ملف عن “جوديث بتلر” من اعداد موقع “صفحات سورية”
ملف عن “جوديث بتلر” من اعداد موقع “صفحات سورية” يتضمن تبعض من مقالاتها، حواراتها، المقالات التي كتبت عنها، مراجعة لكتبها وروابط لتحميل بعض هذه الكتب
Judith Butler
(جوديث بتلر)
مقالات ” جوديث بتلر”
حوارات ” جوديث بتلر”
كتب ” جوديث بتلر”
مقالات عن ” جوديث بتلر”
من هي ” جوديث بتلر”
لتحميل هذا الملف الهام اتبع الرابط التالي
ملف عن “جوديث بتلر” من اعداد موقع “صفحات سورية”
مجموعة كتب ومقالات وحوارات “جوديث بتلر” المتوفرة في رابط واحد
كتب ومقالات وحوارات “جوديث بتلر”
لتحميل مقال: الأفعال الأدائية وتكوين الجندر: مقالة في الظاهراتية والنظرية النسوية/ جوديت بتلر
————————–
لقراءة كتاب “قلق الجندر: النسوية وتخريب الهوية” أونلاين اتبع الرابط التالي
قلق الجندر: النسوية وتخريب الهوية/ جوديث بتلر
————————–
ملف مجلة “منارات” عن “جوديث بتلر”، رئيس التحرير فخري صالح وتتضمن المقالات التالية
“كيف تعيش حيلة حقيقية في حياة زائفة”
“حوار مع الفيلسوفة جوديث بتلر”
“كورونا الذي أعاد لنا كوابيس كافكا”
“جوديث بتلر، حول ترامب، الفاشية وبنية الشعب”
لتحميل الملف من الرابط التالي
ملف مجلة “منارات” عن “جوديث بتلر”، رئيس التحرير فخري صالح
———————————
لقراءة هذا الملف الهام
كلا، ليست معاداةً للساميّة/ جودث بتلر
ترجمة حسام موصللي
L’autrice, philosophe et féministe américaine Judith Butler. . Photo : Richard Dumas / Agence VU
يستخدم سمرز تهمة “معاداة الساميَّة” بغية إخماد الانتقادات الشعبيَّة ضدَّ إسرائيل، حتَّى وإن كان ينأى بنفسه صراحةً عن أشكال الرقابة العلنيَّة. وعلى سبيل المثال، كتب سمرز أنَّ “الترياق الوحيد المضادَّ للأفكار الخطيرة هو البدائل القويَّة التي تشهَدُ مناصرةً حثيثة”. لكن كيف بمقدور المرء أن يُناصر بإصرارٍ الفكرة التي مفادُها أنَّ الاحتلال الإسرائيليَّ وحشيٌّ ومجحف، وأنَّ حقَّ الفلسطينيِّين بتقرير مصيرهم خيرٌ لا بدَّ منه، في حين أنَّ التعبير عن وجهات النظر هذه يستدعي تهمة معاداة الساميَّة؟
نشرت في London Review of Books في آب ٢٠٠٣.
“تجدُ وجهات النظر المعادية لإسرائيل دعماً مُتزايداً في الأوساط الفكريَّة التقدُّميَّة. كما نرى أشخاصاً مثقَّفين وجادِّين يتَّخذون مواقف وأفعالاً معاديةً للساميَّة في تأثيرها، إن لم يكن في النوايا التي تقف خلفها.”
لورنس سَمرز، 17 سبتمبر 2002.
في إعلانه أنَّ توجيه الانتقاد إلى إسرائيل في هذه المرحلة، ومطالبة الجامعات بسحب استثماراتها منها هي “أفعالٌ معاديةُ للساميَّة في تأثيرها، إن لم يكن في النوايا التي تقف خلفها”، يُقدِّمُ رئيس جامعة هارفرد تمييزاً ما بين معاداة الساميَّة بالأفعال والنوايا يمكن توصيفه بالإشكاليِّ في أحسن الأحوال. وأمَّا الاتِّهام المضادّ، فقد وردَ في سياق أنَّ سمرز، من خلال بيانه سالف الذكر، إنَّما وجَّه ضربةً ضدَّ الحريَّة الأكاديميَّة بالتأثير، إن لم يكن في النوايا التي تقفُ خلفها. وعلى الرغم من إصرار الأخير بأنَّه لم يتقصَّد دلالةً ذات طابعٍ رقابيٍّ في ملاحظاته، وأنَّه يؤيِّدُ مناقشة السياسة الإسرائيليَّة “في إطارٍ حرٍّ ومدنيّ”، إلَّا أنَّه كان لكلماته وقعها المخيف على الخطاب السياسيّ. تضمَّنت قائمة الأفعال التي وصفها سمرز “بالمعادية الفعليَّة للساميَّة” كلّاً من المقاطعة الأوروبيَّة لإسرائيل، والتجمُّعات المناهضة للعولمة التي تشهَدُ تعبيراً علنيَّاً عن انتقاد إسرائيل، وجهود جمع الأموال لصالح منظَّماتٍ “مشبوهةِ المنشأ السياسيّ”. وعلى الرغم ممَّا سبق، فقد كان مبعث القلق الداخليِّ بالنسبة إليه هو عريضة سحب الاستثمارات التي صاغها أعضاء في الهيئات التعليميَّة في كلٍّ من جامعة هارفرد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا معارضون للاحتلال الإسرائيليِّ القائم وكذلك المعاملة الإسرائيليَّة للفلسطينيِّين. يتساءل سمرز عن الأسباب وراء “خصِّ إسرائيل … دوناً عن بقيَّة الدول” في حملة سحب الاستثمارات، مشيراً إلى أنَّ هذا التمييز بحدِّ ذاته دليلٌ على نوايا معاديةٍ للساميَّة. وعلى الرغم من ادِّعائه بأنَّ من الممكن، بل وينبغي، “مواجهة” بعض جوانب السياسة الإسرائيليَّة “الخارجيَّة والدفاعيَّة” بحزمٍ وإصرار، بيد أنَّه من غير الواضح أيَّ صورةٍ يمكن أن تتَّخذ هذه المواجهة من دون أن تكون عرضةً للتفسير بوصفها معاديةً لإسرائيل، أو لماذا من غير الممكن أيضاً مواجهة هذه المسائل السياسيَّة بحزم، ومن ضمنها قضيَّة الاحتلال، من خلال حملةٍ لسحب الاستثمارات. إنَّ الحملة سالفة الذكر تبدو وكأنَّها شيءٌ آخر مختلفٌ عن “مواجهةٍ حازمة” مشروعة، لكنَّنا لا نملك أيَّ معايير يمكننا من خلالها التمييز ما بين أدوات المواجهة الحازمة من جهة، وتلك التي تحمل قوَّة معاداة الساميَّة “بصورةٍ فعليَّة” من جهةٍ أخرى.
مُحقٌّ سمرز في التعبير عن قلقه إزاء تصاعد معاداة الساميَّة، ويجب على كلٍّ شخصٍّ يعتبر نفسه تقدُّميَّاً أن يتصدَّى لها بحزمٍ أينما وجِدت. لكن يبدو أنَّنا وصلنا إلى مرحلةٍ تاريخيَّةٍ حيثُ لم يعد من الممكن النظر إلى اليهود بصورةٍ مشروعةٍ باعتبارهم ضحايا مفترضين دائمين فقط. من المؤكَّد أنَّ ذلك صحيحٌ في بعض الأحيان، لكن من المؤكَّد أيضاً أنَّ خلافَ ذلك صحيحٌ أيضاً في أحيانٍ أخرى. كما أنَّه لا يمكن البدء في الحديث عن الأخلاقيَّات السياسيَّة من موضعٍ نفترضُ فيه مسبقاً أنَّ اليهود يحتكرون موقع الضحيَّة. إنَّ “الضحيَّة” مصطلحٌ قابلٌ للنقل بصورةٍ سريعة؛ أي يمكن أن يتغيَّر موضعه ما بين دقيقةٍ وأخرى، من اليهوديِّ الذي قُتِل في أثناء هجومٍ انتحاريٍّ على حافلة، إلى الطفل الفلسطينيِّ الذي قُتِل برصاصٍ إسرائيليّ. وبالتالي، لا بدَّ أن يكون المجال العامُّ قابلاً لاستيعاب مواجهةٍ ضدَّ النوعين السابقين من العنف بحزمٍ وإصرار، وتحت مُسمَّى العدالة.
في حال اعتقدنا أنَّ انتقاد العنف الإسرائيليّ، أو الدعوة إلى ممارسة ضغوطاتٍ اقتصاديَّةٍ على الدولة الإسرائيليَّة بغية تغيير سياساتها، إنَّما هي أفعالٌ “معاديةٌ للساميَّة فعليَّاً”، فسنفشل بالتعبير العلنيِّ عن معارضتنا خوفاً من وصمنا بأنَّنا جزءٌ من مشروعٍ معادٍ للساميَّة. ليس هنالك أيُّ تصنيفٍ قد يكون أسوأ بالنسبة إلى يهوديٍّ يُدرِك، على المستويين الأخلاقيِّ والسياسيّ، أنَّ الموقفَ الذي لا يُطاق تحديدُه هو ذاك المعادي للساميَّة في طبيعته. إنَّ الإطار الأخلاقيَّ الذي ينشط داخله معظم اليهود التقدُّميِّين يحضر على هيئة السؤال الآتي: هل سنصمت (وبالتالي نتعاون مع قوَّةٍ عنيفةٍ غير مشروعة)، أم سنرفع أصواتنا عالياً (ونُحسَب من بين أولئك الذين يبذلون قصارى جهدهم لإيقاف ذلك العنف) حتَّى لو كان الكلامُ مصدرَ خطرٍ بالنسبة إلينا؟ غالباً ما يُصوَّر النقد اليهوديُّ الحاليُّ الموجَّه إلى إسرائيل باعتباره عديم الحساسيَّة إزاء معاناة اليهود، في الماضي والحاضر على حدٍّ سواء، ومع ذلك فإنَّ أخلاقياته تستندُ إلى تجربة المعاناة لعلَّ هذه الأخيرة أن تنتهي.
يستخدم سمرز تهمة “معاداة الساميَّة” بغية إخماد الانتقادات الشعبيَّة ضدَّ إسرائيل، حتَّى وإن كان ينأى بنفسه صراحةً عن أشكال الرقابة العلنيَّة. وعلى سبيل المثال، كتب سمرز أنَّ “الترياق الوحيد المضادَّ للأفكار الخطيرة هو البدائل القويَّة التي تشهَدُ مناصرةً حثيثة”. لكن كيف بمقدور المرء أن يُناصر بإصرارٍ الفكرة التي مفادُها أنَّ الاحتلال الإسرائيليَّ وحشيٌّ ومجحف، وأنَّ حقَّ الفلسطينيِّين بتقرير مصيرهم خيرٌ لا بدَّ منه، في حين أنَّ التعبير عن وجهات النظر هذه يستدعي تهمة معاداة الساميَّة؟
علينا، كي نفهم موقف سمرز، أن نكون قادرين على إدراك المعاداة الفعليَّة للساميَّة؛ أي تلك التي تختصُّ بأفعالٍ كلاميَّةٍ بعينها. هذه الأخيرة إمَّا أن تتبع أنماطاً لفظيَّةً مُعيَّنة، أو تساهم في تركيب بُناها، حتَّى لو لم تكن نابعةً من نيَّةٍ واعيةٍ لمن يصوغها. إنَّ وجهة نظر سمرز تفترضُ أنَّ أنماطاً لفظيَّةً من هذا النوع ستُعامل من قِبل الآخرين باعتبارها معاديةً للساميَّة، أو يُنظر إليها ضمن سياقٍ معيَّنٍ بوصفها معادةً للساميَّة. لذا علينا أن نسأل سمرز عن السياق الذي كان حاضراً في ذهنه حينما اتَّخذ موقِفه؛ وبعبارة أخرى، ما هو السياق الذي سيُنظر فيه إلى أيِّ انتقادٍ لإسرائيل باعتباره معادياً للساميَّة؟
ربَّما يكون ما يتحدَّث عنه سمرز بالفعل هو أنَّ الطريقة الوحيدة لانتقاد إسرائيل هي من خلال إطارٍ صوتيٍّ محدَّد؛ بحيث لا يمكن تفسير الانتقاد، سواءٌ أكان موجَّهاً ضدَّ الاستيطان في الضفَّة الغربيَّة، أو إغلاق جامعتَي بيت لحم وبيرزيت، أو هدم المنازل في رام الله أو جنين، أو قتل أعدادٍ لا تحصى من الأطفال والمدنيِّين، إلَّا بوصفه إظهاراً للكراهيَّة إزاء اليهود ولا شيء آخر. من المطلوب منَّا أن نستحضر مُستمِعاً ينسبُ النيَّة إلى المتكلِّم: كالقول إنَّ فلاناً قد أدلى بتصريحٍ علنيٍّ ضدَّ الاحتلال الإسرائيليّ، وهذا لا بدَّ يعني أنَّ فلاناً يكره اليهود أو يرغب في تحريض أولئك الذين يكرهونهم. وهكذا، يُحمَّلُ الانتقادُ بمعنى خفيٍّ يتعارضُ مع معناه الظاهر؛ وهو أنَّ انتقاد إسرائيل ليس في الحقيقة سوى عباءةٍ لتلك الكراهية، أو غطاءٍ لدعوةٍ من أجل نشاطٍ تمييزيٍّ ضدَّ اليهود. وبعبارةٍ أخرى، تكون الطريقة الوحيدة لفهم المعاداة الفعليَّة للساميَّة هي افتراض النيَّة بمعادة الساميَّة بصورةٍ مسبقة؛ ليتبيَّن أنَّ المعاداة الفعليَّة للساميَّة في الانتقاد إنَّما تكمنُ في نيَّة المتكلِّم بحسب ما ينسبه المستمع إليه بأثرٍ رجعيّ.
ربَّما كان سمرز يرمي إلى مقصدٍ آخر، وهو أنَّ الانتقاد سيُستغلُّ من قِبل أولئك الذين لا يريدون أن يشهدوا تدمير إسرائيل فحسب، بل أيضاً إذلال الشعب اليهوديِّ بصفةٍ عامَّةٍ والحطَّ من قيمته. مخاطرةٌ كهذه حاضرةٌ على الدوام، بيد أنَّ الادِّعاء بأنَّه لا يمكن النظر إلى انتقاد إسرائيل بوصفه انتقاداً لليهود إنَّما يُحيل إلى هذا التفسير بعينه سلطةً تحتكرُ مجالَ التلقِّي. إنَّ الذريعة ضدَّ السماح بانتقاد إسرائيل في الفضاء العامِّ تأتي على هيئة أنَّه يمنح أرضيَّةً خصبةً لأصحاب النوايا المعادية للساميَّة الذين سينجحون في تسخير هذا الانتقاد. هُنا، مرَّةً أخرى، بمقدور العبارة أن تصبحَ معاديةً للساميَّة بالفعل في حال فقط كانت هنالك نيَّة في مكانٍ ما بتوظيفها في أغراضٍ معاديةٍ للساميَّة. في الواقع، حتَّى لو اعتقدَ المرء بأنَّ الانتقادات الموجَّهة ضدَّ إسرائيل ستُسمَع بصفةٍ عامَّة باعتبارها معاديةً للساميَّة (سواءٌ من قِبل اليهود، أو المعادين للساميَّة، أو الأشخاص الذين لا يمكن تصنيفهم ضمن أيٍّ من الحالتين السابقتين)، فستكون مسؤوليَّتنا جميعاً العمل على تغيير ظروف التلقِّي إلى أن يبدأ الجمهور بالتمييز ما بين انتقاد إسرائيل وكراهية اليهود.
أدلى سمرز بتصريحاته باعتباره رئيساً لمؤسَّسةٍ تُعتبرُ رمزاً للمكانة الأكاديميَّة الرفيعة في الولايات المتَّحدة الأميركيَّة، وعلى الرغم من ادِّعائه بأنّه كان يتحدَّث بصفته “عضواً في مجتمعنا” وليس كرئيسٍ للجامعة، إلَّا أنَّ خطابه حملَ ثِقلاً في الصحافة لأنَّه كان يمارس بالضبطِ سلطةً مبعثها منصِبُه. وإذا كان رئيس جامعة هارفرد يخبر الجمهور بأنَّه سيتعامل مع أيِّ انتقادٍ ضدَّ إسرائيل باعتباره معاداةً فعليَّةً للساميَّة، فهو إنمَّا يقول إنَّه ينبغي تقييدُ الخطاب العامِّ نفسه إلى درجةٍ كبيرةٍ بحيث لا يعود من الممكن التلفُّظ بمثل تلك العبارات، وأنَّ أولئك الذين سيتلفَّظون بها إنَّما سيجري فهمهم بوصفهم منخرطين في خطابٍ معادٍ للساميَّة، بل وفي خطابٍ يحضُّ على الكراهية.
من المهمِّ هُنا أن نُميِّز ما بين خطابٍ معادٍ للساميَّة، ولنقل، من شأنه إنتاج بيئةٍ عدوانيَّةٍ وتهديديَّةٍ ضدَّ اليهود- خطابٍ عنصريٍ ينبغي على أيِّ مسؤولٍ جامعيٍّ أن يعارِضه بصورةٍ ممنهجة-، وخطابٍ يضع الطلَّاب في موضعٍ حرجٍ لأنَّ يُعارض دولةً معيَّنةً أو مجموعةً من السياسات الحكوميَّة التي قد يكونون مدافعين عنها. إنَّ الخطاب الأخير يمثِّلُ نقاشاً سياسيَّاً، وإذا قلنا إنَّ الحالة مختلفةٌ حينما يتعلَّق الأمر بإسرائيل، أنَّ أيَّ انتقادٍ يعتبرُ هجوماً على الإسرائيليِّين، أو اليهود بصفةٍ عامَّة، فسنكون حينئذٍ قد خصَّصنا هذا الولاء السياسيَّ من بين جميع أشكال الولاء الأخرى المطروحة على طاولة النقاش العامّ؛ وسنكون بذلك قد انخرطنا في أشنع أنماط الرقابة “الفعليَّة”.
ليس مكمن المسألة في أنَّ منطق التمييز الذي يضعه سمرز ما بين المعاداة الفعليَّة أو المتعمَّدة للساميَّة ضعيف وغير قابلٍ للصمود فحسب، بل إنَّ تهافُتَه في صياغته بحدِّ ذاتها إنَّما يُنتِج بالضبط الظروف التي تقتضي اعتبارَ بعض الآراء العامَّة بمثابة خطابٍ يحضُّ على الكراهية في التأثير إن يكن في القصد أو النيَّة. لم يقل سمرز إنَّ أيّاً ممَّا تمارسه إسرائيل تحت مسمَّى الدفاع عن النفس مشروعٌ ولا يمكن التشكيك به، ولست أعلمُ ما إن كان موافقاً على السياسات الإسرائيليَّة كلِّها، لكن دعونا نتخيَّل على سبيل النقاش أنَّه ليس كذلك. كما أنَّني لا أدري أيضاً إذا ما كانت لديه مواقف أحداث على غرار هدم المنازل وقتل الأطفال في جينين؛ والتي استدعت اهتمام الأمم المتَّحدة في العام الفائت لكنَّها لم يجر التحقيق فيها على أنَّها انتهاكات لحقوق الإنسان بسبب رفض إسرائيل أن تفتح حدودها لبعثة التحقيق. في حال كان سمرز رافضاً لتلك الأفعال، وكان يعتبرها من ضمن قضايا “السياسة الخارجيَّة” التي يعتقد أنَّه ينبغي “التصدِّي إليها بحزم”، فسيكون مضطرَّاً حينذاك، وفقاً لصياغته السابقة، إلى عدم التعبير عن رفضه له، وذلك بناءً على اعتقاده بأنَّ إن فعل ذلك فإنَّما ستُفسَّر أقواله بوصفها معاديَة للساميَّة بالفعل. لكن في حال اعتقاده بأنَّ بمقدوره التعبير عن رفضه، فإنَّه لم يُبيِّن لنا كيف يمكن فعل ذلك على نحوٍ يُجنِّبنا تهمة معاداة الساميَّة.
يفترضُ منطق سمرز أنَّه يجب السماح باستمرار ممارساتٍ معيَّنةٍ تنتهجها الدولة الإسرائيليَّة دون عراقيل من قِبل جماهير محتجَّة، إذ يخشى أنَّ أيِّ احتجاجٍ قد يرقى إلى معاداة للساميَّة، إن لم يكن معادياً للساميَّة في أصله. ومع العلم أنَّه يجب معارضة أشكال معاداة الساميَّة كافَّة، بيد أنَّنا نجد أنفسنا الآن أمام مجموعةٍ من أنماط التشويش الخطيرة بصدد الأشكال التي تتَّخذها معاداة الساميَّة. في الواقع، وفي حال جرى توظيف تهمة معاداة الساميَّة للدفاع عن إسرائيل بأيِّ ثمن، فإنَّ قوَّتها في وجه أولئك الذين يمارسون التمييز ضدَّ اليهود- الذين يعتدون على المعابد اليهوديَّة في أوروبا، أو يلوِّحون بأعلام النازيَّة، أو يناصرون منظَّماتٍ معاديةٍ للساميَّة- إنَّما ستكون مخَّففةً تماماً. في هذه المرحلة، نلاحظ رفضَ العديد من منتقدي إسرائيل لكلَّ الاتِّهامات بمعادة الساميَّة إذ يعتبرونها “ملفَّقة”، وذلك بعد أنَّ وجِّهَت إليهم كأداةٍ لرفض الرقابة على خطابهم السياسيِّ.
لا يُطلعنا سمرز على الأسباب التي تجعل الحملات المطالبة بسحب الاستثمارات، أو الأشكال الأخرى من الاحتجاجات الشعبيَّة، معاديةً للساميَّة. وفقاً له، تتميَّز بعض الصور التي تتَّخذها معاداة الساميَّة بأنَّها ذات أثرٍ رجعيّ؛ بمعنى أنَّه لا ينبغي قول، أو ممارسة، أيِّ شيءٍ يمكن اعتباره لاحقاً من قِبل آخرين بأنَّه معادٍ للساميَّة. لكن ماذا لو كان هؤلاء الآخرون على خطأ؟ إذا ما اتَّخذنا شكلاً من معاداة الساميَّة وعرَّفناه بأثرٍ رجعيّ، فماذا سيظلُّ من إمكانيَّة فعل الاحتجاج المشروع ضدَّ دولةٍ ما، سواءٌ أكان من قِبل سكَّانها أو أيِّ شخصٍ آخر؟ ففي حال قلنا إنَّه في كلِّ مرَّةٍ ينطق فيها أحدهم بكلمة “إسرائيل”، فهو إنَّما يَقصدُ “اليهود” بذلك، فسنكون حينذاك قد منعنا بصورةٍ مسبقةٍ المتحدِّثَ من إمكانيَّة الحديث عن “إسرائيل” حقَّاً. من ناحيةٍ أخرى، وفي حال ميَّزنا ما بين معاداة الساميَّة وأنماط الاحتجاجات ضدَّ الدولة الإسرائيليَّة (أو المستوطنين اليمينيِّين الذين يتصرَّفون على نحوٍ مستقلٍّ عن الدولة في بعض الأحيان)، مع الإقرار بأنَّهم يعملون معاً في أحيانٍ أخرى بصورةٍ تثير القلق والانزعاج، فستكون لدينا الفرصة حينها لفهم أنَّ العالم اليهوديَّ لا يرى نفسه مُطابِقاً لإسرائيل في كلٍّ من صورتها وممارساتها الحاليَّة، وأنَّ اليهود في إسرائيل لا ينظرون إلى أنفسهم بالضرورة باعتبارهم واحداً مع الدولة. وبعبارةٍ أخرى، يعتمد ظهور حركةٍ سلام يهوديَّةٍ أصيلة على إدراكنا لوجود مسافةٍ مفيدةٍ ونقديَّة من دولة إسرائيل (والتي يمكن أن تقترن بها من خلال ارتباطٍ طويل الأمد وعميق الأثر في خطِّ سيرها المستقبليّ).
توحي آراء سمرز بما مفاده ضمناً أنَّ توجيه النقد إلى إسرائيل إنَّما هو فعلٌ “مُعادٍ لإسرائيل” بصورةٍ يمكن فهمها بأنَّه فعلُ تحدٍّ لحقِّ إسرائيل في الوجود. بيد أنَّ انتقاد إسرائيل ليس تحدِّياً لوجودها، حتَّى لو كانت ثمَّة ظروفٌ يمكن في ظلِّها القول بأنَّ الأوَّل يُفضي إلى الآخر. من الجائز تفسير تحدِّي حقِّ إسرائيل في الوجود باعتباره تحدِّياً لوجود الشعب اليهوديِّ فقط في حال آمن المرء بأنَّ إسرائيل وحدها التي تبقي الشعب اليهوديَّ على قيد الحياة، أو أنَّ جميع اليهود يربطون على نحوٍ وثيقٍ شعورهم بالديمومة في دولة إسرائيل في صورتها الحاليَّة أو أشكالها التقليديَّة. ومع ذلك، في وسعنا الادِّعاء بأنّ لدى الكيانات السياسيَّة التي تصون الحقَّ في توجيه الانتقاد إليها فرصةٌ أفضل في الحفاظ على وجودها مقارنةً بتلك التي تفعل النقيض. ولكي يُنظَر إلى انتقاد إسرائيل على أنَّه تحدٍّ لبقاء اليهود، فلن يكون كافياً افتراض أنَّ “إسرائيل” غير قادرةٍ على التغيير تجاوباً مع الانتقاد المشروع فحسب، بل أيضاً أنَّ وجود إسرائيل أكثر ديموقراطيَّة بصورةٍ جذريَّة سيكون أمراً سيِّئاً بالنسبة إلى اليهود. ما سبق يقتضي أيضاً افتراض أنَّ النقد ليس قيمةً يهوديَّة، بيد أنَّ هذا لا يتنافى بوضوحٍ مع تقليدٍ عريقٍ من المناظرات التلموديَّة فحسب، بل كذلك مع جميع المراجع الدينيَّة والثقافيَّة التي لطالما شكَّلت جزءاً من الحياة اليهوديَّة لقرونٍ عديدة.
كيف بإمكاننا فهم اليهود غير المتماهين مع إسرائيل، أو الدولة الإسرائيليَّة في الحدِّ الأدنى؟ أو اليهود المنتمين إلى إسرائيل لكن دون أن يغضُّوا الطرف عن بعض ممارساتها؟ ثَمَّة طيفٌ واسعٌ هنا: أولئك الذين تساورهم شكوكٌ لا يعلنونها إزاء السلوك الذي تنتهجه إسرائيل؛ وأولئك الذين يعبِّرون جزئيَّاً عن شكوكهم إلى حدٍّ ما بصدد الاحتلال؛ وأولئك الذين يعارضون الاحتلال بشَّدةٍ لكن ضمن بُنيةٍ صهيونيَّة؛ وأولئك الذين يرغبون في إعادة التفكير بشأن الصهيونيَّة، أو بالأحرى، التخلِّي عنها. ربَّما يتبنَّى اليهود أيَّاً من المواقف سالفة الذكر، بيد أنَّهم لا يعبِّرون عنها إلَّا ضمن عائلاتهم أو أصدقائهم فقط؛ أو قد يعبِّرون عنها علانيةً لكن سيتحتَّم عليهم آنذاك مواجهة الاستقبال الغاضب داخل الحدود. أمام هذا التناقض اليهوديّ، ألا ينبغي أن نُشكِّك في أيِّ جهدٍ يرمي إلى المساواة ما بين اليهود وإسرائيل؟ إنَّ الذريعة القائلة بأنَّ لدى اليهود جميعاً ارتباطٌ عميقٌ ومخلصٌ في دولة إسرائيل ذريعةٌ زائفة. قد يكون لدى البعض تعلُّقٌ صادقٌ في شطائر اللحم البقريّ، أو في عددٍ من القصص التلموديَّة، والطقوس والشعائر الدينيَّة، أو حكايات الجدَّات، أو مذاق حساء البورش، أو أصوات المسرح اليديشيِّ القديم. في حين لدى آخرين تعلُّقٌ وثيقٌ بالأرشيفات التاريخيَّة والثقافيَّة من أوروبا الشرقيَّة أو الهولوكوست، أو في أنماط النشاط العمَّاليّ، والكفاح من أجل الحقوق المدنيَّة والعدالة الاجتماعيَّة ذات الطبيعة العلمانيَّة في صميمها والموجودة بصورةٍ مستقلَّةٍ نسبيّاً عن المسألة الإسرائيليَّة.
كيف بمقدورنا أن نفهم اليهود من أمثالي؛ أي الذين يرتبطون عاطفيَّاً في دولة إسرائيل لكنَّهم ينتقدون شكلها الحاليَّ ويطالبون بإعادة هيكلةٍ جذريَّةٍ لأساساتها الاقتصاديَّة والقانونيَّة ومردُّ ذلك تحديداً هو هذا الارتباط العاطفيّ؟ من الممكن دائماً القول إنَّ اليهود من المجموعة سابقة الذكر منقلبون على يهوديَّتهم. لكن ماذا لو انتقد المرء إسرائيل انتقاداً نابعاً من يهوديَّته، لأنَّه يرى على وجه التحديد أنَّ انتقاداتٍ كهذه إنَّما تبدو “الأنجع لمصلحة اليهود”؟ ولم لا يكون من “الأنجع لمصلحة اليهود” أن يتبنّوا على الدوام أشكالاً من الديموقراطيَّة التي يتَّسع مجالها لتشمل “الأنجع لمصلحة” الجميع، سواءٌ أكانوا يهوداً أو غير ذلك؟ في وقتٍ سابق، وقَّعتُ على عريضةٍ تنطوي على هذه الشروط تحت عنوان “رسالةٌ مفتوحةٌ من يهودٍ أميركيِّين”، والتي عبَّرت عن معارضة 3700 يهودّيٍ أميركيٍّ للاحتلال الإسرائيليّ، على الرغم من أنَّها، من وجهة نظري، لم تكن حازمةً بما يكفي: ذلك أنَّها لم تنطوِ على كلٍّ من مطالبة بإنهاء الصهيونيَّة، أو إعادة توزيع الأراضي الصالحة للزراعة، أو إعادة التفكير في حقِّ العودة اليهوديّ، أو التوزيع العادل للمياه والأدوية على الفلسطينيِّين، كما أنَّها لم تطالب بإعادة تنظيم الدولة الإسرائيليَّة على أساسٍ أكثر مساواة بصورةٍ جذريَّة. ومع ذلك، كانت العريضة انتقاداً علنيَّاً لإسرائيل.
ساورَ العديد من الموقِّعين على تلك العريضة شعورٌ يمكن وصفه إلى حدٍّ معقولٍ بأنَّه حزنٌ من القلب نتيجة اتِّخاذهم موقفاً علنيَّاً ضدَّ السياسة الإسرائيليَّة، وذلك باعتبار أن إسرائيل، التي تخضِعُ 3.5 مليون فلسطينيٍّ للاحتلال العسكريّ، إنَّما تُمثِّل اليهودَ بطريقةٍ لا يجدُها أولئك المعارضون مرفوضةً فحسب، بل أيضاً من الفظيع احتمالها باعتبارهم يهوداً؛ وهم بذلك يهودٌ يؤكِّدون على تمييز أنفسهم عن تلك السياسة، ويسعون إلى تعميق الهوَّة ما بين دولة إسرائيل والشعب اليهوديِّ من أجل إنتاج رؤيةٍ بديلةٍ للمستقبل. لقد مارس الموقِّعون على تلك العريضة حقَّهم الديموقراطيَّ في التعبير عن الانتقاد، وسعوا إلى ممارسة ضغطٍ اقتصاديٍّ على إسرائيل من قِبل الولايات المتَّحدة ودولٍ أخرى، بغية إنفاذ حقوق الفلسطينيِّين المحرومين من أبسط الشروط اللازمة لتقرير مصيرهم، وإنهاء الاحتلال، وإبرام اتِّفاق يضمن وجودَ دولةٍ فلسطينيَّةٍ مستقلَّةٍ أو يعيد إنشاء أساسات الدولة الإسرائيليَّة دون إيلاء أيِّ اعتبارٍ للدين، بحيث لا تشكِّل الهويَّة اليهوديَّة سوى حقيقةٍ دينيَّةٍ وثقافيَّةٍ واحدةٍ فحسب، تحميها القوانين نفسها التي تحمي حقوق الآخرين.
إنَّ القول بوجود تماهٍ ما بين إسرائيل والعالم اليهوديِّ يطمس حركةٍ صغيرةٍ ولكن مهمَّةٍ ما بعد صهيونيَّةٍ داخل إسرائيل، ومن بين أعضائه كلُّ من الفيلسوفين عدي أوفير وعنات بيلتسكي، وعالم الاجتماع أوري رام، وأستاذ الدراسات المسرحيَّة أفراهام عوز، والشاعر يتسحاق لور. هل بمقدورنا توصيف الإسرائيليِّين الذين ينتقدون السياسة الإسرائيليَّة بأنَّهم يهودٌ كارهون لأنفسهم، أو متبلِّدو الشعور إزاء الوسائل التي يمكن للانتقاد من خلالها أن يوجِّج لهيب معاداة الساميَّة؟ ماذا عن منظَّمة “بريت تسيديك” الجديدة في الولايات المتَّحدة، والتي بلغ عدد أعضائها قرابة عشرين ألف عضوٍ في آخر إحصاء، وتهدفُ إلى تقديم بديلٍ شديد الأهميَّة للجنة الشؤون العامَّة الأميركيَّة الإسرائيليَّة (أيباك) من شأنه معارضة الاحتلال الحاليِّ والعمل من أجل إنجاز حلِّ الدولتين؟ وماذا عن كلٍّ من منظَّمات الصوت اليهوديِّ من أجل السلام، ويهود ضدَّ الاحتلال، ويهود من أجل السلام في الشرق الأوسط، وكُلِّيَّة السلام الإسرائيليِّ-الفلسطينيّ، وتيكون، ويهود من أجل العدالة العرقيَّة والاقتصاديَّة، ونساء بالأسود، أو بالأحرى واحة السلام نيفيه شالوم؛ القرية الوحيدة التي يتشارك حكمها يهودٌ وعربٌ في آن؟ كيف بإمكاننا أن ننظر إلى بتسليم؛ المنظَّمة الإسرائيليَّة التي ترصد انتهاكات حقوق الإنسان في كلٍّ من الضفَّة الغربيَّة وغزَّة، أو حركة غوش شالوم؛ المنظَّمة الإسرائيليَّة المعارِضة للاحتلال، أو منظَّمة يش غفول؛ التي تُمثِّل الجنود الإسرائيليِّين الرافضين لأداء الخدمة العسكريَّة في الأراضي المحتلَّة؟ وماذا عن تعايش؛ وهو تحالفٌ يهوديٌّ-عربيّ مناهضٌ للسياسات التي تفضي إلى كلِّ ما يعاني منه الفلسطينيُّون من العزل، وسوء الرعاية الصحِّيَّة، والإقامة الجبريَّة، وتدمير المؤسَّسات التعليميَّة، ونقص الماء والغذاء؟
من غير المفيد الخلط ما بين اليهود والصهاينة أو اليهوديَّة والصهيونيَّة. ولطالما دارت نقاشاتٌ بين اليهود على امتداد القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، بصدد ما إذا كان ينبغي أن تكون الصهيونيَّةُ أساس الدولة؛ وما إذا كان لليهود أيُّ حقٍّ في المطالبة بأرضٍ يسكنها الفلسطينيّون على امتداد قرونٍ طويلة؛ وكذلك بصدد التصوُّرات المستقبليَّة لمشروعٍ سياسيٍّ يهوديٍّ قائمٍ على المصادرة العنيفة للأراضي. كان هناك من سعى إلى التوفيق ما بين الصهيونيَّة والتعايش السلميِّ مع العرب؛ ومن استغلَّ ذلك كذريعةٍ للعدوان العسكريّ ولا يزال مستمرّاً في ذلك. كان هناك من اعتقدَ، ولا يزال يعتقد، بأنَّ الصهيونيَّة ليسَت أساساً مشروعاً لبناء دولةٍ ديموقراطيَّةٍ في ظرفٍ يُفترَضُ فيه وجودُ مجموعةٍ متنوِّعةٍ من السكَّان الذين يمارسون دياناتٍ مختلفة، وأنَّه لا ينبغي حرمانُ أيِّ مجموعةٍ من أيِّ حقٍّ ممنوحٍ للمواطنين عامَّةً على أساسٍ انتماءاتِهم العرقيَّة أو الدينيَّة. هناك أيضاً من يُصرُّ على كون الاستيلاء العنيف على أراضي الفلسطينيِّين، وتشريد 700 ألف فلسطينيّ، إنِّما هي أساسات لا تصلُّح لبناء دولة. وعلى الرغم من كلِّ ما سبق، ما زالت إسرائيلُ تُكرِّر في الوقت الحاليِّ بادرتها التأسيسيَّة القائمة على عزل الفلسطينيِّين في الأرضي المحتلَّة وتجريدهم من إنسانيَّتهم. وبالفعل، يشكِّل الجدار الذي يجري تشييده الآن تهديداً بترك 95 ألف فلسطينيٍّ بلا مأوى. تلك هي الأسئلة التي لا بدَّ من تناولها في المجال العامّ، ومن المؤكَّد أنَّ الجامعات هي إحدى الأماكن التي يمكن أن نتوقَّع فيها حركةً من التأمُّلات النقديَّة بصدد الصهيونيَّة. لكن، بدلاً من ذلك، يَطلُب منَّا سمرز وآخرون أن نتعاطى مع أيِّ نهجٍ نقديٍّ إزاء الصهيونيَّة باعتبارِه معاداةً فعليَّةً للساميَّة، وبالتالي استبعادَه كموضوعٍ للخلاف المشروع.
تُبدي وسائلُ الإعلام الرئيسيَّة تجاهلاً للعديد من التمايزات البارزة عندما تفترضُ أنَّه ليس هناك سوى موقفَين محتملَين في الشرق الأوسط؛ “المناصِر لإسرائيل”، و”المناصِر للفلسطينيِّين”. ومفادُ هذا الافتراضِ أنَّ وجهتَي النظر السابقتَين متفرِّدتان، ومتجانستان داخليَّاً، وغير متداخلتين؛ أي أنَّه إن كان المرء “مناصراً لإسرائيل” فسيعتبرُ كلَّ ما تفعلهُ صائباً، أو إن كان “مناصراً للفلسطينيِّين” فسيعتبرُ كلَّ ما يفعلونها صائباً. بيد أنَّ قلَّةً هم الذين يتبنَّون هذين الموقفين السياسيَّين المتطرِّفين. فعلى سبيل المثال، بمقدور المرء أن يكون مناصراً لحقِّ الفلسطينيِّين بتقرير مصيرهم، لكنَّه في الوقت ذاته يدين التفجيرات الانتحاريَّة، وسيجدُ آخرين يشاركونه الموقف نفسه بيد أنَّهم يختلفون معه بشأن الصيغة التي ينبغي أن يتَّخذها هذا الحقّ. كذلك بإمكان المرء أن يكون مناصراً لوجود إسرائيل، لكنَّه مع استمراره بالتساؤل في الوقت ذاته عن الشكل الأكثر ملاءمة، على المستويين الشرعيِّ والديموقراطيّ، الذي ينبغي أن يكون عليه هذا الوجود. وفي حال شكَّك المرء بالشكل الحاليّ لوجود إسرائيل، فهل يجعلهُ ذلك معادياً لها؟ في حال تشبَّثَ بفكرة وجود دولةٍ إسرائيليَّة-فلسطينيَّة ديموقراطيَّة بحقٍ، فهل يجعلهُ ذلك معادياً لإسرائيل؟ أو، إذا ما حاول المرء العثور على شكلٍ أفضل لهذا الكيان السياسيّ؛ شكلٍ قد ينطوي على عددٍ من الإمكانيَّات: نسخةٌ منقَّحة من الصهيونيَّة، أو إسرائيل ما بعد صهيونيَّة، أو فلسطين مثلما يقرِّرُ أبناؤها مصيرها، أو اندماجاً يحوِّل إسرائيل إلى إسرائيل-فلسطين أكثر أهميَّة، حيثُ تُلغى تماماً كلُّ الشروط المطلوبة لتحصيل الحقوق والاستحقاقات في حال كانت مبنيَّةً على أساسٍ عرقيٍّ ودينيّ؟
إنَّ المثير للسخرية في مسألة التماهي هذه ما بين الصهيونيَّة والهويَّة اليهوديَّة هو تبنِّي سمرز للنهج نفسه بالضبط الذي يُفضِّله المعادون للساميَّة. في أثناء ما سمرز يلقي خطابه، وجدتُ نفسي ضمن مجموعةٍ بريديَّةٍ إلكترونيَّةٍ ضمَّت عدداً من الأفراد المعارضين للسياسات الإسرائيليَّة الراهنة، وللصهيونيَّة أحياناً، والذين سرعان ما شرعوا بالانخراط في هذا الزلل معارِضين أحياناً لِما أطلقوا عليه “الصهيونيَّة”، وأحياناً أخرى لِما وصفوه بالمصالح “اليهوديَّة”. وكلَّما حدَث أمرٌ مشابه، أُثيرَت اعتراضاتٌ فضلاً عن انسحاب العديد من الأشخاص من المجموعة. كانت وجهة نظر منى بيكر، وهي أكاديميَّةٌ في جامعة مانشستر سبقَ أن فصلَت زميلين إسرائيليَّين لها من مجلس إدارة مجلَّتها الأكاديميَّة، في مسعى منها إلى مقاطعة المؤسَّسات الإسرائيليَّة، أنَّه ما من وسيلةٍ للتمييز ما بين الأفراد والمؤسَّسات. وقد زعمَت، من خلال حادثة الفصل السابقة، أنَّها كانت تتعامل معهما بوصفهما رمزاً للدولة الإسرائيليَّة، باعتبار أنَّهما كانا مواطنين إسرائيليَّين. لكن ليس المواطنين دولاً: بل إنَّ الإمكانيَّة الحقيقيَّة لوجودِ أصواتٍ معارَضةٍ بارزةٍ إنَّما تعتمدُ على إدراك الاختلاف بين المواطن والدولة. وفيما يتعلَّق بالانتقادات التي وجِّهت إليها لاحقاً، فقد ردَّت بيكر بإرسال رسائل إلكترونيَّة إلى مجموعة “أكاديميّوُن من أجل العدالة” البريديَّة الإلكترونيَّة، تتذمَّر فيها من الصحف “اليهوديَّة”، واصفةً الفرصة التي عرضتها عليها بعضُ تلك الصحف من أجل المشاركة في مناقشة القضيَّة إعلاميَّاً، إلى جانب الزميلين اللذين فصلتهما، بأنَّها تقع تحت باب “ضغط”. وبالفعل، رفضَت بيكر المشاركة، وتبدو الآن كأنَّها تكافح ضدَّ “اليهود” الذين تُحدِّدهم باعتبارهم جماعةً تمارس الضغط على الأشخاص؛ وفي السياق السابق تمارس الضغط على بيكر نفسها. هكذا ينطبقُ الانتقادُ الذي وجَّهتُه إلى موقف سمرز على حالة بيكر أيضاً: أن يكون المرء مُعارِضاً لإسرائيل في شكلها الحاليِّ وممارساتها، أو بالأحرى أن تكون لديه تساؤلاته النقديَّة إزاء الصهيونيَّة نفسها هو شيء، لكن أن يُعارِض “اليهود” أو يفترض أنَّ لديهم جميعاً الرأي نفسه؛ أنَّهم جميعاً مناصرون لإسرائيل، أو متماهين معها، أو مُمثَّلون من قبلها، لهوَ شيءٌ آخر مختلفٌ كلِّيَّاً. بالتالي، وعلى نحوٍ غريب ومؤلمٍ في آن، لا بدَّ من القول إنَّ سمرز وبيكر على وفاقٍ بشأن هذه النقطة: أنَّ اليهود هم إسرائيل. في حالة سمرز، تخِدمُ الفرضيَّة السابقة كذريعةٍ ضدَّ معاداة الساميَّة؛ في حين أنَّها، في حالة بيكر، تخدمُ باعتبارها التأثير الناجم عن معاداة الساميَّة نفسها. إنَّ أحد تمظهرات معاداة الساميَّة، أو بالأحرى أيَّ شكلٍ من أشكال العنصريَّة، هو الافتراض الزائف والموجز بأنَّ هناك تطابقاً ما بين شعبٍ بأكمله وموقفٍ محدَّد، أو نزعة، أو وجهة نظر. فالقول إنَّه لدى جميع اليهود رأيٌ معيَّن بصدد إسرائيل، أو أنَّها تُمثِّلُهم بالقدر الكافي، أو، على العكس من ذلك، أنَّ ممارسات إسرائيل، الدولة، تُمثِّل بالقدر الكافي ممارسات اليهود جميعاً، إنَّما يخلط ما بين اليهود وإسرائيل، وهذا بدوره اختزالٌ معادٍ للساميَّة وللهويَّة اليهوديَّة.
انطلاقاً من تمسُّكي بوجودِ تمايزٍ ما بين إسرائيل واليهود، فإنَّني أدعو إلى إفساح مجالٍ للاختلاف ما بين اليهود، وغير اليهود، للتعبير عن انتقاداتهم ضدَّ إسرائيل؛ بيد أنَّني أعارضُ أيضاً الاختزاليَّة المعادية للساميَّة في توصيف الهويَّة اليهوديَّة على أنَّها مصالح إسرائيليَّة. لا بدَّ من ألَّا يكون تعريف “اليهوديّ” من منظور إسرائيل أهمَّ من تعريفه من منظور معاداة الساميَّة. ومع ذلك، يتجاوز “اليهوديَّ” المحدِّدين السابقين كليهما، وإنَّما يمكن معرفته، على نحوٍ معمَّقٍ وموضوعيّ في آن، باعتباره هويَّةً تاريخيَّةً وثقافيَّةً متغيِّرةً ليس لها شكلٌ واحدٌ أو غايةٌ نهائيَّةٌ محدَّدة. وبمجرَّد إقرار التمايز السابق، فإنّه يمكن بدء المناقشة بصدد كلٍّ من الصهيونيَّة ومعاداة الساميَّة؛ إذ سيكون من المهمِّ فهم تركة الصهيونيَّة ومناقشة مستقبلها، إلى جانب معارضة معاداة الساميَّة أينما نجدها.
ما نحتاجُ إليه هو خلقُ فضاءٍ عامٍّ يمكنُ فيه مناقشةُ تلك القضايا بتمعُّنٍ، ومن ثمَّ منع أيِّ محاولةٍ لتحديد هويَّة هذا الفضاء من خلال أنماطٍ معيَّنةٍ من الإقصاء والرقابة. فإذا لم يكن بمقدور المرء التعبير عن رفضه للعنف الذي تمارسه إسرائيل دون أن يجلب لنفسه تهمة معاداة الساميَّة، فإنَّ هذه التهمة إنَّما تخدمُ كأداةٍ لتقييد ميدان التعبير العلنيِّ المقبول، وتحصين العنف الإسرائيليِّ في وجه أيِّ انتقاد. وهُنا، نرى أنَّ المرء مهدَّدٌ بتصنيفه “معادياً للساميَّة” وفقاً للأسلوب ذاته الذي يجدُ المرء فيه نفسه مهدَّداً بتهمة “الخيانة” في حال أبدى معارضته لأحدث الحروب الأميركيَّة. تهديداتٌ من هذا القبيل من شأنها تقويض المجال العامِّ من خلال وضع القيود على ما يمكن الحديث عنه. عندئذ، سيمسيُ عالمُ الخطاب العامِّ مكاناً تُستبعدُ منه الرؤى النقديَّة، وسيُدرك الجمهور بأنَّه أصبحَ عديم القدرة على الاحتجاج علانيةً في مواجهة العنف الواضح وغير المشروع.
مجلة رمان