لوركا: الغجري الحداثي النسوي/ صبحي حديدي
في جوانب ثلاثة من شخصيته الواحدة، الغجري والحداثي والنسوي، يرصد فيديريكو بوناديو تحوّلات الشاعر الإسباني الغرناطي فيديريكو غارثيا لوركا (1898-1936) قتيل الفاشية الإسبانية، وضحية التزمّت والرجعية والتعصّب؛ في كتاب جديد صدر مؤخراً بالإنكليزية، ضمن منشورات Tamesis في نيويورك، بعنوان « فيدريكو غارثيا لوركا: الشعر في كلّ شيء». كأننا، للوهلة الأولى إدْ نقلّب الصفحات الـ199، لا نتذكّر سنّة مرّت من دون هذا الطراز أو ذاك من تأليف جديد عن الشاعر الكبير، في أربع رياح الأرض كما يصحّ القول. أو كأننا، في المقابل، لا ننسى البتة مقادير الأهمية التي حظي ويحظى بها، شاعراً ومسرحياً وحداثياً وشهيداً وإشكالياً؛ وكم انطوت محطات حياته على كلّ ما يحيل إلى الوضوح والغموض معاً، وإلى غزارة التفاصيل وشهوة الفضول، وإلى سيرة لن تنفد جاذبية وقائعها في أيّ يوم قريب.
بوناديو، الأستاذ في جامعات غلاسكو وأبردين وهَلْ وكنغز كوليج، ليس جديداً على تراث لوركا، وقد سبق أن اقترح كتاباً بعنوان «الدليل إلى فيديريكو غارثيا لوركا» 2007؛ أعقبه كتاب ثان تحت عنوان « فيديريكو غارثيا لوركا: شعريات الوعي الذاتي» 2010. والإنصاف يقتضي التنويه بأنّ كتابه الثالث الذي تتوقف عنده هذه السطور يصارع، كثيراً في الواقع، كي يضيف جديداً إلى ذخائر الكتابين السابقين، من جهة أولى؛ كما يجهد، في اصطراع أشدّ، لمجاراة حفنة من الأعمال الكبرى المعيارية والمفتاحية والرائدة التي تناولت لوركا، من جهة ثانية. إذْ ما الذي يتبقى، مما لم يُذكر بعد، في أكثر من 14 سيرة صدرت بلغات عديدة، بينها الإسبانية والروسية والإنكليزية والفرنسية والألمانية؟ أو أيّ تفاصيل غفلت عنها السيرة الممتازة، الجامعة المانعة حرفياً وليس مجازاً، التي أصدرها الإرلندي (الإسباني المحتد) إيان غيبسون سنة 1989؟ أو إلى عمل غيبسون الكلاسيكي الفريد «اغتيال فيديريكو غارثيا لوركا» الذي يحقّق في تفاصيل مقتل الشاعر، على نحو «بوليسي» مدهش بالفعل، اضطر نظام فرانكو إلى حظر تداوله فور صدوره سنة 1971؟
الإنصاف ذاته يقتضي التشديد على أنّ جديد بوناديو، في هذا الكتاب تحديداً، ينهض على منهجية انفرادية إذا جاز التعبير؛ عمادها الافتراض بأنّ عدداً من أكثر أعمال الشاعر شعبية، في الشعر كما في المسرح، كُتبت في ضوء ثلاثة حوافز. الأوّل هو النزوع إلى شخصية الغجري، خاصة بعد النجاح الواسع الذي قوبلت به المختارات الشعرية «أناشيد غجرية» 1928، وطرائق لوريكا في تمثيل الغجر. الحافز الثاني هو انخراط الشاعر في فكرة الحداثة، والسعي إلى تقديم اشعاره في صيغة حداثية تتجاوز العفوية الرعوية التي لاح أنها هيمنت على القصائد الغجرية، وكذلك بتأثير تجربة الإقامة في مدينة نيويورك. الحافز الثالث هو المصداقية النسوية العالية التي اكتسبها لوركا من خلال مواقفه المساندة لقضايا النساء عموماً، ولعذابات المرأة الأندلسية على وجه الخصوص.
وإذْ تتوسع فصول كتاب بوناديو في إضاءة هذه الحوافز، فإنها في الآن ذاته تسلّط المزيد من الأضواء على بُعد مدهش في شخصية لوركا: أنه، رغم إلحاح السلطات الفاشية على إخراس صوته إلى درجة تصفيته جسدياً عبر الإعدام، لم يكن عضواً في أي حركة سياسية، ولا ينطوي شعره على إشارات سياسية مباشرة، بل أوضح مراراً أنه يرفض التفسير السياسي لقصائده ومسرحياته. لقد نشأ في كنف الأرستقراطية الإسبانية، وعاش حياة مرفهة منعمة، ولم يخف رغبته في النأي بنفسه عن اضطرابات بلده السياسية، والتأكيد على أنه شاعر أسطورة لا شاعر أفكار. وقد يضيف المرء أنّه كلما تحتّم أن تحمل أعمال لوركا رسالة اجتماعية ما، ظاهرة أو حتى خافية، فإنها كانت غالباً تبدو ذات طابع محافظ.
لكنّ الشاعر الكبير كان جزءاً من الحركة الديمقراطية الإسبانية، لأسباب أشدّ عمقاً وتعقيداً من حكاية الانتماء أو النأي بالنفس عن السياسة. ولم تكن تلك الأسباب تبدأ من مسائل التأويل وتفكيك الرموز وتحميل المعنى دلالات من خارجه؛ بل كانت تضرب بجذورها عميقاً في دينامية النصّ الأدبي ذاته، وكيف أنّ علاقاته الإيصالية يمكن أن تستقلّ في حقبة اجتماعية وسياسية محددة، وتسبغ على المعنى طبيعة متغايرة، تتبدّل تبعاً للمتلقيّ. وعلى سبيل المثال، عُرضت مسرحيته التاريخية «ماريانا بينيدا» للمرّة الأولى سنة 1927، حين كانت الديكتاتورية العسكرية في أوج أزمتها، والعرش يهتز، والحركة الديمقراطية تعزز مواقعها كل يوم. لكن لأنّ أبسط الكلمات كانت مرشحة، آنذاك، لاحتمال المعنى الآخر، والدلالة المشحونة، والرمز الضاغط على الأذهان؛ فقد تحوّل عرض المسرحية إلى تظاهرة شعبية، رغم أنّ العمل كان أقرب إلى تكريس القيم الرجعية وليس التقدمية (بمقاييس ذلك الزمان على الأقل).
وفي صلب المنهجية التي اعتمدها بوناديو في تحليل شخصيات لوركا الثلاث، توفّر الدليل البيّن على أنّ مفتاح شعبية الشاعر كانت مقدرته على المزج بين هموم الحياة الفعلية والانشداد العميق إلى الجماليات في الفنّ ذاته وما يكتنفه ويحضّ عليه. وخلال أطوار «التوتر» مع التيارات الطليعية مطلع القرن العشرين، خاصة تفضيل التجرّد من الأنْسُنة وتمجيد استقلال الذات وانتهاج اللاعقلانية؛ «واظب عمل لوركا على المقاومة، أو حتى التحدّي، في وجه التفريع الثنائي الذي يضع الفنّ في مواجهة الحياة» كما يكتب بوناديو.
القدس العربي