نقد ومقالات

عن موقف “نزيه أبو عفش” الأخير من الاجتياح الروسي لأوكرانيا

———————–

نزيه أبو عفش.. الأسدي البوتيني/ علي سفر

لم يكن للشعراء في سوريا ومنذ عقود أي أبراج عاجية يتوارون فيها، بل كانوا متاحين جداً، يمكن رصد حضورهم في الأمسيات وفي الندوات، كما أن المنابر التي كانت عصية على الأجيال الجديدة، بقيت ولعقود، وربما حتى الآن، مفتوحة لهم، شرقاً وغرباً.

هؤلاء الذين حملتهم عقود الأيديولوجيا، وأجنحة الأحزاب، بأساليبهم المختلفة عن السائد والمكرر، لم يخذلوا القراء، بل كانوا يباغتونهم كل حين وآخر، بقصائد جديدة، تطرق في مضامينها، وتعابيرها، على أوتار الحياة اليومية، وكآباتها، فيصبح صوت الشاعر في هذه الحالة، كناية عن الأصوات الخامدة، أو المخمدة بقمع السلطة.

ليست مشكلة نزيه أبو عفش كمثال لصعود الشاعر وكذلك انحداره، أنه صار نجماً ذات يوم، بفعل الفضاء العام، وتلقيه لما يقوله، وكأنه صوت الجماعة المتمردة.

هي مشكلة من صفقوا له ولم يتوقفوا عن ذلك، فظن نفسه معصوماً، منزهاً، يرى نفسه ناطقاً بالحق، حتى وإن كتب أو قال الترهات!

الأنوار العالية وهي تسلط على الكائن، تحجب عن عينيه الرؤية، فيرى نفسه غارقاً في الضياء، وتضيع بالتالي الحدود والفواصل بين “السلوغون” الذي يلتصق به، وبين ممارساته على أرض الواقع. والأضواء ذاتها، وهي تنعكس على ذاته، تجعله يرى نفسه فوق الآخرين!

إنه ابن الأعلى، المصاغ بحروف ذهبية، لا يبلغها الآخرون؛ في أمسية مع أبي عفش في المركز الثقافي العربي في أبي رمانة، في بداية التسعينيات، قال الرجل على المنبر: “أقرأ الشعر الذي يكتبه الآخرون فأظنه لي”!

الشاعر الذي التصق باليسار السوري، وكتب شعراً في الأحلام المهزومة، والثائرين المعلقين على أعواد المشانق، يحق له في اعتقاده أن يحصل على نسبته من الأمجاد والمكاسب، لا بل أن يفتح لحسابه أيضاً سلطة ودولة خاصة*!

لكن، من قال أن دولة الشاعر تبقى؟ دولة الأوراق والكلمات، حتى وإن رأى الشاعر نفسه فيها حاكماً مطلقاً، تنهار مع نسمة هواء، وتتلاشى! ولهذا سيحتاج في وقت ما للتماهي مع دولة حقيقية ومخابرات وجيش!

سنوات التسعينيات، وما بعدها، من تراجع للمنبرية اليسارية، والأمواج التي تحمل كأصوات للجماعة، جعلت فرص الحضور تتلاشى أيضاً! لم يعد مهماً للناس وللقراء أيضاً أن يبحثوا عن الشاعر أو عن أخر ما كتبه! لقد أتى القمع أكله، فلم تعد القضايا الكبرى، ولا حتى الصغرى، موضع تركيز الجماعة، بل تقلص عدد المتابعين، وصار القراء والمهتمين نخبة أيضاً!

في أزمنة كهذه، ومع تبدلات سياسية، جرى في سطحها ماء متدفق، وبقي عمقها صلباً، متراصاً، قوامه إرهاب الحاكم للمحكومين، سيفقد الشاعر حظوته، وسيتحول فقده للمكانة، إلى إحساس خاص بالهزيمة!

وبقليل من الكيمياء اللغوي، يمكن مطابقة الخسارة الشخصية مع الكارثة العامة، وصناعة المزاج السوداوي ليصبح كناية عن الاستياء مما يجري!

لكن الجموع التي يتغير مزاجها بحسب حاجياتها، لن تعود إلى الوراء، ولن ترى في نزيه الذي جعل نفسه “قديساً في أيقونة”، صوتاً لها!

بل ستتعاطى معه كحالة سابقة، تتبع زماناً مضى، كانت له مفرداته وأحلامه وثوراته المأمولة، فإذا كان للبكائية كنبض شعري من جدوى في ذلك الآوان، لن يكون لها من قيمة، في الوقت الذي تآكلت ضمنه الحدود بين البشر، وباتوا يتفاهمون مع بعضهم برموز وإشارات مختلفة! الشعر بذاته وجد نفسه في مأزق، ولم تعد الإشكالية تتعلق بهذا الشاعر أو ذاك!

التحول العالمي، الذي فرضته التقنية، من الخصوصيات المغلقة المتقعرة، إلى الانفتاح الواسع، وبما يمحي الحدود والخطوط الدقيقة بين الكينونات، ليس أزمة شخصية، بل هو شأن عام، يستحق أن يبذل الشاعر في سبيل فهمه جهداً إضافياً!

وقبل هذا عليه ألا ينغلق على نفسه، كنوع من ردة الفعل على الإهمال وتلاشي الاهتمام السابق!

مشكلة نزيه أبو عفش ليست خاصة به، بل هي تتعداه، لتكون مشكلة آخرين، رأوا أنفسهم في لحظة ما خارج أضواء الجماعة! صحيح أن هذه الأضواء وفي العديد من تمظهراتها، استهلاكية، وبلا قيمة، مليئة بالترهات، وبالانحطاط، وهذه كلها جزء من المشهد العربي العام في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. لكن هذا بمجموعه لا يجعل المثقف أو الأديب يمضي صوب إدانة الناس، والتعالي على يومياتهم، حتى وإن لم تناسب ما يتذوقه في بيته، من موسيقى ومنتجات ثقافية “راقية”!

كثيرون من المثقفين السوريين، لم يروا في القراء الذين منحوهم حيز التلقي والتفاعل سوى “جمهور”، أو “عوام”، حاضر حين الطلب، وبذلك كان لا بد من رسم الحدود بين الجماعتين، ووضع الأمور في نصابها، من وجهة نظر القلّة المزدهية بماضيها، والمرتاحة لعلاقتها الراسخة مع النظام، ولابد من تثبيت التخوم!

في إحدى تجليات هذه العلاقة، يشعر بعض هؤلاء أنهم ليسوا فقط جزءاً من المعادلة المتفق عليها مع النظام، بل إنهم هم ذاتهم النظام!

ولهذا لن يكونوا مرحبين بالفئات الشابة القادمة إلى عوالم الثقافة والإبداع بأحلام يانعة وأدوات أكثر تطوراً تقنياً، وبزوادة معرفية أوسع بحكم الانفجار الكبير في عالم التواصل! وحين سيجد هؤلاء الشباب أن حيواتهم ستهدر على يد نظام بيروقراطي قمعي، لا يفتح باباً للحرية، إلا ويغلق بدلاً عنه سماوات، وحين سيذهب هؤلاء إلى ثورتهم، وإلى موتهم، وإلى نزوحهم، ولجوئهم، وتشظيهم، ولا ترى النخبة المهددة في الحدث سوى مؤامرة، وتصمت عما يجري من قمع وإرهاب، سيذهب اليائسون إلى خياراتهم؛ كمواجهة العنف بالعنف، والموت بالموت!

لم ولن يعجب أبو عفش بمثل هذه الثورة، فهي بالنسبة له ولغيره “رعاعية”، ذات ملامح غير محلوقة الذقن، ومشهديتها شعبية جداً، سوقية! قابلة للانسياق، عرضة للبيع والشراء، خليجية، غربية، إرهابية!

يمكن ببساطة استدعاء التوصيفات المتاحة على شاشات الإعلام الرسمي للحديث عن هذه الثورة، وبدلاً من طرح الأسئلة التي تحتاج للتفكير والبحث، سيذهب الشاعر إلى البحث عن أمجاد جديدة على فيسبوك، بعد أن ضمن عبر الموقف السياسي جمهوره مسبقاً، إذ لا يحتاج الحصول على التصفيق واللايكات سوى أن يشتم من ثاروا ضد الأسد، وأن يتهمهم بالتخلف! وأن يتم تحويل الآخرين المختلفين إلى عملاء أجراء يتبعون هذا المشغل أو ذاك!

وفي سياق تألق هذا الاضمحلال للوعي والشعر، سيتماهى أبو عفش مع مجرم مافيوزي هو فلاديمير بوتين، وهذا مجرد تفصيل في الطريق إلى الهاوية، فيرى فيه المخلص، وسيكتب بصفاقة منشورات رديئة وتافهة، يستحي المرء من أن يذكرها، لا يمكن تصور أن من يدونها هو ذلك الشخص، الذي كان واجهة لرؤى جيل ثوري التمع في السبعينيات، ثم قضى في سجون الأسد الأب في ثمانينات القرن الماضي.

هل المشكلة في نزيه وحده الذي منحه النظام جعالة جائزة الدولة التقديرية في 2018؟

بالتأكيد لا، رغم أن الشاعر الذي حشى كتابه الأخير “ربيع المآتم” بكلمة الموت في كل قصيدة تقريباً، يبدو مصاباً بالخوف من النهاية، وهذا عرَضٌ لا يوجد له دواء!

إنها حالة شبه عامة، تتكرر في الأوقات العادية، لكنها في الأوقات الصعبة، تصبح كالوباء!

• انظر تشريح إميل منعم لانفصام الشخصية عند نزيه، في الرابط:

https://www.alaraby.co.uk/%D9%86%D8%B2%D9%8A%D9%87-%D8%A3%D8%A8%D9%88-%D8%B9%D9%81%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D8%A6%D9%81-%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%82%D8%B1-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A8%D9%88%D8%B9

المدن

——————————–

نزيه أبو عفش الخائف.. عودة الصقر إلى الربوع/ إميل منعم

الشاعر الصديق نزيه أبو عفش خائف. وخوف الشاعر دلالةٌ عميقةٌ على عطْبٍ في سويّة الحياة وانتظام سيرها. أحسبُ أن خوف الشاعر ليس أقلّ من تحذيرٍ ضمنيٍ من بلوغ الهاوية، ولهذا علينا الإنصات جيداً إلى خفقان قلبه بين السطور.

لا غرابة في أن يخاف الشاعر نزيه أبو عفش. هو ابن سورية الجريحة، وأحد الأصوات التي دوّت فيها طويلاً. بل الغرابة، كلّ الغرابة، إذا كان لا يخاف في بلدٍ زُجّ من قادةِ الرأي في سجونه ومعتقلاته، أكثرَ مما أُلحِق منهم في الجامعات والمدارس. وذاق معارضوه صنوفَ تعذيبٍ لم يعرفْها تنويريّو عصر الظلمات، واختُرق المجتمع فيه، من أقصاه إلى أقصاه، بمختلف فرق البطش والتنكيل، حتى غدت تقنيات الترهيب ونشر الخوف أهمّ صناعاته الوطنية.

من الطبيعي أن يخاف الشاعر الصديق، ومن الطبيعي أكثر أن يُجاهر بهذا الخوف في كل سانحة. وهو ما برح، منذ سنواتٍ، يقوم بهذه المهمة، كتاباتٍ ومقابلات ورسائل.

نعم، عليه أن يخاف، بل ويرتعب، في وطنٍ عزّت فيه الكرامة على طالبيها، إلى درجة إفنائهم دونها. وغدا مطلبُ الحريّة فيه لا يكلّف أقلّ من أن يُشرَّد شعبٌ بأكمله، ويُدفن أحرارُه أحياءَ على مرأى من العالم. وأن يَستدرِج حاكموه ذئابَ الأرض لتنهشَه من كل جانب. ويوزّعوا نواحيه على جيوش الفتح والإرهاب، فقط، لكي تُفوَّتَ الفرصةُ على تحقيق هذا المطلب البسيط لشعبه: الحريّة.

لكن ما القولُ إذا لم يكن هذا كله ما يخافُه نزيه أبو عفش؟ “أنا فعلاً أخاف المثقفين، وأنا لا أحترم الكائنات التي أخافها، ومن بين كل من عاشرت، طوال عقود حياتي الماضية، أكثر من خفتُ منهم هو صنف المثقفين”. هذا ما يجود به أديبٌ على الملأ، فوق دخان بلاده من دون حرج، ومن دون أن يعتريه شعورٌ بالحاجة إلى التمييز بين مثقف وآخر. ولا يبوح لقرّائه بمن هم هؤلاء الذين يعرّفهم بالمثقفين، فهم عنده صنفٌ وحسب، “فهناك مثلاً صنف الدجاج، الأسماك، الثيران، الذئاب، البشر، وهناك المثقفون الذين أخاف منهم”.

وبتنزيه نفسه عن هذا “الصنف”، يكون شاعرنا، عن حق، قد اعترف بنصف الحقيقة، مدفوعاً بالقصويّة المثيرة التي يتمتّع بها عادةً، المتبارون من شعراء الزجل في الأرياف. أما النصف الآخر من الحقيقة فهو الإيهام بأنّه مثقّف من صنفٍ مختلف. يقف مع “الممانعين” في مواجهةِ الإرهاب والمؤامرات الكبرى وصدّ العدوان. وأما الآخرون الذين يخافهم، ممن تقدّموا صفوف المتظاهرين في طلب الحرية، أو تشرّدوا في جهات الأرض، فعملاءُ ومأجورون. وإذا كان هذا ما رمى إليه، فليسمحْ لنا شاعرُنا الكبير، بأن لا نقرأَ في خوفه تحذيراً من بلوغ أيّة هاوية، بل تحذيراً من قرب إعلان ساعة الحداد على نخبة، آلت إلى هذا الحدّ من الهشاشة والوضاعة.

ليس أبو عفش وحده بين من انتظرهم شعبهم ليكونوا رمح المواجهة أمام من يستهين بكراماتهم منذ عقود، فأخلفوا الوعد ولم يصلوا. بل على العكس، انكفأوا إلى مسرح وهميّ، رتّبه لهم دهاةُ الحروب الأهليّة لمقارعة طواحين الإرهاب. ولا بأس بتذكيرهم أن إسرائيل، هي الأخرى، ما زالت تحارب “الإرهاب” منذ نشوئها. بل كشفت الفصول الأخيرة من مسرح المواجهات، في طول عالمنا العربي وعرضه، عن مأساة هذه النخبة وشحّها. كما كشفت، بوضوح شديد، أن محنتنا، في جانب كبير منها، ثقافية بامتياز.

إن نِصف قرن من إرهاب الشعب السوريّ، ودَوسِ كرامته، واستغلال ثروته، ومصادرة حريّته، لم يكن زمناً كافياً لحَمْل السيد أبو عفش على الاعتراف بحقّ شعبه في التظاهر السلميّ مطالباً بحقوقٍ، من المعيب أن تبقى موضعَ سؤال، في زمنٍ تُسنّ فيه القوانينُ، وتنهض المؤسساتُ للدفاع عن حقوق الحيوانات السائبة. حتى يخرجَ بهذا الإعلان المخجل والفج والعقيم: “هم لن يمهلوا النظام السوري للقيام بالإصلاحات، فهذه لا تكون في يوم وليلة.. الإصلاح لا يتحقق في ست ساعات، ولا في ستة أشهر”. ما يقوله الشاعر، وهو أقرب إلى الكوميديا، لا يعبّر بالتأكيد عن قناعةٍ، بل عن ارتباكٍ وهروب، في لحظة انكشاف عجز المثقّف عن النهوض بدوره، في أصعب لحظةٍ يمرّ بها شعبه.

“إذا انهار النظام في سورية الذي عارضتُه أربعين عاماً إلى أين سأذهب؟ إلى المعارضة؟ أنا أخاف من هذه المعارضة التي ابتدأت مشوارها ومنذ الأسابيع الأولى بشعار: لا للحوار”. نعم، إنها محنة ثقافية، وليس أشد ّمدعاة للأسى من “مثقّفٍ” يجهد، حتى باستخدام التزوير، في صدّ الماضي، ومنعه من أن يصير ماضياً.

لم ينجحِ القتلةُ باستدراجهم الإرهاب، لتبرير براميلهم المتفجرة فوق المشافي ورياض الأطفال، بقدر نجاحهم في تقديم هذا الإرهاب ذريعةً سهلةً لمن يريد تبرير التقاعس والنكوص. لقد غدا وهم مقارعة الإرهاب أحد مستحضرات التجميل الأكثر انتشاراً بين حماة الماضي، ومنافقي القتلة، لإضفاء بريقٍ اصطناعيٍّ على وجوهٍ، ألفاها شاحبةً دمُ الأبرياء المتسرّب من الأنقاض.

ليس الترهيب سلاح المستبدّ، بل قوامه. وعندما ينجح نظامٌ في إخافة المثقف، يكون قد نجح، ليس في تدعيم سلطانه وحسب، بل في تعقيم الحياة وتبديد الأحلام وإطفاء الأمل.

وظيفة المثقّف التي لا مساومة فيها هي إرهاب السلطة، لا الخضوع لإرهابها. ما يعوزه امتلاك عدّة معرفية واسعة ومركّبة ونقديّة، تسمح له بمعاينة حيَل السلطة في تزييف الوعي، وكشف مخططاتها المفضية إلى تشتيت قوى المجتمع وتحييد نخبه. وجعل العمل الدؤوب على إرساء سلطته المضادة هدفاً مركزياً لمسيرة كفاحه النبيل.

لا توحي رمياتُ أبو عفش الطائشة بأيّ همّ من هذا القبيل، بل تتكشّف عن لغوٍ ورغاوةٍ وزبد، لا تليق إلا بدعائيي السلطة، وخدّامها الأمينين. ما من أحدٍ يدفع بجهوده في صراع مفتوح مع سلطة القهر، ويتحمّل تبعات هذا الصراع، ما لم يكن وعيه التاريخيّ غامراً شعوره بكل اللحظات العابرة. وما لم يضع قيمه الأخلاقيّة في سويّة وجوده.

ليس أبو عفش معادياً لشعبه، ولا خادماً للسلطة بالتأكيد. وفقاقيعه التي يطلقها في الصحافة ومواقع التواصل لن يفيدَ منها نظام القتلة في شيء، فنسيج آرائه المهلهل، ووعيُه الضامر الذي يملي عليه مواقفه المخزية، وقد بلغت حدّ تمجيد السفّاحين، أعجزُ من أن ترتق ثوب رضيع، فكيف بستر عورة نظام، تنكشف ممارساته عن أكبر جرائم العصر. ولكن أقوالاً كهذه لها أن تثير الشفقة على بؤسه، وبؤس النخبة التي ينتمي إليها. عدا ما تثيره من استفزاز للمشاعر بين من أصابهم العدوان بشظاياه، أو من تشرّدوا في مسالك الأرض، أو طُحنت عظامُ أبنائهم في غياهب السجون، ففي بساطة الكلام الاستفزازي دليلٌ إضافي ودامغ على قوامٍ ثقافي هزيل، ليس صعباً على السلطة إرعاب صاحبه، كما تُرعب الأبرياء الآخرين. في حين أن المثقف الحقيقي أكبر من أن يُروّضه خداعُ السلطة، أو أن يُغمزَ له جانبٌ، أو أن يُقعقعَ له بالشِّنان.

يخاف المثقف، ومن حقّه أن يخاف، ولكن عندما يكتب لا يكتب بدافع الخوف، بل بدافع الألم. ذاك الألم الذي يسطع منه الموقف الأخلاقي فوق كلّ صوت ونبرة.

لقد سقط محمد الدرّة في زمن محمود درويش، فوجد من ينتشله من وهدة الدم، ويطبعه في ضمير العالم. أما الالتفات إلى حمزة الخطيب ورفاقه، ففيه نشازٌ مُفسدٌ لمظنّة الإرهاب ومعزوفته، فلا غضاضة من تركهم ليُدفنوا في العراء. هنا ينجلي الفارق بين معنى أن تكون مثقفاً جديراً بهذه التسمية وأن تكون ثقافتُك قناعاً من الزيف.

حشد بطرس الناسك فقراء فرنسا تحت راية الدفاع عن قبر المسيح، وزجّهم وقوداً في الحروب الصليبيّة على الشرق، ولم تنجح خُطبُه المفوهّة في إضفاء أية شرعيّة على دعواه، التي لم تكن سوى ستارٍ “مقدسٍ” لحرب استعماريّة دامت قروناً. وبعد ألف عام بالتمام، سيعاودُ التاريخ تمثيل هذه المهزلة بين ظهرانينا، حين يقفُ من يحشد الفقراء تحت راية مشابهة: “الدفاع عن مقام السيدة زينب”، ويشنّ حرباً، “مقدّسة” هي الأخرى، على أبناء سورية في عزّ انتفاضتهم. هنا يتوقف التاريخ عند السيد نزيه وأمثاله، فيُحْجِم عن إكمال الحكاية حتى نهايتها. الحكايةِ الأليمةِ التي اكتملت فصولُها بهذا الدمار الكبير تحت أكثرِ الشعارات طائفيّةً وعدوانيّةً في

العصر الحديث. لا يفلح “الممانعون” في إكمال الحكاية، لسببٍ بسيط، هو أن الحجّة جاهزة لا يرقى إليها الشك. العدوّ لا يأتي إلا من الغرب، فالعدوان طبيعة جوهريّة في الشعوب والبلدان.

“لا ينسى أحد أنني رجل ماركسي شيوعي علماني، لي عدو وحيد على هذه الأرض، هو النظام الأميركي، وعندما أقول النظام الأميركي، فضمناً أعني إسرائيل”. واستتباعاً، فلنتصوّر، إذا صودف أن جاءنا عدو من مكان آخر، كيف على “الممانعين” تقديم الاعتذار إليه، لاستحالة إدراجه في لائحة الأعداء، حفاظاً على “قانون طبيعي”، يحصر العداوة بأميركا وإسرائيل ويقفل الباب. ليس في تصريح كهذا خفّة وحسب. هو استهلاكٌ ممجوجٌ لمقولة “العدوّ الأوحد”، والتي لا يريد مسوّغوها تضخيم خطر إسرائيل، بمقدار ما يريدون بها التستّرَ على أعداء آخرين، لا يقلّون عنها خطورةً على أوطاننا واجتماعنا.

هل الإرهاب فعلاً هو ما يخيف نزيه أبو عفش؟ إذا كان الأمر كذلك، قد يكون من الحكمة غضّ الطرف عن سقطاته، بإحالتها إلى قصورٍ في موضعةِ دور الإرهاب في الصراع السوري، وكيف يتم خرطه وتوظيفه بين أسلحة القهر الكثيرة. ولكن هل الأمر كذلك؟

مرّة في باريس، في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، كنا شلّة من الأصدقاء السوريين، بينهم نزيه أبو عفش، وأنا. لم تكد جلستنا تبدأ حتى عكّرها الأستاذ نزيه، وسط استغراب الجميع وذهوله، باعتراضه العنيف والهستيري على نكتةٍ رماها الراحل جميل حتمل عن قوات الردع السورية في لبنان. اكتشف شاعرُنا فجأةً أن بين الوطن وسلطته عروةٌ وثقى لا تنفصم، فقلب ظهر المجنّ، وكرجت من تحت لسانه خيولُ القبائل من البيد، وألقى على جميل درساً عرمرماً في الوطنية، مستخدماً كلاماً شوفينياً مريعاً.

تغاضينا، حاملين ردّ فعله المفاجئ على زلّة لسان، أو اضطرابٍ عارض خارج عن السيطرة. ولكن ما فجَعَنا به وقتها، أبى إلا أن يكرّره بفاجعةٍ أعظم في عام 2005، عندما نشر شاعرنا في صحيفة السفير اللبنانية مقاله المسهب في هجاء اللبنانيين، في “موقعة” خروج الجيش السوري المحتل من أرضهم، فكالهم أقذع الشتائم لدى مطالبتهم بخروج من أذاقهم ما لم يعد خافياً على أحد، من صنوف الإذلال والاغتيالات والنهب وتكميم الأفواه. بل أكثر من ذلك، وجد في تلك المطالبة الشعبيّة نكراناً للجميل، فكتب بين ما كتب: “الاهتمام والرعاية اللذان أولاهما النظام السوري للشعب اللبناني كان من الأجدى أن يكونا من حظ الشعب السوري، وأنه من يحتاج إلى حماية ورعاية”.

تصوّر أنّه يتمنّى للشعب السوري نِعَمَ النظام، وكأن الأخير، على مدى خمسين عاماً من الاستبداد، كان مقصّراً في إغداقها على شعبه. وما أكثرها من نِعَم! أي إرهاب هذا الذي يعيد الشاعر الصعلوك صاغراً إلى القبيلة. ويخنق في الصقر المرقّط “نعقته البربرية فوق أسطح الدنيا”؟ أي إرهاب يجرّ قرن الحداثة إلى زمن المعلّقات، ولم يكن شاعرنا، فيما مضى، يخفي إعجابه بلمعة صديقه الشاعر حسن عبدالله، عنما كتب: “وإن وطني صار ثوراً/ أنازلْه وأجندلْه في ثوانْ”.

أي إرهاب يبرّر ضيق التنفس هذا، ويسوّغ التنكّر لنداء الحريّة، وطيّ الأجنحة والعودة بها إلى الأقفاص؟ كان مفخرةَ فرنسا عندما كتب سارتر “عارُنا في الجزائر”، مُديناً سلطة بلاده، ومكرّساً تقليداً كبيراً يسمو بالمثقف ودوره إلى فضاء إنساني رحب، دونه السلطات جميعاً.

ما يكتبه أمثال سارتر في سلطة أوطانهم يجعل من هذه الأوطان قلب العالم. وما يكتبه أمثال نزيه في “حب الوطن” يجعل من أوطانهم خِيَماً معزولة على طرف الصحراء. ولكن هل تجد، عند بلوغ الحضيض، من يكتب “عارنا في الربيع العربي”، بدل أن يمجّد العارَ وأهلَه ويشتم الربيع وبواكيره؟

أقول لمن جمعتنا الصداقة ذات يوم: إن مناجاة الله واستحضار التوابيت على قارعة كل قصيدة، قد يرفع منسوب الصوت، لكنّه لا يمنع انخفاض المعنى إلى قاعٍ يشحّ فيه زيتُ المروءة، وينحني غصنُ الكبرياء، فيسهل تبادل المكرمات فوق جثث الضحايا.

سيبقى صوت الألم نشازاً، ولو غمرتْه الأناشيد، وسيبقى اختلالُ العدالة اختلالاً في إيقاع العالم، ولو رُصِفتْ دروب الأرض بالشعر والموسيقى.

العربي الجديد

—————————-

«الشاعر الروسي» نزيه أبو عفش/ إيلي عبدو

عندما يمتدح الشاعر السوري نزيه أبو عفش الغزو الروسي لأوكرانيا، ويبرئ جنود بوتين من مجارز وحشية، لأنهم ليسوا «قراصنة أمريكيين»، مطلقا على نفسه لقب «الشاعر الروسي»، تأييدا وتضامناً لـ»عملية» موسكو، فإن السؤال حول دوافع هذا المثقف للانحياز نحو المجزرة ومرتكبيها، يتجاوز الاصطفاف السياسي المباشر، وينشغل أكثر بتكوين عفش الثقافي، حيث الوعي اليساري المأزوم، والتفكير بالسياسة شعرياً، والأصل الذي ينتقم لقمعه بصوفية مسيحية. والعناصر الثلاثة تلك غالبا ما تتداخل وتتمازج، فيستحيل التميز بينها، وتحديد مساحة كل منها وتأثيرها، في تشكيل وعي أبو عفش.

فمثلا، ضعف اليسار في العالم عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، لم يكن بالنسبة لأبو عفش، وعدد لا بأس به من المثقفين السوريين الذين يشبهونه، محطة للمراجعة وإعادة النظر في منظومة قيم، حكمت مساراً كاملا، من التفكير في العالم واتخاذ المواقف حيال تحولاته، وشكلت بيئة خصبة للاستبداد، ولا حتى محطة، لتعديل بعض المفاهيم وإسباغ ليبرالية ما عليها، كما حدث مع اليسار الغربي. على العكس، جرت شعرنة الحدث بوصفه «هزيمة للأحلام الكبرى»، وانكسارا لـ»مشروع تنويري»، وذلك أنتج حالة من الإنكار تُرجمت بتصلب وعدمية، حيث لا بد من أن يطغى «الحزن» و»التشاؤم»، و»اليأس» في النظر إلى العالم، على العقلنة، والالتحاق بالتغيير، وحجز موقع في التحولات التي تحصل.

قراءة التحولات بوصفها «هزائم» وتأويلها شعرياً لتصبح عدميات صلبة، كشف أن الانتماء لليسار عند هؤلاء، لا يقوم على أسس عقلانية قابلة للنقد والتجاوز، بل يقوم جزئياً على ما هو شعري. فالعدالة الاجتماعية، ليست مفهوما يتعين في الواقع ويجري الاشتغال عليه، ليتحقق ويستفيد منه البشر، هي دعوة كونية مطلقة، تحضر في روايات الأدب الروسي، وعلى لسان شخصيات متخيلة، وعبر مقولات «خالدة». الأمر ليس بعيداً عن الكسل في إنتاج يساري محلي ينشغل بتقريب النظريات إلى الواقع السوري، وإنتاج مقاربات لتطبيقها. أبو عفش، ينتمي إلى هذا المسار من الكسل، لكن، مع تصعيده درامياً، ونقله إلى الشعر، ليصبح «محنة» و»هزيمة» و»عدماً»، ويُعبر عنه بالقصائد والروايات والنصوص النثرية.

الشعر الذي يستنطق السياسة ويقوم بتأويلها، يغرق عند أبو عفش في صوفية مسيحية يسهل ملاحظتها في الكثير من دواوينه، حيث الأصل الأهلي – الطائفي، الذي لم تمسه الأيديولوجيا اليسارية المشعرنة، وجرى إنكاره والتحايل عليه، ينتقم لنفسه بالظهور في القصائد، الأرجح أن الأصل لديه بقي شعور أقلوي، منفي بالأيديولوجي الزائف، وغير قابل للتطوير، ليصبح وعيا طائفيا واضحا. ولأن الصوفية، على ما يقول الراحل صادق جلال العظم في كتابه «نقد الفكر الديني» هي «تعميق ذاتي وروحي للدين وتحويله من عقائد جامدة إلى إحساسات ذاتية وشحن لأشكاله الفارغة بعاطفة حارة متدفقة»، فإن الصوفية تتكفل بالتعبير عن الأصل المسيحي المقموع والحائر، عند أبوعفش، وتصعيد هذا الأصل درامياً، ليتقاطع ضمن لعبة الشعرنة، مع علاج انهيار اليسار، فتصبح مفردات «الألم» و»الحزن» و»اليأس»، ملتبسة الوظيفة، هل هي تعبير عن فوات الأيديولوجيا، أم فوات الأصل؟ وبصرف النظر عن هذا الالتباس، ومحاولة فرز تداخله، فإن النتيجة واحدة، تجاهل البشر والضحايا واللاجئين والمعتقلين، وأحياناً التحريض عليهم، إذ يكتب أبو عفش على حسابه الفيسبوكي «أيها الروس الرائعون إذا كان لا مهرب من إلصاق المجزرة بكم … فاقترفوها». ففلاديمير بوتين، بتبنيه وعيا إمبراطوريا (الاتحاد السوفييتي)، وهوية أحد عناصرها الأرثوذكسية، هو مثال نموذجي يحاكي عجزين، لدى الشاعر المنعزل في قريته في وادي النصارى، في ريف حمص، عجزه عن أن يكون يسارياً عقلانياً قابلا للتغيير والمراجعة، وعجزه عن أن يحسم علاقته بالأصل المسيحي، إما نفياً أو اعترافاً، وبين علاج هذه وعلاج تلك، الكثير من الشعرنة والصوفية. ليبقى مديح المجزرة، النشاط الأكثر ملائمة، للشاعر العدمي «اليائس» من العالم.

*كاتب سوري

———————–

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى