“التمثيل”… حلم المعلّم الروسي الذي لم يتحقق/ عمار المأمون
لا نبالغ حين نقول إن الروسي كونستانتين ستانسلافسكي (1863-1938) هو مؤسس “فن التمثيل الواقعي”، إذ عمل طوال حياته على تطوير الـ”system” (الكلمة التي سنختار ترجمتها هنا بـ”المنظومة”) و اختباره عملياً ونظرياً في سبيل خلق ممثل واقعي، نصدقه حين نراه على الخشبة، ممثل لا يقلّد، ولا يبالغ ولا يعيد تجسيد الكليشيهات ملقياً الكلام دون عاطفة، ممثل “يعايش” الشخصية وينقل لنا “جوهر الفنّ الشاعري”، عبر “الاتصال مع الحقيقة المتخيلة للدور”.
الهوس بالمنظومة
رحلة ستانسلافسكي، ميسور الحال وعاشق المسرح في ظل روسيا القيصرية، مع “المنظومة” بدأت منذ أن شاهد مسرحيات الفرق الشهيرة في موسكو حين كان مراهقاً، إذ لم تعجبه، كانت مبتذلة، تقليدية، قائمة على التقليد، لا أصالة فيها، الممثلون يرددون حواراتهم وكأنهم يلقون قصيدة، منذ تلك اللحظة، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بدأ يحلم بذاك الممثل الذي من شدّة تصديقه لدوره، قد يقتل زميلاً له على الخشبة يلعب دور عدوه، الحادثة التي تكررت أيام الرومان وتعد درساً لأي ممثل.
حكاية هذا الهوس شبه الديني بـ”المنظومة” وتطويرها، ثم تحوّلها إلى الشكل الأشهر التمثيل في روسيا وأمريكا ثم العالم، نقرأها في كتاب المنهج: “كيف تعلم القرن العشرين التمثيل” للصحفي الأمريكي إسحاق باتلر، الكتاب الصادر هذا العام يأخذنا في رحلة غنية ومليئة بالمعلومات المتنوعة، فنحن نقرأ تطور “المنظومة” في روسيا عبر سياقات تاريخية وسياسية وفنية أثرت على معالمها، ثم تحولها إلى “المنهج” في الولايات المتحدة، كل هذا تحت ضغط التغيرات الاقتصادية.
فالمسارح دائماً على وشك الإفلاس، وإنتاج المسرح دوماً مهدد، لكن كل ذلك لم يعق ستانسلافسكي الذي كان يحاول الإجابة عن سؤال ما زال إلى الآن ملحاً في فن التمثيل: “كيف يمكن استدعاء الخبرة السابقة أو المتخيلة في لحظة ما مع كل ما تحتويه من مشاعر وأحاسيس وأفعال؟”.
ما حاول ستانسلافسكي وتلاميذه وأتباعه من روسيا إلى الولايات المتحدة القيام به، هو رسم إطار “علمي” لفن التمثيل، المقاربة التي ما زالت إلى الآن، بالرغم من التعديلات الكثيرة التي طرأت عليها، غامضةً، ويمكن القول إن ستانسلافسكي نفسه لم يستطع تقديم أو تدريب الممثل المثالي، المتفاني للخشبة، راهبّ الفنّ، القادر على اتباع “المنظومة” بصورة حرفية إلى حد أننا ننسى من هو أصلاً، لكن ما نعلمه أن هذا السعي بدأ بلقاء بين ستانسلافسكي وفلاديمير نيمروفيتش دانيشينكو (1858-1943)، لقاء شغوف استمر يومين ومئات السجائر وكؤوس القهوة، نتج عنه لاحقاً “مسرح موسكو للفن”، المختبر الذي ما زالت تقاليده قائمة حتى الآن في كليات واستديوهات التمثيل.
مصطلحات أم طلاسم؟
نقرأ في الكتاب تفاصيل عن أنطوان تشيخوف ومكسيم غوركي، انهيار القيصرية ورقابتها ثم صعود الشيوعيين والحرب الأهلية ولينين ثم ستالين، لكن بالرغم من كل هذا، “المنظومة” صامدة، لا تعرف ولاء سياسياً، ففرقة مسرح موسكو الفني، أثناء التدريبات، لا تهتم بما يحصل في الخارج، حتى لو اقتحم المسرح، لا يغادر ستانسلافسكي صالة التمرين إلا حين يصل الرصاص إلى رقبته، وهذا ما يشهد عليه أقرانه.
لكن كل هذه الشؤون لا علاقة لها بصلب “المنظومة”، ذاك الدليل السحري للتمثيل الواقعي الذي تقلب ستانسلافسكي في بنائه وتحديد أيهما يجب البدء به، داخل الممثل “خط الفعل المتصل، الذاكرة العاطفية…”، أو خارجه “مساحة التركيز، فضاء اللعب…”، هذه الإشكالية لم تحل إلى الآن، لا هي ولا غموض المصطلحات التي يألفها دارسو التمثيل، تلك التي في مسودات كتابه الأشهر والتي جعلته يبدو للقراء كمن يؤسس علماً زائفاً، يخترع مصطلحات لا يفهمها أحد، كـ “لحظة الوحدة العلنية”، أو “حقيقة الانفعال الشخصي”.
المصطلحات الخاصة بالمنظومة، بقيت لفترة طويلة أقرب إلى الطلاسم، وكأن هناك سحراً ما يحاول ستانسلافسكي أن يحوله إلى علم مختلف على حقيقة وجوده، وهذا ما حصل حين التقى ستانسلافسكي بستيلا إدلر( 1902-1992)، واحدة من مدرسي “المنظومة” في الولايات المتحدة تحت اسم “المنهج”، والتي عملت مع المعلم الروسي في باريس لمدة شهر على تطوير فهمها لـ”تعاليمه”، إذ خرجت بنتيجة أصبحت أشبه بحجابٍ تحتمي به، ورقة أشبه برسم بياني وجداول متداخلة إن لم ندقق بها، لظننناها طلسماً، أو رقيةً سحريةً من نوع ما.
نستخدم كلمات السحر والرقية والشعوذة، كون المنهج يتداخل فيه التحليل النفسي مع الكلام الشعري، وغيرها من المصطلحات الغامضة والرنانة التي تحاول نقل الممثل إلى مرحلة روحية وجسدية ونفسية ليس من السهل الوصول إليها، إذ عليه الغوص في “ذاته” وفي “لاوعيه” لاستخراج العواطف، ثم تشفيرها، لاستعادتها بذات “الواقعية” و”الحيوية” في كلّ مرة يلعب فيها الدور.
اختلف على “تعاليم” ستانسلافسكي كل من جايله وجاء بعده، بالرغم من النجاح الباهر الذي حققته العروض التي أخرجها، وهذا ما جعله أقرب إلى نبي ممسوس، يبشّر الأجيال اللاحقة برسالة عصية على الفهم، لم يستطع هو نفسه ضبط جوانبها، ( أيهما أوّل، التمرين الجسدي أو الغوص في النفس؟ ما دور “لو السحرية” بدقة ؟) كل ذلك للإجابة عن سؤال: “كيف يمكن أن نجسّد الحياة على الخشبة بصورة فنية واقعية؟”.
الممثل الذي يتخيله ستانسلافسكي أو يسعى إلى وجوده أشبه بإنسان يستحيل تكوينه، بالرغم من شدة التمارين (والطقوس) التي خضع لها من عملوا معه، كارتداء الأسود في الاستديو، والعمل اليدوي في المسرح، وتمارين المخيلة والارتجال اليومية… الخ، يبدو أنه لا يوجد ممثلّ أعجب “المعلم”، إذ تململ أعضاء فرقته ثم هجروه لاحقاً، حتى إدلر نفسها التي التقاها في باريس لم تنل إعجابه، بل وجد اللقاء معها مضيعة للوقت، كونها حسب قوله، لم تفهم شيئاً من “منظومته” .
الغموض السابق حول فن التمثيل هو بالضبط ما يثير الاهتمام، إذ يسأل باتلر في مقدمة كتاب ” كيف نحكم على الممثل الجيد؟”، على سذاجة السؤال، لا يوجد إجابة واضحة، حتى من قبل المختصين، لا يوجد معيار ثابت أمام ميوعة هذا “الفنّ”، ففي الكثير من الأحيان نعجز عن الفصل بين الشخص بهي الحضور على الشاشة/ المسرح وبين “الممثل”، ذاك الذي لا نعرف من “هو” حقيقة.
لا ينكر أحد خطورة “المنظومة” كونها قد تطيح بعقل البعض، أولئك الذين تفنى “أنواتهم” لصالح “أنا” الشخصية، يقعون لاحقاً في معضلة العودة إلى أنفسهم، هذا النفي (ربما المصطلح هنا مبالغ به) لا يشمل فقط تغيير الشكل وأسلوب الكلام والحركة وتفعيل المخيلة والتماهي مع الشخصية، بل يمتد إلى التفاصيل التي يختزنها الجسد والنفس في اللاوعي، كأسلوب حركة العين حين الكذب، تقطع البكاء، رد الفعل الأوتوماتيكي على الخطر، كلها تفاصيل يعيد الممثل في تخيل ستانسلافسكي دراستها، وفرزها ثم تَبني منها ما يخدم الشخصية المؤداة، الأهم، يجب على الممثل أن لا ينسى أنه “يلعب” شخصية، ولو صدق للحظة أنه هو الشخصية ذاتها، عليه اتباع ما فعله دانييل داي لويس، أن يعتزل التمثيل لفترة، كون الأخير صدق لثوان وهو يؤدي هاملت أنه شاهد شبح والده.
المنهج والمنظومة كبدعتين
بقي المنهج مسيطراً على الخشبات في الولايات المتحدة حتى الثلاثينيات، ومع ظهور الأفلام الناطقة والاستديوهات الكبرى للإنتاج السينمائي، حاول الكثير من الممثلين دخول عالم هوليوود الجديد، لكن الانتقال من ظلام المسرح إلى نور مساحة التصوير وتحديقة الكاميرا، لم يعجب الكثيرين من رواد المنهج في الولايات المتحدة، إذ نفرتهم سطحية المقاربات السينمائية حينها، وتحول هوليوود إلى صناعة يهمها المال فقط، وبدأت الانتقادات على منهج لي سترازبيرغ (1902-1984) معلم التمثيل الأول في أمريكا، تتزايد وتصبح أكثر جماهيرية، فإهمال البراغماتية في الأداء والإغراق في “الشعور” لدى الممثل لم يناسب منتجي ومخرجي الاستديوهات، ولم يتماش مع تقنيات التصوير التلفزيوني والسينمائي، المحكوم بالوقت والسرعة، فما يهم نهاية هو الجمهور ورد فعله لا ما يختبره الممثل.
رأى البعض في المنهج تلك الفترة بدعةً سوفيتية شيوعية، بل أن إيليا كازان (1909-2003)، أحد أهم متبنّي المنهج، شهد علناً ضد زملائه، متهماً إياهم بالشيوعية للنجاة بنفسه من التهم التي لاحقته، ما هدد المنهج وكيفية تلقيه، لكن الأهم هو “خطورة” المنهج ذاته، ومضار “معايشة” الشخصية التي اعتبرت فخاً يقتل الممثلين الأمريكيين المبدعين، كمارلين مونرو التي قضت بجرعة زائدة، و جيمس دين الذي قضى بحادث دراجة نارية، وكأن تبني المنهج يعني مخاطرة الممثل بحياته، مع ذلك ما زال الأداء الواقعي هو المهيمن على السينما التجارية في الولايات المتحدة وأوروبا والعالم العربي، ولم تستطع المناهج الرمزية القادمة من الشرق الأقصى أن تحل محله.
مشكلة “المنظومة” تتسم بصعوبة تعليمها وتعلمها، فالجدل والاختلافات حول معاني الكلمات والمصطلحات مازال مستمراً بالرغم من التعديلات الكبيرة التي طرأت عليها وتحولها إلى “المنهج”، فالترجمات الإنكليزية الأولى لستانسلافسكي التي أنجزتها في الأربعينيات إليزابيث رينولد، لم تنج من الانتقادات، ذات الأمر مع الترجمات العربية التي لم تحط بالمنهج ولا المنظومة بأكملهما، إذ ترجم كتاب ستانسلافسكي الأول في الستينيات منقوصاً، ثم ظهرت ترجمة شريف شاكر نهاية التسعينيات في مصر، لمحاولة سدّ النقص، دون أن ينقل إلينا إلى الآن كلّ ما كتبه هذا المعلم الروسي، لكن ما يمكن التأكد منه، هو أن التمثيل ليس إلهاماً أو هبة ربانية أو سراً شخصياً، والأهم، البكاء عند الطلب ليس تمثيلاً، أما الباقي فخاضع للجدل.
رصيف 22