الوجود الإيراني في الحسكة السورية دور متنامي ومصدر تهديد مباشر للقوات الأمريكية/ محمد حسان سامر الأحمد
خلال شهر شباط الماضي ومطلع شهر آذار الحالي، استقدمت ميليشيات الحرس الثوري الإيراني المتواجدة في محافظة الحسكة، العديد من شحنات الأسلحة والمعدات العسكرية، في مساعي لتعزيز وجودها العسكري والأمني في المحافظة التي تعد أغنى المحافظات السوريا بالثروة النفطية والزراعية.
وبحسب أحد العاملين في مطار القامشلي في محافظة الحسكة: “إن ثلاثة شحنات إيراني وصلت المطار خلال شهري شباط الماضي وآذار الحالي، شحنتين منها كانت محملة بأسلحة وذخائر متنوعة، اما الشحنة الثانية كانت معدات لوجستية وقرابة 50 طائرة درون صغيرة، خاصة بالتدريب على جمع الصور والمعلومات التجسسية”.
المصدر أكد ” أن جميع شحنات الأسلحة تم نقلها بطائرات يوشن، كانت قادمة من محافظة دير الزور، وتم نقل جميع تلك الشحنات من المطار إلى فوج طرطب الذي تسيطر عليه المليشيات الإيرانية وقوات من الفرقة الرابعة في جيش النظام، ويقع الفوج في الجهة الجنوبية الشرقية من مدينة القامشلي بالقرب من حي زنود”.
زيادة القدرات العسكرية واللوجستية للمليشيات الإيرانية في محافظة الحسكة، ازداد منذ مطلع عام 2022، بعد أن كان وجودها يقتصر على مجموعات عسكرية صغيرة وبعض المليشيات المحلية المدعومة من إيران، لكن الأحداث الأخيرة فتحت المجال لها للتغلغل داخل المجتمعات المحلية، مستغلة تراجع الدور الروسي في المنطقة وخلافات العشائر العربية مع الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية.
بداية الوجود الإيراني في الحسكة
يعود الوجود الإيراني في محافظة الحسكة إلى بداية عام 2013، وكانت بداية الوجود عبر وصول قادة ميدانيين من حزب الله اللبناني إلى المحافظة، وكانت مهام هؤلاء القادة تدريب قوات النظام ومليشيات الدفاع الوطني على حرب العصابات، إضافة لإدارة الجانب الأمني ضمن مطار القامشلي، الذي كان يعتبر الجسر الوحيد الذي يربط المحافظة بالعاصمة دمشق، بعد سيطرة الجيش السوي الحر والفصائل الإسلامية على إجزاء واسعة من محافظة دير الزور وريف الحسكة وبالتالي عزل قوات النظام برياً.
وجود حزب الله تلاه وصول قادة عسكريين من الحرس الثوري الإيراني عام 2014، واستمر هذا الوجود في المحافظة وداخل مطار القامشلي حتى عام 2015، حيث انسحب حزب الله من المحافظة إلى محافظة دير الزور التي كان النظام فيها يتعرض لهجمات عنيفة من تنظيم “داعش” الذي سيطر على جميع المناطق التي كانت تحت سلطة فصائل الجيش السوري الحر وجبهة النصرة.
في عام 2018 وبعد طرد تنظيم “داعش” من أرياف محافظة الحسكة على يد قوات سوريا الديمقراطية، وتوجه المعارك إلى محافظة دير الزور، عادت إيران لأرسال ضباط من الحرس الثوري الإيراني إلى محافظة الحسكة، تحت مسمى مهام استشارية، وتمركز هؤلاء الضباط داخل مطار القامشلي واستمر وجودهم داخله حتى عام خريف عام 2019.
الوجود الإيراني في مطار القامشلي أنتهى بعد عملية “نبع السلام” التركية داخل الأراضي السورية، والتي انتهت بموجب تفاهمات روسية تركية ضمن شروط محددة من بينها، وجود قوات روسية في مطار القامشلي، لتنتهي بذلك هيمنة الجانب الإيراني على المطار والتي استمرت لفترات طويلة، كما قامت روسيا، بدعهم أجهزة النظام السوري الأمنية في محافظة الحسكة وخاصة المخابرات الجوية، لتضييق الخناق على الوجود الإيراني في المحافظة.
الاتفاق الروسي التركي ودعم روسيا لأجهزة النظام الأمنية، دفع الإيرانيين للانسحاب والتمركز داخل فوج طرطب والذي كان يخضع لسيطرة الفرقة الرابعة في الجيش السوري، لكن الإيرانيين تمكنوا خلال العام الماضي ومطلع هذا العام من العودة للتمدد والسيطرة على عدد من النقاط الحيوية داخل محافظة الحسكة، سواء بطرق مباشرة عبر وجودها العسكري أو من خلال ميليشيات محلية تدعمها إيران الآن وجميعها من المكونات العشائرية في المحافظة.
الوجود الحالي
يمكن تحديد الوجود الإيراني العسكري في محافظة الحسكة في ثلاث نقاط رئيسية داخل المحافظة، وجميع تلك النقاط تتمركز في القسم الجنوبي الشرقي للمحافظة.
أول مراكز الوجود الإيراني هو فوج طرطب أو ما يعرف أيضاً بالفوج 54، الواقع في الجهة الجنوبية الشرقية لمدينة القامشلي، ويعتبر أكبر القواعد العسكرية في المحافظة، والذي يضم قوات من الجيش السوري وقوات تتبع للمليشيات الإيرانية.
إيران بدأت خلال الفترة الماضية بمشروع توسعة داخل الفوج، للعمل على أنشاء وحدات سكنية بهدف استيعاب عدد عناصرها والمليشيات الموالية لها المتزايد، وأوكلت إيران لمؤسسة الإنشاءات العسكرية السورية مهمة تنفيذ مخططات التوسعة، وتعتبر هذه التوسعة الأولى من نوعها داخل الفوج.
المركز الثاني للوجود الإيراني في المحافظة هو، مركز الثروة الحيوانية والذي تتخذه المليشيات الإيرانية كمقار ومستودعات أسلحة تابعة لها، ويقع المركز بين فوج طرطب ومطار القامشلي، إضافة لمبنى الحبوب القريب من مركز الثروة الحيوانية.
المركز الثالث للوجود الإيراني في الحسكة، هو فرع الامن العسكري في مدينة الحسكة، والذي يتبع لإيران، ويعتبر هذه المركز النقطة الوحيدة للإيرانيين داخل مركز المدينة، ويقع فرع الأمن العسكري في المربع الأمني وسط المدينة الذي يسيطر عليه النظام السوري.
أما المركز الرابع والأخير للوجود الإيراني في المحافظة، يقع ضمن مكتب النقل الموجود على طريق M4، الواقع في الجهة الجنوبية لمدينة القامشلي ويعتبر هذا الموقع مركز إدارة النشاط الإيراني في محافظة الحسكة، ويضم عدد من القادة في المليشيات الإيرانية واللبنانية.
وكانت إيران قد خسرت في عام 2021، أهم مراكز وجودها في مدينة القامشلي ضمن المحافظة، بعد سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على حارة طي، والتي كانت إيران قد نجحت في شراء ولاء ميليشيات الدفاع الوطني التي كانت تسيطر على المنطقة ذات الغالبية العربية من عشيرة طي، وجعلتها أحد أهم حلفائها في المنطقة.
أكثر من ألف عنصر
عمل كل من الحاج علي الإيراني، والحاج مهدي اللبناني خلال العامين الماضية على مد جسور صلة مع قادة كتائب الدفاع الوطني، وافتتاح معسكرات تدريب لهم داخل الفوج 54، وقدم لهم سلاح خفيف ومتوسط مثل رشاشات 14.5 و مدافع 23 ويتم تدريب بعض عناصر النخبة من المنطقة وذلك بأخذهم الى معسكرات ايرانية يشرف عليها قادة من حزب الله في محافظة دير الزور أو في منطقة الديماس في دمشق، ويعودون بعد ٣ اشهر من تلقي التدريبات هناك.
ويلاحظ عليهم تغير سلوكهم ولباسهم والشارات الشيعية على بزاتهم العسكرية وسماع اللطميات الشيعية، وينقسم هؤلاء بين حزب الله وميليشيات زينبيون وفاطميون المتواجدة في المحافظة، ويقدر عدد المنتسبين رسميا بنحو 250 عنصر، أما العناصر الذين تدربوا في معسكرات القامشلي وبقوا ضمن صفوف الدفاع الوطني ولكنهم موالون لإيران ربما يتجاوز عددهم 900 عنصر، بعضهم يذهب بشكل مستمر وروتيني الى مناطق غرب الفرات والبعض الآخر يعتبر خلايا نائمة يعمل على توسيع القاعدة الشعبية لإيران في المنطقة.
محاولة إيران نسج تحالف مع قبيلة طي
في شهر نيسان عام 2021، شهدت حارة طي الواقعة في مدينة القامشلي، والتي تقطنها مكونات سكانية من عشيرة طي العربية، خلافات حادة بين ميليشيات الدفاع الوطني المشكلة من أبناء العشيرة وقوات سوريا الديمقراطية، هذا التوتر تطور لاندلاع اشتباكات عسكرية بين الدفاع الوطني في الحي وقوات سوريا الديمقراطية.
خلال فترة التوتر كانت ميلشيات الدفاع الوطني في تلك المنطقة تتبع للنظام السوري، لكن مع تخلي النظام السوري عنها خلال مواجهتها مع قوات سوريا الديمقراطية، بدأت تلك المليشيات إضافة للشخصيات العشائرية المتزعمة لقبيلة طي بالبحث عن داعم لها في حربها ضد “قسد”، خاصة أن كفة المواجهة بين الطرفيين لم تكن متوازنة.
إيران وجددت في هذه الحادثة فرصة لها، حيث بدأت بدعم بعض وجهاء قبيلة طي وميليشيات الدفاع الوطني المشكلة من أبنائها عسكرياً وسياسياً في حربها ضد قوات سوريا الديمقراطية، ما عزز العلاقة بين الطرفين، وبالرغم من نجاح “قسد” في السيطرة على حي طي بعد أيام من المعارك، إلا أن إيران تمكنت من إيجاد تحالف مع أبناء القبيلة، الذين تجهزهم ليكونوا رافدًا مهماً للمليشيات الإيرانية بالعنصر البشري.
علاقة إيران مع وجهاء قبيلة طي ليست وليدة حادثة حي طي، ففي عام 2019 زار وفد من وجهاء القبيلة العاصمة الإيرانية طهران، بناء على دعوة رسمية من الحكومة الإيرانية، لتنسيق العمل مع أبناء القبيلة، والتي كانت منقسمة داخلياً على مستوى الولاء بين إيران والنظام السوري وروسيا، لكن معركة طي مع “قسد” وتخلي النظام وروسيا عن أبناء القبيلة في مواجهة “قسد”، نقل ولاء القبيلة الكلي إلى إيران بوصفها الداعم الوحيد لها في تلك المواجهة.
علاقة إيران مع قبيلة طي العربية في الحسكة، تلخص سياسة إيران في كسب المجتمعات المحلية وخاصة المكون العربي القبائلي في الحسكة، والمرتكزة على استغلال الخلاف العربي الكردي وعدم قبول المجتمعات العربي في الحسكة وعموم مناطق سيطرة الإدارة الذاتية للإذعان للهيمنة الكردية على السلطة والثروات.
إيران الآن تحاول الاستثمار في تحالفها مع قبيلة طي وبقية المكونات العشائرية في المحافظة، لرفد ميليشياتها العسكرية بمقاتلين من أبناء تلك القبائل والعشائر، إضافة لإعطاء وجودها في المحافظة صبغة شرعية مستمدة من قبول المجتمع المحلي لها بوصفها أحد أهم داعميه.
إيران تحرض على الوجود الأمريكي
تستغل إيران وجودها العسكري في محافظة الحسكة على عدة مستويات أهمها، أولاً، تعزيز سلطتها داخل المنطقة والتي تتنامى مؤخراً بشكل لافت، وتهدف من خلال هذا الوجود للتمدد شرقاً في المحافظة لفرض هيمنتها على كامل الشريط الحدودي مع العراق خاصة معبر اليعربية الحدودي، خاصة أنها تسيطر الآن على معبر البوكمال وكامل الشريط الحدودي المقابل لمحافظة دير الزور مع العراق وأيضاً أجزاء منه في محافظة حمص جهة الشرق.
فمعبر اليعربية يعتبر أحد أهداف إيران في المرحلة المقبلة وهذا يعطيها الكثير من الميزات، أولها السيطرة بشكل كلي على المنافذ الحدودية بين سوريا والعراق، ثانياً، تسهيل نقل ميليشياتها بين الحدود خاصة القادمة من العراق، ثالثاً السيطرة على الرسوم الجمركية للتجارة العابرة عبر الحدود وأيضاً تجارة المخدرات والدخان، التي تعتبر أهم مصادر دخل المليشيات خارج الدعم المقدم لها من الحكومة الإيرانية.
أما الهدف الثاني لإيران والذي تعمل عليه، هو تحريض المجتمعات المحلية لمحاربة الوجود الأمريكي في شمال شرق سوريا ومحاولة دعم تلك المجتمعات في مناهضة هذا الوجود، والذي لم يعد يقف عند حد التحريض واعتراض الدوريات الأمريكية، بل بات مؤخرا يشهد عمليات قصف عسكري يستهدف قواعد أمريكية في الحسكة غالباً تقف خلفه إيران والموالين لها في المحافظة.
ففي عام 2021 تعرضت نقاط تابعة لقوات سوريا الديمقراطية في محافظة الحسكة لقصف صاروخي يبدو أنه كان يستهدف القاعدة الأمريكية في الشدادي دون أن يطالها، وفي الأول من كانون الثاني الماضي، أبطل التحالف الدولي هجوماً صاروخياً كان موجهاً نحو القاعدة الأمريكية في حقل العمر بمحافظة دير الزور.
بدورها، استهدفت القوّات الأمريكية في السادس من كانون الثاني، منصة إطلاق صواريخ تابعة لميليشيا “حزب الله العراقي” قرب “الميادين”، وقصفت بالمدفعية عدداً من المواقع التابعة للحرس الثوري الإيراني قرب “البوكمال” بريف دير الزور.
ويلاحظ أن التصعيد الذي بدأته إيران ضد القوات الأمريكية تزامن مع الذكرى الثانية لاغتيال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري “قاسم سليماني” بغارة جوية قرب مطار بغداد مطلع عام 2020، وهو ما يعكس تأكيد إيران على الالتزام بخيار الرد وتوسيع نطاق الاستهداف ليشمل سوريا بعدما كان يقتصر على العراق.
ويبدو أنّ إيران تريد التأكيد أيضاً على قدرتها على استخدام الخيار العسكري ورفع وتيرته فيما لو تعرضت لمزيد من الضغوط الميدانية الأمريكية في سوريا والعراق. إضافة إلى تجديد الرفض لإدراج الوجود العسكري الإيراني في المنطقة بالمفاوضات النووية مع الولايات المتحدة.
كما يمكن القول: إن إيران تريد دفع الولايات المتحدة لمزيد من عمليات إعادة الانتشار لوجودها العسكري في سوريا والعراق، بما يقود إلى سيناريو الانسحاب الكامل كما حصل في أفغانستان.