مراجعات الكتب

غريتشن هندرسون في «التاريخ الثقافي للقباحة»: تحديات أمام الذوق العام والمفاهيم الجمالية/ نزار صالح

عن هذا الكتاب نشر «ملحق التايمز الأدبي» مراجعة جاء فيها إن تاريخ غريتشن هندرسن الثقافي لمفهوم القباحة «ينزلق بسرعة عالية ممتعة عبر قطاعات واسعة ــ ثقافية وتاريخية وبيولوجية ــ وهو كتاب ساحر لأن وجود القبيح وصراعه هو تذكير (عاجل وقوي وضروري) أن العالم ليس ملكنا وحدنا فقط». ومن جانبه كان الناقد ومؤرخ القراءة الأرجنتيني ــ الكندي المعروف ألبرتو مانغويل قد اعتبر أن الكتاب «مستفز من خلال سبر أغوار علاقتنا بما نصمه على أنه قبيح (أو جميل)، وهندرسن تجبرنا على التمعن بأذواقنا ومخاوفنا وقناعاتنا الاجتماعية ومفهومنا اليومي للعدالة».

ومنذ السطور الأولى في مقدمة كتابها تعتبر هندرسن أن الجميل/ القبيح سؤال ثقافي أساساً، ومفهوم القباحة «ينطوي على جينيالوجيا طويلة تسكن خيالنا الثقافي»، ابتداء من غرغولات العصور الوسطى الغروتسكية، إلى وحش ماري شيللي المصنوع من أشلاء الجثث، ومن حكاية هانز كريستان أندرسن عن فرخ البط الأسود إلى معرض «الفن المنحط» النازي. وهذا يعني أن القباحة طرحت على الدوام مجموعة تحديات أمام الذوق العام، وأمام المفاهيم الجمالية، ودفعت الفلاسفة إلى الانهماك في أسئلة شاقة تخص وضع الإنسان والعالم الواسع الذي يعيش فيه.

وغرتشن أرنستر هندرسون أكاديمية أمريكية تدرّس الإنسانيات الثقافية في جامعة تكساس، ولها كتابات متميزة حول الفنون البيئية تُرجمت إلى لغات عديدة، ولفتت الانتباه إلى الزوايا الخاصة غير المنتظَرة التي تمنحها لظواهر عديدة على صلة بالآداب والفنون وعلم الجمال. وفي كتابها الذي تتناوله هذه السطور، تقتفي هندرسون الروابط ما بين المعايير الجمالية السائدة وما بين التوترات الثقافية منذ العصور القديمة حتى يومنا الحالي. الجمال يقوم بما هو أكثر من الإغواء لأنه يقنّع ويعطّر ويجمّد التصنيفات الأخلاقية في مكانها. غير أن القباحة، وعبر إبراز جميع طبقاتها، هي «الأقرب إلى الحقيقة دائماً» كما تقول مجلة نيويورك في امتداح كتاب هندرسون.

والمؤلفة تحذّر من أننا إذا سرنا خلف رأي أرسطو، بأن الجميل ينطوي على التجانس في مجمله، والإحساس بالشكل المثالي مع حدود واضحة قطعية تفصله عن العالم، فإن القباحة ومفرداتها الكثيرة سوف تحمل شيئاً ما «أكثر غموضاً وأقلّ تجانساً»: المشوّه، الغروتيسكي، المسخ، الوحشي، المنحطّ، البهيمي، غير المتناظر، الأعوج، المسخ، الناشز، غير المتناسق، المعاق…

قائمة طويلة من المفردات المترابطة التي رافقت تطور مفهوم «القبيح»، والتي انبثقت وازدهرت في مصطلحات وحقب وثقافات مختلفة. أين يجب أن تنتهي قائمة المفردات التي تداني «القبيح»، تتساءل هندرسون قبل أن تقترح اللجوء إلى قاموس أوكسفورد الإنكليزي الذي يصنّف جينيالوجيا الـ Ugly ، مع جذور من اللغة الإسكندنافية القديمة والإنكليزية الوسطى، تتمّ تهجئتها بصياغات مختلفة تزيد عن ثمانية أشكال. وفي المقابل، «إسألْ علجوماً ما هو الجمال»، كتب فولتير، و«سيجيبك بأنه أنثاه، بعينيها المدوّرتين الجاحظتين من رأسها الصغير». أمبرتو إيكو لم يستطع توصيف القباحة على نحو كمّي واضح، فكتب: «الجمال، هو على نحو ما مملّ. رغم أن مفهومه يتبدل عبر العصور، لكن على الشيء الجميل دائماً أن يتبع قواعد معينة. القباحة غير متوقعة وتقدّم مجالاً لانهائياً من الاحتمالات. الجمال محدود، أما القباحة فلانهائية».

في الفصل الأول من كتابها تناقش هندرسون سلسلة من الأفراد الذين يُفترض أنهم في صفّ القباحة، بسبب من «تشوهات مزعجة» حسب تعبيرها. القائمة تشمل بوليفوموس، الرجل ــ الوحش؛ ودايم راغنيل، التي قيل عنها «كم كانت قبيحة»؛ والعجوز الغروتسكية، أو الوقة القبيحة؛ ثمّ وليام هاي، الذي أعلن أنه لم يكن يوماً، ولن يكون، عضواً في نادي القبيحين؛ وجوليا باستراني، التي نُسب إليها توصيف «أقبح امرأة في العالم»؛ وأورلان، تلك «المرأة الجميلة التي تتقبح عمداً».

الفصل الثاني يتناول الجماعات القبيحة، ولكن من زاوية مقاومة التصنيف: الوحوش والوحشية، أي تأطير القبيحين؛ والمنبوذون بسبب من سمات المظهر، وهي حالة وصم القبيحين؛ والبدائيون مقابل الفينوسات، أي «استعمار القبيحين» حسب تعبير هندرسون؛ ثمّ الوجوه المكسورة والأجساد المنحطة، أي «عسكرة القبيحين»؛ والاتّجار بالجماعات القبيحة، حيث يتحد القبيحون.

الفصل الثالث يذهب إلى الحواسّ القبيحة، أي انتهاك الحدود المحسوسة، مبتدئة من مطلع عام 2005 حين اقترح رئيس المعهد الملكي للمهندسين المعماريين البريطانيين قائمة وطنية سوداء تضمّ المباني القبيحة بهدف هدمها. «هدفي هو عدم التسامح مع الأسوأ علناً والمطالبة بالأفضل»، أعلن جورج فيرغوسون، ومتابعاً: «المباني البغيضة هي إهانة لحواسّنا»، متهكماً على «المباني السخيفة التي تدمّر ما يحيط بها»، ومقترحاً أن الأبنية القبيحة تنقل عدوى القباحة إلى ما يجاورها ويجب اقتلاعها كما يُقتلع ضرس مصاب بالتسوس وإلا ستخرّب بقية الأبنية. ولقد جاء الردّ المضاد من المؤرخ المعماري غايفن ستامب، الذي كتب: «من الصعب تخيّل رئيس المجمع الملكي للآداب وهو يقترح قائمة من الكتب الجديرة بالحرق».

هندرسون من جانبها تساجل بأنه إذا كانت الهندسة المعمارية قادرة على تحريض «إهانة لحواسّنا» كما يدعي فيرغوسون، فهذه البنى كما هو واضح «قادرة على توجيه ما يحدد القباحة بعيداً عن البصر: إلى الصوت والرائحة والطعم والملمس». القبيح، بالتالي، هو «ما نخافه ونخشاه»، لذلك تطغى إحدى الحواس على البقية عندما تحدد مفردة القبيح تجربة حسية بعينها: ضجة مزعجة، رائحة قذرة مقرفة، طعم عفن، ملمس الطين المتعفن.

وفي هذا الفصل الثالث مطارحات حول البصر القبيح، لجهة أننا نصدّق ما نراه؛ والصوت القبيح، بمعنى هل تسمع ما أسمعه؟؛ والروائح القبيحة، لجهة أنف يشمّ المشاكل؛ والمذاق القبيح، ضمن سؤال: هل أنتَ ما تأكله؟؛ واللمسة القبيحة، تحت فعل الأمر: لا تلمسْ؛ وصولاً إلى الحاسة السادسة، وتصديق المرء ما يشعر به.

وترى هندرسون أن الفصل بين الحواس الجسدية قد ينحدر إلى لعبة عقلية بحتة «تنشئ تصنيفات سيئة ومفزعة، تتنامى معتمدة على عين ــ أذن ــ أنف ــ فم ــ أصابع من يمرّ بالتجربة الحسية». كل فئة حسية يمكن أن تتراكم إلى مستويات فائضة «قبيحة» تمثل عادة تكديس الأشياء، والتي يمكنها أن تحوّل أي شيء إلى قبيح. وفصلها الثالث لم يقلب القباحة والجمال، ولم يقدّم مجموعة إضافية من المعايير، لكنه قدّم خريطة للسياقات الثقافية المتغيرة والحالات الأشمل المتعلقة بمفهوم الحواس القبيحة. وفي خاتمة الكتاب تتوقف هندرسون عند مجازات أفلاطون التي تقترح احتمالاً مشابهاً بالنسبة إلى القباحة، وكيف يتوصل المرء إلى معرفة القباحة.

هل تُبنى القباحة على نحو مماثل درجة درجة، من شخص إلى شخص، من المؤسسة إلى التعليم العام، وصولاً إلى معرفة أكبر؟ أم أنها تتراكم أكثر فأكثر مثل جبل سلمن القبيح أو ككومة قمامة متحركة تهدد إما بأن تدفن حاملها تحتها أو أن تنهار؟ أم لعلها تسقط عوضاً عن الصعود، كأن تسقط عن شجرة «قبيحة» وتُرمى في النهر «القبيح» وتتحطم على الصخور «القبيحة» وتُجرّ عبر الغابة «القبيحة» وتُرمى في النهر «القبيح» الذي يجرفها نحو البحر «القبيح»، أو ربما تنحدر أكثر فأكثر إلى مكان يشبه جحيم دانتي وتغوص أعمق فأعمق عبر طبقاته؟

وأكثر من كونهما مجرد ثنائية، تكتب هندرسون، فإن القباحة والجمال أشبه بمنظومة النجم التوأم، حيث ينضوي كلّ منهما ضمن حقل جاذبية الآخر ويدور حوله، لكنهما في الوقت نفسه يشكلان جزءاً من مجموعة نجمية أكبر. وبواسطة بناء مجموعة، بل وحتى من خلال «إدغام الحدود بين القباحة والجمال»، لا تحاول المؤلفة تقديم كل نجمة في كون القباحة على أنها جميلة، ولا تحاول القيام بالعكس، وتصرّح: «لو فعلتُ، ستفقد كلّ من المفردتين معناها كما لو أنهما تحوّلتا إلى نوع من التراكم تتساوى فيه قيمة الحصى والماس. المفهومان يستوطنان فضاءً رمادياً أوسع، وتحجبهما الاستحواذات الثقافية المتغيرة، كلّ منهما يتبدل باستمرار لا من خلال التراكم فقط، بل كذلك عبر النفي».

فإذا كانت القباحة هي ما ليس جميلاً، فإن خلف ذلك النفي ما يضللنا فيه التضادُ التقليدي بين الجميل والقبيح، ويوقعنا في حلقة دائرية بحيث نركض حولها، لكننا لا نصل أبداً إلى تضادهما الحقيقي.

غريتشن هندرسون: «التاريخ الثقافي للقباحة»

ترجمة: د رشا صادق

دار المدى، بغداد 2020

252 صفحة.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى