نقد ومقالات

الأسئلة الفلسفية والأخلاقية في المسرح الثوري: إعدام الدمية “حرية”!/ علاء رشيدي

النص أو العرض المسرحي الذي يرغب أن يكون ثورياً بامتياز هو ذلك القادر على طرح الأسئلة النقدية على الفكر والممارسات الثورية، وهو أيضاً القادر على تناول الموضوعات الأخلاقية والفلسفية خلفها.

لا تنتقد المسرحيات، التي تصنف عبر التاريخ في إطار المسرح الثوري، الأنظمة السياسية القمعية أو السلطات الحاكمة وحسب، بل إنها غالباً لتحمل صفة “الثورية” حقيقةً في الفن فهي أيضاً تنتقد الفكر الثوري حين يتحول إلى إيديولوجيا مهيمنة، وتنتقد الممارسات القمعية والعنفية التي تكررت في أكثر من ثورة عبر التاريخ.

منها على سبيل المثال نص “موت دانتون”(جورج بوشنر، 1835) الذي ينتقد العنف الذي عرفته الثورة الفرنسية بعد انتصارها وحكمها العنيف الذي نظّر له مكسيميليان روبسبيير الذي برّر قطع الرؤوس لأجل استمرار المبدأ الثوري وانتصاره، وكذلك مسرحية “مارا ساد”(بيتر فايس، 1963) التي تشكك في جدوى النضال من أجل التغيير، واستحالة إقامة نظام حكم سياسي جمعي عادل. التداخل بين النقد الموجه إلى الفكر والممارسات الثورية مرتبطة بالأسئلة الأخلاقية التي عرفتها معظم الحركات الثورية على مر التاريخ الإنساني، والتي تكررت بين الحركة الثورية والأخرى عبر التاريخ، منها مثلاً أسئلة حمل الثورة السلاح واللجوء إلى العنف، أو مفهوم الانتقام الذي يبدّل المواقع بين الضحية والجلاد، وكذلك أسئلة الثواب والعقاب واستحالة تحقيق العدالة.

أسئلة الحياة والموت لأجل القضية:

حضرت هذه الموضوعات أيضاً في إطار الإنتاج المسرحي السوري. في الجزء الثاني من سلسلة مسرح الدمى “يوميات ديكتاتور صغير” لفرقة “مصاصة متة”، وفي حلقة بعنوان “العبور”، تتطرق الحكاية إلى القمع الذي عانى منه الناشطون السياسيون والظروف الأمنية القاسية التي أجبرتهم على الخروج من البلاد والهجرة هرباً من الاعتقالات التعسفية. تروي الحلقة لحظة الوداع بين الناشط (الدمية “آزادي”، وتعني حرية بالكردية) المجبر على الرحيل وحبيبته (الدمية “حرية”، بالعربية). ويصبح السؤال عن حتمية الخيار بين النضال السياسي وبين فقدان الترابط العاطفي العائلي أو العشقي بسبب ضرورة الرحيل. تدفع الحبيبة في إتجاه إنقاذ حياة حبيبها، فتحاول إقناعه بالرحيل، بينما يتردد هو في خياره.

الدمية “حرية”: “لازم تهرب من هون، لأن الثورة بدا ياك حي، لا ميت ولا معتقل، وفيك تخدمها وين ما كنت”.

وتمتد أسئلة جدوى التضحية من أجل القضية إلى مضمون الحلقة السادسة عشرة بعنوان “القيامة” وهي تروي اللحظة الأخيرة من الإعدام الحكومي للدمية “آزادي” التي نراها أمام لجنة المحاكمة معلّقة على حبل المشنقة. فتقرر اللجنة تنفيذ حكم الإعدام فورياً، وما أن يتم وتفارق الدمية الحياة حتى تبدأ الارتفاع في السماء، أجنحتها من العلم السوري، وتتوسع مساحتها مقتربة من الدمية بيشو. الحلقة تنتهي بمجموعة من صور النشطاء الذين فارقوا الحياة في نضالهم السياسي: غياث مطر، باسل شحادة، وحسن أزهري. وإن كانت الحلقة تتطرق إلى مصير التضحية من أجل القضية، فإنها ترتفع بالموت لأجل النضال السياسي إلى مصاف القدسية أو الخلود. في المقابل فإن الحلقة بعنوان “المحاكمة” تعالج الحبكة نفسها لكن مع مصير الدمية التي تمثل السلطة القمعية، أي الدمية “بيشو”، التي نتابعها خلال الحلقة وهي تنتقل إلى عالم الحساب ما بعد الموت. وإن كانت روح الدمية “حرية” تنتقل إلى عالم روحاني سامي ما بعد الموت، فإن الدمية الديكتاتور تنتقل إلى عالم سفلي ملعون، حيث تظهر له أرواح ضحاياه لتطلب محاسبته وتحقيق العدالة. إن مصير الدمية الديكتاتور في العالم الآخر هي العذابات والعزلة الأبدية، وهي كغيرها من الأرواح تنتظر المحاسبة، تقول الدمية “بيشو”: “وأنا الآن متلون صرت ناطر العدالة”، وتدخل روح الديكتاتور في تابوت خشبي، لتدخل روح الدمية داخل صندوق الموت، ليطبق عليه باب القبر الخشبي قبر الموت الغامق.

التاريخ والذاكرة والأضرحة العظيمة:

يحضر مفهوم الموت والمحاسبة ما بعد الموت في مسرحية “مارا ساد”(بيتر فايس) أيضاً، في حوار واضح حول الموضوعة بين الشخصيتين الرئيسيتين في المسرحية:

مارا: يا ساد قرأت في كتاباتك الخالدة، أن الموت هو مبدأ كل حياة.

ساد: وأن هذا الموت مجرد وهم، نحن وحدنا الذين نتخيله، فالطبيعة لا تعرف الموت، نحن وحدنا نعطي حياتنا قيمة ما.

 وكذلك تحضر موضوعة التضحية لأجل القضية لدى الماركيز دي ساد الذي يسخر من النضال المستمر لجان بول مارا الذي وهب حياته لتحقيق مطالب الشعب، مبيناً أن الشعب يعامل ضحايا القضايا الجمعية بانتهازية، فالتاريخ لا يقدم للضحايا المناضلين إلا نصباً تذكارياً ونسياناً عاجلاً:

ساد: إنهم يحتاجون إليك اليوم، عليك أن تتعذب من أجلهم، لكي بضعوا رمادك في مقبرة العظام، غداً يحطمون الوعاء إلى شظايا ويتساءلون، من هو مارا ؟

بينما يجيب مارا أن الحياة لعبة الاختيار:

مارا: أؤمن بحياة واحدة فقط، لا شيء سواها وأنا وسطكم الآن أكون سيد نفسي أعرف طريقي جيداً، حيث يجب عليَ أن أختار بدقة ما أقول.

في مسرحية “الشرفة”(نص جان جينيه، 1956) تمثل فتاة الماخور دور المجند في فانتاسمات الجنرال الذي يطلب منها أداءً دور المعركة قبل الشروع في التواصل الجنسي. وتسخر في المشهد التمثيلي قبل الأداء الجنسي من المجد والانتصار في المعارك. فبينما يعيش الجنرال المجد والانتصار تترك المعارك أجساد الضحايا مجهولة. وبينما يسعى الجنرال إلى النجاة يضحي الجنود في سبيل بقاء الرايات مرتفعة.

الجنرال: ولكن… الأموات؟ ألم يكن ثمة أموات؟

الفتاة: كان الجنود يموتون وهم يخفضون الرايات. وأنت لم تكن إلا الانتصار والتسامح. تذكر ذات مساء…

الجنرال: كنت رقيقاً وأصبحت ثلجاً يتساقط

الجنرال (وهو ينظر في المرآة منتشياً من الفرح): فاغام! الجنرال! رجل الحرب والاستعراض، ها أنا ذا في هيئتي النقية. لا أجرُ أي شيء خلفي ولا أية قوة عسكرية. كنت أتعلّم ببساطة. إذا اجتزت الحروب دون أن أموت، واجتزت البؤس دون أن أموت، لو صعدت درجات دون أن أموت، فقد كان ذلك من أجل هذه اللحظة القريبة من الموت.

هل هناك حقاً عقاب على الأفعال الجرمية؟

سلسلة مسرح العرائس بعنوان “الأحمق الكبير” (2015، كتابة غياث المحيثاوي وإخراج جميل أبيض)، تقوم الفكرة على سخرية المجرم من إمكانية وجود العدالة إلى درجة الارتحال في البحث عنها. يقول الكاتب غياث المحيثاوي: “شخصيات الدمى الرئيسية الثلاثة تمثل الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والشخصية الثالثة تمثل الرأسمالية الغربية”. تدرك هذه الدمى الثلاثة ماضيها الإجرامي وتعترف بممارساتها العنفية، متسائلة عن لحظة الحساب وإمكانية تحققها. تقول الدمى: “لماذا لم نحاسب؟ متى سيتم ذلك؟ بدأنا نشك بوجود العدالة، بوجود الرب”. يبدو أنهم يتفاخرون بالإفلات من العقاب، على قناعة تامة باستحالة وقوع العقاب، مما يدفعهم للكفر بالرب.

إن تناول موضوعات استحالة العدالة والكفر بالعقاب تحيل مباشرة إلى دور الله ودور الدين، وهذا هو موضوع الحلقة الثانية بعنوان “تمسكوا بذقني” التي تظهر فيها شخصية رجل الدين الذي له وجهان أحدهما الروحانية والوجه الآخر الانتهازية. إن الحلقة تبين أن ليس للدين إلا أن يكون في خدمة أصحاب السلطة، عدا عن تحويل الدين إلى أيديولوجيا انتهازية من قبل التفاسير المتشددة لأجل حصول رجال الدين على السلطة أيضاً. فبعد أن يعاقب رجل الدين المجرمين الثلاثة، ما يلبث أن يخلصهم من العقاب مما يحيل إلى فكرة أن الدين وضع في خدمة إفلات المجرمين من العقاب. وبعد الدين، يأتي دور العلم، في الحلقة الثالثة التي تجعل العلم في خدمة الرأسمالية والسلطات الحاكمة، تقول الدمى: “كم رجل علم يمكن أن نشتري ببضعة آلاف من الدولارات؟”، ليظهر رجال العلم يتنافسون في قدرتهم على ابتكار أساليب وأدوات تعذيب لبيعها للأنظمة. لكن السلطة أول ما تحصل على الابتكار تستعمله على صاحبه، فيقع رجال العلم واحداً خلف الآخر تحت عقوبة أدوات التعذيب التي ابتكروها بأنفسهم. إن القمع أول ما يجرب أساليبه الإجرامية على أولئك الذين يخدمون سلطته، وهنا في الحلقة يأتي الترميز على رجال العلم في خدمة السلطة.

انتهازية الدين، العلم في خدمة القمع وفقدان الأخلاق الصحفية

تتطرق الحلقة الثالثة بعنوان “ما أجمل مساعدة الناس” على دور الصحافة، هل يمكن محاسبة المجرمين عبر الصحافة؟ لكن شخصية الدمية الصحفي تظهر بشكل انتهازي، إنه قادم إلى عالم الإجرام والموت والدمار للحصول على صورة تضمن له الشهرة والمال، كلما ازدادت جرعة العنف والألم في الصورة تزيد من نجاحه، لذلك هو يبحث عن لحظة الصورة المناسبة، لحظة إطلاق النار على طفل جائع يأكل، ويخطط طويلاً للحصول عليها. إن الحلقة تعالج الصحافة باعتبارها أيضاً في خدمة الشهرة والمال، وهي تقوم على تسجيل لحظات الألم دون التماهي معه، بل أيضاً تساهم في وقوع الآلام لأجل التكسب منها. في الحلقة إدانة لنوع الصحافة التي “تتكسّب” من الإدهاش بمقدار العنف المقدم للمشاهد. وتتضمن الحلقة الخامسة والأخيرة بعنوان “هاملت” معالجة لموضوعة ذكرت في المحور السابق، وهو مفهوم الانتقام. تفترض الحلقة أن الإنسان موجود في غرفة واحدة وبيده سكيناً مع ديكتاتور ارتكب الكثير من الفظائع، فهل يقدم على الانتقام منه؟ وتظهر الحكاية المونولوجات الداخلية حول مفهوم الاقتصاص بالعنف والانتقام في استحالة وقوع المحاكمة العادلة، تقول الدمية الإنسان: “هل يصلح الانتقام؟ هل أنا أيضاً عنيف؟ كيف أتردد في قتل السفاح؟ لكنني لا أحب العنف وأؤمن بالحوار، يجب أن يخضع السفاح للمحاكمة، لكن ذلك يبدو بعيد المنال، وهذا الديكتاتور يستحق الموت”. هي جدليات سؤال الانتقام وتحوّل الضحية إلى العنف، وتحولها إلى القتل في استلهام لتردّد هاملت في الإقدام على الانتقام لجريمة والده. موضوعة الحلقة الأساسية هو مفهوم الانتقام الذي يدخل الضحية والمجرم في دائرة مستمرة من تبادل الأدوار.

في مسرحية “الشرفة” (جان جينيه) ليس الجنرال وحده من يقيم نصب انتصاره على أرواح الضحايا، بل أيضاً رجل الثورة التي تحول إلى السلطة. فشخصية روجيه في المسرحية تمثل الثورة التي تنتصر في النهاية، ولكنها لا تلبث أن تشكل سلطة جديدة طامحة للمجد والتقديس الشعبي. فتاة الماخور كارمن تطمئن الثائر المنتصر روجيه إلى أنه هو أيضاً وصل إلى المجد، وأن الشعب بأكمله يعمل على تزويق ضريحه والخدمة لأجل استمرار عظمته. فيجري بينهما الحديث الرائع التالي عن الخلود في الضريح القائم على جهود الشعب.

كارمن: الموت.

روجيه: هل هذا قبري؟

كارمن (تصحح ما يقول): الضريح.

روجيه: كم عبداً يعمل فيه؟

كارمن: الشعب برمته سيدي. نصف السكان يعملون في الليل والنصف الآخر في النهار. مثلما طلبت. سيشغلون الجبل كله. ما زلنا لا نعرف فيما لو كنا سنجد في الداخل أعشاش الحشرات الأرضية القارضة أو كنيسة لورد. من المعروف فقط بأن الجبل مقدس، ولكن في داخله تتداخل القبور مع القبور والأضرحة التذكارية مع الأضرحة التذكارية، والنعوش مع النعوش والمرمدات..

روجيه (قلق): تعرفين بأنني أنا أيضاً أبحث. عليّ أن أقوم بفكرة البطل، والبطل لا يظهر كثيراً على الإطلاق.

كارمن: من أجل ذلك قدناك إلى صالة الضريح. فهنا لا يوجد الكثير من الأخطاء الممكنة والتخيل.

(صمت)

روجيه: هل سأكون وحيداً؟

كارمن: كل شيء مسدود. الأبواب مبطنة والجدران أيضاً.

روجيه (متردداً): وا… الضريح؟

كارمن (بقوة): محفور في الصخر. الدليل هو الماء الذي يرشح من الجدران. الصمت؟ الإنسان. والنور؟ العتمة كثيفة جداً لدرجة أن عينيك تعرف تطوير نوعيات لا مثيل لها. البرد؟ نعم، إنه برد الموت. عمل هائل أجهد الكتلة “الشعبية”. كان الناس يرتجفون بصورة متواصلة كي يحفروا لك عشاً من الغرانيت. كل شيء يبرهن أنك محبوب ومنتصر.

النص أو العرض المسرحي الذي يرغب أن يكون ثورياً بامتياز هو ذلك القادر على طرح الأسئلة النقدية على الفكر والممارسات الثورية، وهو أيضاً القادر على تناول الموضوعات الأخلاقية والفلسفية خلفها، موضوعات مثل: الحياة أو الموت لأجل قضية، وجود نظرية الثواب والعقاب، ودور الدين والعلم في خدمة السلطة القمعية.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى