في وداع غازي حسين العلي: الشعب يريد…/ نبيل سليمان
الضابط الكبير الذي يحمل رتبة العماد، ابن عم سعاد، يقطع الطريق على عاشقها سعيد. ولأن العماد يعيث في البلاد، خرجت الحشود تهتف غاضبة: “الشعب يريد إسقاط العماد ابن عم سعاد”.
ينادي هذا الذي نقرأ في روايةٍ هتافًا زلزل الأصقاع العربية في زمن بعيد بعيد: “الشعب يريد إسقاط النظام”. ولكي تؤكد الرواية صلة الرحم بين الهتافين، بين الخيال والواقع، تكتب أن العماد خرج إلى الحشود بعديده وعُدده، وقتل منها خلقًا كثيرًا. لكن الحشود تابعت في الحواري والساحات وهي تصدح: “الشعب يريد..”.
لماذا لم تحدد الرواية هذه المرة بقية الهتاف؟
لماذا جاء في نهاية الرواية ما يحدد زمان ومكان كتابتها: “دمشق 2010 – 2011″؟
إنها رواية (ليلة الامبراطور) التي صدرت عام 2014، أي بعد ثلاث سنوات من تاريخ الانتهاء من كتابتها، أي بعد ثلاث سنوات من الزلزال السوري المصري الليبي اليمني التونسي الـ… العربي.
إنها رواية الروائي والصحافي السوري غازي حسين العلي الذي غادرنا يوم 23/3/2022 عن أربع وستين سنة، وعن سبع روايات وقصة للفتيان، ومسرحية بدأ بها مسيرته الكتابية سنة 1983.
“كان غازي متابعًا باهتمام لمن عُرفوا بالمؤرخين الإسرائيليين الجدد، ومنهم إيلان بابيه الذي يرى الصهيونية أكبر خطرًا من التطرف الإسلامي. كان غازي يتساءل عن الشجاعة وعن النزاهة عندما يتحدث عن بابيه، وعن اشتراكه مع تشومسكي في كتابين، وعن وصفه لبن غوريون بمهندس التطهير العرقي”
منذ سنوات تنبهت فجأة إلى أنني أكاد أتحول إلى ندّابة، لأنني كدت أدمن الكتابة عن راحلين، أصدقاء أو لا صلة لي بهم إلا صلة القراءة والكتابة: هل من صلة أقوى؟
خوفًا من تلك الـ (كدت) وصدًّا لها ودرءًا، قررت الصمت عن رحيل من يرحلون ويرحلن. ولم أنقض القرار إلا قليلًا. لكن العمر يقصر والموت يتكاثر، وها هي هذه السنة تهلّ برحيل جابر عصفور (مصر) وإدريس الخوري ومحمد مفتاح (المغرب) ووليد إخلاصي وغازي حسين العلي (سورية): هل يكفي؟
منذ صيف 2011 تناءت لقاءاتنا: أبو فراس غازي العلي وأنا. صارت اللقاءات غالبًا مكالمات هاتفية ومراسلات واتسية. وقد أرسل لي قبل رحيله بليلة واحدة مقطع فيديو يتحدث فيه إيلان بابيه، الأكاديمي الإسرائيلي، عن المستوطنين الأوائل الفقراء الجهلة القادمين من روسيا إلى فلسطين. وقد كان هؤلاء مهووسين بكتابة يومياتهم، وفيها عبروا عن خيبتهم بفلسطين، بسبب (الغرباء) الذين يملأونها، والذين آووهم في بيوتهم وعلموهم الزراعة التي كانت محرمة عليهم في روسيا.
كان غازي متابعًا باهتمام لمن عُرفوا بالمؤرخين الإسرائيليين الجدد، ومنهم إيلان بابيه الذي يرى الصهيونية أكبر خطرًا من التطرف الإسلامي. كان غازي يتساءل عن الشجاعة وعن النزاهة عندما يتحدث عن بابيه، وعن اشتراكه مع تشومسكي في كتابين، وعن وصفه لبن غوريون بمهندس التطهير العرقي، وعن تأييده لعودة اللاجئين وعن… ولم يكن ذلك إلا ملمحًا من انشغال غازي بفلسطين، في زمن تناسيها ونسيانها. ولكن لماذا تذكّر إيلان بابيه عشية رحيله، بينما ليس في العالم من حديث إلا حديث أوكرانيا؟
في 17/3/2022، أي قبل رحيله بستة أيام، أرسل لي مقطعًا بثّه موقع جريدة (الرؤية) الإماراتية، وعنوانه: “ماذا تصنع الحرب؟”. وفي الجواب يرافق الصوت المشاهد المروعة، معلنًا أن للحروب انتصارات، لكن الانتصار ما هو إلا دمار، وشباب خائفون من الغد، وقوارب اللاجئين في البحر، وخيام، وأرامل، وأوبئة، وأرقام: ثمانية مليون قتيل في الحرب العالمية الأولى، واثنان وستون مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية و.. والمقطع هو من إعداد ومونتاج فراس العلي، ابن غازي حسين العلي.
ومن (الواتسيات) أخيرًا ما كتب في 5/3/2022، وكانت المناسبة أن تطبيق نبض نقل عن قناة (أورينت) ما كتبته إحداهن، دون أن تذكر اسمها، تحت عنوان “قصتي مع عبدالسلام العجيلي، ومع نبيل سليمان الذي قال لي: أبشرك بالفشل”. وفي الكتابة إساءة لي، قرأها غازي فكتب لي ملفتًا إلى تاريخ النشر في 4/3/2022 أي بعد يومين من احتفالية مؤسسة سلطان العويس الثقافية بتوزيع جوائزها، وكانت فيها جائزة القصة والرواية من نصيبي: “انسَ. يجب الانتباه إلى تاريخ النشر. إلى الأمام يا أستاذ نبيل.. بدأت الكلاب تنبح”. ولأن الكاتبة المجهولة أثارت شجون غازي، تابع الكتابة: “يوم فزتُ بجائزة كتارا عملوا ندوة في فرع اتحاد الكتاب بدمشق حول جوائز الرواية العربية، وكنتُ المستهدف شبه الوحيد في الندوة. ولكن من حسن حظي كان من بين الحضور من دافع عني بشراسة”.
“جاءت روايته الثانية (صخب الأرصفة) بعد ثماني سنوات من روايته الأولى، وأيقنت مع هذه الرواية أن هذا الذي بدأ الكتابة في الصحافة اللبنانية فالسورية، وبمسرحية (دخلت الرصاصة من النافذة)، ينطوي على روائي متميز”
ويُذكر لغازي حسين العلي الذي كان عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب بدمشق منذ 2010، أنه قدّم في 17/6/2012 استقالته – وهو المستقلّ غير الحزبي – مع عضوي المكتب، الناقد الأكاديمي قاسم مقداد والشاعر الراحل إبراهيم الجرادي (1951 – 2018) كما استقال غازي من جريدة (الثورة) التي أشرف فيها على الملحق الثقافي منذ عام 2006 حتى نهاية 2012.
وقد كتب المستقيلون الثلاثة على إيقاع الزلزلة السورية (الحراك/ الانتفاضة/ الثورة): “لم نعد قادرين على الاستمرار في لعب دور شهود زور في منظمة مشلولة وعاجزة ومفسدة”. وأعلن المستقيلون “البراءة من كل القرارات والبيانات السلبية الصادرة عنه (الاتحاد) من دون معرفتنا”.
كانت باكورة غازي حسين العلي الروائية: (حمود مستدير القامة – 1985) أول ما “قاد المودة بيننا”، وإن كنتُ “باردًا” نحوها، حتى إذا جاءت روايته الثانية (صخب الأرصفة) بعد ثماني سنوات أيقنت أن هذا الذي بدأ الكتابة في الصحافة اللبنانية فالسورية، وبمسرحية (دخلت الرصاصة من النافذة)، ينطوي على روائي متميز، مما تؤكده لغة (صخب الأرصفة) المقشّرة، وحفرياته منها في (طوق الحمامة) لابن حزم الأندلسي و(القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية) لابن طولون الدمشقي. وفي زعمي أن (الروائي المتميز) ظل يومض في الرواية التالية (حديقة الرمل – 2005)، حتى إذا جاءت (سموات الوحشة) بعد أربع سنوات بدت تنشد ما هو علامة فارقة في تجديد ومستقبل الرواية العربية، أعني العلاقة بين الرواية والفن التشكيلي، وبين الرواية والموسيقى. ويضاف إلى ذلك لعبة العنوانات الطويلة مما ينسب الرواية إلى (رواية الاختيارات) بحسب باختين. ولا أنسى المهم والأهم في بناء الشخصية الروائية السورية والعراقية على إيقاع ما تلا الزلزلة العراقية عام 2003 ودفع بموجات اللاجئين العراقيين إلى دمشق، وبخاصة حي جرمانا حيث فضاء هذه الرواية التي كتب غازي في ختامها إن ما جاء فيها بين قوسين، قد أخذه عن الإنترنت بتصرف من مذكرات سجين مجهول. وكان الصحافي خالد عرب من شخصيات الرواية سجينًا سابقًا.
ربما أرسل غازي تلك الخاتمة على سبيل التقية. وهنا أنقل من حوارٍ له مع أنور بدر (“القدس العربي”، 10/9/2009) قوله: “وأنا شخص غير مسيس، ولم أكن مسيسًا في يوم من الأيام، ولهذا السبب أعتبر نفسي غير ملزم بأي خط أو منهج”. ولعله قصد أنه مستقل عن أي حزبية، ذلك أنه يتابع في الحوار نفسه أن السياسة هي “في المحصلة النهائية رأي الكاتب فيما يحيط به من أحداث وتحولات”.
بعد خمس سنوات من هذا الحوار ومن (سموات الوحشة) جاءت رواية (لعله الإمبراطور) لتزيد تميز الروائي تميزًا، حيث يكوي اللسان التراثي بالسخرية كيًا، ويلوح الحفر الروائي بكتاب ابن عرب شاه (عجائب المقدور في أخبار تيمور) وهو الكتاب الذي نهضت عليه رواية خيري الذهبي الاستثنائية (فخ الأسماء)، كما تفاعل غيرها معه. وقد واجهت (ليلة الإمبراطور) وسالفتها (سموات الوحشة) تحدي الكتابة عن الراهن، فلم تقع في أفخاخ السياسة والخطابية. وهنا أعود إلى حوار مع غازي كانت قد أجرته إيناس سليمان في جريدة “الاتحاد” الظبيانية، وفيه يقول: “ما حدث خلال السنوات الخمس الماضية قد يحتاج لعقود حتى يكون بمقدور السرد السوري هضمه والتعبير عنه بشكل ينأى بنفسه عن التأثيرات الشخصية والعقدية التي ضربت المجتمع السوري في الصميم (…) لقد أضحى شعار الوحدة الوطنية والعيش المشترك في مهب الريح. ولم يعد ثمة صوت يعلو فيها فوق صوت الأحقاد ودفاتر الماضي التليد وراياته القادمة من كل حدب وصوب. (…) وكما أن سورية لن تعود إلى ما كانت عليه، فإن السرد السوري لن يكون أبدًا كما كان عليه من مداورة وترميز. سوف يتحول الخوف إلى صنم من أصنام الماضي”. ويذهب غازي أبعد في الجزم باستحالة الكتابة عن (الكابوس المرعب) الذي كانت سورية تعيشه في سنته الخامسة، أي بعد سنة واحدة من صدور روايته (ليلة الامبراطور)، ونقرأ: “بالنسبة لي فما زلت في خضم هذا الكابوس المرعب، وأي محاولة للتعبير عنه في نص روائي فلن يكون سوى ردة فعل عما حدث، ومهما بلغت براعة الكاتب وحياديته فلا بد أن يسقط في مطب الشخصنة وردود الفعل الآنية”. لكن غازي نفسه سوف تصدر له عام 2021 رواية (مرسيدس سوداء لا تخطئها العين – كوميديا وطنية). وكانت هذه الرواية قد فازت بجائزة كتارا للرواية غير المنشورة في دورة 2020. ومثل (ليلة الإمبراطور) لم تقع هذه الرواية في أفخاخ الثورة والخطابية، في الوقت الذي كان فيه غازي يمور تحت وطأة الكابوس المرعب وكيفية التعبير عنه روائيًا.
كان في يقيني دومًا أن أفضل الكتابة عن مبدع راحل، هو ما يتناول إبداعات هذا الراحل، لتصير (المرثية) احتفاءً. ولكن لا بد للشخصي أن يحضر عندما يكون المبدع صديقًا. وها هو الشخصي ينازعني الكتابة عن روايات غازي حسين العلي – وما أكثره، وما أوجعه – إثر الرحيل المباغت.
كان يحلو لغازي في لحظات حميمة أن يتحدث عن صديق أو آخر كأنما يتهجّد. وأذكر من ذلك حديثه عن سامي الجندي (1921- 1969) السياسي الهارب من دمشق إلى بيروت، حيث جمعت الجيرة بينه وبين غازي الشاب في أول سلّم الصحافة. لقد تجاوزت الصداقة فارق العمر، وماضي سامي الجندي الذي كان من مؤسسي حزب البعث والوزير السابق… وأذكر أيضًا، وبخاصة، حديث غازي الحار والمتجدد عن زكريا تامر، ولنلاحظ هنا أيضًا فارق العمر.
لم أكن أخفي عن غازي سرًا. وعندما بلّغني جابر عصفور باختياري عضوًا في لجنة التحكيم لجائزة ملتقى القصة القصيرة في القاهرة (2009) لم أخف السرّ على غازي. ومن الطبيعي كان أن يقودنا الحديث إلى أن زكريا تامر وحده هو الأولى بالجائزة. وعندما آن أوان السفر إلى القاهرة أخبرني غازي أن زكريا لن يحضر المؤتمر العتيد، وعلل ذلك بأن زكريا لن يحضر إلا إذا كانت الجائزة له.
لم تطل مداولات لجنة التحكيم (جلستان متتاليتان). ولم أكن أكبر حماسة من أغلب أعضاء اللجنة إلى أن زكريا تامر هو الأجدر بالجائزة. وكان أكبر المنافسين له بهاء طاهر، حتى إذا دقت الساعة وانشق القمر وفاز زكريا بالجائزة، أسرعت إلى الاتصال بغازي وطلبت إليه أن يحمل زكريا على كتفيه إلى المطار، وهكذا حضر زكريا، وكانت الاحتفالية الكبرى بفوزه.
بمثل هذه الومضات أستعين على الفقد.
وإلى اللقاء أيها الصديق المبدع.
ضفة ثالثة