مراجعات الكتب

ابتكارات الجسد السوري في تعابير فنية/ علاء رشيدي

ستة أبحاث تتعدد في مجالات الشهادة والرواية والمسرح والشعر

ابتكارات الجسد السوري في تعابير فنية

في مقدمة كتاب “كلمات من لحم ودم، الجسد في الواقع السوري 2011-2021” (منشورات المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، الترجمة ليوسف الجبراني.)، يقدم المحرران إيما أوبان بولتانسكي ونبراس شحيد، للقارئ موضوعة الكتاب: “من الرواية إلى الشعر، مروراً بالمسرح والشهادات الشفوية والمدونة في سوريا، يتأمل هذا الكتاب في الجسد المكتوب. لا نقصد بكتابة الجسد النصوص التي يقوم فيها بدور محوري فحسب، بل الكلمات التي يبثها أيضاً على مسرح أوسع، والأفعال التي يؤديها، إذ يشكل هذا كله نصاً مجازياً نؤوله وتعيد تأويله من دون انقطاع”. ويتحقق ذلك في الكتاب عبر ستة أبحاث تتعدد في مجالات الشهادة، الرواية، المسرح، والشعر.

“شهادة أحلام – إيمان مستمر بفكر العالم”، إيما أوبان بولتانسكي

تتابع الباحثة حكاية أحلام السورية وتصفها: المرأة الباحثة عن معنى، وتحارب العدمية التي اجتاحت بلادها. تساعد أحلام النازحين في منطقة أدلب، وتبث الرسائل إلى العالم للتعريف بأحوالهم، وتراها الباحثة محاولات تجسيد ذاتية، لأن أحلام لا تكتفي بمناداة جميع من سيسمعونها ولكنها تحول نفسها إلى عالم. تكتب الباحثة: “مازالت أحلام الرشيد تؤمن بالعالم، من دون أن تتقبل شروطه وأن تستلم لسباته. لقد أثرت فيها الحرب بكل ما حملته من تقويض ودمار، فصاغت شكلاً فريداً من الشهادة الأخلاقية التي يمكن أن نعدها محاولة لتحويل الواقع المرير الذي تقاومه”. تسعى أحلام لنقل خبراتها في تمكين المرأة، وتعمل على تنظيم ورشات عن استقلالية النساء والتوعية على العنف الجندري. وتعتبر الباحثة أن أحلام تمثل مشاهد انخراط المرأة في الثورة وتعرب عن إرادتها بإخراج العالم من ضبابيته لإعطائه شكل جسد أمومي يقظ ومعز. لا تكتفي بوصف وضع المهجرين، بل تبني أيضاً علاقة أخلاقية مع الوجوه. فهي تمثل فكرة تحرير المرأة بالمرأة.  تكتب الباحثة: “يُصرح المفكر السوري ياسين الحاج صالح أنه يريد في كتبه ومحاضراته أن يتكلم عن سورية للعالم، وعن العالم لسورية. أما أحلام، فتترجم على طريقتها هذا المشروع الفكري: إنها لا تتكلم عن العالم وتكلمه فقط، بل تجسده في ذاتها لتقول للمهجرين، هؤلاء الذين فقدوا في نظر العالم ذواتهم وتميزهم، واختزلوا في أرقام مبهمة، إنها تراهم وتقدرهم”.

“عن الكرامة وعن الاعتراف الذي لا يأتي – أطوار صورة عمر الشغري الشاهد الناجي، صورتنا جميعاً”، نسرين الزهر

يركز النص على صورة الشاهد عمر الشغري الذي نجا من المعتقلات وقدم شهادته عن الأهوال التي عايشها مقاوماً منطق الإبادة، تكتب الباحثة: “أعتقد أن جزءاً أساسياً من الحالة التي أدرسها عبر عمر الشغري هي تماهي الذاتيات عبر تماهي الأجساد، المعذبة والمشردة والمبعثرة إلى أشلاء، والخارجة من مكانها لتزرع في أماكن أخرى. ما يقدمه عمر الشغري هو عرض عاكس لأجسادنا وماهياتنا”. وتحلل الباحثة أسلوب السرد في شهادات عمر الشغري بين المرحلة الزمنية والأخرى وبين الوسيط المستعمل والآخر، لتكشف عن مهارات الحكواتي السردية: “فالقصة عنده تخضع للصقل المستمر جراء التكرار. ينزاح صاحب التكرار من وظيفة إعادة الشهادة على أسماع المتفرجين إلى تكرار الحكواتي صاحب الحرفة الذي يضيف ويعدل في تفاصيل حكايته بحسب ذائقة جمهوره أو بحسب السياق. ولكي يصل بها إلى الإتقان التام دون شوائب تذكر، يصنع عمر الحكواتي من جسده الطالب للكرامة خامة للقصة، وتحيل الباحثة إلى كتاب “داء الحقيقة أو طوباوية الذاكرة، كاترين كوكيو”: “إن فعل الشهادة لا يفترض وجود الشاهد ضمن الحدث وحسب، بل يفترض كذلك مخاطباً نوده الشهادة ليمررها ويصادق عليها. في بنية الشهادة هناك نداء دائم لشاهد، والشهادة فعل أدائي يصنع ممن نستدعيه للشهادة بشهادتنا شاهداً حكماً”.

“مآل الألم والتهكم على الأمل – صورة الجسد في النص المسرحي السوري المعاصر”، عبد الله الكفري

ويعالج البحث حضور الجسد على خشبة المسرح السوري ما بين 2001-2015. ويبدأ بتحليل السلطة الاجتماعية والسياسية لشخصية الأب، مظهراً أن الجسد هو المقام الأول لهذه الهيمنة. ومن ثم يتناول تجاوز المحرمات ويبين العلاقة بين السياسي والجنساني، وأخيراً يدرس حضور موضوعة الموت في الجسد المسرحي. فتجسد صورة الأب في الكتابات السورية بصورة السجان والحاكم، كما يمثل الصورة الأوضح لصراع الأجيال، وتأخذ العلاقة معه شكل المواجهة والشجار والقتل. وهو سلطة تحضر بأشكال متنوعة حتى في غيابها، ويتم استبدالها أحياناً بالسلطة السياسة في نصوص مؤسسة على موت الأب، كما لو أن الأب، والسلطة، وجهان لعملة، واحدة. فطرحت النصوص محاولة الخلاص من السجن الأبوي للجسد “ثنائيات، عدنان العودة” و”الغرف الصغيرة، وائل قدور” وكلاهما يضمر علاقة تعالق عضوي بين السلطة والأب. وفي مجال كسر المحرم، يكتب الباحث: “لا يمكن في السياق السوري المرور على الكتابة المسرحية من دون التوقف على مقاربتها لتيمة كسر المحرم، التي غالباً ما استخدمت في سياق البحث في التمرد على المجتمع وقيمه. تبدت قيمة كسر التابو في نصوص الشباب مجازاً على واقع مكبل، ظهر عبرها الجنس تحت عنوانين فرعيين هما الهوية والمواجهة كما هو الحال في نصوص عدنا العودة ومضر الحجي ووائل قدور”. ويستكشف البحث أيضاً المنظورات المختلفة التي كان النص السوري يقدم الموت من خلالها، والتي كانت شديدة التنوع، عبر دراسة علاقة الدال بالمدلول الذي هو موت المجتمع والإحباط وتراجيديا الفرد. وختاماً يرى الباحث أن الجسد هو العنصر الأكثر حيوية وتحولاً في النصوص المسرحية السورية المعاصرة، ففي تيمة السيطرة والأب كان الجسد هو الوسيط الذي تحقق من خلاله أفعال السلطة، وفي تيمة كسر التابو حشر الجسد من خلال مكانة الجنس وتحولاته، أما في تيمة الموت فحضر عبر مكان الجثمان وعلاقة الأحياء به.

“الجسد السوري شاهداً على اللاشيء، وعلى اللاشيء تقريباً – قراءة في كتابات سمر يزبك”، كاترين كوكيو

يتوقف البحث عند نتاج الأديبة سمر يزبك بدءاً بالكتاب الذي حققته لشهادات نساء بعنوان “19 عشرة امرأة، سوريات يروين” قدمن شهاداتهن كمقاومة استمرار في الحياة، وكرغبة عارمة في عدالة: “بالنسبة إلى النساء التسعة عشرة اللواتي يروين حكايتهن، تقوم المعركة ضد تعديم العالم عبر كلماتهن وعباراتهن التي تمازج بين الفكر والانفعال من رعب وغضب ومرارة وقنوط”. وتالياً تنتقل إلى أعمال يزبك الأدبية، فتتوقف عند أجساد النساء المحبطة والمكبوتة في رواية “تقاطع نيران” تقول الساردة في الرواية: “أتلمس جسدي، كلي اعتقاد أني شخصية في رواية. أنا أكثر رواية حقيقية يمكن أن أكتبها في يوم من الأيام”. ثم تتوقف عند روايات “بوابات أرض العدم، المشاءة”، تكتب الباحثة: “في كل سردية نجد أن السرد المعنف والمغتصب والمعذب والمشتت والمدفون والممزق، والمفروض عليه أن يخرس، يقوم بدور حاسم وتسلط عليه أضواء فظيعة. وتدفع هذه المركزية الجسدية المعادلة التالية إلى أوجها: إن الجسد الذي كان في سوريا منذ عقود طويلة موضوع العنف اللامحدود، أصبح منذ العام 2011 أداة حرب طاحنة مع اللاشيء وضد اللاشيء، معركة يائسة بحثاً عن المعنى”.

“العدمية الشمية في رواية الموت عمل شاق”، نبراس شحيد

يقرأ الباحث العدمية في هذه الرواية كدينامية تقوض القيم لدى الأحياء في علاقاتهم المتبادلة بعضهم ببعض، لكن خصوصاً في علاقاتهم بالموتى. يقرأ الباحث الرواية عبر لعبة المرايا بين الجثة والوطن. فمن خلال متابعة المراحل المتتالية لتحلل الجثة، تصوغ الرواية مشهد تحلل سوريةً: بلد يتكشف عبر مضاعفات السرد على هيئة جثة بغيضة، كلما ازداد تفسخها، عظمت رغبة أبنائها في رميها. يكتب الباحث: “تسلط هذه الرواية الضوء على تدمير القيم: حب الحياة يتحول إلى رغبة في الموت، ويصبح احترام الموتى مزيجاً من الاحتقار والحسد والشعور العميق بالهزيمة، وما كان حدثاً جللاً، أي وفاة الأب، يضيع في عادية الموت، لا بل في تفاهته. وباختصار لا يوجد، باستثناء الجثة، أي شيء مكتمل في هذه الرواية، حتى أن الأحياء صاروا يستقون منها علامات وجودهم: الجثة التي تتهادى هي الحقيقة الوحيدة الباقية”.

“الكلمة المرفوضة”، جولان حاجي

يتألف البحث الأخير من قسمين، الأول نقد أدبي، وقسم ثاني نص شعري، قصيدة. في القراءة النقدية لحضور الجسد في اللغة والشعر يتخذ نموذجاً ديوان “أجزاء الحيوان، فؤاد فؤاد” الشاعر الطبيب الذي يستقرئ أعضاء الجسد في قصائد نثر غنائية قصيرة. يقرأ فيما لا يرى من الجسد. بينما يحمل النص الشعري عنوان “المنفذان”، يبدأ بالعلاقة بين الولادة والرؤية:

“خوف واحد دهشة واحدة ما قبل الكلمات ما بعدها-

يهبط الوليد من ماء ظلمته الأولى بحدقتين متسعتين غائمتين، هلوعاً وفي الصدر استهلال، فيبكيه الضوء ويفتح الجوع والحرمان فمه حتى يملأه الثدي باللبا وتسد شهقاته الأولى سرته- فمه الأول، الأبكم بعد أول فطام”.

ويستلهم الشاعر في مقاطع من قصيدته قاموس العين، العضو البصري، والحرف الرائي:

“عين باردة مظلمة كالنبع

المشتهي شرابها يحجرها بشفتيه

الأنا مومياء

في حضرة الليل

استغاثة العاشق بمن يحب-

مسعفه وقاتله

كلمةٌ تفعم بالعبير جسده

الليل بنفسجة من بنفسجات الموت

جذورها في عينيه

وبتلاتها تغطي السماوات”.

ويقارب الشاعر في مقاطع أخرى جمالية الصورة وجمالية الرؤية البصرية: “الصور تسجن الوقت. العين تسجن الصور- بالمرصاد بين الأصوات داخل الجسد وبين أصوات العالم كالشبكة بين السجناء وزوارهم: سجان يقرع بالمفاتيح حديد الباب وينادي، الزيارة قصيرة تحت كاميرات المراقبة أو أعين الحراس، يرن الجرس مرتين في بدايتها ونهايتها كفرصة مدرسية لا تكاد تبدأ حتى تنتهي، هذا إن لم تلغ الزيارة”.

“الجسد السر في وداع حسان عباس”، نبراس شحيد

ويتضمن الكتاب أيضاً نصاً مخصصاً لذكرى الدكتور الراحل حسان عباس، ويركز فيه على النصوص الأخيرة التي كتبها والتي حضرت فيها تيمة الجسد، فيشرح د. عباس في كتاب “صورٌ من لحمٍ ودم” أن ثمّة ديناميّتان أساسيّتان يظهر عبرهما الجسد في سوريا. الديناميّة الأولى ملحميّةٌ، تكلّلها صور المظاهرات التي اندلعت عام 2011 في العديد من المدن السوريّة، وفيها تتوحّد الأجساد الثائرة في كيانٍ جامعٍ وسرديّةٍ مشتركة. أمّا الديناميّة الثانية فعمليةُ تذويتٍ يشرع من خلالها الجسد الفردانيّ في سرديّته الخاصّة التي تنفصل عن المنظومة الجامعة. أما في كتابه الأخير بعنوان “الجسد في رواية الحرب السوريّة” يسلّط د.عباس الضوء بخاصةٍ على المعاني التي تأخذها الصفات الفيزيائيّة للجسد عبر قراءة خمس عشرة رواية نُشرت ما بين 2012 و2017، منوّهاً بالموقع المركزيّ الذي تحتلّه بعض الصفات الفيزيائيّة على حساب ملامح أخرى، وبإحالاتها على واقعٍ ثقافيّ وسياسيّ مركّب. وفي الختام، يتناول المسارات التي أودت بالجسد الفردانيّ إلى الانخراط في صميم السرد الروائيّ، ويقارب هذا الجسد كمجازٍ يحيل على الوضع في سوريا وعلى حالات القوى المتصارعة فيها. هكذا ترتسم لوحة الأدب السوريّ الجديد جسديّاً”.

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button