هل الظرف ملائم لعملية تركية جديدة ضد قسد؟/ العقيد عبد الجبار العكيدي
في ظل انشغال العالم بالغزو الروسي لأوكرانيا، وصور جرائم الحرب المروعة في بوتشا وإربين وماريوبول، تشهد مناطق شمال شرق سوريا تصعيداً تركياً متواصلاً ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المتواجدة في المناطق القريبة من الحدود التركية. فمنذ مطلع شهر شباط/فبراير لم يتوقف الجيش التركي وحليفه الجيش الوطني عن قصف مواقع قوات قسد في مناطق شمال وشرق الحسكة ورأس العين وعين عيسى والدرباسية، ونقاط تواجدها على الطريق الدولي إم-4.
لعل القصف الكثيف والواسع جواً وبراً على مواقع قسد شمال شرق سوريا، دون ملاحظة أي حشود عسكرية كالتي حصلت في تشرين الأول/أكتوبر 2021، عقب سقوط قذائف هاون على مدينة قرقميش التركية كان مصدرها حزب الاتحاد الديمقراطي المتواجد بالقرب من مدينة عين العرب الحدودية، من الواضح أنه لا يشي بنية تركيا شن عملية عسكرية جديدة شرق الفرات في ظل الظروف الراهنة التي ربما يعتبرها البعض ملائمة، لانشغال روسيا والولايات المتحدة في حرب أوكرانيا.
تركيا بالتأكيد لن تضيع فرصة غرق الروس في المستنقع الأوكراني لإنهاء التزاماتها بتطبيق مذكرة سوتشي 2019، التي اعتمدت فكرة أن تكون الدوريات المشتركة أداة لمراقبة نشاطات وتحركات قوات سوريا الديمقراطية وحزب العمال الكردستاني، وكان من المفترض أن تساهم هذه الدوريات في تقليص حجم هذه الأنشطة وتدمير أو منع انشاء بنية تحتية جديدة، أو تلك التي كانت موجودة سابقاً، وتضمن تركيا خروجها من هذه المنطقة، ولكن عملياً لم يحصل شيء، مما حدا بتركيا الى الخيار الثاني، أي أن تقوم بدور رئيسي بإخراجها لكن ليس بالأسلوب العسكري المباشر وإنما بالأساليب المختلفة كما سماها الرئيس التركي في تصريحاته منتصف تشرين الأول 2021، أن “كفاح تركيا في سوريا سيستمر بشكل مختلف للغاية في الفترة المقبلة، سنخوض كافة أشكال الكفاح اللازم ضد تلك التنظيمات الإرهابية والقوات المدعومة أميركيا هناك، وكذلك ضد قوات النظام، ونحن عاقدون العزم في هذا الخصوص”.
يمكن لنا أن نلمس ملامح الاستراتيجية التركية الجديدة من خلال انخفاض معدل الدوريات المشتركة بين الجانبين، من خمسة الى ثلاثة حسب دراسة لموقع جسور، وازدياد ملحوظ في القصف الجوي والصاروخي ضد أهداف لحزب العمال الكردستاني وقسد في سوريا والعراق، واتباع سياسة العمليات الجراحية المحدودة بالغة التأثير من خلال تدمير بنك واسع من الأهداف لتلك التنظيمات الإرهابية، تشمل البنية التحتية، مقرات القيادة، مستودعات التسليح، طرق الإمداد، مراكز التدريب وكوادر الحزب والحواجز، وذلك دون المساس بمذكرة التفاهم والحفاظ على التنسيق مع روسيا ومنع التصادم العسكري والتبليغ عن قائمة الأهداف الثابتة والمتحركة التي سيتم ضربها.
مما لا شك فيه، أن بناء استراتيجيات تركية جديدة في مواجهة قسد، لا يمكن أن تتجاهل ردود الأفعال الأميركية، بل لعل أنقرة تدرك بوضوح أن نجاح أي عمل عسكري ضد خصمها التقليدي (قسد) ربما يكون مقروناً بعدم إثارة حساسية واشنطن، ولكن التوقيت ربما يكون هذه المرة لصالح تركيا التي باتت تجيد اختيار الفرص، بل يمكن التأكيد أن أنقرة لن تغفل عن حالة الدفء المتنامي بينها وبين واشنطن في الفترة الأخيرة، كما أنها لن تفوّت حاجة واشنطن -في ظل سوء العلاقة مع موسكو- إلى دور تركي فاعل في سوريا على وجه الخصوص، بل لعل مجمل الأوراق الأميركية على الساحة السورية ليست بعيدة عن التأثير التركي المباشر سواء في إدلب أو شرق الفرات، كما يبدو أن واشنطن لا تستطيع الاستغناء عن التفاعل الإيجابي لتركيا في مجمل تلك الأوراق، الأمر الذي يتيح لأنقرة أن تعيد حساباتها من جديد وتعزز تطلعاتها الاستراتيجية فيما تراه من أولويات.
لا داعي للتأكيد على أن تحجيم قسد وإلغاء تبعيتها لحزب العمال الكردستاني هي أولى الأولويات التركية، واذا كان الكابح لهذه الرغبة التركية في السابق هو الفيتو الأميركي-الروسي فإن هذا الفيتو قد فقد الكثير من قوته في الفترة الراهنة بسبب عدوان بوتين على أوكرانيا أولاً، وبسبب حاجة الطرفين الأميركي والروسي لتركيا ثانياً.
ربما بات من غير المستبعد أن ترى أنقرة بأن الوقت بات مناسباً للشروع بتنفيذ رغبتها، مستغلة ظروف انشغال كل الأطراف في الحرب الأوكرانية، ولعل ما تقوم به المسيرات التركية بشكل يومي من استهداف لمواقع قسد وقواعدها العسكرية يعد مؤشراً واضحاً على ذلك، إلا أنها تدرك جيداً الحساسية الأميركية من أي استهداف عسكري تركي لقسد، لذلك ربما لجأت إلى استراتيجية آخرى لا تعتمد الحشود العسكرية الكبرى والتهديدات الإعلامية المباشرة، وذلك لامتصاص حساسية واشنطن ولعملية أشبه بجس نبض الأميركيين، في المقابل تحرص واشنطن على الحفاظ على الدفيء المتنامي ولو كان قليلاً، مع تركيا.
على أيّة حال، لا يمكن الجزم بقيام هجوم تركي شامل ووشيك على قسد، إذ يبقى المنظور التركي موجهاً ليس صوب واشنطن فحسب، بل اتجاه موسكو أيضاً، ذلك أن ما يمنع تركيا من القيام بعملية عسكرية واسعة هو حرصها على أن يكون موقفها من الروس ايجابياً، للحفاظ على دبلوماسية الوساطة التي تقوم بها الآن بين روسيا وأوكرانيا، ولعلمها أن المكسب الذي يمكن أن تحققه من هذه الوساطة أكبر بكثير من تحقيق نجاح من عملية عسكرية محدودة لإبعاد قسد بضع كيلومترات عن حدودها.
القيادة التركية تدرك تماماً أن ما تشهده الساحة السورية من تواصلات بين الجانب الأميركي وبعض الأطراف المناهضة للأسد يدل بوضوح على أن رؤية أميركية جديدة ربما تطرح الآن، بل ربما تكون هذه الرؤية مقدمة لتعاطي جديد مع نظام الأسد وحليفه الروسي، وفي هذا السياق ثمة أوراق عديدة قابلة للاستثمار الأميركي لعل أبرزها قوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر على حيز كبير وهام من الجغرافيا السورية وتأتمر بالراعي الأميركي، ولكنها في الوقت ذاته تحتفظ بجسور مع روسيا ليقينها بأن الروس سيحمونها من الخطر التركي، لكن واشنطن لديها القدرة الكافية لعزل قسد كلياً عن موسكو وبطرق مختلفة، إذ يكفي أن ترفع الفيتو من أمام الجانب التركي لتصبح قسد هدفاً سهلاً للجيش التركي.
واشنطن بالتأكيد لا تريد على المدى المنظور القضاء على قسد، ولكن هذا لا يمنع من أن يكون التخلي الجزئي أو المؤقت عنها حافزاً لها وعاملاً ضاغطاً عليها في الوقت ذاته للابتعاد عن روسيا وعن نظام دمشق في آن واحد، وربما استشعرت قسد كل ذلك منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، ولا نعتقد أن احتفاءها بالذكرى الحادية عشرة لانطلاقة الثورة السورية وبزخم مفاجئ يخرج عن إطار تفكيرها بضرورة إبداء خطوة استباقية تؤكد من خلالها براءتها التدريجية من نظام الأسد وحلفائه الروس، واستعدادها للانخراط مع القوى الموجودة على الساحة السورية في أي تحرك أميركي غربي للضغط على روسيا في المنطقة.
و يمكن القول إن عدم اتخاذ البنتاغون أي موقف سلبي تجاه الاستهدافات التركية لقسد ما هو الا مؤشر لمتغيرات جديدة قد تحدث في المنطقة، كما أنه من غير المستبعد أن تطلب واشنطن من انقرة تسوية أوضاع هيئة تحرير الشام ودمجها مع الفصائل المتحالفة مع تركيا بغية استثمارها في أي مواجهة محتملة مع الروس في سوريا.
ربما كانت هذه الرؤية الأميركية-التركية إذا وجدت لها ترجمة على الساحة السورية تجسد مصالح الطرفين، كما تحمل في جانب منها تجسيداً لمصالح السوريين في مواجهتهم مع نظام الأسد الذي بات مصيره مقرونا بسياسات بوتين.
المدن