“رائحة الكتب”.. رحلة ساحرة في الحياة الثقافية الإيطالية/ بشير البكر
“رائحة الكتب”.. رحلة ساحرة في الحياة الثقافية الإيطالية يعرفنا الكاتب على كتب لا يعرف المرء طريقة إمساكها أو قراءتها
للكتاب رائحة وطعم ولون، لا تأتي فقط من كيمياء الورق، التي تشتغل عليه الشركات المتخصصة، كي يتماشى مع تطور صناعة الكتاب لجهة الجاذبية وخفة الوزن وجمال اللون. وهذا أمر يهدف إلى غواية العين التي تفتش بين الرفوف، وسحر اليد التي تقلب الصفحات، وشد الانتباه من أجل اقتناء الكتاب. إنما ما يجعل القارئ مفتوناً بالكتاب يأتي من ينابيع أخرى تذهب، بحسب الكاتب الإيطالي جيامبييرو موغيني، نحو التفاصيل الحميمة التي كرسها لها كتاباً حمل عنوان “رائحة الكتب”، وصدرت ترجمته التي قامت بها دلال نصر الله عن دار المدى، ويتحدث فيه عن كتب وكتيبات من القرن العشرين، حينما بدأ أصحاب المكتبات المستقلة يغلقون أبوابها، ويتراجع عدد مشتري الكتب بنسبة 25% بحسب إحصائية إيطالية.
ولم يعد الكتاب الورقي متربعاً على عرشه الذي جلس عليه منذ بدء القراءة، وبات يواجه الرقمنة، حيث يمكن وضع ثلاثة آلاف كتاب ضمن قارئة الكتب الإلكترونية التي تزن مئتي جرام، وحملها اثناء السفر والإجازة. وتحسب المعركة هنا بلا جدوى وبلا أمل في النصر، ليبدو زمن جيل قراء الكتاب الورقي بعيداً وسحيقاً، ذلك الوقت الذي لم يكن فيه أي بديل ترفيهي آخر، مجرد كتب ورقية “كتب بنتنا وهدمتنا. أشياء مقدسة أجل. أشياء تتصفحها صفحة إثر صفحة.. ترك أثر، يختلف من شخص إلى آخر. والكتب التي وقع عليها الكاتب مميزة، ولم يخترها لشهرتها وانتشارها فقط، بل ولخطورتها، ولأن أغلب الناس هجروها، ويتحدث عن تاريخ نشرها وتفاصيلها في طبعتها الأولى، والصدى الذي أحدثته للمرة الأولى وهي عبارة عن جزء من مكتبة الكاتب التي حين يشمها تذكره بشبابه، وفي كل الأحوال لا يمكن للمرء أن يكون حيادياً في هذا المجال. ويأتي على ذِكر كتب مثل ديوان “ميناء مردوم” للشاعر جوسيبي انغارتي، أحد أهم شعراء إيطاليا في القرن العشرين. ونشر الديوان العام 1916 وطُبعت منه 80 نسخة فقط، أما الشاعر الذي نال جائزة نوبل لاحقاً، إوجينو مونتالي، فقد عاني الأمرّين ليقنع الناشر بأن ديوانه الثاني “المناسبات” يستحق طباعة ألف نسخة. ويقف عند معيار تقييم نجاح الكتاب، الذي يختلف اليوم اختلافاً تاماً، ذلك لأن نجاح الكتاب يتحدد بمبيعاته، ووجوده في لائحة الكتب العشرة الأكثر مبيعاً، لهذا الأسبوع أو الشهر، وهذا معيار لم يهيمن على سوق النشر فحسب، بل وعلى الرأي الثقافي السائد، ويظل أفضل الكتب، وربما امرأة ما، هي التي تذكر الكاتب بفترة شبابه، والشغف الذي صاحبها.
الأفضل هو جيوفاني باسكولي، صاحب ديوان “ميركاييه” (الشجرة الشمعية باللاتينية) الذي كتبه بين 1891 و1903. بدأ بـ22 قصيدة، وارتفع إلى 156 في الطبعة الأخيرة. ويرى في هذا الشاعر الذي يحظى بإجماع النقاد، على أنه مركز الشعر الإيطالي في القرن العشرين، سلكاً متيناً يمتد حتى جياكوم ليوبردي، أحد ابرز شعراء إيطاليا في القرن العشرين. الكتاب الذي يقول الكاهن تشيزارة انجليني، أنه قرأه وهو جاث على ركبيته، بينما ذكر كاتب الأغاني باولو كونتي أن رفاقه كانوا يقتبسون من قصائد باسكولي رسائل غرام للفتيات. وأمضى الكاتب عشرين عاماً في البحث عن الكتاب ليجده عند جامع كتب من ميلانو، وعندما حصل عليه قرر كتابة هذا الكتاب.
وفي الروايات، يتحدث عن أول رواية “حياة”، وكتبها إيتوري شميت على مدى ثلاثين عاماً، وهي تعتبر ركيزة أساسية في روايات القرن العشرين الإيطالية، ودفع الكاتب ثمن ألف نسخة تمت طباعتها في مطابع صغيرة في مدينة تريستة متخصصة بطباعة بطاقات الأفراح، وأهداها للعديد من أهل المدينة ولم يكترث أحد برواية مؤلفها مجرد موظف مجهول في مصرف، والباقي احتفظت به العائلة في القبو وتلف أثناء قصف الحلفاء للمدينة العام 1945. وتمكن الكاتب من العثور على نسخة لدى بائع كاتبه باعها له لأنه سبق له أن ألف كتاباً عن كاتبها. ويقارن هذا الروائي بروائي آخر، هو ألبرتو مورافيا، وقصة روايته الأولى “اللامبالون” التي كتبها في عمر 17 عاماً ولم تقبل دار النشر نشرها إلا بعد تسديد ثمن طباعتها سلفاً، وساعده على ذلك ثراء والده الذي أقرضه المبلغ، ونجحت الرواية إلى حد أنه طبع منها خمس طبعات ما بين 1929-1933، ويعد هذا إنجازاً ساحقاً بكافة المقاييس، خصوصاً أنه عرف باسمه الحقيقي، في حين احتاج أشهر كتّاب تلك المرحلة (إيتوري شميت) إلى 30 عاماً ليشتهر.
ويعرفنا الكاتب على كتب لا يعرف المرء طريقة إمساكها أو قراءتها، وتتعدد الدوافع والأسباب لتصفحها. ومنها كتاب “الوكر” الذي يتحدث عن أحد مقرات موسوليني حينما كان صحافياً. وتعرف على الصور في معرض، قبل أن يبحث عن الكتاب لزمن طويل، ويعثر عليه في ثلاث طبعات، ليدرس من خلاله ماورائيات اولئك الشباب الذين تطوعوا في الحرب العالمية الثانية، ومن هؤلاء المعماري جوسيبي باغانو، رئيس الحركة المعمارية العقلانية، الذي بدأ عضواً في الحزب الوطني الفاشي ليموت في معتقل للنازية قبل وقت قصير من نهاية الحرب العالمية الثانية. ويذهب الكاتب بعيداً في تشريح تأثير الفاشية، التي في عامها الحادي عشر، ولدت في كنفها إحدى أجمل المجلات الإيطالية في القرن العشرين من مجموعة طابعات وفناني التصميم من خلال استوديو في ميلانو حيث نشأت مؤسسات ربطت مختلف أنواع الذائقة المعاصرة. وفي هذا المرور يتوقف الكاتب عند أغلفة الكتب “جميلة بمنزلة ثقب لفكرة سياسية”، وكانت المفاجأة إن إحدى دور النشر نشرت كتاب “كفاحي” لهتلر. وهنا يعترف الكاتب بأن أهم كتاب قرأه وهو في سن 19 عاماً كان لغرامشي، أحد الكتب التي غيرت حياته وتركت فيها بصمة لا تزول. وكانت نسخة الكتاب من الطبعة التاسعة التي صدرت العام 1954.
أما أول كتاب أصدره الروائي والناقد اومبرتو إيكو، صاحب رواية “اسم الوردة”، فصدر العام 1958 تحت اسم مستعار “ديدالوس” في 500 نسخة، وهو “كتاب جاد وظريف”، كناية عن مقالات يسرد فيها إيكو تاريخ فلاسفة الغرب بمقاطع شعرية. يعرّف قصة الفيلسوف ويشبعها أثناء سردها بكمية هائلة من السخرية. فكر ثاقب، أثرته رسوم ذكية، يبدو أن إيكو رسمها بنفسه بحكم عدم ذكر اسم الرسام.
وقد يكون الكتاب أيضاً إحياء واكتشافاً لسيرة شخص ما، مثل كتاب لوناردو شاشا، حول ألدو مورو، السياسي وأستاذ القانون، الذي اختطفته “الألوية الحمراء” العام 1978 وطالبت مقايضته بـ13 سجيناً من أعضائها، واستمرت العملية 55 يوماً، وانتهت بأن قتلوه ورموا جثته في سيارة حمراء، وشغلت قصته العالم في حينه. ويسلط الكتاب الضوء على تفاصيل المفاوضات، ومنها رفض السياسي الإيطالي دفع الفدية عنه، لأن حياته ليست أغلى من حيوات الذين سقطوا في الحرب الأهلية في إيطاليا، وفي حال أرادت الحكومة أن تقوم بذلك فلتدفعها لزوجته وليس لخاطفيه. ويريد الكاتب من ذلك الوقوف أمام التفاصيل الصغيرة في حياة أشخاص تقاطعت مع الكتب، فحيناً يبجل الكتاب لأن كاتبه شخص يستحق التبجيل، وبالعكس، قد يعلي من منسوب حبه واحترامه للشخص لأنه كتب هذا الكتاب. وفي أحيان أخرى، يلتقي الدافعان معاً، كما في حال لويجي بنتور، الذي يستعيده من خلال كتابه الصادر في العام 1993 تحت عنوان “سرفابو”. ولويجي هو شقيق أحد أبطال وشهداء المقاومة ضد الفاشية، وكان “أحد أفضل الصحافيين الشيوعيين في الستينيات..قرّاؤه كثر ومريدوه أكثر”. تولى رئاسة تحرير صحيفة الحزب الشيوعي الإيطالي “المانفستو”. وصرح الكاتب بأنه أحب فيه الإنسان والأديب “في ذلك الوقت لم أجد الحب قابلاً للانقسام”. وهو التقدير ذاته للكاتب ألدو بوتزي، صاحب كتاب “بيضة مطبوخة” المكرس في فن الطهي، وصاحب الدعوة كي “نعيش حياتنا كما نريد”، من باب الاستمتاع بالحياة والموازنة بين جوانبها: “أخبرني كيف تأكل طعامك وأين تأكله وسأخبرك من أنت”. ولا يبخل بالحب على آخر وأجمل كتاب كتبه الكاتب إدموند بيرسلي، وصدر بعد وفاته، وأهداه إلى كلبة إسمها لوي “مخلوقة خلوقة ونادرة أشبه بربة وطفلة في آن واحد”، وجماله يفوق كتابه عن كرة القدم وأساليب اللاعب ماريولينو كورسو.
“رائحة الكتب” كتاب على قدر كبير من الأهمية، هو بمثابة محاولة تعريف بأبرز الكتب الصادرة في إيطاليا في القرن العشرين، تقوم على قراءة وشغف يصل إلى حد مطاردة بعض الكتب والبحث عن نسخة منها على مدى أعوام. وبذلك، لم يتناول فقط الكتب التي كانت تحظى بقدر من الإعلام بسبب راهنية صدورها، بل هو قرر النبش من أجل تسليط الضوء على كتب لا يعرفها القراء أو نسوها بفعل الزمن ووصول الرقمنة. النباهة، والذكرى، والوعي الثقافي، والتهكم، كلها ستنقل القارئ إلى بُعد آخر من الحياة في زمن وجيز. كل فصل يتكون من ثلاث او أربع صفحات، وهو الوقت اللازم لإعداد سلطة متبلة بإتقان، أو طهي بيضة، على حد تعبيره.
المدن