إياد البغدادي: حين يُساء فهم واشنطن
ريان الشواف
يتطرّق إياد البغدادي، في مقابلة معه، إلى التوتر بين الولايات المتحدة والدولتَين الخليجيتَين الكبريَين، وما يعنيه ذلك.
تضع الولايات المتحدة عينًا على معاقبة روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، والعين الثانية على الحد من التأثير العالمي الذي يترتب عن فرض عقوبات واسعة على هذه الدولة المنتجة للنفط، لذلك سعت إلى إقناع السعودية والإمارات العربية المتحدة بزيادة إنتاجهما النفطي. كذلك، واصل السعوديون والإماراتيون التعامل مع موسكو على الرغم من إقدام عدد متزايد من البلدان على قطع العلاقات معها. يأتي هذا الرفض المزدوج، أي رفض زيادة الإنتاج النفطي ورفض قطع العلاقات مع روسيا، عقِب مرحلة شهدت توترًا شديدًا في العلاقات بين الدولتَين الخليجيتَين من جهة والولايات المتحدة من جهة ثانية. ينظر إياد البغدادي، مؤسّس ورئيس مركز “الكواكبي”، وهو منظمة غير حكومية مقرها النرويج وتعنى بـ”مستقبل الحرية في المجتمعات الإسلامية والعالم العربي”، في الأسباب التي تقف خلف تدهور العلاقات إلى حدّ يلامس القطيعة، وذلك في مقابلة أُجريَت معه عبر البريد الإلكتروني في أواخر نيسان/أبريل. ومن هذه الأسباب الخلافات حول ما يسمّيه “التباعد الطويل الأمد” بين الولايات المتحدة والدول الخليجية التي جمعها بها تحالفٌ متين في السابق، والأمن القومي، والاتفاق النووي الإيراني، وقيام واشنطن بشطب تنظيم أنصار الله المعروف بالحوثيين والمدعوم من إيران في اليمن عن قائمة الإرهاب، والتداعيات المستمرة لعملية الاغتيال التي نفذتها السعودية وأودت بحياة الصحافي جمال خاشقجي.
ريان الشواف: ما هو الجانب المهم، إن وُجِد، في رفض السعودية والإمارات الامتثال للطلب الأميركي بزيادة الإنتاج النفطي وفرض عقوبات على روسيا؟ هل من مؤشرات تدلّ على أن هذا الموقف يحمل نوعًا من التحوّل الطويل الأمد في علاقاتهما مع واشنطن، وليس مجرّد انتكاسة بسيطة سينساها معظمنا سريعًا؟
إياد البغدادي: من منظور استراتيجي، هذه الأحداث مهمة لأنها تقّدم دليلًا إضافيًا على التباعد القائم بين الولايات المتحدة وحلفائها الأساسيين في الشرق الأوسط. بدأ هذا التباعد منذ فترة ليست بقصيرة، ولن ينتهي في المستقبل القريب. إنها نزعة طويلة الأمد وسوف تستمر. الأزمة الأوكرانية ليست إلّا محطة واحدة في هذا المسار، وربما تسهم في تسريعه.
بعيدًا من الغوص في تاريخ انخراط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، من المهم الإشارة إلى أن هذا الانخراط كان يتمحور حول النفط في المقام الأول. في البداية، أرادت واشنطن ببساطة الحصول على الموارد (وحرمان خصومها منها)، ولكن في السبعينيات ومع صعود البترودولار، أصبح النفط العربي محوريًا لأمن الولايات المتحدة وازدهارها. وُضِعت مؤلّفات عن مساهمة النفط العربي في تكريس الهيمنة الأميركية على العالم، وفي انتصارها في الحرب الباردة. ففيما كان على الاتحاد السوفياتي أن يحفر بحثًا عن النفط، كانت الولايات المتحدة قادرة على طباعة الدولارات للحصول عليه. غالبًا ما تُذكَر عوامل أخرى، مثل الإرهاب وإسرائيل، لتفسير أسباب تحوّل الشرق الأوسط إلى منطقة ذات أهمية استراتيجية حيوية للولايات المتحدة. لكن يمكن المجادلة على نحوٍ مقنع بأن الإرهاب لم يتحوّل إلى عاملٍ في هذا الإطار إلا بعد التدخل الأميركي، وبأن أهمية إسرائيل المحورية مرتبطة بصورة أساسية بكونها حليفة موثوقة في منطقة استراتيجية حيوية.
وهكذا، أمّنت الولايات المتحدة طوال عقود ضمانات أمنية، فيما أمّنت دول الخليج العربي النفط المحدَّد سعره بالدولار الأميركي. لقد تغاضت واشنطن عن ممارسات الدول الخليجية في الداخل، وكانت هذه الدول أدرى من أن تُغضب حليفتها القوية. لم تكن دول الخليج مضطرة إلى إنفاق مبالغ طائلة للدفاع عن نفسها، وتمكّنت من توجيه الاستثمارات نحو التنمية الاقتصادية. وحتى في الأوقات التي انهار فيها السلام – كما حدث خلال الغزو العراقي للكويت – تحرّكت الولايات المتحدة بطريقة فورية وموثوقة لمساعدة تلك الدول بواسطة قوتها النارية الساحقة وجيشها الكبير ذي التدريب الجيد. لكن هذا الواقع استمر فقط في الفترة التي كان فيها العالم يعتمد على النفط وكان البترودولار سيّدًا مطلقًا.
يدور جدل حول تحديد متى بالضبط لم تعد منظومة البترودولار عاملًا محدِّدًا لعلاقة واشنطن مع دول الخليج. يشير كثرٌ إلى أن ذلك حدث خلال “الركود الكبير” في مرحلة 2007-2009، وأنا أوافقهم الرأي، ولا سيما أن سياسة الحزبَين في الولايات المتحدة باتت قائمة منذ ذلك الحين على الانسحاب من المنطقة. فقد حاول الرئيس باراك أوباما الانسحاب من العراق في العام 2009. وفي العام 2013، بدأ محادثات مع إيران للتوصل إلى اتفاق نووي. وأدّى صعود تنظيم الدولة الإسلامية إلى تبدّلٍ في هذا المسار، لكن بشكل مؤقّت فحسب. وبحلول العام 2016، كان الرئيس دونالد ترامب يسعى إلى سحب المزيد من القوات الأميركية من المنطقة. ورفض، على الرغم من علاقاته الوثيقة مع السعودية، استخدام القوة النارية الأميركية ضد إيران بعد الهجوم الحوثي على منشآت النفط السعودية في العام 2019، واختار بدلًا من ذلك الرد من خلال اغتيال قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس” النخبوي في الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، ورفاقه عبر شنّ ضربة جوّية واحدة.
إذًا، أكملت إدارة الرئيس جو بايدن مسارًا بدأ قبل عقود عدة: ففي الشرق الأوسط، توضّب الولايات المتحدة حقائبها وترحل. وفي حين أنها تفضّل أن تترك وراءها نوعًا من الترتيبات المتماسكة على صعيد الأمن الإقليمي، إن نقطة التركيز الجيوسياسية الرئيسة بالنسبة إليها ليست الشرق الأوسط على الإطلاق، بل “التحوّل نحو آسيا” بهدف التصدي للصين، ودعم حلف شمال الأطلسي (الناتو) من أجل التصدي لروسيا. لا يشكّل أمراء النفط العرب الأصول الجيوسياسية الأهم بالنسبة إلى أميركا، لأن العالم لم يعد يعتمد على النفط، أقلّه ليس كما كان عليه الحال قبل 20 عامًا. في ضوء تبعات تغيّر المناخ وإصرار المؤسسات العالمية على تحقيق الحياد الكربوني بحلول العام 2050 (أو قبل ذلك)، يتحوّل النفط من كونه شريان حياة الحضارة الإنسانية إلى وقود انتقالي فيما تعمل معظم البلدان على بناء اقتصاد عالمي أخضر، وبالتالي أكثر استدامة. وهذا ما يقع في صلب التباعد الطويل الأمد – الذي أكرّر أنه سيستمر لسنوات وربما لعقود.
لا بدّ من أنك تنبّهتَ إلى أنني ذكرت اسرائيل. ينطبق الجزء الأكبر من هذا التحليل على العلاقات الأميركية-الإسرائيلية أيضًا. لقد انقضت أيام التماهي الشديد “الذي لا يخترقه ضوء النهار” بين البلدَين، ونلمس أدلة على تباعد بين الولايات المتحدة وإسرائيل من خلال تردّد هذه الأخيرة في الوقوف تمامًا إلى جانب الغرب في الحرب الأوكرانية، وانخراطها المستمر مع الأوليغارشيين الروس. يتبدّل التحالف الأميركي-الإسرائيلي من تحالف جيوسياسي بصورة أساسية إلى تحالف محض إيديولوجي. لكنه موضوع نقاش آخر.
الشواف: ما هي أسباب الغضب السعودي والإماراتي من الولايات المتحدة؟
البغدادي: “الغضب” كلمة قوية توحي بأن التوتر حديث العهد. ثمة عدد من العوامل التي تقع في صلب السلوك السعودي والإماراتي خلال هذه الأزمة. لكن لنوضح أولًا أن السعودية والإمارات قد تبدوان في صف واحد، إلا أن ثمة فوارق مهمة في دوافعهما، أبرزها أوجه الاختلاف الكبيرة بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وولي عهد أبو ظبي الأمير محمد بن زايد.
محمد بن سلمان غير منضبط، وانفعالي، وقصير النظر في الكثير من الأحيان، من جملة أمور أخرى. لذا، يبدو استخدام كلمة “الغضب” ملائمة في هذه الحالة. فسلوكه هو في جزء كبير منه ردّ فعل على الازدراء، وليس مبنيًا على استراتيجية محدّدة. يشعر بن سلمان بأنه تعرّض لإهانة شخصية بسبب معاملة إدارة بايدن له – فقد انتقده بايدن خلال حملته الانتخابية، وسمح بنشر التقرير الصادر عن مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الذي ورد فيه أن بن سلمان أمر شخصيًا بقتل جمال خاشقجي، ورفض استقباله في البيت الأبيض أو حتى التكلّم معه. في غضون ذلك، يعتقد بن سلمان حقًا أن بإمكانه إنقاذ صورته الدولية كـ”إصلاحي ليبرالي” إذا أقدم على دفع الأموال للأشخاص المناسبين أو ليّ الأذرع المناسبة.
في الواقع، كشفت تحليلات مركز الكواكبي للمعلومات المضلّلة عن مؤشرات – منذ كانون الأول/ديسمبر الماضي – بأن السعودية مستعدة لاستخدام أي أزمة متجددة في أوكرانيا، وما قد ينجم عنها من انهيار في إمدادات الطاقة، كوسيلة لإعادة تأهيل صورة محمد بن سلمان. يُشار في هذا الصدد إلى الأحداث التي وقعت في أواخر شباط/فبراير ومطلع آذار/مارس. فقد جدّدت السعودية التزامها بإطار أوبك بلَس (الذي يضم روسيا)، ثم بعد بضعة أيام، حاول محمد بن سلمان في مقابلة مع مجلة ذي أتلانتيك أن يكرر كلامه القديم والمستهلك مردّدًا أنه “إصلاحي” في “مملكة عالِقة في مرحلة ما قبل الحداثة”.
في معرض الكلام عن دوافع بن سلمان الشخصية، من المهم الإشارة إلى أنه معجب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حتى إنه يتمثّل به في نواحٍ معيّنة – أي نموذج الرجل القوي والحاسم الذي يحارب الفساد، ويثبّت دعائم سلطته، ويعتمد استراتيجيات غير تقليدية وغير متماثلة، على غرار بث المعلومات المضلّلة واستخدام الأدوات السيبرانية. كان بوتين من القادة القلائل الذين وقفوا إلى جانب محمد بن سلمان في أحلك أوقاته، أي في الأشهر التي أعقبت مقتل خاشقجي، ولا نزال نتذكر المصافحة الشهيرة في قمة مجموعة العشرين في بوينس أيرس في العام 2018.
لكن من الخطأ الإيحاء بأنها مجرد مسألة دوافع شخصية لدى محمد بن سلمان. تشعر الإمارات والسعودية، منذ فترة من الوقت، بعدم الأمان حيال الالتزام الأميركي تجاههما. لقد اتّبعت إدارة بايدن مسارًا انسحابيًا قائمًا منذ وقت طويل، كما حاولتُ أن أشرح في إجابتي عن السؤال الأول. لكن بايدن وجّه أيضًا انتقادات شديدة إلى النظامَين السعودي والإماراتي، انسجامًا مع الوعود التي قطعها خلال حملته الانتخابية بشأن الحرب في اليمن، وقضية خاشقجي، وحقوق الإنسان. أعتقد أن إدارته مكبّلةٌ أيضًا بالحاجة المتصوّرة إلى الرد على التدخل السعودي والإماراتي في السياسة الأميركية – يُشار في هذا الصدد إلى قضية توم باراك، وقضية جورج نادر، وما كُشِف مؤخرًا عن علاقة محمد بن سلمان بجاريد كوشنر وستيفن منوشين. وكان تأثير ما يُسمّى باتفاقات أبراهام محدودًا جدًّا في مساعدة اللوبي الإماراتي والسعودي في واشنطن.
انطلاقًا من هذا التوجّس من الالتزام الأميركي، تحاول الدولتان منذ فترة تنويع الجهات الضامنة لأمنهما. ففي العام الماضي مثلًا، قلقت الولايات المتحدة حين اكتشفت أن الإمارات منحت الصينيين سرًّا الإذن بإنشاء قاعدة عسكرية على أراضيها. أما الأوليغارشيون الروس فلطالما كانوا موضع ترحيب في دبي (ولا يزالون كذلك)، وقد ساعد المرتزقة الروس الإمارات في عملياتها في ليبيا. لكن المثال الأوضح هو التواصل الإماراتي مع الرئيس السوري بشار الأسد الذي يُعَدّ أحد حلفاء بوتين الأساسيين في المنطقة. تُضاف هذه الخطوة إلى الخطوات الأخرى التي “شكّلت صدمة” للولايات المتحدة.
باختصار، ليست المسألة أن السعودية والإمارات تشكّكان في الضمانات الأمنية الأميركية – بل إنهما قلقتان بشأن نموذج الحماية. فلنقارن بين الحماية التي قدّمها بوتين (ولا يزال) للأسد، والحماية التي تقدّمها الولايات المتحدة لحلفائها في الخليج. تحمي روسيا الأنظمة، أما الولايات المتحدة فتحمي الدول. لا مشكلة لدى الأميركيين في مواصلة دعم الدول حتى بعد حدوث تغيير في القيادة. ومن غير الممكن أن تدمّر الولايات المتحدة المدن أو تستخدم أسلحة الدمار الشامل من أجل تأمين الحماية لمحمد بن سلمان أو محمد بن زايد. أما الروس فقد ساعدوا الأسد على القيام بذلك تحديدًا. الأمثل، في نظر محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، هو الحصول على الحماية على الطريقتَين الروسية والأميركية على السواء. فالحماية الأميركية لوحدها ليست مُتقلقلة فحسب، بل هي أيضًا غير كافية، نظرًا إلى حجم المخاطر التي يحملها المستقبل.
أبعد من هذا التوجّس بشأن الضمانات الأمنية، ثمة أسباب استراتيجية أخرى، منها الاستفادة من الأزمة الأوكرانية، ولا سيما في حالة محمد بن سلمان، نظرًا إلى أن ربحية شركة “أرامكو” ضرورية جدًّا للخطط التي وضعها في إطار “رؤية 2030”. ومن الملائم استخدام الأزمة لبناء الاحتياطيات المالية – حتى لو أتى ذلك على حساب تحويل العلاقة مع الغرب من علاقة مؤسسية إلى علاقة تجارية قائمة على الصفقات، والمجازفة بزعزعة الاستقرار في المنطقة بسبب التضخم ونقص المواد الغذائية. فحين يتملّكُك قلقٌ وجودي طويل الأمد، قد يكون تحقيق أرباح غير متوقعة وقصيرة الأمد مفيدًا في بعض الأحيان.
الشواف: هل يجب أن نأخذ في الحسبان الخلافات بين الولايات المتحدة من جهة، والسعودية والإمارات من جهة أخرى، حول الاتفاق النووي الإيراني (بما في ذلك كيفية تصنيف الحرس الثوري الإيراني) والحوثيين؟
البغدادي: لا بدّ من النظر إلى هذه القضايا من منظور “التباعد الطويل الأمد”. لنبدأ أولًا بالاتفاق النووي الإيراني الذي يوشك أن يصبح واقعًا ملموسًا بشكل أو بآخر، بغضّ النظر عن الغضب السعودي والإماراتي تجاهه. ولا يُعزى ذلك إلى أن الولايات المتحدة تشعر بالودّ حيال النظام في طهران، بل لأن الاستراتيجية الأميركية الكبرى تتطلّب عملية إعادة تموضع حيال الشرق الأوسط. ولتحقيق ذلك، تحتاج واشنطن إلى إرساء ترتيبات أمنية تضمن عدم انجرارها باستمرار لحلّ أزمات المنطقة. ومن الصعب التفاوض على ترتيبات أمنية مع نظام لا تجمعها معه أي علاقة.
لقد شكّل تخلّي ترامب عن الاتفاق النووي حدثًا استثنائيًا لم يكن ليحدث على الأرجح لو أن الرئيس الأميركي السابق لم يكن شخصًا فاسدًا، وانفعاليًا، ومتقلّبًا وعرضة للتأثّر بالأموال السعودية والإماراتية. وكما رأينا، انسحب ترامب من الاتفاق النووي وظل يعارض أي تدخل أميركي أعمق في المنطقة أو أي حرب جديدة في الشرق الأوسط. وقد أشار عدد كبير من الخبراء الاستراتيجيين الأميركيين إلى الأضرار الكبيرة التي ألحقتها خطوة ترامب هذه بأهداف الولايات المتحدة، إذ تسبّبت ببقاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لفترة أطول.
وما يزيد الأوضاع سوءًا أن السعوديين والإماراتيين يديرون الأمور بشكل خاطئ. فهم يعتقدون أن بإمكانهم دفع الولايات المتحدة، وهي الضامن الأساسي لأمنهم، إلى اتّخاذ خطوات تتعارض مع مصالحها، وحين تمتنع عن فعل ذلك يعتقدون أن بإمكانهم إرغامها على فعل ما يريدون من خلال حملات التأثير والحشد والضغط، ومن خلال مدّ اليد نحو خصوم أميركا الجيوسياسيين، أي روسيا والصين. ولم أرَهم لغاية الآن يقدّمون اقتراحًا يتماشى مع الاستراتيجية الأميركية الكبرى، بل على العكس كانت اقتراحاتهم متعارضة معها.
لاحظ على سبيل المثال قصر النظر المتمثّل في الامتناع عن زيادة إنتاج النفط في محاولة لإقناع الولايات المتحدة بعدم تطبيع العلاقات مع إيران. فأمن الطاقة والحدّ من التضخم يحتلّان مرتبة أعلى بكثير على سلم الأولويات الأميركية من مشاعر محمد بن سلمان ومحمد بن زايد. وفي الواقع، يُعتبر استقرار الأنظمة الخليجية مهمًّا فقط طالما أنها تضمن أمن الطاقة. وقد دفع التعنّت السعودي والإماراتي الإدارة الأميركية إلى القيام بما لا يمكن تصوّره، أي التواصل مع “النظام المارق” في فنزويلا الأقرب إليها جغرافيًا. ومن غير المستغرب أن هذا دفع الإدارة أيضًا إلى مضاعفة مساعيها الرامية إلى إبرام الاتفاق النووي الإيراني، وحتى محاولة تسريع وتيرة الإجراءات لإعادة النفط الإيراني إلى الأسواق من جديد، بهدف تحقيق استقرار الأسعار العالمية.
لنتطرّق الآن إلى مسألة الحوثيين والحرس الثوري الإيراني والحرب في اليمن، التي تُعدّ الأكثر إلحاحًا من بين مصدرَي “الغضب” الراهنَين. تشكّل هذه المسألة مثالًا آخر على قصر نظر السعودية والإمارات، إذ مضى سبع سنوات على انخراطهما في حرب اليمن، ولا يمكن وصف ذلك سوى بأنه كارثة استراتيجية. فقد تحوّل الحوثيون من كونهم مجرّد ميليشيا غير منظّمة في العام 2014 إلى قوة إقليمية قادرة على شنّ هجمات على عمق الأراضي السعودية والإماراتية في العام 2022. ويبدو واضحًا أن السعوديين والإماراتيين عاجزون عن إلحاق الهزيمة بالحوثيين، وإن أرادوا الخروج من مستنقع الحرب، فعليهم التعامل مع الحوثيين الذين كانوا وسيبقون، على الرغم من وحشيتهم، جزءًا لا يتجزأ من اليمن.
حين شطبت إدارة بايدن الحوثيين عن قائمة الجماعات الإرهابية، ذكرت بوضوح أن قرارها يُعزى لأسباب إنسانية، باعتبار أن “هذه التصنيفات قد تؤدّي إلى تداعيات فادحة على إمكانية حصول اليمنيين على سلع أساسية مثل الغذاء والوقود”. وقد امتنعت الإدارة عن ذكر الدور الذي أدّته السعودية والإمارات في التسبّب بهذه الكارثة الإنسانية أساسًا، لكن المعنى الضمني هو المهم. يبدو أن السعوديين والإماراتيين قد خسروا حرب السرديات والتصوّر العام، على الرغم من جهودهم على مستوى العلاقات العامة وحملات الضغط التي أطلقوها، وأيضًا على الرغم من جرائم الحرب التي ارتكبها الحوثيون، ومن تطرّفهم، وانتهاكاتهم الصارخة لحقوق الإنسان وارتباطهم المباشر بالحرس الثوري الإيراني.
في دولة مثل الولايات المتحدة، من يكسب معركة السردية يكسب في السياسة، و”القصة” هنا لا يمكن “شراؤها”، ولا يمكن تكليف شركة علاقات عامة بصياغتها. لا يمكنك أن “تربح السردية” بمجرّد توظيف مؤثّرين على إنستغرام أو بناء شبكة لبثّ معلومات مغلوطة حول كل ما تفعله، بل يجب أن يعكس سلوكك السردية التي تروّج لها ويدعمها. لا أعرف لماذا يواجه السعوديون والإماراتيون صعوبة في فهم ذلك. فلنتذكّر ما حدث بعد الهجوم الذي شنّه الحوثيون على الإمارات في وقت سابق من هذا العام: في اليوم التالي، شنّ التحالف اليمني-السعودي غارة جوية على سجن، ما أسفر عن مقتل ما يربو على سبعين يمنيًا أعزل سجناء لدى الحوثيين.
لاحظتَ ربما أن الحوثيين اختاروا هذه اللحظة للبدء بتصعيد هجماتهم. كنت لتتوقّع ربما أن يخفّفوا التصعيد إذا شعروا بأنهم سيُصنّفون مجدّدًا ضمن الجماعات الإرهابية. لكن هجماتهم وأهدافهم (منشآت النفط) كشفت جوانب كثيرة من تفكيرهم الاستراتيجي، أو بالأحرى من تفكير إيران الاستراتيجي. فهم يشنّون هجمات على منشآت النفط السعودية في وقت تشهد فيه العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية توترات حول إمدادات النفط، مع العلم أن هذه المسألة ترسم معالم العلاقات بين الجانبَين. وتأتي هجمات الحوثيين أيضًا في ظل الانكفاء الأميركي في الشرق الأوسط، وفي وقت باتت العلاقات مع السعودية تشكّل موضع شكٍّ لكثيرين في واشنطن.
لنفكّر في النتائج التي يحصدها الحرس الثوري الإيراني من شنّ هجمات على منشآت النفط. أولًا، في حال تسبّبت الهجمات بأضرار كفيلة بتعطيل الإنتاج، فهذا سيحرم السعودية من بعض إمداداتها النفطية. ثانيًا، يفاقم هذا الأمر النقص الحاصل في إمدادات النفط، وبالتالي تزداد الحاجة لإدخال النفط الإيراني إلى الأسواق مجدّدًا. ثالثًا، يفاقم ذلك أزمة الثقة بين السعودية والولايات المتحدة. فستزداد الضغوط على واشنطن لمساعدة الرياض على الرغم من تعنّت الموقف السعودي بشأن إمدادات النفط، وعلى الرغم من حاجة الأميركيين إلى النفط الإيراني وإلى إعادة إحياء الاتفاق الإيراني لتحقيق فك ارتباطهم في المنطقة. وستزداد أيضًا الضغوط على السعودية من أجل السعي للحصول على مساعدة الولايات المتحدة فيما تشنّ، للمفارقة، حربًا نفطية عليها. في الحالات الطبيعية، هذه أوضاع ينبغي أن تجمع بين الحلفاء، لكن ليس في ظل قيادة محمد بن سلمان، وليس في ظل القيود السياسية الكثيرة التي تُثني بايدن عن التودّد إليه كثيرًا.
ما من نتيجة جيدة للولايات المتحدة هنا: فيمكنها إما أن تعزّز انخراطها في أمن الشرق الأوسط (الأمر الذي يتعارض مع ضروراتها الاستراتيجية الكبرى)؛ أو مفاقمة أزمة الثقة بين محمد بن سلمان وبايدن؛ أو الحدّ من خسائرها وإبرام اتفاق مع إيران قائم على تفاهم مفاده أن طهران ستوقف الهجمات التي يشنّها الحرس الثوري الإيراني على المنشآت النفطية في حال سُمِح بعودة النفط الإيراني إلى الأسواق العالمية.
لنسلّط الضوء قليلًا على حجم الكارثة التي صنعها السعوديون والإماراتيون لأنفسهم. فهم اعتقدوا أن تلقّي السلاح والتدريب من الولايات المتحدة سيمنحهم الأفضلية الاستراتيجية التي تتمتع بها واشنطن أثناء خوض حروبهم الخاصة. لكن الولايات المتحدة حين تضيق ذرعًا بنزاع ما في المنطقة، تقرّر ببساطة الانسحاب، كما حدث في أفغانستان. أما في حالة السعودية والإمارات في المقابل، فسيبقى اليمن دومًا جارًا لهما. وهو يضم ثلاثين مليون نسمة معظمهم من اليمنيين، مقارنةً مع المواطنين الإماراتيين الذين لا يتجاوز عددهم المليون نسمة، والمواطنين السعوديين الذين يبلغ عددهم اثنين وعشرين مليونًا. ويعاني اليمن اليوم سلسلة من الصدمات والتظلّمات. وستستمرّ هذه الأزمة – أزمتهما – حتى الجيل المقبل، وربما لفترة أطول بعد.
الشواف: إذا كانت السعودية والإمارات في طور اتّخاذ قرار استراتيجي بالتحوّل تدريجيًا بعيدًا عن الولايات المتحدة بسبب الانكفاء الجزئي لواشنطن في الشرق الأوسط، هل يعني ذلك أنهما غير مهتمّتَين بانتزاع تنازلات طويلة الأمد من واشنطن؟
البغدادي: أي نوع من التنازلات الطويلة الأمد؟ والأهم، بأي أوراق ضغط؟ سيكون من المجدي أن يقبل السعوديون والإماراتيون بأن واشنطن بحاجة إلى خفض التزاماتها في المنطقة، وأن يسهموا في بناء منظومة أمنية إقليمية جديدة بالتنسيق مع الأميركيين. وهذا ما دعا إليه أوباما نوعًا ما حين قال إن على المنطقة أن توفّر أمنها الخاص. لكن، ليس هذا ما يحدث الآن، إذ نشهد بدلًا من ذلك صعود محور سعودي-إماراتي-إسرائيلي جديد وغير مُعلَن يبدو أنه يركّز ليس فقط على احتواء إيران، بل أيضًا على مساندة الثورات المضادة في مختلف أرجاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفيما يبدو أن الولايات المتحدة تنظر بعين الرضا إلى آفاق التعاون العربي-الإسرائيلي، إلا أن الوضع الراهن يُنبئ بمزيد من اللااستقرار، وليس العكس، ذلك أن المحور السعودي-الإماراتي-الإسرائيلي، مهما أُشيد به، يُعتبر طرفًا عدائيًا، وليس قوةً تسعى إلى تحقيق السلام والاستقرار.
كذلك، لست واثقًا ممّا إذا اتّخذ السعوديون والإماراتيون فعلًا قرارًا استراتيجيًا بالتحوّل بعيدًا عن الولايات المتحدة، ذلك أنهم ببساطة لا يتحمّلون القيام بخطوة كهذه. صحيحٌ أنهم يحاولون التموضع إلى جانب سياسات القوى العظمى الناشئة، لكن في الواقع، تُعتبر روسيا بقيادة بوتين قوة آفِلة يوازي حجم اقتصادها نصف اقتصاد كاليفورنيا، ناهيك عن أنها لا تملك أوراق ضغط سوى السلاح النووي والغاز. أما الصين بقيادة شي جين بينغ فهي دولة تجارية في الغالب تتجنّب خوض غمار التعقيدات الجيوسياسية البعيدة عنها جغرافيًا، ولن ترسل أبناءها ليموتوا دفاعًا عن محمد بن سلمان ومحمد بن زايد. يُضاف إلى ذلك أن موسكو وبيجينغ تجمعهما علاقات استراتيجية وثيقة بطهران.
من المضحك رؤية الذيل يحاول أن يهزّ الكلب، لكن في هذه الحالة قرّر الذيل التصرّف من تلقاء نفسه وبذل قصارى جهده للانتقام من الكلب. لا بل هو يظهر للكلب أن ثمة كلابًا آخرين يمكنه التعلّق بها – لاحظ مثلًا دعوة شي لزيارة الرياض. نتابع في مركز الكواكبي عن كثب هذه التطورات ولاحظنا تصرّفات كثيرة من قبيل “إذا خسرتمونا نحن، فستخسرون”، و”أنتم بحاجة إلينا، لسنا نحن فقط من يحتاج إليكم”. لكن المعنى الضمني هو التالي: “لماذا لم تعودوا تريدوننا كما كنتم تريدوننا في السابق؟ نرجو أن تكونوا بحاجة لنا كما نحن نحتاجكم”.
خلاصة القول إن التفكير الاستراتيجي للسعوديين والإماراتيين حيال الولايات المتحدة لا يبدو قائمًا على أهداف طويلة الأمد، بل يركّز على ممارسة ضغوط قصيرة الأمد. هم يحاولون ليّ ذراع الولايات المتحدة كي تمتثل لإرادتهم كما فعلوا في عهد ترامب، حين حاولوا استخدام الإدارة الأميركية ضد إيران وقطر ومعارضيهم في الداخل. لكن حتى مع استراتيجية الضغوط القصوى، لم تحقّق هذه الجهود سوى نتائج محدودة ولم تحوّل مسار الأمور بشكل حاسم. لنفترض جدلًا أنهم نجحوا في ليّ ذراع بايدن هذه المرة، لكن سيبقى السؤال: ما هي خطتهم على المدى الطويل؟ وأين يرَوْن أنفسهم بعد عشر سنوات؟ أو بعد عشرين سنة؟
في الوقت الراهن، أصبحت علاقات الولايات المتحدة مع الدول النفطية الحليفة لها تجارية الطابع بعد أن كانت في السابق مؤسسية. إذًا، كانت علاقات مبنيّة على تحالفات طويلة الأمد، غير أنها باتت اليوم قائمة على مطالب قصيرة الأمد. كانت علاقات مبنيّة على الثقة، وأصبحت اليوم قائمة على فقدان الثقة والمزايدة. لا يجوز الاستهانة بقوة احتياطيات النفط العربية، لكن على الحكّام الدكتاتوريين العرب أيضًا ألّا يستخفّوا بحجم الامتعاض الذي يثيرونه في نفوس المواطنين الأميركيين والأوروبيين العاديين. وعليهم حتمًا ألّا يستخفّوا بالسياسات غير المستدامة التي يتّبعونها والتي سترتدّ عليهم بتبعات خطيرة على مدى السنوات العشرين المقبلة.
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.