Cringe: هوّة الإحراج حدّ الألم/ عمار المأمون
نشرت مجلة الأتلانتيك مؤخراً مقالاً بعنوان (How did we get so cringe)، تحاول فيه الكاتبة كاتلين تيفني أن تتبع المساحات التي تتبنى سخرية الـCringe ضمن العالم الرقمي، ذاك الشعور الذي يعترينا حين نُشاهد أحدهم/ إحداهن يـ/تقوم بما هو “مُحرج”، سواء عن غفلة أو ثقةٍ، ما يفعّل في أجسادنا الألم والتعاطف، ثم الضحك.
قبل الخوض في هذه الظاهرة المنتشرة بشدة في عوالم الإنترنيت، سنحاول النظر في المصطلح نفسه، وإثر بحث سريع على الانترنيت يظهر لنا المعنى التالي: “cringe: الانسحاب إلى الخلف، خوفاً أو ألماً”، أما في اللغة العربيّة فلدينا المعاني التالية :” أَدْقَع، تَحَاقَر، تَصَاغَر، تَطَأطَأ، جَبُن، دَقِع، فَشِل، يتذَلَّل، يتملَّق”، حاولت مقارنة ترجمة الكلمة مع المعاني العربية التي استخدمت في ترجمة كتاب سياسة الإذلال: “عار، خزي، تجريس، توبيخ، مهانة، ازدراء، تحقير، تشهير، فضح…”، لكن المصطلح غامض نوعاً ما، حتى أصله الإنكليزي يعني الانحناء أو الانسحاب من المعركة، ذات المعاني تتكرر بالفرنسيّة أيضاً “التراجع، الانسحاب، الزحف إلى الخلف… الخ”.
كل الكلمات السابقة باللغة العربيّة خدّاعة، خصوصاً أن هذا الشعور الجسدي الذي يعترينا حين نشاهد شخصاً “يتحامق دون أن يدري”، ينبع من إدراكنا أن هذا “الآخر” يقوم بما يقوم به طواعيةً أو في غفلةٍ عن النتائج دون أن يرانا، كما أن المعاني السابقة تفترض موقفاً ما وعلاقة تفاعل مع الآخر يتغير إثرها أداؤنا، لكن في حالة Cringe نحن في بحث عن لفظ يصف شعورنا حين نغرق في الصمت ثم تعترينا القشعريرة ثم يتحرك شعور الألم، ثم التعاطف، ثم الضحك، دون أن يدرك الآخر ذلك. ( ربما فعل “تبضّن” المستخدم باللهجة المصريّة قد يفيد في هذا المعنى).
لكن، المعاني الإنكليزيّة مفيدة لمحاولة فهم هذا الشعور، فـ”الانسحاب إلى الخلف، خوفاً أو ألماً” هو ما يحدث حين نرى مثلاً مصطفى طلاس يشتم ياسر عرفات علناً، أو سعد الحريري ينتهك اللغة العربيّة في إحدى جلسات البرلمان، أو أقل جديّة، حين نشاهد أي حلقة من البرنامج اللبناني “أحمر بالخط العريض”، أو حين تتحدث نجوى كرم، علناً وبكل صراحة، عن موقفها من حقوق المرأة، نذكر هنا الأمثلة العلنيّة لأنها متاحة، فالشخصيّة المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن حصرها.
بالعودة إلى الألم الذي ينتابنا ويؤدي إلى “الانسحاب إلى الخلف”، يمكن تفسيره بأنه شكل من أشكال الرعب، تلك القشعريرة التي تنتابنا لا فقط لأننا تفادينا الإحراج ( أي لسنا مكان من نشاهده)، بل لأننا نجونا من العنف المعنويّ أو الماديّ الذي قد يتعرض له أحدهم بسبب تصرف ما أو كلمات ما، ولم نكن هدف موجة السخرية التابعة لما قام به ( الشاب الذي تعود أخته في الساعة الثالثة ليلاً في سوريا هو واحد من أشهر هذه الأمثلة)، لكن ما يلبث هذا الألم/ الرعب بالتلاشي، لتليه السكينة والرضا لأننا لم نكن في ذاك الموقف.
المقاربة السابقة تشبه التطهير الأرسطي، ذاك الذي نحمد “الآلهة” بعده كوننا لسنا مكان أوديب على الخشبة، فهو من يتعرض لكل هذا العنف بسبب غفلته، وفي حالة المواقف التي تحوي الغرابة و الإحراج، نشكر “وعينا” و”ذكاءنا” لأننا لسنا مكان ذاك الذي أحرج نفسه علناً، فنحن أشد مهارةً في التحكم بأدائنا الخارجيّ، لكن صدمة ما نراه أو نقرأه هي ما تفعل الصمت، وانسحاب ذواتنا إلى الداخل، في حين خارجاً نحن مُتجمدون دون لفظ كلمة، كما يحصل حين نشاهد مثلاً الإعلامي اليمني الذي يسأل فيصل القاسم إن كان ماسونياً وبنّاءً حراً، مكرراً سؤاله أمام صمت لا يمكن وصفه إلا بالمريع، يليه ضحكنا وضحك فيصل القاسم نفسه.
هناك إذن عدة عناصر تشكل هذا الشعور الذي يراودنا، فبدايةً هناك المشاهدة الحيادية، أي ما نراه لا دور لنا فيه، ثانياً هناك الآخر الذي لا يعي مدى “السماجة” و”الإحراج” الذي وقع بهما، والثالث هو الأنا الداخلية، المختلفة عن تلك العلنية المضبوطة التي نتمرن عليها، والتي نستخدمها كقناع لتجاوز الإحراجات العلنيّة وضبط أدائنا أمام الناس.
هذه الأنا الخارجيّة تتسمّر في حالة الـCringe على السطح، دون ملامح، في حين تنسحب الأنا الداخلية إلى “المساحة الآمنة” في ذواتنا، فالصمت المريب والغريب الذي يعترينا يخفي وراءه إما “أنا” تقهقه أو “أنا” مرتعدة، غير مصدقة ما تشاهد، مُتألمة، تثبت “قناعها” الخارجي وتحاول عدم التورط في هذا الإحراج، يترافق ذلك مع رضا ما، كوننا لم نقع في هذا الموقف، وبالرغم من التعاطف الذي نشعر به تجاه هذا الآخر، لكن هذا الشعور الذي ينتابنا يتحول لاحقاً إلى استخفاف وسخريّة من هذا الآخر، وهذا بالضبط ما حصل مع المفكر السوري برهان غليون، الذي كان يحلم الكثيرون بأن يتولى رئاسة سوريا بداية الثورة، لكنّ، في لقاءاته الأولى، كانت كتلة لعاب بيضاء، مرئية، ترقص بين شفتيه حين يتكلم، كتلة “تألّم” لمرآها الكثير من المُشاهدين، بل إن البعض يقول إنها سبب فشل عمل المجلس الوطني السوري المعارض الذي ترأسه غليون أول مرة.
انهيار الأداء العلنيّ أمام أعيننا
تقتبس المقالة من كتاب Cringeworthy: How to Make the Most of Uncomfortable Situations الصادر عام 2018، وفيه إحالة إلى عالم الاجتماع الكندي إيرفينج غوفمان الذي صاغ في الخمسينيات نظرية الأداء العلني، وعبرها يصف الإحراج بأنه “انهيار الخشبة والكواليس”، أي إن كانت الحياة العلنية أدواراً نؤديها على خشبةٍ، فالإحراج يأتي من التداخل بين العلني (الأنا العلنيّة/ القناع) والخاص (الأنا الداخليّة/ الوجه)، الشأن الذي لا يمكن رصده بدقة، وقد يكون نتيجة قائمة من الأسباب التي لا يمكن ضبطها (المفاجأة، الارتباك، قلة الثقة بالنفس، الثقة المفرطة بالنفس…)، لكن ما نبحث فيه هو ألمنا الذاتي، ثم الرضا الناتج عن عدم إدراك الآخر ما يقوم به، كأن يبالغ أحدهم في لعق شفتيه حين الحديث مع إحداهن، أو كما حصل مرةً حين تجمدت صمتاً، حين استشهدت إحداهن في درس تاريخ المسرح الإنكليزي، بكل ثقة وعنفوان، بكتاب “معجم البلدان” لياقوت الحموي، وذلك في “بحثها” عن تاريخ المسرح الشكسبيري، إذ قالتها هكذا بوضوح أمام الجميع: “كان معجم البلدان أهم مرجع استخدمته”، دون أن يرف لها جفن، ودون أن نسمع في صالة الدرس أي شهيق أو زفير.
لا نتحدث هنا عن الوقوع والإحراج الناتج عن سوء التقدير الجسديّ، واللحظات التي نفقد فيها قدرة التحكم بأجسادنا (أحد أشكال الضحك الذي يتحدث عنه بيرجسون) ولا الضحك الناتج عن سوء الأداء التراجيدي والمبالغة في العواطف (الكوموس ضمن المسرح اليوناني)، بل نقصد ذاك الإحراج الذي يجعلنا نحن المشاهدين في لحظة وحدة، نحدق صامتين، غارقين في ذاتنا لثوان، كما في تلك اللحظات التي نشاهدها في الأنيمشين اليابانيّة، حين يسودّ كل شيء وتبقى الشخصية التي تحدق بالموقف المُحرج وحيدةً تردد: “أمن المعقول أن ما يحصل حقيقي”، ” أمن المعقول أن أحدهم كتب ما أقرأه”، يكفي أن نشاهد فيديو كوثر البشراوي تقبل حذاء عسكرياً على الهواء مباشرة، كي يتولد هذا الإحساس بصورة آنية، وندخل في ذاك السواد.
هناك ملايين الفيديوهات الآن لهذه المواقف المحرجة، خصوصاً أن الكاميرات في متناول أيدي الجميع، و”الكل” يمتلك صلاحية الاحتفاظ بتعليقات ومنشورات “الكل” على وسائل التواصل الاجتماعي، فقدان “الخصوصية” هذا، أو بصورة أدق، فقدان الحس الطفولي بأن لا أحد يراقبنا، هو ما جعلنا أكثر حذراً، في ذات الوقت، ترك الكثيرين أقل انتباهاً وإدراكاً، إذ تلاشت العفوية ،وأصبحت احتمالات التحول إلى سخرية علنيّة أصبحت أشدّ وأوسع، ألم يتركنا البابا فرانسيس مشدوهين حين أٌعجبت صفحته على الأنستغرام بصور تثير الريبة ( لا يصلح فعلا “دهش” و”شده” باللغة العربية لترجمة Cringe، كوننا نظهر الدهشة لا نخفيها).
لا تفي تعابير الجرأة/ الثقة لوصف العفوية التي يتمتع بها البعض أثناء لحظة الإحراج، لتفسير ذلك، يمكن الاستعارة من “منهج” ستانسلافسكي للتمثيل مصطلح “العزلة العلنيّة”، تلك اللحظة التي يجد فيها المؤدي نفسه وحيداً على الخشبة، متجاهلاً أعين الجمهور الغارق في الظلام، هم غير موجودين بالنسبة له، فالمُحرُج يركزّ في العدسة أو في نقطة في الفراغ، لا يهمه ما حوله ولا يقيم له وزناً.
الفرضية السابقة تشبه ما يحصل حين نكون وحيدين ونصوّر أنفسنا نتحامق، أو حين يكون أحدهم على التلفاز وعدسة الكاميرا تحدق به فقط، هو “وحده” الموجود، عيناه لا ترى من حوله، هو يسمع صوته فقط، متجاهلاً هؤلاء “الآخرين” الذي ينتمون له وينتمي لهم، وهذا ما يفعل الشعور بالألم لدينا، فمن نحدق به قد يكون واحداً منا في لحظة ما، الاختلاف أنه لا يدرك فداحة ما يفعل، ولا كيف سننهش لحمه ضحكاً وسخريةً لاحقاً، ألم نتسمر أمام الشاشة رعباً وألماً، حين شاهدنا ساكن الضاحية الجنوبيّة وهو يعتذر علناً من حسن نصر الله بعد أن ملأه شتماً في اليوم السابق، ثم تحول الشخص نفسه، المُعتذر، إلى سخرية في وسائل التواصل الاجتماعي؟