نقد ومقالات

حقيبتا جان جينيه/ غاسبار ديليمس

ترجمة: عبد المنعم الشنتوف

يكشف هذا النص تفاصيل مثيرة لها تعلق بالحقيبتين اللتين أودعهما الكاتب الفرنسي جان جينيه قبيل وفاته في الرابع عشر من إبريل/نيسان عام 1986عند محاميه وزير الخارجية الفرنسي في عهد فرانسوا ميتران رولان دوما. سوف يكشف محتوى الحقيبتين علاوة على بعض المخطوطات وسيناريوهات الأفلام عن الغموض الذي كان يحيط بسيرة جان جينيه، وفي مقدمتها صراعه بين إرادة التوقف عن الكتابة والرغبة في مواصلتها.

النص:

في مستهل شهر إبريل عام 1986 كان جان جينيه على علم بقرب مغادرته للحياة. كان الكاتب البالغ من العمر حينها خمسا وسبعين عاما والمريض بالسرطان الذي سيودي فعلا بحياته في الرابع عشر من الشهر ذاته يقصد منزل محاميه رولان دوما، الواقع في كي بوربون في باريس. وقد دلف إلى قبو عامر بالتحف الفنية سبق للنحاتة كاميل كلوديل ان اشتغلت فيه، ووضع على المكتب حقيبتين كانت إحداهما من الجلد الأسود، فيما كانت الأخرى من القطيفة الرمادية.

بوغت رولان دوما الذي أصبح قبل أيام من ذلك التاريخ، وزيرا للخارجية في حكومة رولان فابيوس، بالرجل الأصلع القصير ذي الانف الأفطس وهو يخاطبه قائلا: رولان. إليك أعمالي التي لم أنته منها بعد. افعل بها ما تشاء. وفي هذا التاريخ كان جينيه الذي لم ينشر شيئا منذ خمس وعشرين عاما قد ركز كل جهوده في كتابة نص «الأسير العاشق» الذي سيرى النور بعد وفاته.

وبعد انصرام أربعة وثلاثين عاما، سيستقبلنا رولان دوما في القبو ذاته وفي غمرة شهر أغسطس/آب. فتحت الباب موظفة في المنزل ذات نبرة سلافية وشرعت في عملية التعقيم بالكحول. كان رولان دوما البالغ من العمر ثمانية وتسعين عاما يجد عسرا في المشي. بيد أن عينيه كانتا تلمعان حين يتذكر صديقه «جان» الذي أودع السجن في الماضي بتهمة السرقة والنصب والخداع: «لا يمكنكم تخيل القضايا التي ترافعت فيها من أجله. زارني جان ذات مساء بوجه مكفهر فظيع ولم نفترق طوال عشرين عاما. كانت ثمة مشاكل في كل العقود التي يبرمها، وكان للأمر تعلق بفوضى قانونية حقيقية. تعرض مرارا للخداع وكان عليّ أن أعيد الأمور إلى نصابها، وأن أمد يد المساعدة إلى أصدقائه أحيانا. كان يكتب لي أثناء جلسات المحاكمات قصاصات صغيرة من قبيل: قاضي التحقيق وغد حقير وينبغي أن تكشف زيفه وتناقضه.

يحتفظ رولان دوما وهو الحكاء البارع من هذه الصداقة الطويلة بآلاف الحكايات علاوة على كنز حقيقي يشتمل على حقيبتين ومحفظة سوداء صغيرة، وقد اتخذ قراره أخيرا بأن يتقاسمها مع الجمهور. وقد سلّم في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019 هذا الكنز إلى معهد ذاكرة النشر المعاصر، الذي قام بعرضها في نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول 2020 بالقرب من مدينة كاين. كانت مناسبة لإثارة انفعالات معجبي جان جينيه؛ إذ لم يكن الأمر متعلقا ببضع مسودات عثر عليها في في قاع درج عتيق، وإنما بحصيلة أربعة عشر عاما من الكتابة.

جان جينيه

في غمرة عدد لا يحصى من المسودات والأغلفة والقصاصات والمنشورات والملصقات وكناش للتطعيم، نعثر على خليط من المخطوطات والعديد من النصوص غير المنشورة. خطاطة أولية لملحق لكتاب «الأسير العاشق» علاوة على سيناريو عجيب كتب بطلب من المغني الأمريكي دافيد بوي. لم يكن يعلم بأمر هذه الحقائب إلا عدد قليل من الجامعيين الذين كانوا يجدون عسرا في القبول بفكرة وجودها. كان فتح هاتين الحقيبتين معناه الدخول إلى ورشة كاتب «رحالة» والاحاطة من خلال هذه الوفرة من الملاحظات المكتوبة، بالإبداعية العصية على الوصف لجينيه في الطور الأخير من حياته.

وكي نحيط بأهمية هذا الاكتشاف يتحتم علينا العودة إلى بداية عقد الستينيات من القرن الفارط. التقى جينيه الذي كان على خصام مع منتج فيلمه الوحيد «اغنية حب» رولان دوما. لم يعد ذلك الكاتب الغزير الإنتاج الذي أبدع خمس روايات على امتداد أربع سنوات.. والذي أصبح وقد تجاوز الخمسين، بأسنان منخورة متآكلة وإلهام في طور النضوب. كانت حياته موزعة بين فرنسا واليونان والمغرب. كان يحب عبد الله بنتاغا البهلوان المغربي ذا الجمال المتوحش، الذي كان يصغره بثلاثين عاما. كان رولان دوما محاميا ذا حظوة لدى الإنتلجنسيا. وقد دافع عن مصالح جاك لاكان ومارك شاغال وبابلو بيكاسو. وقد أشرف على ترحيل اللوحة الرائعة لهذا الاخير «غيرنيكا» إلى إسبانيا. قال جينيه إن اختياره وقع على رولان دوما بسبب نبرته الجنوبية وعزوفه مثل زملائه الباريسيين عن خطاب الوعظ. نشأت بين الرجلين ألفة غير متوقعة مردها إلى عشقهما الفن والعالم العربي ورغبتهما في انتهاك المحظورات. وسرعان ما تحول رولان دوما من محام إلى صديق وكاتم أسرار. وفي عام 1960 سقط عبد الله من فوق حبل فتحطمت ركبته وبعد أربع سنوات وبتاثير خشيته من أن يتخلى مدربه جان جينيه عنه أقدم على الانتحار بتقطيع شرايين يده. وقد أصيب جينيه بإحباط شديد. يحتفظ رولان دوما بذكريات من سهرة قرب المدفأة حيث كان يحاول مواساة زبونه وتشجيعه على مواصلة الكتابة، في ما كان رد جينيه: لا يا رولان. لا أريد فعل أي شيء، بل إنني مزقت كل مخطوطاتي.

أخرجه صخب العالم رويدا رويدا من فتوره إلى حد مغازلة اللاسامية. وقد اكتشف بعد أحداث 1968 أن تمرده الداخلي يمكن أن يرتبط بانتفاضة سياسية. وقد اعتنق وهو الكاتب الذي لا يتوفر على عنوان ثابت قضية الفلسطينيين، الذين يفتقرون إلى أرض. انجذب إلى الحرب التي خاضها السود الأمريكيون. ويتذكر رولان دوما هذه الحادثة: جاءني ذات مرة برجل أسود طوله متران وخاطبني قائلا: إليك هذا الرجل. ولم يكن هذا الشخص سوى الريدج كليفر الناطق الرسمي باسم حركة الفهود السود، المتهم بقتل شرطيين والمهدد بالترحيل إلى الولايات المتحدة.

غاب الأدب عن أحاديث المؤلف وليس عن أحلامه. وتشكل هذه الحقائب شهادة على ذلك. وقد عادت الكتابة جملة تلو أخرى. بدا جينيه في الكتابة على أغلفة قطع السكر أو فواتير الفنادق أو كناش. وقد تضافرت هذه الملاحظات كي تشكل نصا كبيرا أهداه إلى الفلسطينيين، وأبحاث عن الجاز واليابان أو طفولته، كان جينيه يكتب سيناريوهات، خصوصا ذلكم الاقتباس عن روايته الأولى «سيدة الأزهار». تم ذلك بطلب من دافيد بوي، الذي ضرب موعدا لجينيه في أحد مطاعم لندن. وقد رأى الكاتب حين دخوله امرأة جميلة جالسة بمفردها خلف طاولة وقد خاطبها قائلا: اعتقد أنك السيد بوي. وبدا أن المغني استعد جليا لهذا الدور. بيد أن هذا المشروع لم يتحقق بسبب الافتقار إلى التمويل.

لم يكن جينيه يفترق قط عن حقائبه، كانت تصاحبه في فنادق المحطات البائسة ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين في شاتيلا وبيروت وغيتوهات السود الأمريكيين وفي المنزل الصغير ذي المصاريع الزرقاء الذي بناه في مدينة العرائش. كانت مسرحياته التي تعرض في كل انحاء العالم قد جعلته غنيا. لكنه كان يفضل إعادة توزيع أمواله على صداقاته، ولم يكن يملك أي شيء. ولم يكن بحوزته سوى حقائبه ونسخة من «إشراقات» رامبو ومعطف وشال يطرحه على كتفيه مثل تلميذ في الثانوي.

    توزع إرث جينيه بين ثلاثة ورثة شرعيين وضمنهم جاكي ماغليا الذي كان منفذ الوصية. أما حقيبتا الكاتب فقد غرقتا في سبات عميق إلى حدود عام 2000 حين استدعى رولان دوما البير ديشي المتخصص في أعمال جينيه إلى مكتبه بغرض فتح الحقيبتين. ويقول في هذا السياق: ترغمك الحقيبتان على إعادة النظر في أسطورة «جينيه» الصامت الذي تعهدهما بنفسه بعناية. ويروي محتواهما هذا الصراع بين كاتب لا يرغب في الكتابة وهذا التوق إلى الكتابة الذي يغمره.

اكتشف جينيه في أواخر السبعينات اصابته بسرطان في الحنجرة. وقد رافقه صديقه ألكساندر رومانيس إلى حصص التداوي بالأشعة. وفي نهاية الثمانينيات استفحل المرض وأيقن جينيه من أنه لم يبق له متسع من الوقت وواصل كتابة «الأسير العاشق» دون توقف. وفي ليلة 14/15 إبريل سقط في حمام غرفة الفندق الواقع قرب ساحة إيطاليا في باريس. وكان جاكي ماغليا أول من اكتشف جثته في الصباح. ويقول رولان دوما الذي كان قد غادر مقر الحكومة الفرنسية في كي دورساي: أخبرني العاهل المغربي برغبته في تنظيم جنازة عسكرية كبيرة يشارك فيها المثقفون. وكان جوابي: لا تنظموا أي شيء من فضلكم. يسروا الأمور.

جرى الدفن في النهاية بحضور بعض المقربين في المقبرة الإسبانية في العرائش. وبعد شهر من وفاته نشرت دار غاليمار نص «الأسير العاشق» التي كانت بروفاته المصححة موضوعة فوق طاولة غرفة نومه. توزع إرث جينيه بين ثلاثة ورثة شرعيين وضمنهم جاكي ماغليا الذي كان منفذ الوصية. أما حقيبتا الكاتب فقد غرقتا في سبات عميق إلى حدود عام 2000 حين استدعى رولان دوما البير ديشي المتخصص في أعمال جينيه إلى مكتبه بغرض فتح الحقيبتين. ويقول في هذا السياق: ترغمك الحقيبتان على إعادة النظر في أسطورة «جينيه» الصامت الذي تعهدهما بنفسه بعناية. ويروي محتواهما هذا الصراع بين كاتب لا يرغب في الكتابة وهذا التوق إلى الكتابة الذي يغمره.

يبقى استغلال محتوى الحقيبتين مرهونا بإرادة جاكي ماغليا، الذي ظل لفترة طويلة ممتنعا عن النشر. وذلك بسبب رفض جينيه فكرة إعادة طبع أعماله. علاوة على المعرض الذي نظمه معهد تاريخ النشر فإن كتابا يضم بعض نصوص الحقيبتين سيصدر عن منشورات لوهيرن. والشان نفسه بالنسبة للسيناريوهين في حالة موافقة ماغليا. وسوف تشغل بقية المخطوطات الباحثين لفترة طويلة. وهي تتيح لنا فرصة الإحاطة بسيرورة الكتابة عند جينيه؛ إذ ليس ثمة من خطاطة وإنما إعادة كتابة شاملة للنص نفسه.

تفصح الحقيبتان عن أمرين متناقضين في خصوص جينيه، ذلك أنها ترمز كما يقول أريك مارتي إلى فكرة كاتب دون مأوى ولا يعترف بأي حدود، لكنهما تكشفان أيضا خلف هذه الرغبة في الترحال عن حقيقة مؤداها أن جينيه لم يرفض فكرة حياة بعد الموت من خلال الكتابة. وهي طريقة أخرى لتكريس أسطورة الكاتب المتشرد. ومن بين الأشياء المثيرة للفضول في الحقيبتين رسومات لجينيه بقلم رصاص جاكي ماغليا. وفي واحدة منها يبدو جينيه مستلقيا فوق الفراش كما لو انه يستريح من مرضه. وهي في الحقيقة الوضعية التي اعتادها من أجل الكتابة.

* كاتب فرنسي

** كاتب ومترجم مغربي

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى