مراجعات الكتب

قراءة في كتاب “الثقب الأسود” للكاتب السوري طارق عزيزة/ سمير سليمان

صدر حديثاً، عن دار ابن رشد للنشر والتوزيع في إسطنبول ، كتاب “الثقب الأسود – أوراق من ملفات الإسلاميين في الثورة السورية”، للكاتب والباحث السوري طارق عزيزة.

يقع الكتاب في260 صفحة، وجاء مقسّماً إلى مقدّمة وأربعة فصول رئيسية وفصل ختامي. يتناول الكتاب دور الإسلام الحركي، بوجهيه السياسي والجهادي، في تفاعله مع تحولات السياسة والاجتماع السوريين، منذ ستينيات القرن المنصرم وحتى اللحظة الراهنة، مع تركيز على سنوات الثورة السورية.

يفرد الكاتب الفصل الأول لمسائل نظرية وتاريخية، يبيّن فيها بإيجاز تمييزه بين “دين المسلمين”، كعقيدة وساحة شعور وإيمان، وبنية أخلاقية عامة، وبين ما سمّاه “أيديولوجيا الإسلاميين”، وهي، كما يقدّمها، الأيديولوجيا التي شكّل نسيجها إسلاميون من مختلف بقاع العالم الإسلامي، باعتبارها نظرية في الحكم ترتكز على الدين الإسلامي من جهة، ووسيلة للوصول إلى السلطة السياسية، بمشروعية منبثقة من أساس ديني من جهة ثانية، وأداة تحشيد واستقطاب لتحقيق ذلك في الواقع من جهة ثالثة، مع تأكيده أنّه هذا ينطبق على إسلاميي السنّة والشيعة على السواء.

صحيح أنّ طارق عزيزة ليس أول من يناقش تلك المسائل ولن يكون الأخير، إلا أنّ هذا النقاش سيبقى ضرورة ملحّة أمام المحنة التي تواجه شعوب المسلمين، في صراعها مع أنظمتها.

وفي ما يخص المجتمع السوري، سيبقى موضوع الإسلام السياسي فارضاً نفسه في الصراع الفكري والسياسي والثقافي السوري، إلى أن يتحقق الفصل النسبي المنشود بين الدين والسياسة في الاجتماع السياسي السوري، وما يناظره من فصل بين الدين والدولة في حقل الحوكمة ومحدّداتها الدستورية، فهي مواضيع لاتزال تحتفظ براهنيتها وضرورتها لأجل غير منظور.

في الفصل الثاني، وأرى أنّه الأهم للقارئ السوري غير المتخصّص، يتناول الباحث بدايات ظهور الدعوات الجهادية التي تتبنى العنف كمنهجية أساسية مسنودة فقهياً، ويسلّط الضوء على السياقات التاريخية لتطور الدعوات الجهادية في سوريا، بالترافق مع نشوء دولة البعث، ثم الدولة الأسدية في مرحلتيها، الأسد المؤسس وابنه الوارث، قبل اندلاع الانتفاضة في مارس/آذار 2011، وبعدها.

وتكمن أهمية هذا الفصل في تبيانه بوضوح، أن ما أُطلق عليه مصطلح “أسلمة الثورة” لم يكن ظاهرة تولّدت، بتمامها وبدون تراكمات سابقة، مع الانتفاضة أو في سياقها وحسب، أو أنها تخلّقت بفعل قوى وإرادات خارجية استدعتها الانتفاضة فقط، بل هي تتويج انفجاري لما تراكم في المجتمع السوري خلال عقود سابقة، دون أن ينسى الكاتب الإشارة إلى دور المعارضة والنظام وداعميهما في الدفع بهذا الاتجاه.

يبدو لي أنّ الكاتب أصاب في تحليله، لأنّ التراكمات الصراعية التي فجّرتها الانتفاضة، أتت بعد كبت مديد سبّبه الاستبداد، أوجد شروط نمو سرطاني، انتهى إلى ثمار دموية ناجمة من التقاء موضوعي بين استبداد سياسي طائفي للنظام الأسدي من جهة، وبين نشاط حركي إسلاموي طائفي من جهة مقابلة. وهو الالتقاء الذي، بما لا يخالف أي منطق، حرف الانتفاضة باتجاه صراع مسلّح، لا يخلو من ملامح الحرب الأهلية، وجعلها قابلة لتكون كذلك، عبر تعميقه للتصّدعات الطائفية التي أسّس لها نظام الأسد خلال حكمه القمعي المديد، ما سهّل فيما بعد كلّ أشكال التدخل الخارجي، مالياً وسياسياً وعسكرياً وأيديولوجياً.

استتبع ذلك التدخل تقطيع البلد جغرافياً، وتمزيقه اجتماعياً، وتعدّده سلطوياً. فلا مكان هنا، إذن، من دور لنظرية المؤامرة التي يتمسك بها فقيرو التفكير السياسي، ولا أهمية حاسمة للتخاذل الغربي كما جرى تصوّره، على الأقل في السنوات الأولى للانتفاضة، في التداول السياسي الشائع وقتها، وهو تداول ما زال مستمراّ عند كثير من السوريين المعارضين.

ويعزز الكاتب عزيزة أطروحته بالإشارة إلى ترافق عملية “أسلمة الثورة” السورية بما هو مضاد ومتناقض مع أهم شروطها وأهدافها، وأعني قمع دور المرأة السورية، وتغييبها عن ساحة الفعل والرأي العموميين، بعدما فاجأ هذا الدور، بحيويته ونشاطه التحرري السلمي الواعي، كل المجتمع السوري، بما في ذلك الشريحة الأكثر قرباً ومعرفة بهذا الدور.

هذا التغييب يعني، رفض كل أشكال الديموقراطية السياسية والحقوقية التي كانت أساس الانتفاضة وهدفها. فتجريد المرأة من أيّة فاعلية سياسية أو اجتماعية ترافقَ مع محاربة الميول الحداثية عند الشباب، وبالذات محاربة حسّهم بالحرية الفردية وبالديمقراطية.

هذا كله ساهم في إيجاد الشروط والبيئة الضرورية، لسيادة عنف مسلّح ومؤطّر بأيديولوجيا دينية تستبعد التنوع وتعادي فكرة وروح الاجتماع الوطني، لصالح تسعير الشقاق الطائفي الذي أراده النظام، وأدى، إلى جانب عوامل أخرى مختلفة ومتفاوتة الأهمية، دوراً في بقاء نظام الأسد وفشل الانتفاضة ضدّه.

بالعودة إلى الكتاب، يبدو الفصل الثالث أكثر تشويقاً، وفيه يعرض الكاتب ويوثّق، بسلاسة وتكثيف، نموذجين لتطور الجهادية الإسلامية في سوريا ما بعد 2011، فيدرس فصيلين من أكبر الفصائل الإسلامية التي تكاثرت كالفطر، خلال الصراع، هما “جبهة النصرة” بمراحلها وتسمياتها المختلفة، و”جيش الإسلام” منذ بداياته في غوطة دمشق وحتى ارتهانه للوصاية التركية في الشمال السوري، ثم يختم الفصل بالحديث عن الاقتتال بين الفصائل الإسلامية نفسها.

تجدر الإشارة إلى أنّ الكاتب لم يتناول تنظيم “داعش”، إذ أوضح أنّه لا يعتبره فصيلاً سورياً بالمعنى الصرف. لايحتاج هذا الفصل من الكتاب للتعليق هنا، فهو يوثّق سلوكيات ومنهجيات معلنة، عرفناها جميعاً كسوريين، ترفض الديمقراطية في الحكم، وتحارب التعايش الاجتماعي بشروط الحداثة.

وهي تثبت بذاتها أطروحات الفصل الأول النظري من الكتاب، وتؤكد تحليل الكاتب وفهمه لدور الجهادية الإسلامية في مشروعها السياسي العام، وخطورة حضورها في أية حركة تحررية، حدثت أو يمكن أن تحدث في مقبل الأيام، كما أن تطوّر النموذجين اللذين تناولهما الفصل الثالث، يقدّم مثالاً يجسّد الكلام الذي تصمّنه الفصل الثاني بشأن “أسلمة الثورة”.

ومن خلال السرد المكثّف والموثّق والرشيق، استطاع الكاتب أن يجعل من هذا الفصل مادّة دسمة يمكن أن تفيد الباحث والمؤرخ الذي سيكتب في تاريخ الثورة السورية، وإن كان لا يحل، بعموميته واختصاره، محل التاريخ المفصّل وحوليات الجهادية الإسلامية في الثورة السورية التي لم يُكتب تاريخها بعد.

في الفصل الرابع يعود الكاتب إلى تقديم مناقشة نظرية وسياسية للتوظيف السياسي للدين في المجتمع السوري، من قبل النظام الأسدي أولاً ثم من قبل الإسلاميين، قبل الانتفاضة.

ربما كان من الأنسب، كما أرى، أن يكون هذا الفصل متقدماً على الفصلين السابقين، ويمكن تفسير سبب ترتيب الفصول كما هي في الكتاب، أنها لم تُكتب كمخطط كتاب مقرر سلفاً في تصوّر الكاتب، بل في فترات متباعدة وباستقلال عن بعضها، وفق ما أشار الكاتب في المقدّمة.

على أي حال، المهم في البحث الذي تضمّنه هذا الفصل ما قدّمه حول فكرة التوظيف السياسي للدين، على نحو ما فعلت الدولة الأسدية مع جميع الطوائف والمذاهب لتثبيت دعائمها كدولة تسلطية، وكما سعى المعارضون الإسلاميون في طموحهم الجارف لخلق سلطتهم الخاصة، وبوسائل لا تستبعد العنف. وناقش في ختام البحث طائفية النظام وطائفية الإسلاميين، والفارق بينهما.

في الفصل الأخير الختامي، عرض الكاتب خلاصاته المكثّفة، وتركّزت على ضرورة الإصلاح الديني في الإسلام، وتأثير الإسلاميين في الثورة السورية وتأثّرهم بها، كما خلص إلى وجود ثورتين واحدة سورية وأخرى إسلامية ساهمت في تعثّر الأولى، وختم بالحديث عما ينبغي التفكير فيه لاستئناف الثورة.

إن كتاب “الثقب الأسود” ، الذي انجزه طارق في مغتربه بألمانيا ، من الكتب التي يمكن قراءتها بسهولة، فلغته سلسة ومباشرة، وأفكاره تتقدم برشاقة دون أن تثقلها الاستطرادات والعبارات الاعتراضية، ودون أن تشوبه لغة تخصّ كاتبها وتشوّش ذهن القارئ.

كما أنّ جانبه التوثيقي جعله كتاباً يستحق مكانه في المكتبة الشخصية للمهتمين بالشأن السوري .

الناس نيوز


دور الإسلام الحركي في سوريا تحت المجهر/ حمّود حمّود
يمكن اعتبار كتاب الباحث طارق عزيزة دعوة جدية لدراسة دور الإسلاميين في سوريا وتفاعلاتهم الجوهرية مع النظام السوري. حمّود حمّود في قراءة نقدية للكتاب لموقع قنطرة.
في كتابه “الثقب الأسود: أوراق من ملفات الإسلاميين في الثورة السورية”، الذي صدر هذا العام عن دار ابن رشد للنشر والتوزيع في إسطنبول، يثبت الباحث طارق عزيزة أننا أمام ثقب إسلاموي لم يبتلع كثيراً من تفاصيل الحراك الشعبي السوري ويسهم في تعثّر الثورة السورية فحسب، بل ابتلع بعض من يُفترض أنهم على قائمة منتقديه من المتعلمنين الزائفين، حتى غدوا من المدافعين عنه، وقد أشار إلى انزلاق بعض المجموعات السياسية “اليسارية” في أحضان الإسلاميين.
“إخوان ومتأخونون”
يتوزّع الكتاب على مقدمة وأربعة فصول ونتائج ختامية، ورغم أنّه ليس بحثاً أكاديمياً حول الإسلام السياسي السوري، إلا أنه يلقي أضواء نقدية، وأحياناً موضعية، في كثير من محطاته على مسار الإسلاميين ومساهمتهم الجوهرية في تدمير الحراك السوري، سواء من الناحية السياسية (من خلال الإخوان المسلمين وتشابكاتهم مع المعارضة السورية) أو من الناحية العسكرية (والدور الكبير للتيارات الجهادية بتنظيماتها المتعدّدة).
في فصله الأول يبدأ الكتاب بمناقشة عدّة قضايا نظرية تتناول في بعض محطاتها التمييز بين الإسلام كدين وبين الإسلام السياسي كأيديولوجية سياسية تحاول خطف الدين الإسلامي وتسييسه. ويتطرق لمسائل متعلقة مثلاً بالآداب السلطانية وجذورها المؤسّسة لخطاب الإسلام السياسي والتطرف المذهبي وما إليه، فضلاً عن تناول مسألة الإصلاح الديني، حيث يشدّد هنا على ضرورته القصوى والذي سيبقى “قاصراً ناقصاً ما لم يشمل الجميع: السنة والشيعة وما بينهما من فرق ومذاهب دون استثناء” (ص39).
أما الفصل الثاني (في أسلمة الثورة السورية)، فقد بدا أكثر عمليةً ومباشرة، بل ومتعة في تناوله العلائق المتشابكة بين الأيديولوجيات الإسلاموية لسيد قطب وغيره في منتصف القرن العشرين، وتأثير هذا على الفضاءات الإسلاموية السورية، ثم تطورها ضمن فضاءات الجهاد العالمي. هكذا ليناقش، من ثم، هيمنة خطاب الإسلاميين على الثورة السورية بتواطؤ فئات كثيرة من المعارضة السورية.
من النقاط الأساسية التي ينيرها الكتاب في هذا السياق (وأجدها إحدى إطلالات الكتاب المهمة) هي الارتباطات التاريخية بين تنظيم الإخوان المسلمين السوريين وبين فضاءات الجهاد الأفغاني، حيث يراجع بعض أدبيات الإخوان لمنظرين (مثل سعيد حوى)، أو قياديين (عدنان سعد الدين ) التي تكشف اتصالات قيادات الإخوان بالجهاد الأفغاني، وتزامنها مع الحرب بين النظام السوري وتنظيم الطليعة المقاتلة. وأعتقد أن تسليط الكتاب الضوء على هذه المحطة الإخوانية، وإن كان جزئياً، مهم جداً إذا ما أردنا فعلاً فهم السياق العام للسبعينيات والثمانينيات الذي ترك بصماته العميقة إلى لحظاتنا هذه، وخاصة حينما يحاول الإخوان ومعهم أصوات من المتأخونين حديثاً تصوير الثورة السورية وكأنها امتداد قسري للثورة الإسلامية الإخوانية في تلك المرحلة التاريخية من التاريخ السوري.
النقطة الثانية المهمة في هذا السياق هي رصدُ الكتاب مسارات الأسلمة للثورة السورية منذ بداياتاها. وهنا، لا يقع الكتاب في التبسيطات التي نقرؤها أحياناً والتي تصف الأسلمة كما لو أنها فعل جوهري في الذات التي انتفضت ضد نظام الأسد، بل يرى إليها بوصفها “ظاهرة طارئة” (ص98) بفعل عوامل عديدة. لكنّه لا يتوسّع في شرح العوامل، ويكتفي بالإشارة إلى عسكرة الثورة جهادياً ومسائل أسماء الجُمَع الإسلامية التي زينت الحراك السوري وأعطته وجهاً إسلامياً والتي ساهمت أيضاً في تطييف خطابه. وهنا ينتقد الكتاب المعارضة السورية لا بسبب سكوتها فحسب على مظاهر الأسلمة، بل كذلك مساهمتها فيها.
“مجانين الجهاد، سنة وشيعة” و”صراع الإسلاميين على الإسلام”
أما الفصل الثالث (صفحات من سيرة إسلاميين في الثورة السورية)، فقد بدا أكثر تخصّصاً في معالجته التي تطرقت إلى اثنين من أهم التنظيمات الجهادية السورية، وتحديداً “جبهة النصرة” و”جيش الإسلام”، هذا فضلاً عما اعترى حراس الجهاد هؤلاء (أو ما يسميهم الكتاب عن حق “مجانين الجهاد، سنة وشيعة”) من صراعات بينية وعسكرية، أحبُّ أن أُطلِق عليها “صراع الإسلاميين على الإسلام”.
وأخيراً، يبدو الفصل الرابع (التوظيف السياسي للدين في المجتمع السوري خلال الحكم الأسدي)، وقد اعتراه بعض التكرار لأفكار سبق للكتاب التأكيد عليها في كثير من مواضعه. بيد أنه يعالج بشكل مهم المسألة الطائفية، ويضيف ملحقاً صغيراً حول العلويين السوريين وبعض الجوانب التاريخية المتعلّقة بدورهم في التاريخ السوري المعاصر، ثم استخدام النظام لهم في سعيه لتثبيت سلطته. ولا ينسى الكتاب التشديد على نقض مقولة “عَلويّة” النظام السوري التي أشاعها بعض المثقفين السوريين، ويذهب لتأكيد الاستثمار الطائفي للنظام في العلويين واستغلاله لهم، لا من خلفية طائفية، بل سلطوية ارتهن بها الطائفة. وفي الفصل الختامي، يخلص الكاتب إلى نتيجة مفادها التمييز بين ثورتين شهدتهما سوريا، الأولى سورية شعبية سلمية تنشد الديمقراطية، والثانية إسلامية جهادية ذات مشروع ديني تسلّطي، تكاملت مع جهود النظام لإجهاض الثورة الأولى، السورية.
هذه بعض المواضيع المهمة التي تطرق إليها الكتاب، ولا يمكن هنا الإحاطة بكل ما أتى عليه. بيد أن هناك نقاطاً يلزم التعليق عليها، لا أعتبرها نقداً للكتاب بمقدار ما هي أسئلة يمكن التوسع بها لاحقاً.
النقطة الأولى اصطلاح “الإسلاميين” نفسه، الكتاب قائم بجوهره على تناول نقدي للإسلاميين في السياق السوري (وهو قد تعنون به)، وبالتالي كان من المركزية بمكان تقديمه ببضع من الصفحات حول ما الذي يعنيه بهذا الاصطلاح، والزاوية النقدية والمنهجية التي ينطلق منها في معالجته للاصطلاح والظاهرة المتطرّق إليها في الكتاب، بدل الاكتفاء بالتمييز بينهم وبين المسلمين، على نحو ما سار الفصل الأول (دين المسلمين وأيديولوجيا الإسلاميين).
خلط بين الإسلاميين الدعويين وبين الجهاديين
فالاصطلاح بقي مبهماً نسبياً، مما يسبب الخلط بين الإسلاميين الدعويين وبين الجهاديين كالقاعدة مثلاً. صحيح أن الفضاءات الأيديولوجية والمظلة الأصولية مفتوحة ومائعة بين الظاهرتين، الجهادية والإسلاموية (والاتصالات بين الإخوان السوريين والجهاديين الأفغان مثال مهم تطرق إليه الكتاب)، بيد أن الإسلامي حينما يتحول إلى جهادي أو العكس، فإن مساراته الفكرية والحركاتية تشهد بعض الانزياحات والتبدّلات، فهذا التحول يفرز مسارات سوسيولوجية ودينية مختلفة تماماً (الجولاني مثلاً)، وحتى الأولويات والقيم تختلف بين الظاهرتين الإسلاموية والجهادية (مثل التبجح الإخواني بالديمقراطية وكفر الجهاديين بها)، رغم القرابة بين الكل. فلا يمكن التعامل مع الإخواني وظاهرته الإسلاموية بالطريقة نفسها لتعاملي مثلاً مع الظواهري، رغم أن هذا الأخير قد خرج من عباءة الإخوان، وقل الأمر نفسه على شخصيات سورية تقارب هذه النماذج.
النقطة الثانية هي إشارة الكتاب إلى مسألة الإصلاح الديني والإسلام السياسي، والتأثير الكولونيالي، سلباً وإيجاباً، في هذه المسألة، وتذكيرنا برواد الإصلاح الإسلامي في مسار ما يسمى بالنهضة العربية، من غير إظهار الرابط الجوهري بين فشل هذه الأصوات وبين الإسلام السياسي.
الملاحظ أنّ الكتاب احتفى بهذه الأصوات إلى حدّ ما، من غير قراءتها نقدياً في سياقها التاريخي، في حين أرى إحدى إشكالات خطاب الإسلام السياسي (إضافة إلى الإشكال الكولونيالي) هي أساساً مشكلة الخطاب الديني الإسلامي نفسه، وخاصة ذاك الذي يدعى بـ «الإصلاحي»، فخطاب الإسلام السياسي هو في عمقه، وفي معظم مراحله، لم يُمثّل سوى «الواجهة السياسية» للخطاب الديني، أو قلْ لفشله.
من الصعب نقدياً، فصل الخطابين عن بعضهما، وخاصة في لحظات التأسيس في القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، ذلك أنّهما لم يُشكّلا، عمقاً، سوى نظائم دينية متقاطعة. وفوق ذلك، لم يُشكّل الخطاب الإسلامي (سواء دُعي بـ «الإصلاحي» أم لا)، سوى الحاضن المعرفي والإيديولوجي لحركات الإسلام السياسي، وتحديداً الإخوان المسلمين. لدينا إشكال إلى هذه اللحظة حول معنى «الإصلاح»: كيف يتحول هذا الإصلاح بلحظة إلى أصولية؛ كيف أنّ سلفياً أصولياً مثل محمد رشيد رضا يخرج من «جبّة الشيخ» محمد عبده (وليس صحيحاً أنه «انقلب» على إصلاحيته في كتاباته العشرينية)، وسيد قطب يخرج من جبة الإصلاح والمودودي، والخميني من نظيمة علي شريعتي إلخ. هؤلاء الأفراد لا يمثلون ظواهر منعزلة بعضهم عن بعض ولا حتى عن السياق الثقافي الإسلامي المتأزم الذي اصطدم بالحدثة لا من «داخلـ»ـها، بل من «خارجـ»ـها.
“الاستثمار الطائفي للنظام في العلويين واستغلاله لهم”: الكتاب “يعالج بشكل مهم المسألة الطائفية، ويضيف ملحقاً صغيراً حول العلويين السوريين وبعض الجوانب التاريخية المتعلّقة بدورهم في التاريخ السوري المعاصر، ثم استخدام النظام لهم في سعيه لتثبيت سلطته. ولا ينسى الكتاب التشديد على نقض مقولة “عَلويّة” النظام السوري التي أشاعها بعض المثقفين السوريين، ويذهب لتأكيد الاستثمار الطائفي للنظام في العلويين واستغلاله لهم، لا من خلفية طائفية، بل سلطوية ارتهن بها الطائفة. وفي الفصل الختامي، يخلص الكاتب إلى نتيجة مفادها التمييز بين ثورتين شهدتهما سوريا، الأولى سورية شعبية سلمية تنشد الديمقراطية، والثانية إسلامية جهادية ذات مشروع ديني تسلّطي، تكاملت مع جهود النظام لإجهاض الثورة الأولى، السورية”، وفق ما يكتب حمّود حمّود.
مسألة العلمانية – “دعوة الكتاب غير المباشرة للاقتداء بما حدث للمسيحية” – ولكن …
أمّا النقطة الأخيرة، فهي تتعلّق بحديث الكتاب عن العلمانية، حيث وردت فيه دعوة غير مباشرة للاقتداء بما حدث للمسيحية، نقلاً عن جورج طرابيشي، ص229، كونها “اكتشفت، بعد طول مقاومة، أن العلمانية أفادتها في استعادة بعدها الروحي بعدما كانت جرت مصادرته على مدى قرون، لحساب البعد الزمني.” هنا يمكن السؤال حول معنى استعادة المسيحية لبعدها الروحي من خلال العلمانية، وهل هذا ما جرى فعلاً مع المسيحية؟ أعتقد أن المقصود هو حصراً النأي بها عن السياسة، بيد أن المسيحية بحد ذاتها كدين لم يتم إصلاحه، حتى أن كثيراً من المؤرخين وصفوا القرن التاسع عشر، حيث ذروة الحداثة الأوروبية، بـ “القرن الطائفي” بسبب بدايات ولادة أشكال طائفية وأصولية مسيحية، وخاصة من العمق الإنجيلي البروتستانتي، الذي يفترض أنه سعى لتهديم السلطة الكاثوليكية. أما مسألة العلمانية، فقد أجبرت إجباراً، كما يقول أوليفيه روا، المسيحية على التخلي عن سلطاتها وأملاكها العامة لصالح سلطة الدولة (وهذا كان في فرنسا 1920)، وليس بسبب إصلاح بداخلها.
مؤكّد أنه ليس على الكتاب البحث بهذه الجوانب. بيد أنني رأيت الإشارة إليها من أجل بحثها لاحقاً وإغناء الأسئلة المركزية التي يطرحها الكتاب، والذي يمكن اعتباره في النهاية دعوة جدية مهمة لنا لأن نمعن في استحقاقات “الثقب الأسود” الإسلاموي وتفاعلاته الجوهرية مع النظام السوري، مما يدعونا إلى معاودة الأسئلة التي تصب في صميم تأزمنا.
حمّود حمّود
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022
ar.Qantara.de
حمّود حمّود كاتب وباحث سوري

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى