تلك التجربة.. استحضار “الفقد”/ عزيز تبسي
تحل الشهادة المكتوبة، أو الشفاهية، مقام الوثيقة التاريخية، لا تؤاخذ على جمال أسلوبها وزخارفه، وإنما على صدقية معاينتها للوقائع، وتنتزع جدارتها مع الزمن بإفساح المجال للتشكيك والتساؤل، كأن بها استهلالية لتقديم سردية موازية للتاريخ السلطوي. وساهمت الكتابة عن السجن في نسقها الأدبي، أو التوثيقي، في كسر الجدار العالي الذي لمّا يزل يحجب عالمه الغامض.
وظلت مهما علا شأنها، واغتنت مشاهدها، وتدفقت حيثياتها، وعيًا ذاتيًا لتجربة عمومية، ومحاولة لفهم موقع هذه المؤسسة القمعية، وظيفتها وأدائها، وأثرها على حيوات السجناء، ليبقى هذا الفهم أسير قصوره، ومحدودية نتائجه ما لم يتوسع لفهم دور أجهزة القمع، ومن فوقها السلطة السياسية التي ترسم وظائفه وتأمره وتراقبه وتحاسبه.
تنتمي نصوص “الفقد” إلى أحد تجليات التجربة الكفاحية لحزب العمل الشيوعي في سورية، الذي حفرت اعتقالات مناضليه ملحمة كفاحية توزعت على عموم السجون، وزنازين أفرع التحقيق. تجربة تولدت منها انكسارات مبكرة وهزائم، صمود وتعالٍ على الآلام، وإصابات بدنية ونفسية لم تقو عليها الطبابة، ووفيات قبل أوانها، واستشهاد تحت التعذيب.
كما أفضت إلى طيف من المقاربات السياسية والانحيازات الفكرية توزعت على منابر الصحافة العربية، ومواقع النشر الإلكترونية.
تستلزم الشهادة التوثيقية الشجاعة والصدق، علهما يفضيان إلى التطهير الذاتي، واستعادة الصحة النفسية والعقلية.
لم تقدم “الفقد”، كنص أدبي قصصي، أو روائي، اختفى الكاتب ـ الشاهد خلف أبطاله، ليطرح سرديته للوقائع، وإنما كشهادة عن تجربة سجين غير مقتنع بالقضية التي سجن بسببها، ويسعى بكل الوسائل للخروج من السجن.
تيقنت بالمسارات الاختبارية، التي سارت عليها التنظيمات الثورية، من “فدائي الشعب” الإيرانية، إلى “الطريق الثوري” التركية، وصولًا إلى التوباماروس الأوروغوايانية، وما بينهم من عشرات التنظيمات الثورية العربية، من حدود الجسد الآدمي في الصمود أمام التعذيب. كما عرفت حدود قدراته في العيش الطويل داخل الزنازين، بعدما طالت مدة السجن، ولم تعد “استراحة المناضل” وفق التعبير البلشفي. في الزمن الذي استبدل فيه مكان الاستراحة بميدان النضال الثوري، إذ لم تعد تمهل السلطة الاستبدادية المناضلين الثوريين، توصل الشيوعي الإسباني سانتياغو كاريللو إلى أن متوسط زمن نضال العضو الشيوعي في فترة حكم ديكتاتورية الجنرال فرانكو لا يتعدى ستة أشهر. لم يأت الكاتب على انهياره في التحقيق، أو جراء صدمة الاعتقال، التي دفعته إلى الإفضاء بأسماء رفاقه، ولا مرافقته لدوريات الأمن لاعتقالهم في الشوارع والحدائق، وهم يترقبون اللقاء برفاقهم. من عجز عن حماية ذاته وقناعاته، سيعجز عن حماية رفاقه.
لم يجب مدون شهادة “الفقد” عن سؤال آت من صميم تجربته، ما وراء الإصرار على إذلال واستمرار اعتقال سجناء لا يناصبون السلطة العداء، ولم يكفوا عن طلب الصفح عن أخطائهم التي نسبوها بخنوع إلى طفولة سياسية لم يبق منها إلا حبال أراجيح جرى استعادتها بطرق مرعبة في الأعماق المعتمة للأقبية التي رموا فيها. وفوت بذلك فرصة لفهم آلية القمع التي اعتمدتها السلطة، التي انتجت مشهدًا غرائبيًا بعدما تعرف السجناء على “مهاجع البراءات” في سجن تدمر، أي المهاجع التي تضم سجناء حكمت عليهم المحكمة العسكرية بالبراءة.
وقعت عموم الشهادات المستندة إلى تجارب سياسية تحت وطأة هلع أيديولوجي ضغط على مدونيها، أساسه رهاب أيديولوجيا الطبقة الحاكمة، التي هيمنت على فضائه السياسي، معززة المقولات الأيديولوجية لحزب البعث.
ألزمت ولا تزال كل من ساهم بأي كفاح سياسي إلى الإعلان، وهو في السجن، يتلقى العقوبات والإهانات، ويكابد ضيق الزنزانة وافتقاد الهواء النظيف، عن موقفه المعادي للإمبريالية والصهيونية والأنظمة الرجعية العربية ومؤامراتهم التي لا تنتهي. كأنه بهذا الاستحمام اللغوي يزيل عن بدنه الاتهامات التي لا يكف المحققون عن تلطيخه بها. وتراها منبثة في جنبات النصوص.
لم يكتب الراوي تحت ضغط تبكيت الضمير عن إساءات تسبب بها لرفاق تجربته، لمعتقداته، إذ ناصب العداء لرفاق تجربته، وكأنما يقول إني أقطع علاقتي بكم، وأروي الواقعة وفق قناعتي.
“وفي النهاية، سأساوم لأنني لا أريد أن أكون بطلًا، ولا شهيدًا، ولو أردت ذلك لكان في غير هذا المكان القذر، وبغير هذا الأداء المهين”، ص30.
“وماذا يعني أن أضحي، ولماذا التضحية أصلًا؟ يجب ألا يضحي أحد، لسنا أضاحي. هل دوري حقًا أن أحمي رفاقي؟ وكيف أحميهم؟ ولماذا أحميهم ولا أحمي نفسي؟، ص81.
كتبت هذه النصوص ـ الشهادة فور الاحتلال الأميركي للعراق، حيث شهدت هذه الفترة تخفيفا للمساءلة الأمنية، وغض النظر عن بعض الكتابات السياسية النقدية، علها تساهم بتفريغ الشحنات الانفعالية التي كانت تضغط على الشعب والسلطة في آن.
رغم إخضاعه النصوص لرقابة ذاتية حاذقة، تسللت العبارات الآتية من ماضي فتوته وشبابه، التي أشارت إلى حدود وعيه وانحيازاته الغريزية.
“ببعض هذه الأزقة كنت ألتقي ـ أزقة حي برزة بمدينة دمشق ـ أحيانًا في ساعات الفجر بالمؤذنين وهم في طريقهم إلى جوامعهم، ألقي عليهم التحية ويدي لا تخرج من جيبي، قابضة على قنبلة يدوية أحتمي بها من أي اعتداء أهوج لجماعات الأخوان المسلمين، الذي نشطوا كثيرًا في تلك الفترة في هذه الأحياء، ويرد المؤذن السلام وكلتا يديه في جيبه، فخوفه قد يكون أكبر من خوفي”، ص58. يكتب عن القنبلة بحيادية، وكأنها من مقتنيات البيت، والألعاب التي يحملها الآباء إلى أطفالهم، كيف وصلت القنبلة إليه؟ ويضمر الوظيفة التي ستقوم بها، حيث يباغته معتد.
ولا الامتيازات التي ورثها من أسرته، والتي تشكل خرقًا لأبجدية القوانين في أي دولة.
“كنت شابًا صغيرًا في الثانوية حين صعدتها برفقة فتاتي بسيارة مهربة ـ سرق الكثير من السيارات من لبنان بإشراف من ضباط سرايا الدفاع، وضباط أجهزة الأمن المكلفين بالشأن اللبناني. وكانت هناك أوامر لإدارة المواصلات لتسهيل تنظيم أوراق رسمية لها، ومنحها لوحات مرور”.
ما الحصانة التي حاز عليها ليقود سيارة من دون رخصة قيادة، ويتجول في مدينة مثقلة بالحواجز الأمنية، للصعود إلى مسطحات جبل قاسيون.
ما هي الآليات النفسية، إذ لا أثر للفكر السياسي في المئة وخمسين صفحة من الكتاب، التي دفعت هذا الشاب للانضمام إلى خلايا مناضلة لحزب العمل الشيوعي.
يغيب كاتب الشهادة لأعوام، كما الأعوام التي غابها من يوم الإفراج عنه ليوم التفطن لكتابة نصوص “الفقد”، ليظهر مع انتفاضة آذار 2011، يداور بين صالات الفنادق التي ينظم مؤتمراته فيها، لم يلاحظ لفرط الزحام أثرٌ لقنبلة في جيبه، ولم يتعقبه أحد ليرى السيارة التي يتنقل بها، وتسهل عبورها الحواجز الأمنية.
ليعلن بعد ذلك عن ميلاد تنظيم سياسي باسم سوريالي “تيار بناء الدولة”.
أمل من قرأ كتاب “الفقد” الوصول إلى سردية موازية للقول السلطوي، فإذ به يقرأ سردية سلطوية سطحية قليلة الذكاء، عجزت عن إخفاء انحيازها.
(حلب، آذار/ مارس 2022).
ضفة ثالثة