أصوات تفقد طابعها البشري في السجون السورية كما تروي “الشراقة” للكاتبة سعاد قطناني/ سامر محمد إسماعيل
الكاتبة سعاد قطناني التقت 12 معتقلاً ومعتقلة ووثقت تجاربهم الدامية في شهادات
لا تخلو المكتبة العربية من الكتب التي وثقت حياة السجناء السياسيين، وصورت الرعب في السجون العربية، وبعض تلك الكتب كان روادها من النساء، وقد جاء كتاب “السجن، الوطن” للكاتبة المصرية فريدة النقاش التي سجلت تجربة المعتقل بعين امرأة عربية، فهي بعد أن اعتقلت طويلاً في سجون الرئيس الراحل أنور السادات تذكر في كتابها، “لم يعمل أحد في السياسة من أبناء جيلي، وأفلت من تجربة السجن”. أما الكاتبة والطبيبة نوال السعداوي فكتبت تجرتها في سجن النساء في رواية “مذكراتي في سجن النساء” وروت فيها تجربتها في مواجهة السجان والفكر الرجعي والذكوري، كما أن الكاتبة السورية روزا ياسين حسن قدمت هي الأخرى روايتها “نيغاتيف” عام 2008 كأول رواية توثيقية عن ذاكرة المعتقلات السياسيات في بلادها، منجذبة إلى حرفية اللغة ودلالاتها اللامتناهية، وإلى نحت الكلمات للتعبير عن ذاكرة السجون المعششة في الأرواح، ساعبة إلى مقاربة تجربة فيلتيسيا لانغر (1930-2018) في كتابها “بأم عيني” والصادر عام 1974 عن “مؤسسة الأرض للدراسات الفلسطينية”، وفيه روت المحامية الإسرائيلية العديد من حالات تعذيب المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، إذ كان التعذيب يقود كثيراً منهم إلى الجنون أو العاهات الدائمة، ولعل ما عاشته الكاتبة والمناضلة فاطنة البويه التي اعتقلت طويلاً في السجون المغربية دليل على هذا، إذ دونت البويه كتابها “حديث العتمة” في المعتقل، وصدرت منه نسخة بالفرنسية بعنوان “امرأة اسمها رشيد”. ولقد كان للكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي الدور الأساس في إقناع مواطنتها بنشر هذا الكتاب، كما أن المرنيسي نفسها عملت أيضاً على كتاب التاريخ المغربي بعيون مناضلات وسجينات سياسيات سابقات.
“كرسي التعذيب”
اليوم تكمل سعاد قطناني في كتابها “الشراقة” الذي لاقى نجاحاً بعد صدوره، مسيرة من سبقنها من النساء العربيات اللاتي تصدين للكتابة عن تجربة السجن، فيجاور الكرسي الألماني (كرسي التعذيب) كرسي الذاكرة الذي تجلس عليه الكاتبة الفلسطينية – السورية شخصياتها للإدلاء بشهادات صادمة عن عالم السجون السورية، فتحضر الأنات المكبوتة وصراخ وصياح المحققين وأزيز السلاسل، فلقد بحثت قطناني عن 50 اسماً لمعتقلين ومعتقلات في السجون السورية، وتأكدت من صدقيتها عبر الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وعبر معتقلين سابقين كانت تعرفهم، وكذلك الأسماء المنشورة على مواقع “هيومان رايتس ووتش” و”أمنيستي” وغيرها من المؤسسات الحقوقية ووسائل الإعلام العربية والدولية وتقاريرها.
قامت قطناني بالبحث عن الأسماء وتدوينها ومن ثم التأكد منها ومطابقتها للصورة من خلال هويات ووثائق رسمية، والبحث في وسائل التواصل الاجتماعي عن أسماء المعتقلين والمعتقلات في حال ورد ذكرها، والمطالبة بإطلاق سراحها أو خبر اعتقالها، وبعد ذلك تأكدت المؤلفة من أسماء المسجونين من خلال الوصول إلى مسجونين آخرين أو الجيران في المنطقة التي يقيم فيها المعتقل أو عبر المعارف المشتركين، ومن ثم التأكد من الشهادة نفسها وذلك من خلال مقارنة التفاصيل الصغيرة من اللباس والحال الجوية من برد وحر وغيرها من التفاصيل، ومقارنتها مع تاريخ الشهادة وتاريخ الأحداث على الأرض السورية.
ثم سجلت الكاتبة التجربة في ملف يضم مكان الإقامة، وما يميز كل تجربة عن غيرها والمدة الزمنية التي تم فيها الاعتقال، إضافة إلى حكايات عرفتها وقرأتها عن المعتقل أو المعتقلة، وأنشأت جداول مفصلة عن كل معتقل من الـ 50 شخصية التي اختارتها، ثم تواصلت مع 20 منهم، وقامت بإجراء 13 لقاء في الجزء الأول من بحثها، لتقص في كتابها 12 حكاية، إذا اعتمدت قطناني منذ البداية على إجراء اللقاءات في بيوت الناجين لإعطاء صورة دقيقة عن حياتهم وتفاصيلها، وفي أغلب الأحيان التقت عائلات المعتقلين والمعتقلات السوريين، مما أعطاها مزيداً من الدفق في قص الحكاية والدخول في التفاصيل.
بحثاً عن الأماكن
وفي ظروف صعبة جداً ولأسباب لوجيستية، كما تذكر قطناني في مقدمة كتابها، كان من الصعب الوصول إلى أماكن إقامة بعض المعتقلين أو المعتقلات، فقامت باختيار مكان يناسب الطرفين، وسافرت إلى أماكن متفرقة من تركيا وألمانيا والسويد وفرنسا للقائهم، لتكون أماكن إقامة الناجين من السجون جزءاً من حكاياتهم التي وثقتها في كتابها الصادر حديثاً عن دار “موزاييك- إسطنبول”، فالحكايات والشهادات التي سجلتها لم تكن حكاية سجن وسجان فقط، بل هي كما تقول “حكاية سورية بناسها وأحلامهم وآلامهم ومخاوفهم”.
في هذه التجربة الروائية سمعت سعاد وكتبت الحوارات التي سجلتها مع المعتقلين والمعتقلات، كما أنها أعادت صياغتها لأكثر من مرة، فلم تفرغ النص بل “فرغت روحها على سطح الورق”، ولتصير أقوال الشهود في “الشراقة” بمثابة سرد متواصل بلا انقطاع، وتصبح حكاية ورواية وألماً وجرحاً ينفتح على أسئلة ليس لها جواب.
حافظت سعاد على أقوال أصحاب الشهادات وروح النص الأصلي، مستخدمة العبارات ذاتها التي جاءت على ألسنة أصحابها، ومقاربة صنعة السرد الروائية مع الأمانة في نقل هذه الشهادات.
أما المقاربة التي أجرتها الكاتبة بين الحياة والموت أو بين السجن والحرية، فتنقلنا إلى ما يفوق المعنى الرمزي لتلك السرديات، وإلى عوالم أكثر إيغالاً في الغرائبية، حيث يسيل الضوء من شقوق النور المتخيلة في الشراقة (كوة صغيرة في الزنزانة)، لتتخطى قواعد الشعور العادي وتتصاعد الشاعرية لتنتشل الضوء من سواد اللحظة، بغية محاولة تفكيك مشاعر الفقد والألم والحنين.
في روايتها التسجيلية تتخطى قطناني الاستغراق في الواقع لدرجة الخيال، فتتساءل “كيف نحكي حكايات المعتقلين والمغيبين، وكيف نصف عبراتهم ونفهم نبراتهم ونحترم سكناتهم لنطلق الذاكرة والخيال معاً”؟ وتجيب، “قد يستطيع المحكي اليومي عن السجن واستعادة المعتقل والمعتقلة اللحظات المعيشة بكل تفاصيلها البسيطة، أن يخترق أكثر جدران الواقع صلابة ويجعل المرء يغوص في الخيال إلى درجة اللامعقول”.
واقع غرائبي
وتستمد الكاتبة مادتها السردية من تلك الطاقة التي يبثها المعتقل وهو يسترجع ما يدمي القلب ويستل الروح من بين الكلمات، فيتشكل فضاء يحاكي شعرية القول والمعنى، وتبزغ الخلطة السحرية بين واقع غرائبي لدرجة الخيال، وخيال تكون من أكثر لحظات الواقع حقيقية، لتصاغ الكلمات ويصاغ أدب السجون أو المعتقلات، وتولد الحكاية.
تقول قطناني، “عندما يسكن الليل وتهيج الحكايات تعلو همساتهم لتصبح بكاء وصراخاً ونواحاً وعويلاً ينادي أسماءهم في ليالي الوحدة والخوف والنسيان، وحتى الأغنيات صارت تعلو لتنادي الذاكرة (ذاكرتهم) في الليالي الطويلة، والذاكرة تستدعي الذاكرة في الليالي الطويلة”.
حكايات صاغت أبجديتها عتمة السجن حين حكت الجرح، فعلى كرسي الذاكرة جلس معتقلون ومعتقلات وبدأوا بسرد حكاياتهم ليغوصوا في الليل حتى القاع، وينبشوا ما التصق بأرواحهم من أوجاع وآلام، ويحكوا صدأ القضبان بحثاً عما التصق بها من آهات وأمنيات.
تعيد الكاتبة والإعلامية صياغة الحكايات وتجمع شملها وتشتتها وتلمها وتنثرها، فمع كل شهادة ولقاء كانت قطناني تسمع ما هو جديد وما يتجاوز المتخيل، طارحة على القارئ أسئلة مربكة، فهل هو الإبداع الشيطاني لانتهاك الروح وهتك النفس البشرية بوحشية لا تنسى؟ وهل وصول النفس إلى هذا التصعيد النفسي يدخلها عالم سحرية القول وحبكة القص؟
نعثر في المرويات التي تقدمها “الشراقة” على مقاربات لكتب عدة لعل أبرزها كتاب “هروبي إلى الحرية” للبوسني عزت بيكوفيتش (1925-2003) وهو كتاب يوثق وجدانية اللحظات التي يمر فيها السجين، أو انعكاس الأفكار التي كان يقرؤها في السجن، فما يقضيه المعتقل في السجن السياسي يبرمج من أجل الوصول إلى نوع من “التهديم الذاتي” كما سماه الكاتب الجنوب إفريقي برايتن برايتنباخ، وهو كان معتقلاً في سجون “النظام الأبيض”، ففي مقالته “يعلمنا السجن أننا سجناء” المنشورة في مجلة الكرمل عام 1985 يشرح برايتنباخ سيكولوجية السجين والمتاهات النفسية التي يخوضها من أجل البقاء على قيد الحياة.
وأتت عناوين الحكايات الـ 12 في رواية “الشراقة” لتحيل القارئ إلى مناخ قاتم حاول التفريق بين الورود والمقاصل على نحو “الصفعة، بكرا أحلى، ثلاثة ثقوب في الزنزانة، أنت بابا، المرآة، أنا والجثة، الكتابة على لوح الذاكرة، غارق في العتمة والغياب، أنا وأخي في غرفة التحقيق، جرح وتنهيد، بكاء على حافة الحرية، روتين الموت العادي”، وجميع هذه العناوين يحضر في متون نصوصها ضمير المتكلم إلى جانب صوت الراوي. ففي لحظات حاسمة من تدفق السرد تتدخل الكاتبة عبر التعليق الوصفي لاختلاجات الضحايا، وقصص تنفر منها تفاصيل مرعبة ودموية في ليل السجون الرهيبة، “الصوت الذي يخرج من المعتقل أثناء التعذيب ليس صوته، كان صوتاً غير بشري، المعتقل هنا لا يتعرف إلى صوته الجديد، الصوت كان أشبه بمؤثرات صوتية في صالة سينما”