الأغلفة السورية… نهاية التجليد الفني الذي دمّر المكتبات/ أدهم حنا
في العام 2007 افتُتحت في اللاذقية مكتبة إنكليزية، إنكليزية بحتة، بكتب أجنبية من دور أوروبية، وصاحب المكتبة بريطاني مُحب للشرق، وصل إلى سوريا برفقة زوجته البريطانية التي تعمل في القنصلية البريطانية في اللاذقية. كانت هذه المكتبة تحفة فنّية إلى حد ما، فقط جراء ألوانها التي تنعكس من واجهة المكتبة الزجاجية. كانت ثورة الألوان مدهشة وشبه معرض وكثيراً ما تم الاحتفاء بها من الأطفال لألوانها، لا لقيمتها المعرفية، ولا لحاجة السوريين لكتب معرفية بلغات أخرى. تلا هذا انتشار كتب بطبعات أجنبية في مكتبات دمشق وسوريا عموماً.
تميل ثقافة الأغلفة إلى مستويات عديدة من التطور. اخترقت العوالم المكتوبة والمعرفية عوالم فنية أخرى، الكاريكاتير، والرسوم الجذابة. في القرن السادس عشر والسابع عشر، استعان ناشرو الكتب بالكثير من الطرق لدفع الناس لشراء الكتب. تلوين الأغلفة، أو كتابة جزء من المحتوى على الغلاف، أو استئجار شخص ليحكي قصص الكتاب أو موضوعه في المعارض، أو الاستعراض المسرحي للرجل ذاته ليقنع الناس بالقراءة وشراء الكتب. كان على الغلاف أن يتطور تبعاً لتطور كل شيء، تميل الكتب في أغلفتها لتتوازى مع مواضيعها، كثيراً ما تكون الكتب الدينية والمنهجية والفلسفية مثلاً لتأخذ ألواناً معينة، وفي الغالب تكون ألواناً مُعتمة، اسم الكتاب والكاتب، من دون اهتمامات تصويرية أو فنية. وكثيراً ما تستعين الرواية بألوان زاهية. وصولاً للقرن العشرين والذي تغير فيه كل شيء في العالم الغربي، بات الغلاف تُحفة فنية أولاً، برسوم فنانين، ثم فنون الطباعة والخياطة واللصق للأغلفة.
ما زالت سوريا مليئة بالكتب التقليدية، والتي اجتاحت شعورها واحساسها، الجانب التراثي في الكتب الدينية جعل المكتبات ملونة بلونين لا أكثر، أسود أو بني، اختراق الكحلي أحياناً لا يشي بشيء، الأسود والبني، هي ألوان المكتبات السورية، وحتى الكتب التي لم تكن مغلفة من المصدر بما يسمى تجليداً فنياً، وهو عبارة عن كرتونة مغلفة بجلد ملصق أو كرتون ملون ومقوى. كان السوريون من الطبقة المتوسطة يذهبون لُمجلد فني ليقيد الكتاب ويحزمه ويزيد ثقله، ويُضاف إلى عنوان الكتاب واسم الكاتب، اسم صاحب المكتبة، مخططاً بخط عربي أنيق. تم هذا مع اطلاع السوريين على مصدر غربي وحيد من الكتب، إذ شهدت السبعينيات انتشار كتب الاتحاد السوفياتي، دار التقدم كمثال، بالتجليد الفني والألوان المحددة الرمادي، البني، البني الفاتح، والأحمر. في ظل هذا، استباحت المكتبات الخاصة ظاهرة الكتاب المُلصق بالغري الأبيض، مضافة إليه طبقة تُخاط يدوياً، وصولاً للعام 2000 تقريباً قامت الدور السورية القليلة بإضافة الفنون على منتجاتها، لوحات فنية عالمية، وأحياناً لوحات سورية أو عربية، كان هاجس التعبير عن جمالية الكتاب أكثر إشراقاً عاماً بعد عام.
ثقل المكتبات
منذ الألفية الثانية شهدت سوريا افتتاح دور نشر عديدة، ووصول الكتب اللبنانية بحلة زاهية جعل بعض الناشرين السوريين يتماهون معها ويقلدونها، فبدأت الألوان تظهر، وشيئاً فشيئاً واختفى ما يُسمى التجليد الفني. هناك ظاهرة تدعو للدعابة، أن التغليف الفني القديم يُدمر أكبر مكتبة، سواء من خشب أو ألمنيوم، فثقل السماكات من الكرتون يزيد من ثقل الكتب إلى حدٍ هائل. كان على المكتبات الخاصة والعامة أن تتحطم تحت وطأة الغلاف الفني بالورق المقوى الثقيل، وتراجعت المتعة في الألوان الكاتمة التي تتلاءم مع ألوان الخشب والمكتبات المصنوعة.
باتت الكتب ملونة، تحمل جاذبية لدفع الناس إلى القراءة. لم تكن هذه الجاذبية جيدة دوماً، بقيت الدور اللبنانية أذكى في اختيار اللوحات الفنية، تشاركها في هذا دور مصرية. روايات نجيب محفوظ في إعادة طباعتها أو نسخها القديمة، حملت لوحات شبه معبّرة عما يحتويه الكتاب، ولو كانت الألوان باهتة، إلا أن رقة الغلاف جعلتها تهترئ بسهولة. يخضع الكتاب لذاكرة حميمية أيضاً، الورق شديد الصفرة لطبعات المرحلة الناصرية، أو حتى كتب دار رادوغا، مازالت تحمل حميمية هائلة لدى السوريين، بعض من نسخ تشيخوف ودوستويفسكي تباع بأسعار باهظة وكأنها تحف فنية. هذا سوق من الرغبة، سوق تُشعله رغبات عامة ليست معرفية بالضرورة. مرحلة ما بعد العام 2000 شهدت نهضة للدور السورية، سببها انفتاح النظام على طبع الكتب، وتحوّل الدور السورية للتجارة الخارجية خصوصاً في السوق الخليجي. أتت الطابعات الحديثة، وتلونت الكتب، وبدأت محاولات جذب القراء عبر الألوان والصور، اجتاحت اللوحات الكلاسيكية بعض الأغلفة، لكن من دون فكرة نسقية دائمة أو مرتبة. جزء من هذه الفوضى ليس طبيعة الكتب وتنويعاتها، بل عدم القدرة على التنظيم أو جعل حالة التلقي عند القارئ خاضعة لمفهوم جمالي أو جذاب.
هناك خطوط تجارية وثقافية هائلة حاولت جذب القراء ليندفعوا للقراءة، لكن الترغيب الشكلاني لا ينجح في مجتمعات لا تقرأ، هناك استسلام لمحاولات الجذب. أو بعض الحالات التي يحاول فيها الكُتاب دفع الكتاب بلوحات مختارة، أو لوحاتهم التي يرسمونها في حال تعدد مواهبهم. لا شيء يجعل الأغلفة ذات دلالة في سوريا، بل في سوريا مثل أي بلد آخر هناك محاولات مضحكة في أن يضع الكاتب صورته الشخصية على الكتاب، أو وضع صورة الأب أو الأم، أو حتى القادة الخالدين حسب التسميات العربية. هناك شيءٌ ما يحاوله الأفراد أيضاً، في وضع منتجاتهم الفنية على أغلفة كتبهم. هذا يحمل تضخماً للشخصية أو محاولة لإشباع الذات والشخصية في التجسد أو الظهور.
في بحث السوريين عن الجمال ما زالت أذواقهم مختلفة في تلقيه ومحاولات اقتنائه، الأكثر اقتراباً مِنا كُلنا هو هاجس المعرفة بِلا شك، قيمة الكتاب ومغزاه، لكن هذه المعرفة الضمنية تحمل زينةً وهوساً في اللون والصورة والتساؤل عن رابط كل كتاب بغلافه وإخراجه الأخير، فهذا فن عريق أيضاً.
المدن