عن “راسموس بالودان” المهووس بحرق القرآن/ مالك داغستاني
عام 2005، عندما كان يركب دراجته الهوائية، تعرض “راسموس بالودان” لحادث تصادم مميت. عانى من إصابة خطيرة في رأسه. رغم نجاته من الموت، لكن نتائج الفحوصات الطبية العصبية أظهرت أن الحادث خلَّف تلفاً بسيطاً في الدماغ. منذ ذلك الحين، وفقاً لشهادة عائلته وأصدقائه، كان من السهل إغضابه، وبات من الصعب عليه التعامل مع الاختلافات في الرأي، والنقاش بطريقة مهذبة. اعترف راسموس نفسه بالتغيير في مزاجه، في شهاداته أمام المحاكم في القضايا التي وقع فيها خلال السنوات التالية.
ينحدر راسموس من عائلة مثقفة وفنية. أخته الصغرى “تاين” شاعرة، تبدو حسب قصائدها وكتاباتها عالية الشفافية والحس الإنساني. شقيقه الأصغر “مارتن” كاتب، نشر في 2019 مقطعاً مصوراً بعنوان “لا تصوتوا لراسموس”. جاء فيه: “لقد تحدثت إلى أخي عن المسلمين والنساء وجميع أنواع الأشخاص الآخرين الذين لا يحبهم. يجب أن يعلم جيداً أنه لا يمكن أخذ عدد كبير من السكان وإعادتهم إلى أوطانهم الأولى، لمجرد أنه يرغب بذلك” ويتابع: “طالما كان أخي جيداً في الصراخ، وفي الحديث أيضاً، ولكن ليس في الاستماع”.
أراد راسموس أن يصبح محامياً. التحق بقسم القانون في جامعة كوبنهاغن في عام 2001. كل من عرفه في تلك الفترة من حياته قال إن راسموس كان شاباً ودوداً، ولم يكن إطلاقاً سيئ المزاج والطباع. انتمى سياسياً إلى الحزب الاجتماعي الليبرالي الدنماركي وهو من يسار الوسط. ولم تظهر عليه أي من تلك الخصائص الإيديولوجية لأصحاب الأفكار اليمينية المتطرفة.
من هو راسموس هذا؟ جميعكم تعرفونه. إنه الرجل الذي يشعل احتجاجات المسلمين في السويد اليوم، عبر محاولاته استفزازهم بإحراقه نسخاً من القرآن. في الواقع، لا يكره راسموس المسلمين فقط. إنه يعاني من احتقار الأقليات. هو يسخر، على سبيل المثال، من الأفارقة باعتبارهم يمتلكون معدلات ذكاء أقل، بل ويهين الدول الأفريقية باعتبارها “دولاً معدل الذكاء فيها 70” كما ورد في العديد من خطاباته.
لا يعمل بالودان كذئب منفرد مستعد للعنف، بل كمنتمٍ سلمياً لقطيع يشاركه آراءه وكراهيته للأقليات يتكاثر في أوروبا. عام 2017 أسس حزب Stram Kurs (الطريق المتشدد)، وخاض الانتخابات التشريعية الدنماركية 2019. لم تكن نتائج الانتخابات جيدة كما أمِل الرجل. حصل حزبه على 1.8٪ من الأصوات، وكان يكفي أن يحصل على 2٪ لدخول البرلمان الدنماركي، والفوز بأحد مقاعده. كانت النتيجة مؤلمة، ما دعاه لتغيير استراتيجيته عبر تكثيف العمل الميداني، كما حدث يوم الخميس الماضي، وقبلها عدة مرات، في السنوات السابقة، باستعراضه لحرق القرآن. راسموس كشعبوي مبتذل، يعلم جيداً، أنه فقط من خلال مثل هذه التصرفات، سوف يستمر اسمه متداولاً في الدول الاسكندنافية، بل وعلى المستوى الدولي.
تصاعدت التوترات في السويد منذ أن حصل بالودان على تصريح لتنظيم تجمع كان يخطط خلاله لحرق نسخة من المصحف، ما أثار احتجاجات وأعمال شغب في عدة مدن، أوقعت العديد من الإصابات بين المحتجين وعناصر الشرطة. دافعت “ماغدالينا أندرسون” رئيسة وزراء السويد عن حرية التعبير في بلدها، حتى لو مورست بطريقة غير مهذبة، وأكدت أنه لا يمكن القبول بالردود العنفية، مشيرة بوضوح إلى أن تلك الردود، هي تماماً ما كان يأمله بالودان. يعارض “يورن فيسترجارد، أستاذ القانون الجنائي في جامعة كوبنهاغن، الذي درَّس راسموس لفترة طويلة، حجج أندرسون، معتبراً أن “لا أحد لديه الحق غير المشروط في إهانة الكتب الدينية، ونشر خطاب الكراهية الذي يؤدي إلى الاضطرابات الاجتماعية. يجب أن تتصرف الشرطة من خلال تقييد حق الشخص في الاستفزاز العام. دون أن يعني هذا تقييد الحق في حرية التعبير”. على العكس من فيسترجارد يرى مواطنه الكاتب والصحفي “مادس كاستروب”، إنه نوع من الهراء، تشبثُ الكثيرين بحقيقة أن راسموس بالودان هو محرض يجب أن يتحمل كل المسؤولية أو جزءاً منها عن المواجهات والدمار، بسخريته من أقلية دينية. ويتابع: “إن الحق في انتقاد الدين أمر شائع لنجاح المجتمع الحديث. مجتمع بنيناه عبر قرون من النضال ضد الاستبداد الديني والسياسي على وجه التحديد”.
رغم الحرب في أوكرانيا، فإن أخبار السويد تتصدر نشرات الأخبار العالمية، بانحياز ظاهر لحرية التعبير. ليس بالإمكان مجاراة ما تتحدث به وكالات الأنباء على نحوٍ تعميمي لما يجري في السويد، كأن تستخدم عبارات من مثل “رد الفعل العنيف للمسلمين”. هل العشرات من هؤلاء أو حتى المئات هم “المسلمون”؟ فالكثير من ردود الأفعال الهادئة في الأوساط الإسلامية تتحدث بتهكم عن أفعال راسموس، بل وتلوم ردات الفعل العنيفة. أما بقية الملايين من المسلمين في أوروبا، فإن أحداً منهم لم ينزل إلى الشوارع ليرد على أفعال راسموس الاستعراضية السخيفة. في الدنمارك لم تجد بضاعة راسموس سوقاً رائجة كما كان يأمل فانتقل إلى السويد، التي حصل على جنسيتها منذ فترة، وحدث ما حدث.
هل لتلف جزئي في الدماغ نتيجة حادث، كالذي أصاب راسموس، أن يؤدي إلى توليد الكراهية؟ نحن نعلم أن البيئة وطبيعة التربية والثقافة، هي ما تؤدي إلى الإصابة بداء الكراهية والتعصب، فهل يمكن التعميم والادعاء بأن المصابين بهذا الداء لديهم تلف دماغي ناتج عن البيئة؟ ليس بإلإمكان الإجابة على نحوٍ متسرع، الأمر يحتاج لبحث معمق من مختصين. لكن أن يكتب راسموس على موقعه في الإنترنت: “أنا جندي الحرية. حامي الضعفاء وحارس المجتمع. أنا نور الأمة الدنماركية”، فإن ذلك قد يعطينا إشارة قوية أن الإجابة يمكن أن تكون: نعم.
شخصياً، لا يمكن أن أمرر هذه المادة دون أن أعرِّج على ما يروقني من ردود الفعل على مواقف راسموس. مجموعة موسيقيين دنماركيين يُدعَون “FJMP”، يلاحقون راسموس المهووس بحرق القرآن ولعن المهاجرين، أينما ذهب. كلما أعلن الرجل عن تحرك ما في الدنمارك، سيجد أمامه موسيقيي الفرقة. تبدأ موسيقاهم بطريقة فوضوية، متنافرة ومزعجة، عندما يبدأ راسموس بالكلام. يقول جون راسموسن، عازف الساكسفون في الفرقة، وهو ينظر إلى راسموس، الذي بدا غاضباً وعاجزاً، وسط جمهور قليل تجمع في حديقة: “نحن نصدر ضوضاء تتناسب مع ضوضائه”، ليعلق واحد من الجمهور ضاحكاً: “إنها موسيقا رهيبة ضد التحريض الرهيب”. راسموس الذي يأمل أن يعتدي عليه المهاجرون بهدف ازدياد شعبيته، يتأفف محبطاً مما تفعله الفرقة، فيحتج مستاءً لأحد الصحفيين الذين يغطون حرب الضوضاء تلك: “هذا تدخل غير قانوني في مظاهرة قانونية. الضجيج الذي يصدرونه اعتراف بفشل أولئك الذين لا يستطيعون مقاومة حجتي”. نعم يأمل راسموس باستجابة “بافلوفية” وقد وجدها من بعض مسلمي السويد الذين لم يدركوا لعبته.
تم تشكيل FJMP في كوبنهاغن بهدف مواجهة حملات راسموس العنصرية. اسم FJMP اختصار “Free Jazz Mod Paludan” وتعني ” موسيقى الجاز الحرة ضد بالودان”. تقول الفرقة على موقعها: “باستثناء بالودان، يمكن لأي شخص الانضمام للفرقة. لا يتعين على الأعضاء المحتملين أن يكونوا موسيقيين محترفين، ولا يتعين عليهم إحضار الآلات الموسيقية. لا بأس باستخدام مقلاة أو ملعقة خشبية”. لسوء الحظ، لم تكن الفرقة قادرة على الحضور إلا في المدن الدنماركية، فكان راسموس محظوظاً أنها لم تستطع مواجهته في السويد، لتحوّله إلى أضحوكة، كما فعلت عدّة مرات.
هل فاتني شيء عن راسموس؟ أجل، في السابع من آب/أغسطس 2021، نشرت صحيفة Ekstra Bladet تحقيقاً مطولاً يؤكد أن راسموس نقل أنشطته السياسية إلى منصة التواصل Discord، حيث يتحدث بالإضافة إلى السياسة عن الجنس المثلي للأولاد الصغار دون السن القانونية، الذين يذكرون خلال المحادثات أنهم بعمر 13 أو 14 عاماً. الرجل لم ينكر قيامه بالأمر لكنه نفى معرفته بسن محدّثيه، رغم أن التسجيلات تؤكد معرفته. “يمكنني أن أنكر تماما أنني قد انتهكت القانون. أعتقد أنه من المناسب في منتدى الشباب التحدث إلى الناس حول ما يحدث في حياتهم. وحياة الشباب تشمل الجنس. ما يثار حول هذا الأمر هو عاصفة في فنجان”.
فيما بدا أنه رد عملي، أعلن راسموس (40 عاماً)، بعد أربعة أيام من نشر التحقيق الصحفي، زواجه من سيدة لم يذكر اسمها، في مبنى البلدية بمدينة لا اسم لها، كما ورد في الصحيفة التي أضافت: “هناك مؤشرات على أن حكاية الزواج بدت نوعاً من المناورة الخادعة أو المراوغة. والأهم أنها بدت كاعتراف منه بأن حكاية الزواج رد فعل مضاد لما كشفت عنه الصحيفة قبل أيام”. نعم، باختصار هذا هو راسموس الذي كان ليغدو مجرد نكرة، لولا بضع مئات من المسلمين “البافلوفيين”، جعلوا من أنفسهم رافعةً لطموحاته السياسية، عبر ردَّة الفعل التي كان يأملها تماماً. أعتقد أنهم يستحقون شكره وامتنانه.
تلفزيون سوريا