“سأنتظره ولو في بطن تراب هذا البلد اللعين”…سوريا بلد المفقودين الحزين/ خليفة الخضر
في اليوم الأول لي في الجامعة، فقدت إلى والدي الذي كان يرافق كل واحد من إخوتي إلى الجامعة في يومه الأول ويبقى طول اليوم معه، لكنه لم يستطع الوفاء بنذره معي.
على هامش أحد معارض الرسم في مدينة أعزاز شمال حلب، لعدد من المواهب الشبابية، التقيت شابة سورية تدرس الهندسة المعلوماتية في جامعة حلب الحرة، والدها مفقود في سجون النظام السوري منذ عام 2014، تتحاشى ذكر اسمه وتغير الموضوع مع انكماش ملامح وجهها كلما سألوها عنه في المعرض الذي يسلط جزء من لوحاته الضوء على قضية المعتقلين، تتحاشى الحديث كما تتحاشى اللوحات الخاصة بالمعتقلين، لاحظت هذا السلوك عليها، قلت لها: “سيظل كبيراً في عينك حتى لو شبحوه كما في اللوحات”.
دار حديث متقطع ومتواصل بيننا، طلبت منها الحديث عن نفسها وعن العائلة لا عن الوالد في حال لم ترد ذلك.
في النص تحدثنا رهف عن حياة عائلة المعتقل وانعكاسات المأساة على أفرادها والعلاقات التي تربطهم، هذا ما سردته:
كلما أشعر بالقلق، يتحول كل عضو في جسدي إلى أعضاء حارة جداً، ولو كنت في أشد درجات البرد، فلا تهدأ روحي إلا عندما أغلق على نفسي باب الغرفة وأشغل المروحة إلى أعلى درجة أو أستحم بماء بارد، عندها يهدأ قلبي من القلق. رافقتني هذه الحالة منذ يوم اعتقال والدي، في أيلول/ سبتمبر 2014. كان الطقس حاراً جداً يومها، في سيارة نقل صغيرة تم اعتقاله على حاجز تابع للنظام السوري في مدخل مدينة حلب… لا أريد تذكر هذه الحادثة لكن سأكمل لك، رجاني ترجي الركاب والسائق ألا أنزل ولا اتلفت ورائي وإن كان لوالدي عمر سيعيش، خافوا من أن أتعرّض لأذى أو أن يتم اعتقالهم.
وصلت إلى مدينة حلب ولم يتركني السائق حتى شاهدني أدخل منزل عمتي في حي السريان، قلت لعمتي إن والدي اعتُقل ولا أعرف أين أخذوه، بدأت تصرخ وتندب حظها والأوضاع وتشتم عائلة من حينا شاركت في الثورة، معتبرةً أنها السبب!
زوج عمتي نقيب ضمن فرع الأمن السياسي في حلب، رفض إلحاحها بالبحث عن مصير أخيها ومكانه وتهمته، سمعته يقول لها: “نحن من الريف وكل ضابط يترصد زلات الآخر ويريد أن يمتطي على غيره حتى يترفع وعندما تنتهي الأزمة يكون اكتسب شيئاً من الترفع، في حال سألت عليه سيضعون قرب اسمي نقطة حمراء، علماً أنني من بلدة معظم الضباط والشرطة فيها انشقوا عن الجيش، سأحاول السؤال عنه من بعيد”.
مر فصل دراسي على اعتقال والدي من دون أن أتعلّم أي شيء مما قيل في صفوف كلية الأدب الفرنسي في جامعة حلب.
قررت العودة وعزمت عمتي أن ترافقني خوفاً علي، ذهبت معي إلى الكراج وحاولت أن تقنع سائقي الحافلات الصغيرة بأخذنا إلى خان العسل، قالوا لها ألا مانع لديهم ولكن سيكون طريقنا من مناطق الدواعش وفي حال لم يكن معنا محرم (في مناطق سيطرة تنظيم الدولة، غير مسموح أن تمشي أو تسافر الأنثى وحدها دون وجود محرم أي قريب ذكر من الدرجة الأولى) لذلك الحل موجود ولكن واحدة فقط ستسافر، عبر عقد زواجها على أحد المسافرين في مدة زمنية لا تتعدى دخولنا مناطق سيطرة الجيش الحر، وهذه حيلة برع فيها السائقون، لتهريب النساء من مناطق “داعش”، مقابل أضعاف أجرة الراكب العادي. تزوجت راكباً جلس بجانبي، ظل السائق عند كل استراحة يهمس في أذني ألا أنسى اسم زوجي وإلى أين نحن ذاهبون.
من حلب إلى حلب تحتاج أن تغير زيك واسمك وتُزَور هويتك وتنام في منازل غريبة وتحترف الكذب على الحواجز، سنمر كما مررنا في طريق دخولنا إلى حلب، بحاجز للدولة الإسلامية في منبج والباب وحواجز للجيش السوري واللجان الشعبية و”حزب الله” بين السفيرة وخناصر وحواجز لجبهة “النصرة” وللجيش الحر في أعزاز وللأكراد في عفرين…
ومن ثم أصل إلى منزلنا، مع العلم أن بين منزلنا في حي خان العسل وبين بيت عمتي في حي السريان لا يستغرق الطريق ثلث ساعة في السيارة قبل إغلاق الطرق بين حلب وحلب!
استغرقت الرحلة 12 ساعة لكنها كانت طويلة، مع والدي لم أشعر بالوقت ولا بصعوبة الطريق والطرق المتعرجة والوعرة، مع والدي لم أكن أشعر بالتعب، عند وصولنا إلى الكراج في مدينة الأتارب، طلقني زوجي المفترض لأنه يسكن في الأتارب، تأكد السائق بنفسه من إحراق عقد الزواج وعند نقطة مرتفعة تصل إليها تغطية الشبكة السورية، اتصل بعمتي وقال لها ” بنتك وصلت”، وأغلق الهاتف.
دخلت منزلنا، حضنتني أمي، لم يكن أحد من إخوتي في المنزل، كأن أمي حتى اللحظة وبعد خمسة أشهر من اعتقال والدي لا تزال تظن أن موضوع الاعتقال كذبة وأن والدي معي، رأيتها وهي تتمهّل في إغلاق الباب، لعلّه هنا…
اضطررت إلى تكرار سرد الحكاية مرات كثيرة، لا أحد استطاع فهم أن ذلك يفطر قلبي ويتعبني بالفعل. ثم أتاني صداع قوي وشبه دائم، كأنني أسمع أمي وإخوتي يردّدون: “أنت السبب ودراستك هي السبب… لا والدك خرج ولا أنتِ درستِ!”.
حاربت ذاك الصداع طويلاً عبر الأغاني… إلى أن حصل شجار بين أمي وأخي انتهى بتحميلي مصائب العائلة كلها التي اعتبر أخي أنني سببها!
العودة إلى الدراسة
قررت العودة إلى الدراسة إنما في كلية الهندسة المعلوماتية في جامعة حلب الحرة وهي جامعة لا تتبع للنظام وموجودة في مدينة الأتارب.
في اليوم الأول لي في الجامعة، فقدت إلى والدي الذي كان يرافق كل واحد من إخوتي إلى الجامعة في يومه الأول ويبقى طول اليوم معه، لكنه لم يستطع الوفاء بنذره معي.
داومت سنة في كلية الهندسة المعلوماتية في الأتارب، ولكنها انتقلت إلى بلدة الدانا وبعد نحو فصل دراسي هناك، قالوا لنا أن حكومة الإنقاذ التي تتبع لـ”النصرة” طلبت من الإدارة إما الانضمام لجامعة الشهباء التابعة لحكومتهم أو الرحيل من هنا. قرر الطلاب وأنا معهم، بدايةً، الرحيل إلى مقر الجامعة الجديد في مدينة أعزاز في حلب نفسها! داومت في جامعة حلب التي في المدينة وجامعة حلب التي في الأتارب وجامعة حلب التي في الدانا والتي في أعزاز، نصف عمري أمضيته على الطرق، بانتظار الحافلة، بانتظار الوصول.
لم أذهب إلى مقر الجامعة الجديد في مدينة أعزاز بسبب كثافة قصف الطيران وإغلاق الطرق، بين خان العسل ومدينة أعزاز.
نزحنا
زاد القصف على القرى المحيطة بخان العسل وبدأت تتناقص أعداد الناس، لا نملك قرية لنعود إليها، رفضت أمي قرار أن ننزح أنا وهي وأختاي إلى مدينة حلب حيث معظم إخوتها وأعمامي، ويظل أخوتي الذكور في إدلب لئلا يلتحقوا بالخدمة الإلزامية مع جيش بشار الأسد، رفضت أمي المقترح لأنها لا تريد أن تتفرّق عائلتها… تركنا كل شيء ولم نأخذ إلا جزء من ملابسنا، تركت أمي مفتاح البيت فوق الباب في المكان السري، حتى إذا ما عاد والدي يفتح الباب ويدخل.
نزحنا إلى مدينة الأتارب في بداية عام 2020، حين كان أهلها ينزحون أيضاً. ما إن استقررنا في المنزل حتى نزح الجيران من شدة القصف وكان علينا أيضاً النزوح، لم نكن نملك خبرة كافية في النزوح، “عيلة منعنعة” (مثل في بعض المناطق السورية، يقصد به أن الشخص لا يتحمل مصاعب الحياة) جيراننا نزحوا وأخذوا معهم أبواب الغرف والتمديدات الصحية وخزان المياه، ونزح آخرون ومعهم بلاط منزلهم.
ضعنا بين طرق القرى وكانت أمي تنتظر اتصالاً من خالي في أحد محلات الاكسبريس، ليستأجر لنا منزلاً أو يشتري لنا منزلاً في أي قرية حدودية حتى لا نبقى في الشوارع، وهذا ما حصل، أعطانا أحد أصدقاء والدي منزلاً في منطقة حارم، حتى عودة أبي من المعتقل.
بيت النزوح
مدينة حارم تبعد كثيراً من أعزاز حيث مقر الجامعة الجديد، رفضت أمي في البداية السماح لي بالذهاب لوحدي خوفاً علي من بعد المسافة ووحشة الطريق، لكنها اقتنعت بعدما كذبت عليها بأن هناك سيارة ستأخذنا وتعيدنا من أعزاز إلى حارم، جهزت نفسي وانتظرت تلك السيارة التي تخيلتها ولم تأتِ غير أن الوقت كان باكراً، طلبت من سيارة تكسي أن تقلني إلى عفرين، رفض السائق لكنه وافق أن يوصلني إلى دارة عزة ومن ثم انتظرت لمدة ساعة سيارة متجهة إلى أعزاز. انتهي بي الأمر أن اركب صندوق سيارة متجهة إلى مدينة الباب وحتماً سيمرون من مدينة أعزاز، كان في صندوق السيارة عدد من الأغنام وكلب نائم، نزلت عند مدخل مدينة أعزاز وكانت رائحتي من مخلفات الغنم، خجلت ولم أستطع أن أدخل إلى الجامعة، فعدت إلى حارم.
في بيت النزوح في حارم، بدأت تتغير علاقاتنا العائلية، لأننا افتقدنا والدي أكثر في هذه الغربة. في خان العسل، حيث منزلنا، لم يكن الشعور قاتلاً كما بدا في حارم. ازدادت شجاراتنا، لكن ما يجمعنا كان اليأس، إذ لا نملك أي خبر عنه ولا نعرف عن مصيره شيئاً.
كل شيء في بيت النزوح، مرتبط بوالدي، قرارنا بشراء غسالة أو شراء أثاث جديد، مرهون بوالدي، أختي رفضت عرساناً تقدموا لها، تنتظر خروج والدي، أخي نجح في الثانوية ولكنه يؤجل استكمال دراسته الجامعية حتى خروج والدي لكي يقترح عليه الاختصاص الأنسب له.
تشتري أمي كميات من الطعام والخبز، تحسب حساب حصة والدي من الطعام، عندما نجلس على الأرض لنأكل، تعدل والدتي من جلستها، تترك من دون أن تشعر مكان والدي فارغاً.
أمضيت أياماً مع القلق، وحين كنت أذهب إلى الحمام في الليل، كنت أسمع أصواتاً من غرفة أمي، أدركت أنها مقاطع فيديو على “يوتيوب” يذكرون فيها أسماء معتقلين خرجوا أو أشخاص يذكرون من رأوا في معتقلات النظام.
عندما انتشرت صور “قيصر” المسربة عمن عذبهم وقتلهم النظام في السجون، طلبت أمي أن نتأكد من كل الصور لعل والدي يكون معهم، كذب أخي الخبر وأختي قالت إنها لا تستطيع تخيل المشهد وخافت من مشاهدة الصور، في الليل وللتأكد من الأصوات المشوشة التي أسمعها، تلصصت عبر الشبكة على هواتفهم، كلهم وأنا منهم بحثنا عن صورة أبي بين الصور المسربة لعلنا نجده، أبي اعتقل بعد التقاط هذه الصور بحسب ما قرأت، لكنه الأمل يا صديقي!
قررت أمي أن تسمح لي بالسكن مع فتيات ضمن سكن طالبي في مدينة أعزاز لأجل دراستي، شريطة أن أعود مساء كل خميس إلى بيت النزوح. وافقت، وجدت عملاً في إحدى المنظمات الإنسانية الطبية كتقنية حواسيب، لم تمانع أمي وكنت أسلي نفسي في العمل والدراسة، أخذت الأيام تسير ببطء، علقت والدتي صورة والدي مع بارودة الصيد وسط غرفة المعيشة.
بين العمل في المنظمة الطبية والدوام الجامعي وبين الطرقات التي أقطعها كل أسبوع في العودة إلى بيت النزوح، سئمت صراحةً من همس الموظفين عني حول وجوب التعاطف معي بسبب وضع والدي، ويربطون كل تفاصيلي بأبي، إذا تأثرت بصورة مأساوية يقول إنني تذكرت أبي، وإذا ضحكت يتمتمون أنني نسيته…
وفي الجامعة أيضاً، عندما كان معدلي يتراجع، أسمع من يطالبه بتحسينه لأن والدي مفقود… إنهم لا يعرفون أن حزني على أبي أبعد من هذا بكثير، لكن حزني هذا علمني أن أقاوم وأجد سبيلاً حتى لا أستسلم.
هذا الضغط الاجتماعي دفعني إلى الكذب، صرت أخبر الناس أن والدي متوفٍ، أو أنه خرج وهو الآن في حلب، أي شيء، هرباً من نظرات التعاطف المزعجة.
يفكر أفراد عائلتي أحياناً بالسفر إلى أوروبا، لكنهم لا يبوحون، حتى لا يخرج السؤال المؤلم بسرعة: “وبابا؟”. وحين تحدث أبي بصراحة عن اقتراحه بالهجرة، رفضنا أمي وأنا. كان الحل أن نبيع المنزل في حي خان العسل وندفع ثمن منزلنا لمهرب يستطيع إدخالنا إلى تركيا عبر نفق من تحت الأرض، وافقت أمي على فكرة سفر إخوتي، لكنها رفضت بيع المنزل، سمعت روحها تقول: “بعد ما يطلع وين يروح؟”.
تولى خالي مهمة التواصل مع المهرب، وباعت أمي قسماً من أساور الذهب، ودخل إخوتي وأخواتي وأطفالهم إلى تركيا، أما أنا فقلت لهم، سأنتظر والدي، سنلحقكم بعد خروجه وسأمشي معه عبر النفق. عندما سمعت أصواتهم الداخلية تقول: وفي حال لم يخرج؟ قال لهم صوتي الداخلي: سأنتظره… وإن هو مات أو أنا، سيكون جثماني وجثمانه قريبين، في بطن تراب هذا البلد اللعين.
درج