لتجميد الصراع السوري وبناء استراتيجية جديدة/ شارلز ليستر
ها قد دخلت الأزمة السورية عامها الثاني عشر. ورغم أن الأعمال العدائية العسكرية قد تبدو في أدنى مستوياتها على الإطلاق، فنادراً ما بدت احتمالات الاستقرار الهادف أسوأ مما هي عليه الآن. فقد وجّه الاجتياح الروسي لأوكرانيا ضربة قاصمة لجميع المبادرات الدبلوماسية بشأن سوريا، وأثار موجة متجددة من التضخم المتصاعد، وأدى إلى حدوث أزمة غذاء عطلت البلاد عام 2022. بالنسبة للملايين الذين يعيشون تحت حكم النظام، فقد باتت الحياة اليومية اليوم أسوأ مما كانت عليه خلال ذروة الصراع المسلح قبل سنوات. وبالنسبة لملايين السوريين النازحين داخل البلاد وخارجها، فلا داعي للتفكير في العودة إلى سوريا، أو إلى ديارهم الأصلية.
الأهم من أي شيء آخر أنه من المرجح أن يكون لأزمة الغذاء في سوريا أكبر تكلفة على رفاهية الإنسان، والنقص غير المسبوق في القمح مثير للقلق بدرجة كبيرة. فنتيجة لسنوات الجفاف المتتالية، من المتوقع أن يكون محصول القمح المحلي في سوريا في عام 2022 ما يقرب من 25 في المائة من متوسط السنوات الأخيرة، وخطط روسيا لمضاعفة هذا المعدل الآن غير مطروحة على الطاولة بسبب الحرب في أوكرانيا. حتى «برنامج الغذاء العالمي»، الذي عادة ما يكمل إمدادات القمح السوري، غير قادر على المساعدة، حيث يجري الحصول على القمح الذي تحتاج إليه المنطقة من أوكرانيا. ومع عدم وجود حل مطروح على الطاولة، يبدو أن سوريا على الأرجح ستعاني من المجاعة هذا العام. الوضع المجاور في لبنان أكثر خطورة، حيث يأتي 95 في المائة من واردات القمح من روسيا وأوكرانيا، ولديه فقط 3 – 4 أسابيع من مخزون القمح الاستراتيجي بعد تدمير الباقي في انفجار ميناء بيروت في أغسطس (آب) 2020.
وفيما يستمر انهيار سوريا لتصبح دولة فاشلة، تستمر أيضاً جرائم النظام. ففي ضواحي دمشق، يجري الآن تدمير مساحات شاسعة من المناطق السكنية ذات الكثافة السكانية العالية، التي كانت خاضعة لسيطرة المعارضة في السابق. وادعاءات السلطات أن عمليات الهدم الجماعي ليست سوى جزء من عملية إزالة الألغام ليس لها أساس في الواقع ولا المنطق. الحقيقة هي أن ما يجري من إزالة ليس سوى أحدث مرحلة في حملة استمرت لسنوات من قبل النظام لسرقة ممتلكات أو إزالة أي حقوق سكنية أو أرض أو ملكية يمتلكها من يتصور النظام أنهم خصومه. وهذا دليل إضافي على أن النظام، على عكس مزاعمه، لا يريد عودة اللاجئين السوريين على الإطلاق.
يسعى النظام أيضاً لترسيخ مكانته الجديدة كدولة مخدرات ذات أبعاد عالمية. فقد ثبت الآن أن شبكة من رجال الأعمال المرتبطين بالنظام، تقف وراء عمليات إنتاج مخدر «الكبتاغون» من النوع المتطور تشمل مصانع في حمص وحلب واللاذقية وطرطوس ودرعا. وتقوم على توزيع وتهريب المخدرات الفرقة الرابعة لماهر الأسد وأحياناً «حزب الله» اللبناني. قامت السلطات الأردنية بتعقب مهربي «الكبتاغون» عند عودتهم إلى قواعد الفرقة الرابعة، وقتل عناصر من «حزب الله» في اشتباكات على طول الحدود الأردنية. ورغم إعادة التواصل مع دمشق، فقد ازداد انعدام الأمن على حدودها.
في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2022، صادرت السلطات في الأردن ودول خليجية وحدها مخدر «كبتاغون» بقيمة تفوق 500 مليون دولار جرى تصنيعه في سوريا، مع مصادرات أخرى في قارات متعددة. في عام 2021، استولت جهات إنفاذ القانون على «كبتاغون» بقيمة 3.5 مليار دولار سوري الصنع في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا. ووفقاً لخبراء الجريمة المنظمة، فمن المرجح أن يكون الحجم الإجمالي لتهريب المخدرات السورية على الأقل خمسة أضعاف المبلغ الذي تم ضبطه، لذلك كان عام 2021 سيحقق ما لا يقل عن 17.5 مليار دولار من العائدات، وهو ما يعادل 25 ضعف قيمة تجارة الصادرات السورية المشروعة. ولذلك فإن بيع المخدرات هو حرفياً شريان الحياة للنظام.
كما أظهرت التقارير الإعلامية الأخيرة أنه لا يزال هناك الكثير لنتعلمه عن حجم ونطاق جرائم النظام. ففي حين كشف المنشق المعروف باسم «قيصر» عن استخدام النظام وسائل للتعذيب المميت للعالم في عام 2014، وكشفت المخابرات الأميركية عن استخدام النظام للمحارق لحرق جثث آلاف السجناء المقتولين في عام 2017، فإننا لم نعلم إلا الآن فقط بمواقع التعذيب وعن مقابر جماعية حفرها النظام لإخفاء جثث الرجال والنساء والأطفال الذين قتلوا في السنوات الأولى للأزمة. وهناك المزيد من هذه الاكتشافات في المستقبل، مع ظهور منشقين جدد، واستمرار التحقيقات الجارية.
ومع وضع مثل هذه المعلومات في الاعتبار، يتعين على المجتمع الدولي أن يظل حازماً في عزل النظام وتهيئة الظروف التي تجعل التسوية السياسية العادلة أكثر قابلية للتطبيق. إن إعادة التعامل مع النظام يعني التغاضي عن جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها رغم أن المدعين الدوليين لديهم أدلة أكثر مما تم جمعه ضد هتلر والحزب النازي في محاكمات نورمبرغ. والدعوة إلى التطبيع مع النظام هي افتراض أن القيام بذلك سيغير سلوكه، وهو أمر لا أساس له في الواقع. يجب أن يتطلع العالم بأسره والشرق الأوسط، على وجه الخصوص، إلى مستقبل أكثر استقراراً لسوريا، لكن في ظل حكم الأسد، لن ترى سوريا إلا البؤس.
النهج الدولي الحالي تجاه السياسة السورية لا يعمل، وقد أدى اجتياح روسيا لأوكرانيا إلى إضعاف فرصها في تحقيق المزيد من النجاح. ومع ذلك، هناك طريقة أخرى: يتعين على المجتمع الدولي التركيز على تجميد وبناء استراتيجية، وهو نهج يركز على تجميد خطوط السيطرة عبر الشمال والابتعاد عن المساعدة الإنسانية الطارئة وتبني نهج أكثر استراتيجية لتحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار المستهدف عبر المناطق التي لا يسيطر عليها النظام. يجب أن يكون الهدف هو تحقيق الاستقرار في المناطق الخالية من سيطرة النظام والاستثمار في تعزيز قدرة المجتمعات المحلية على الاكتفاء الذاتي – إنشاء مناطق مستدامة تتمتع بحرية نسبية للتنافس مع نموذج النظام الفاشل المتمثل في الفساد والوحشية. عندها فقط يمكننا تمكين السوريين من المطالبة بقدر ما من التغيير، وخلق النفوذ اللازم لخلق عملية دبلوماسية هادفة أكثر واقعية.
* خاص بـ«الشرق الأوسط»
الشرق الأوسط