روبرتو سافيانو… كاتب إيطالي تطارده المافيا منذ 16 عاماً/ كاتيا الطويل
يتحدى العصابات من مخبأه السري ويقول “ما زلت على قيد الحياة”
يدفع الكاتب والصحافي الإيطالي روبرتو سافيانو (Roberto Saviano 1979) منذ العام 2006 ثمن جرأته ونشره الكتاب الذي صنع شهرته حول العالم، لكنه صنع في الوقت نفسه مأساته. يدفع سافيانو ثمن نشره عمله “عمورة” (Gomorrah 2006) الذي تُرجم إلى أكثر من 50 لغة وباع حوالى 10 ملايين نسخة حول العالم وتحول إلى فيلم يحمل العنوان نفسه وإلى مسلسل من خمسة مواسم (بين 2014 و2021). على غرار أدباء وصحافيين كثر في العالم، يدفع هذا الكاتب الإيطالي الشاب ثمن أدبه وكتاباته ورغبته في التغيير وهو الذي حارب الـ “مافيا” الإيطالية “كامورا” بالطريقة الوحيدة التي يستطيعها، الأدب.
روبرتو سافيانو الكاتب الإيطالي الذي فضح أسرار عائلة الـ “مافيا” الإيطالية “كامورا” يجد نفسه منذ 16 عاماً مجبراً على التنقل الدائم بسرية تامة تحت حماية الشرطة المستمرة، خوفاً من أن تصل إليه أيدي “كامورا” وتقتله وتسكت قلمه عن الكتابة. كـ “دون كيشوت” جديد يحارب طواحين الفساد والـ “مافيات” والعنف، ونشر سافيانو أخيراً عمله وهو عبارة عن حوار معه “ما زلت على قيد الحياة” (Sono ancora vivo, 2021) الذي يصب فيه سيرته الذاتية بعد 2006 عبر صور ورسوم ونص يجسد علاقته بالموت والخوف والتهديدات التي طاولته وطاولت عائلته ومنعته من ممارسة حياته بشكل طبيعي كسائر الناس. حرمت هذه التهديدات سافيانو من أن يعيش حياة طبيعية كما حرمته من العودة لمسقط رأسه نابولي على وجه التحديد. يقول، “لقد أصبحت نابولي خارج حدودي، أصبحت مكاناً يمكنني زيارته في مخيلتي فقط وعبر ذكرياتي. أنا أسافر في جميع أنحاء العالم، أتنقل من بلد إلى آخر مثل الشطرنج لإجراء الأبحاث لكتاباتي وللبحث عن أي بقايا لحريتي الممزقة”.
بين براثن الموت
بالنسبة إلى كثيرين تبدو الكتابة مهنة كسائر المهن، مجرد وظيفة أخرى. إنما الواقع مختلف عن ذلك. فالكتابة “مهنة” لها عواقب كما يقول سافيانو، وقد تكون عواقب وخيمة في بعض الأحيان عندما يختار الكاتب الطريق الصعب. إن الكتابة مهنة التحدي والكشف والمنازلة من دون خوف إنما أيضاً من دون كبير أمل، وخير دليل على ذلك حياة هذا الكاتب الإيطالي الأربعيني الذي يعيش منذ 16 عاماً شريداً بين المدن هرباً من انتقام الـ “مافيا” الإيطالية، هو التائه الأبدي الذي لا يحق له أن يملك بيتاً ولا عائلة ولا أصدقاء. منذ 16 عاماً يعيش روبرتو سافيانو مع 10 حراس يحددون مساره ويومياته والمسموح والممنوع حفاظاً على سلامته وعلى حياته. هو الذي بات في خطر محدق بسبب كتاباته، فيقول في إحدى المقابلات المجراة معه، “منذ عام 2006 وجزء مني في حال حرب لا تنتهي”.
سافيانو الذي درس الصحافة وبدأ مزاولتها عام 2002 دخل هذا النمط المنعزل المتخفي من الحياة وهو بعد في الـ 26 من عمره بعد تلقيه وتلقي والدته رسائل تهديد من الـ “مافيا”، فيقول في هذا الصدد: “لا تخشى المافيا الإيطالية كتاباتي، هي بالأحرى تخشى قرائي. وحده النجاح الذي حققه كتاب “عمورة” هو الذي أوصلني إلى هنا. لو بلغ الكتاب عدداً قليلاً من القراء ولم ينل الشهرة الذائعة التي نالها لما خسرت حياتي وعائلتي وأصدقائي”.
ويضيف سافيانو،”لقد حققت حلم كل كاتب، الحلم الذي لا يجرؤ معظم زملائي الكتاب على تخيله. لقد حصد كتابي نجاحاً عالمياً وأصبحت صاحب بيست سيلير يملك قاعدة قراء هائلة من كل أنحاء العالم، لكنني خسرت كل شيء آخر. خسرت فرصتي بنيل حياة طبيعية، خسرت فرصتي بدخول علاقة طبيعية. لقد تسممت حياتي وبت أختنق بالأكاذيب والاتهامات والترهات والإشاعات التي تشهر بي. في نهاية الأمر بت أشعر بالندوب التي خلفها هذا الكتاب فيّ، ندوب أحملها معي أينما ذهبت. يسألني الناس إن كنت أخشى أن تقتلني الـ “مافيا” فأجيب بـ “لا” وأتوقف عند هذا الحد مدركاً أن معظمهم لن يصدق إجابتي، لكنني صادق فعلاً. أخاف أموراً كثيرة لكن الموت ليس أحدها. أفكر أحياناً في الألم، كيف سيكون الموت الذي يأتي مرفقاً بألم كبير. أخاف ألا تعود حياتي إلى ما كانت عليه، أخاف أن تبقى حياتي هكذا. أصعب ما يجب التغلب عليه هو الوحدة”.
إن الجريمة المنظمة المنتشرة في جنوب إيطاليا والـ “مافيات” المتغلغلة في النسيج الاجتماعي وعلى رأسها عائلة “كامورا” ليست بمسألة يمكن التحدث فيها ببساطة، فضحايا الـ “مافيات” يعدون بالآلاف من دون أن تشكل هوية الضحية أو مستواها الفكري أو الاجتماعي أو الاقتصادي أي فارق. رجل الأعمال دومينيكو نوفييلو مثلاً الذي شهد ضد عائلة “كامورا” في المحكمة قتل بعد أسبوع واحد من خروجه من تحت حماية الشرطة ظناً منه أن الـ “مافيا” نسيت أمره. تسيطر الـ “مافيات” الإيطالية منذ قرون على المحيطين بها وتثير الرعب في نفوسهم، فهي تؤثر في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية منذ القرن الـ 17 وتتحكم بكل المناطق التي توجد فيها، ومن المستحيل التحقيق في أي جريمة بسبب انتشار قانون عرفي بين الناس ناتج من الخوف من القتل وهو “قانون الصمت”. إن من يتكلم يقتل، فكيف بالأحرى من يكتب؟
“عمورة” والـ “مافيا” الإيطالية
يرد اسم “عمورة” المدينة الفاسدة في الأديان السماوية الثلاث، فهي من المدن التي يقترف أهلها المفاسد والمعاصي والآثام ويعرفون بالبخل والفساد والكبرياء والزنى والقسوة، فينزل بهم الله أشد عقاب ليحترقوا بالنار والكبريت ويتم تدمير أي أثر لهم ولأراضيهم عقاباً لهم على سوء أخلاقهم. بناء عليه لم يختر روبرتو سافيانو عنوان عمله الذائع السيط “عمورة” بشكل اعتباطي، فـ”كامورا” التي هي واحدة من عائلات الـ “مافيا” الإيطالية الأشهر في الثقافة العالمية والأخطر على الصعيد الإجرامي خلقت ما يشبه “عمورة” جديدة جنوب إيطاليا، فهذه العائلة التي تشتهر بتحكمها بمناطق جنوب إيطاليا بقبضة من حديد موجودة منذ القرن الـ 17 وتمارس أفظع أنواع الجرائم والأعمال غير الشرعية، ويمتد نشاطها إلى إسبانيا وجنوب أميركا وشمالها، مما يضاعف القلق الدولي إزاء سلامة سافيانو.
في كل مرة يتم فيها الإبلاغ عن مؤامرة اغتيال قيد التحضير ضده تتشدد الحراسة على سافيانو وتزداد تنقلاته ويزداد الضغط الدولي على الحكومة الإيطالية لتعزيز حمايته. يذكر أنه في أواخر عام 2008 وقع ستة فائزين بجائزة نوبل للآداب من بينهم ميخائيل غورباتشوف وغونتر غراس وأورهان باموك، عريضة قدموها إلى الحكومة الإيطالية تطالب بتوفير مزيد من الحماية للصحافي الإيطالي الذي لم يتوقف عن الكتابة حتى وهو في ظروفه المعيشية القاسية، فعلى الرغم من تدابير الحماية المفروضة عليه والتي قيدت حياته وعلاقاته وتنقلاته، لم يتوقف سافيانو عن الكتابة، وهو الذي صدرت له كتب عدة تفضح الجريمة في إيطاليا قبل صدور عمله الأحدث “ما زلت على قيد الحياة”.
الكتابة هي الانتقام الوحيد
“ما زلت على قيد الحياة” عنوان القصة التي أرادها سافيانو تحدياً يشهره بوجه الفساد والخوف والعنف، هي قصة الصحافي الذي فضح مافيا “كامورا” وتغلغل في صلب أعمالها غير المشروعة، لكنه ما زال يدفع الثمن منذ ذلك الحين بالعزلة والتشرد والوحدة، فكل من يقترب منه يشكل خطراً عليه ويدخل بدوره دائرة الخطر.
يدفع الصحافي الإيطالي روبرتو سافيانو ثمناً باهظاً لكشفه تفاصيل من حياة الجريمة المنظمة في نابولي، خاسراً أدنى معايير الحياة الإنسانية الطبيعية. إجراءات وتدابير وموانع ومحظورات غيرت سافيانو وجعلت منه إنساناً منعزلاً ووحيداً ومهدداً بالموت على مدار الساعة، فما بعد “عمورة” ليس كما قبلها، وما كان لن يعود، فيقول روبرتو سافيانو في هذا الشأن، “عندما بدأت هذه المسألة ونشرت كتابي كنت أتوقع أن يقع شيء من هذا القبيل وقررت الاستمرار لأنني توقعت أنه في غضون خمس سنوات على الأكثر سأكون قد قتلت، ثم استمر الحال على ما هو عليه. لم يقتلوني ولكنهم أيضاً لم يسمحوا لي بالعيش”.
16 عاماً عاشها في ظل حراسه، 16 عاماً عاشها مختبئاً من الـ “مافيا”، 16 عاماً خالية من الحب والأصدقاء والأقرباء.
ويجيب سافيانو عندما يسأل إن كان نادماً على نشره كتاباته، “مع مرور الوقت أشعر بالندم والوحدة والحزن تتفاقم جميعها في داخلي، لكنني إن عدت بالزمن إلى الوراء لقمت بنشر “عمورة” من جديد، لأنه لا مفر من قول ما يجب أن يقال”. ويضيف، “الكتابة بالنسبة إلي هي الانتقام من كل ما يفرضه الواقع. هي الأمر الوحيد الذي يشعرني بأنني على الرغم من كل شيء ما زلت على قيد الحياة”.