أن يكون مستلقياً على ظهره، إلى «الرجل التنويري»، المنفصل عن الإله (الروح)، والمتمركز حول ذاته (الجسد)، والساعي بعقله إلى التحرر، يصف إيغلتون مشهد موته بـ«تقشعر له الأبدان»، وما يزيد من احتمالية هذا التفسير أنه يحدد هدف هذا التيار العقلاني في أنه: «يسعى إلى التحرر البشري»، كان من نتيجة هذا الوضع، وفقاً لإيغلتون، تشيئ الإنسان والعالم والوجود، إذ يقول: «العقلاني يعامل العالم، بما في ذلك جسده وأجساد الآخرين، على أنها مجرد أشياء لا قيمة لها، ومن الممكن تشكيلها بإرادته الجائرة، ما يهمه في كل هذا هو مصلحته الشخصية الوحشية».
إن الإنسان المتشيء، يسعى إلى الخلود، أي لا يريد الموت، ومن لا يريد الموت، ليس له القدرة على فعل الخير، لأنّ هذا الإنسان، بحسب إيغلتون، «يرى نفسه أسمى من أن يختفي إلى الأبد، إلا أنه أيضاً غير قادر على الموت، لأنه لم يكن قادراً على فعل الخير، لأن الأخيار هم من يكونون قادرين على الموت».
على ضوء هذا، يشبّه إيغلتون الإنسان الغربي المعتز بذاته وبفتوحاته العلمية بـ«الرجل الميت في رواية غولدينغ»، الذي يعتقد بأنه تم إنقاذه، حينما انفصل الجسد (الإنسان) عن الروح (الإله)، غير أنه، في الحقيقة، «لم يكن حياً في الأصل» أو أن حياته كانت، في الحقيقة، كموته، بمعنى أن هذا الإنسان الذي رأى نفسه بأنه تحرر من المطلق، وأنه حاز القوة والمعرفة، وربما الخلود في المستقبل، دمّر ذاته، وهو لا يدري، لما حاول تقليد الإله في أمور الخلق أو الموت (الانتحار)، يكتب إيغلتون: «يسعى ليفركوهن إلى تدمير نفسه، وذلك لأنه يخطو خطوة نحو مضاهاة الإله».
الشر تافه
إن الشر، كما خلصنا آنفاً، قد يؤدي إلى تدمير الذات، أي عندما يتجه نحو الأنا أو الداخل، كما في حالة ليفركوهن، وقد يؤدي إلى تدمير الآخر، لما يتجه صوّب الخارج، من أجل إشباع رغبات دفينة، أو خدمة لأيديولوجيا معينة، كحالة الساحرات الثلاث في مسرحية «ماكبث» لشكسبير، فالساحرات «معاديات للنظام الاجتماعي الهرمي العنيف لاسكتلندية ماكبث، وينتقمن لألم مخفي في دخيلتهن». إن الساحرات في هذه الحالة هن رمزٌ للشر، الشر الساعي إلى تدمير الآخر لرغبة ما، ما يجعل «التاريخ البشري، بحسب إيغلتون، مدمراً» بسبب تدخل «عدمية السحرة فيه»، وبظهور عدمية الشر يغيب اليقين، وتنفتح «فجوة كبيرة في العالم»، وتنشطر الذات «بين أن تكون أنت ولست أنت»، وبين الحب واللاحب «أحبها وحينما لا أحبها، فإن الفوضى تعمّ في داخلي مرة أخرى» (عطيل)؛ تجعل من الحضور غياباً، ومن وضوح الرؤية غموضاً؛ في النتيجة أن الانشطار في الذات يؤدي إلى السقوط «فريسة لدافع الموت»، كما يقول فرويد.
بالإضافة إلى ما سبق، يتعلق الشر بوهم الهوية (الأنا النقي) في مقابل (الآخر الخبيث)، ما يفتح الطريق لارتكاب أبشع الجرائم، فالنازيون، مثلا، نظروا إلى اليهود كأشياء زائدة يجب التخلص منها، أو بتعبير إيغلتون: بأنهم نوع «من العدم الموحل أو الأشياء الزائدة». كما وصف مفكرنا إبادة الآخر بـ«المتعة الفاحشة»، لأنّ الفاعل يتصور أن وجوده يتطلب القضاء على الآخر، حتى يشعر بأنه «لا يزال موجوداً».
استناداً إلى ما سبق، يتوصل إيغلتون إلى جملة من الاستنتاجات حول الشر، فهو: «مثال على عدم الصدق»، أو «إضلال خالص، إنه نوع من التضخم الكوني»، كما أنّه «مشكلة محيرة أو تناقض»، وهو «نوع مخيف من العقلانية حيال نفسه»، بالإضافة إلى أنه «تافه»، وإيغلتون في هذه النقطة يتقاطع مع تحليل حنة أرندت لشخصية أدولف آيخمان، المسؤول النازي، إذ خلصت فيه إلى أنه «لم يكن شخصية شريرة»، بل «كان مجرداً من الفكر».
ضرورة الشر
يحاول إيغلتون في الفصل الأخير الإجابة عن هذا السؤال: هل الشر ضروري؟
في الحقيقة لا يُعرف الخير إلا بضده وهو الشر، ولأنه كذلك فـ«الشر ضروري لبناء الشخصية الأخلاقية»، كما أنّه يساعد الإنسان على عمل الفضيلة، في هذا الشأن يقول: «سيكون العالم بلا شر لطيفاً جداً إلى درجة أنّه لا يستفزنا إلى عمل الفضيلة»، من ثم، فإن الخير والشر متداخلان، فقد «يأتي الخير في بعض الأحيان من الشر»، من ثم، فهل الرأسمالية باعتبارها شراً ضرورة؟
يجادل إيغلتون، وهو الماركسي، في الإجابة عن هذا السؤال بالقول: «أليست الرأسمالية ضرورية لتطوير ثروة المجتمع إلى الحد الذي تستطيع الاشتراكية فيه الاستيلاء عليها، وإعادة تنظيمها لمنفعة الجميع»، كما كانت العبودية من قبل ضرورية، لأنّها «أدت إلى نظام أكثر تقدمية للإقطاع»، وعليه، فلا يوجد هناك شر خالص، فقد يختلط الشر بالخير فيفرز خيراً.
على صعيد آخر، يرفض إيغلتون سياسة الكيل بمكيالين عند تجريم العدو، والتغاضي عن جرائم الأنا، واصفاً إياها بـ«الخبث»؛ وهي سياسة تحاول وضعه، أي الخبث، «دائماً في مكان آخر»؛ فريتشارد بيرنشتاين يصف تدمير مركز التجارة العالمي 2001: بـ«خلاصة الشر في عصرنا»، لكنه، في المقابل، يغض الطّرف عن جرائم بلاده في العالم.
لذلك، يخلص إيغلتون، ختاماً، إلى أنّ الإرهاب خبيثٌ وليس شريراً، ووصفه بالشر «لعبة لفظية»، تزيد من تفاقم مشكلته؛ حيث يغدو من يحارب الإرهاب، كمن يصنعه، فهما متشابهان في إنتاجهما للهمجية والبربرية، حيث يكتب قائلا: «إن تعريف الإرهاب بالشر تفاقم المشكلة؛ ومما يزيد الطين بلة هو أن تكون متواطئاً، بغض النظر إن كان العمل عفوياً، بالهمجية نفسها التي تدينها».
كاتب جزائري
القدس العربي