العذاب المُضاعف/ ماجد لطيف
أن نعيش الظروف الاقتصادية الراهنة في سوريا فهو عذاب، ولكن ثمة من يعيشون العذاب مُضاعفاً. هذا هو حال ذوي الاحتياجات الخاصة وذويهم في كل بقعةٍ من البلد المنهكة بعد الثورة والحرب المستمرة. لقد تركت سنوات القتال في كل بيت سوري مصيبةً أو أكثر؛ فمن لم تقتله نيران الحرب، أخذت شيئاً من جسده، أو تركت ما يعوق استمرار حياته جسدياً ونفسياً لبقية العمر، فثمة للحروب أثارٌ وتبعاتٌ لا تنمحي. يضاف إلى ذلك الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة وتردي الأوضاع المعيشية وتدهور الأحوال الاقتصادية، ما ترك أثره على كال الناس، وخصوصاً على ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يحتاجون إلى رعاية مضاعفة، من غذاء ودواء وتعليم ومرافقة في العمل.
زادت الحرب في سورية من أعداد ذوي الاحتياجات الخاصة بشكل كبير، حيث أسفر القصف العشوائي للمدنيين عن مئات آلاف الإصابات، وقدَّرَ تقريرٌ صادر عن منظمة الصحة العالمية في العام 2017 أعداد مصابي الحرب في عموم البلاد، منذ اندلاع الثورة في سورية عام 2011، بما يزيد على ثلاثة ملايين شخص؛ بينهم 1.5 مليون إصابة بإعاقة دائمة، ومنهم 86 ألف شخص أفضت إصابتهم إلى بتر أطرافهم، وهناك أيضاً من فقدوا إحدى حواسهم كالسمع والبصر. في حين تفوق الأعداد الحقيقة هذه الإحصائية بكثير، إذ تشمل أولئك الذين لم تصلهم فرق الدراسة والإحصاء. كما أدّى التلوث والقصف بالسلاح الكيماوي إلى وجود حالات تشوّه متزايدة بين الأجنّة، وتالياً بين صغار الأطفال الذين يولدون بإعاقات دائمة، وهو ما أشار إليه تحقيق نشرته جريدة عنب بلدي عام 2017، ركّز بشكل أساسي على الأجنّة وحديثي الولادة في مناطق خان شيخون والغوطة الشرقية، اللتين شهدتا قصفاً بالغازات السامة من قبل جيش نظام الأسد. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى الأمراض النفسية المزمنة نتيجة الصدمة والخوف الشديد الناجمين عن ظروف الحرب والاعتقال القاسية، والتي طالت نسبة كبيرة جداً من السوريين.
وتحدَّثَ تقرير منظمة الصحة العالمية الذي سبقت الإشارة إليه عن افتقار سورية للخدمات والمرافق الصحية ومراكز التأهيل، وضعف الإمكانات في الجزء العامل من هذه المراكز، ما أدى -وما يزال يؤدي- إلى ازدياد كبير في أعداد المصابين والمرضى، وعدم مساعدتهم على الشفاء أو التخفيف من معاناتهم.
المعاناة تبدأ منذ اللحظة الأولى
تبدأ معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة وذويهم منذ اللحظة الأولى لاكتشاف المرض، انطلاقاً من الكشف عن نوع الإعاقة؛ سواء كانت جسدية أم ذهنية، من خلال زيارة الطبيب المختص، إلى التحاليل الطبية اللازمة، مروراً بالأدوية والغذاء المناسب، وصولاً إلى مراكز التأهيل والرعاية، وانتهاءً بالجلسات الخاصة.
وانعكس الانهيار الاقتصادي الحاصل اليوم على كل مناحي الحياة، ومنها ما يتعلق بذوي الاحتياجات الخاصة، حيث تضاعفت الأسعار بشكلٍ لا يوصف، بدءاً من كشفية طبيب الأطفال إلى طبيب الأعصاب وطبيب الأذن، إضافة إلى تكاليف التحاليل الدورية وتحاليل تحديد نوع الإعاقة، كتحاليل التحسس الغذائي، وتحديداً تحليل البصمة الغذائية الذي تتجاوز كلفته حالياً 100 ألف ليرة (أسعار العاصمة دمشق)، والرنين المغناطيسي وتخطيط السمع والدماغ. ومن ثم الانتقال إلى البرنامج الدوائي الذي يحتاجه الطفل شهرياً، كأدوية فرط النشاط والصرع وأدوية التركيز والانتباه والأعصاب، التي باتت تُكلّفُ آلاف الليرات في حال توفرها، أما إذا كانت مفقودة فإن الأسعار ستتضاعف، يضاف إليها معاناة لا يعلمها إلّا ذوو الاحتياجات الخاصة، وهي حفاضات الأطفال التي قد يحتاجها أبناؤهم لسنوات طويلة، خاصة ممن يعانون من الإعاقات الجسدية والحركية. يضاف إلى ذلك مراكز التدريب والتأهيل الخاصة والعامة، وجمعيات التدريب والتأهيل وجلسات النطق الخاصة والعلاج الفيزيائي والتدريب على المهارات الحركية والتواصل البصري واللغة الاستقبالية. كل ما سبق بات اليوم يشكل عبئاً إضافياً على أسر ذوي الاحتياجات الخاصة، ويتطلب مبالغ طائلة، تضاف لبقية أعباء الحياة اليومية.
تروي أم صبحي للجمهورية.نت 1
1.أُجريت جميع المقابلات الواردة في هذا التقرير بواسطة متطوعتين مُقيمتين في دمشق.
حال ابنها الذي يعاني من مرض التوحد: «ولد ابني صبحي طفلاً طبيعياً، وبعد أن بدأ ينطق بعض الكلمات، توقف فجأة عن الكلام. نصحني الأهل والأصدقاء بمراجعة طبيب أذن، لاعتقادهم أن مشكلته ربما تكون بسبب سمعه. زرت أحد أشهر الأطباء في دمشق، فأكد لي عدم وجود مشكلة لديه، ونصحني بمراجعة اختصاصي نفسي مشهور هو الآخر. لم يكن هذا الأخير طبيباً نفسياً، لكنه أخصائياً شخَّصَ حالة ابني بالتوحد، وقيلَ لي وقتها إنه الوحيد في مدينة دمشق. كان ذلك في العام 2009، فتوجّهتُ إلى جمعية الرجاء للمساعدة في إيجاد العلاج لولدي. بقي يحضر جلسات علاج نفسي لديهم لشهور، وكانت قيمة الجلسة لأقل من ساعة 250 ليرة سورية، ولأننا لم نلحظ أي تحسن لدى الطفل قررنا عدم المواصلة».
تتابع أم صبحي: «انتقلنا بعدها إلى منظمة آمال، وكانت الجلسات تضم من 10 إلى 12 طفل في الجلسة الواحدة، وهذا الأمر غير منطقي أبداً ولا يساعد الأطفال على الشفاء. قالت لي إحدى الاختصاصيات في المنظمة، بيني وبينها، إن طفلي لن يستفيد إذا بقي هنا، قبل أن تضيف: ما رأيك بجلسات خاصة مدفوعة الأجر في مكان آخر؟ قبلتُ العرض وذهبتُ إليها في مكان قريب من دوار السبع بحرات كانت تتخّذه مقراً لها بعد انتهاء دوامها في المركز، حيث تعالج مرضاها دون علم أو إذن من أحد. 5 جلسات أسبوعياً، قيمة الجلسة لمدة 50 دقيقة ألف ليرة سورية؛ أي 20 آلف ليرة سورية في الشهر، ما يعادل حينها (2010) الراتب الشهري لموظف حكومي».
تضم منظمة آمال، التي ما تزال تواصل أعمالها حتى اليوم، مركز الاستقصاءات السمعية، ومركز تأهيل اللغة والكلام، ومركز التوحّد، ومركز تأهيل الإعاقة السمعية، ومركز تأهيل الإعاقة البصرية. وهي تتبع للأمانة السورية للتنمية التي ترأسها أسماء الأسد، ولذا تلقى الكثير من الدعم المالي، غير أن تجربة الطفل صبحي وتجارب أخرى لا تُظهِرُ أن المنظمة تقدم خدماتٍ تتناسب مع الدعم المُقدم لها، بيد أنها واحدة من أهم الأدوات الناعمة التي تستخدمها زوجة بشار الأسد لتقديم وجه إنساني غير موجود لنظام زوجها الدموي.
لم يتابع صبحي جلساته مع الاختصاصية، وانتقل إلى مركز في داريا كانت المعاملة فيه بالغة السوء، فحوّله أهله إلى مركز آخر في صحنايا كان أفضل حالاً بالنسبة للعلاج والفائدة، لكنه كان مرهقاً أيضاً من الناحية المادية. تقول أم صبحي: «بدأنا بـ13 ألف في الشهر ووصلنا إلى 25 ألف. المركز كان يعالج أطفال التوحد والمصابين بمتلازمة داون، وجلساته طويلة تمتد إلى نحو خمس ساعات ونصف في اليوم الواحد ولمدة 6 أيام في الأسبوع. بالفعل استفاد صبحي كثيراً لجهة السلوك ثم النطق». ومما أخبرتنا به أم صبحي من خلال تجربتها ومتابعتها لعمل هذه المراكز، وعملنا نحن على التأكد منه، أن معظم المراكز التي تعنى بأطفال التوحد غير مرخصة وتعمل بالخفاء وكثيراً ما تتعرض هذه المراكز للمخالفات والإغلاق. وتصل اليوم تكلفة العلاج فيها إلى 150 ألف ليرة سورية في الشهر الواحد.
بعد التحسن الملحوظ في سلوك صبحي ونطقه في هذا المركز قررت عائلته نقله إلى إحدى رياض الأطفال ليكون مع أبناء سنّه، ولكي يندمج معهم. لكن النتيجة كانت عكس ذلك، حيث تعرض لانتكاسة اجتماعية ونفسية بسبب أن الأطفال لم يتقبلوه بينهم ولم يتعاملوا معه. وترى الأم أن سبب ذلك «تقصير إدارة الروضة ومعلميها: رغم أننا شرحنا لهم وضعه، لكنهم لم يتجاوبوا معنا. واضطررنا إلى إعادته إلى مركز صحنايا لمدة عام كامل حتى يُعاد تأهيله النفسي من جديد».
اللافت في الأمر أنه في عام 2000 كان هناك 42 اتحاداً ومركزاً وجمعية ومعهداً ومدرسة، منها 18 في دمشق وريفها، تعنى بذوي الاحتياجات الخاصة. أما اليوم، فقد تقلص العدد كثيراً بسبب نقص الدعم والموارد، وذلك بالرغم من ازدياد أعداد الأشخاص المحتاجين لهذه المؤسسات. ما تبقى في دمشق هو: معهد التربية الخاصة لتأهيل المكفوفين، معهد المعوقين سمعياً، معهد الأمل لذوي الإعاقة الحركية، معهد النور لرعاية وتأهيل المصابين بشلل دماغي، معهد التأهيل المهني للمعوقين. ويوجد روضة واحدة للمكفوفين هي روضة النور التي تتبع لجمعية رعاية المكفوفين بدمشق، ومركز النور بالجسر الأبيض يستقبل الأطفال المصابين بشلل دماغي ويرفض استقبال أطفال التوحد ومتلازمة داون. تسميها حكومة النظام السوري «معاهد الرعاية الاجتماعية»، وتضيف إليها معهد خالد بن الوليد لرعاية الأحداث الجانحين بدمشق.
وفي شهر حزيران (يونيو) من عام 2020، منحت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل التابعة للنظام تراخيص لـ«13 مركزاً مختصاً بتأهيل الطفل المعوق في ريف دمشق، وإحداث معهد الإعاقة الذهنية بمدينة التل، وترخيص جمعية للإعاقة في جديدة عرطوز» بحسب المصطلحات التي تستخدمها القرارات الرسمية. ما تزال معظم هذه التراخيص حتى اليوم حبراً على ورق، أو أنها غير مزودة بموارد كافية وتقتصر على مرحلة عمرية واحدة. وبحسب المعلومات التي يوفرها موقع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، فإنه لا يوجد حالياً في ريف دمشق سوى معهد التربية الخاصة للإعاقة الذهنية بالتل الذي «يقدم خدماته التربوية والتأهيلية ومهارات العناية بالذات للمعوقين ذهنياً الذين تتراوح اعمارهم بين 6 و14 سنة، وفق المنهاج الوطني للمعوقين ذهنياً».
ويبلغ عدد مراكز الرعاية الاجتماعية بحسب موقع وزارة الشؤون الاجتماعية 28 مركزاً في عموم سوريا، يتركز نصفها في مدينتي دمشق وحلب، و10 من مجمل هذه المراكز مخصصة «للصم والبكم والمكفوفين» فقط، في حين لا يوجد أي مركز حكومي للرعاية الاجتماعية في محافظات دير الزور والرقة وإدلب وحماة.
المراحل الدراسية
بالعودة إلى حكاية صبحي، فإنه بدأ المراحل الدراسية من مدرسة خاصة في مشروع دمر. تقول الأم: «لم يستمرّ في الصف الأول لأكثر من شهر، وبعد أن دفعنا 90 ألف ليرة أخبرونا بأنهم لا يستطيعون تقبل وجوده في مدرستهم، وعلينا إيجاد مدرسة أخرى. أعادوا لنا مبلغ 50 ألف واحتفظوا بـ40 ألف عن هذا الشهر. وبعد البحث والتوسط لدى أصحاب النفوذ وصلنا إلى مدرسة حكومية في حي المهاجرين، وافقت على استقباله بشرط أن نرفع طلباً لمديرية تربية دمشق لتأمين ما يعرف بغرفة المصادر، وهي غرف خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة في المدارس. لجأنا مجدداً إلى تأمين واسطة فوافقت مديرية التربية وأرسلت الأموال اللازمة إلى المدرسة لتجهيز هذه الغرفة. استلمت إدارة المدرسة الأموال ولم تقم بتجهيز الغرفة. كان ابني صبحي يقضي معظم وقته في هذه المدرسة متسلياً بالتنقل بين الصفوف، بحجة أن الإدارة كانت تراعي وضعه، فلم يتلق التعليم مثل بقية زملائه في الصف حتى انتهى العام الدراسي».
انتقل صبحي في العام التالي إلى مدرسة خاصة، قيل لأهله وقتها إنها مدرسة نموذجية وتعتني كثيراً بالأطفال، وتحديداً أصحاب الحالات الخاصة. تخبرنا أم صبحي: «بالفعل كان بناؤها نموذجياً، ويضم ملاعب ومسارح ومختلف وسائل الترفيه بالنسبة للطلاب، مع استقبال ورعاية واهتمام على أعلى المستويات. لكنها تتقاضى مبالغ كبيرة ترتفع سنوياً مع التقدم بالسنوات الدراسية، حتى وصل القسط السنوي بالنسبة لابني صبحي في الصف السادس عام 2019 إلى 800 ألف ليرة».
بقي صبحي في هذه المدرسة حتى الصف السابع، وبعد بداية العام الدراسي ودفع عائلته لجزء من القسط السنوي حصل تغيّرٌ ما أدى إلى خروجه من المدرسة. توضح الأم أن ما توصلت إليه هو أن المدرسة أصبحت مرخصة، مع ملاك وإدارة جديدتين: «بدايةً، اختلفت المعاملة مع ابني، وقيل لنا إن هناك شكاوى عليه من الطلاب، وقد بات غير مرغوبٍ به من زملائه ومعلميه بسبب تصرفاته. تواصلتُ مع معظم رفاقه في الصف وأكدوا لي أن هذا الكلام هو افتراء، وأنهم يحبونه ويتفهمون وضعه. بعدها فاجأتنا الإدارة الجديدة بطلب غريب، وهو ضرورة أن يُعرض صبحي على لجنة طبية في مديرية التربية، وأن يحضر تقريراً بوضعه مع ورقة تسمى ورقة الدمج، وذلك حتى يسمحوا له بالبقاء في المدرسة».
ذهب صبحي مع والديه إلى مديرية التربية، وبعد إجراءات روتينية معقدة جرى عرضه على اللجنة الطبية، وهي مكونة من سيدتين وجهوا للعائلة الكثير من الأسئلة التي وصفتها الأم بـ«السخيفة»، ولكنهما قررتا أن صبحي يعاني من صعوبات في التعلم، ويستطيع أن يبقى في مدرسته. تعلّق أم صبحي على ما حصل بعدها: «لكن النوايا المُبيتة من إدارة المدرسة بعدم استقبال ابني دفعتهم لوضع شروط علينا، منها أن ندفع كامل القسط السنوي دفعةً واحدة، وأن يلتزم ابني في الصف بكثير من الأمور لا يستطيع حتى الطلاب الأسوياء التقيد بها، وأنه مع أول ملاحظة عليه سيتم إخراجه من المدرسة. بالفعل بعد أيام قليلة فقط ادّعت مديرة المدرسة أن ابني قد اعتدى على أحد المعلمين، وأن علينا أن نجد له مدرسةً أخرى. تواصلتُ مع إحدى المعلمات في المدرسة سراً، فقالت لي إن هذه الحادثة مُختلَقة وغير صحيحة، وأن ابني كان يُعامل بطريقة سيئة، وبالترهيب في معظم الأوقات».
بعد كل هذا لم يعد أمام والدي صبحي إلا البحث عن مدرسة أخرى، وبعد شهر من البحث والسؤال والاستجداء والاستعطاف، وجدوا مدرسةً في المهاجرين وافقت على استقباله، ولكن في أول لقاء مع المرشدة النفسية في المدرسة الجديدة، نصحتنا بأن يترك ابني المدرسة ويجلس في البيت، لأنه ‘لا مكان في بلدنا لابنك ومن هم في حالته في المدارس.. البيت أفضل لهم’».
أم صبحي التي ذرفت الكثير من الدموع وهي تحكي لنا حكاية ابنها، أكدت من خلال تواصلها مع أهالي الأطفال المُصابين بالتوحد «أن هؤلاء الأطفال الذين ابتلاهم الله بمرض لا حيلة لهم به، لا مكان لهم في هذا البلد كما قالت لنا المُرشِدة، فالمدارس الخاصة التي تقبل الدمج تتقاضى بين 500 ألف و800 ألف ليرة سورية كمبلغ إضافي عن بقية الطلاب حتى يوافقوا على استقبالهم. وفي المدارس العامة ينصحونك بأن تُجلس ابنك في البيت أفضل له من التعلم. لا معاهد ولا أندية تستقبلهم، حتى المساجد التي تعلم الدين والقرآن ترفض استقبالهم».
تطرقت أم صبحي إلى عديد القصص عن أطفال تعرفهم ويواجهون ظروفاً سيئة مثل التي تعرَّضَ لها صبحي: «أحدهم كان يدرس في مدرسة خاصة بمشروع دمر، وكان أهله يغدقون المال والهدايا على الإدارة والمعلمين، وعندما وصل ابنهم إلى الصف التاسع أخرجته الإدارة من المدرسة ‘لكيلا ينزع سمعتها إذا لم ينجح في الامتحان النهائي’ كما قالوا لأهله».
قصور تعليم ذوي الاحتياجات الخاصة مجدداً
تفتقد المدارس الحكومية السورية حالياً إلى معظم المقومات التي تساعد ذوي الاحتياجات الخاصة، فلا يوجد دمج مع بقية الطلاب بالمعنى الحقيقي، ولا غرف مصادر ولا حتى مناهج خاصة لتتناسب في بعض الأحيان مع قدراتهم الذهنية وتساعدهم على مجاراة أقرانهم. ورغم أن هناك قراراً من وزارة التربية لدمج ذوي الاحتياجات الخاصة في المدارس، صدر بتاريخ 13/10/2001 ويحمل الرقم 2640543(43)، يتحدث عن «ضرورة قبول بعض أصحاب الإعاقات ضمن المدارس الحكومية انطلاقاً من توجهها إلى اتباع سياسة الدمج المعتمدة عالمياً» بحسب القرار، إلا إن ذلك القرار لم يُطبَّق أبداً. هذا ما روته السيدة مها والدة الشابة ماريا (24 سنة، مصابة بشلل دماغي) تدرس الآن في كلية التربية في لقاء مع إحدى الإذاعات المحلية. تقول السيدة مها وهي أم لابنتين (ماريا وريتا التي تعاني هي الأخرى من مرض التوحد): «ولدت ماريا مع مشكلة نقص أكسجة في الدماغ، وعانت من عدة مشاكل صحية، بدايةً بفتحة في القلب، ثم مشكلة في العين، ثم مشاكل بالمشي والتوازن. واستمرت معاناة ماريا في المدرسة من عدم تقبّل الطلاب والكادر التدريسي لها، وهذا الحديث قبل عشرين سنة من الآن، ثم دخلت مدرسة حكومية. ولأنني كنتُ أعمل مُدرِّسة فقد سعيت للانتقال إلى مدرسة ابنتي وإلى صفها بالتحديد لأكون بجانبها وأقدم لها كل ما تحتاجه من دعم نفسي وجسدي وتعليمي. تدرَّجت ماريا في المدرسة بنجاح، وكنت انتقل معها من صف إلى آخر، حتى أنهت المرحلة الاعدادية وانتقلت إلى الثانوية وهنا بدأت الصعوبات لأنه لم يسمح لي أن ارافق ابنتي كما فعلت في المراحل السابقة، فاضطُررت إلى إخراجها من المدرسة ووضعها في معهد خاص لفترة، ثم بسبب الحرب أجلستُها في البيت حتى الثالث الثانوي».
وتتابع الوالدة حديثها عن ابنتها الكبرى فتقول: «لجأتُ إلى بعض الأصدقاء والزملاء لمساعدة ابنتي، ولكي أُعطيها مزيداً من الثقة قدمت أوراقي مع أوراقها لامتحان البكلوريا، ودرسنا سويةً، وكم كانت فرحتي كبيرة بنجاحها ودخولها الجامعة». تؤكد الأم أن ابنتها لا تعاني من أي مشاكل عقلية، ومشاكلها فقط جسدية، لذلك هي مجبرة على التواجد مع ابنتها في الجامعة، وتحضر معها المحاضرات وتسجل لها وتلخص وتكتب حلقات البحث معها، وكل ذلك من أجل تحقيق حلم ماريا وعائلتها في التخرج من الجامعة والحصول على الشهادة التي تتمناها فقط من أجل مساعدة أقرانها من ذوي الاحتياجات الخاصة، وفي طليعتهم أختها ريتا.
صعوبات التعليم الجامعي ومعوقاته
وجدت ماريا من يساعدها ويقف إلى جانبها حتى دخلت الجامعة، لكن محمد صالح ناصيف الذي يعاني من المرض نفسه لم يحصل على المساعدة، وتم قتلُ حلمه بدخول الجامعة. نشرَ الشاب قصَّته على صفحته الشخصية في فيسبوك أكثر من مرة، علّه يجد من يساعده ويوصل معاناته لأصحاب الشأن، وفي كل مرة كان يُضطر إلى حذف المنشور تحت الضغط. وتتلخص قصة الشاب بحصوله على شهادة التعليم الثانوي في الفرع العلمي، لكنه وجد الباب موصداً في وجهه «ممنوعاً من دخول الجامعة بسبب إعاقته». ناشد الشاب مراراً بشار الأسد وزوجته، ظناً منه أنهم أكثر رحمةً من «المسؤولين» الذين يتهمهم «بقتل حلمه ومنعه من الدخول إلى الجامعة».
كما التقينا شاباً آخر طلب عدم ذكر اسمه، عاش تجربة ناصيف نفسها، ومرَّ بالظروف الصعبة ذاتها التي لاقاها صبحي وماريا بسبب رفض المدارس غير المخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة استقباله نتيجة إعاقته الحركية، لكنه تحدى الكثير من المشاكل التي واجهته وأكمل تعليمه الجامعي وتخرج من إحدى الجامعات. وبعد أن تخرج وصار باحثاً عن عمل، يقول: «أحمل بطاقة مُعاق صادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعية، والتي تمنح الكثير من الميزات لحامليها، ولكني لم أرَ شيئاً من هذه الميزات». يتمنى الشاب زيادة النشاطات والفعاليات الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة في المستقبل، وتعميم الدورات الهادفة إلى تأهيلهم ودمجهم في سوق العمل، وإتاحة فروع أكثر لهم في مفاضلة ذوي الاحتياجات الخاصة، والاهتمام بالطرق العامة لتناسب أوضاعهم.
قد تكون معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة في المرحلة الجامعية أكبر منها في المراحل الدراسية الأسبق، لأن التمييز ضدهم يبدأ منذ التقديم على المفاضلة لاختيار الكلية الأنسب، ففي الجامعة مفاضلة خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة، لا يوجد فيها اختصاصات طبية أو كلية حقوق. وإذا أراد ذوو الاحتياجات الخاصة دراسة أحد هذه الفروع، يتوجب عليهم التقدم للمفاضلة العامة مع بقية الطلاب، دون وجود آفاق للعمل بالشهادة بعد التخرج. يضاف إلى ذلك الظروف الصعبة التي يعيشها ذوو الاحتياجات في الجامعات والكليات، وتشمل صعوبة الوصول إليها عبر المواصلات العامة، وعدم تخديم المكان بتسهيلات خاصة بهم، وعدم وجود تكنولوجيا تعليمية مناسبة لهم، وعدم معرفة الكادر التدريسي بأساليب التواصل معهم في كثيرٍ من الأحيان.
وظائف الدولة
سعاد (اسم مستعار) شابةٌ من مواليد عام 1996، تعاني من استسقاء دماغ منذ الولادة. وكانت قد وُلدت دون أي قدرة على الرؤية، وأجمع الأطباء حينها على عدم وجود أمل في أن ترى النور، لكنها بدأت ترى الأشياء بعمر السنتين مع وجود ضعف كبير بالنظر. وقد فقدت النظر في إحدى عينيها منذ مدة قصيرة، وتعاني من نقص كبير في العين الثانية، وهي لا تستطيع استخدام النظارات الطبية أو إجراء أي عملية جراحية لتصحيح النظر لأن شبكية العين لديها لا تحتمل دخول أي مؤثر خارجي كما قالت في حديثها مع الجمهورية.نت.
ومما قالته لنا سعاد: «درستُ في المدارس الحكومية، وقد عانيت كثيراً بسبب مشاكلي الصحية، وخاصةً النظر، ولم أتلقَ المساعدة من أحد، وبقيت حتى المرحلة الثانوية عندما أخبروني بأنه لا يمكنني المتابعة في المدارس الحكومية، فانتقلتُ إلى مدرسة خاصة في شارع بغداد. نجحتُ في الثانوية العامة بمجموعٍ مرتفعٍ سمحَ لي بدخول جميع الفروع الجامعية المتاحة في المفاضلة العامة للفرع الأدبي ومفاضلة ذوي الاحتياجات الخاصة. سجّلتُ في كلية الشريعة بناءً على رغبةٍ من أهلي، لكنني لم أشعر بالارتياح فأوقفت تسجيلي، وفي العام التالي عندما رغبت بالانتقال إلى كلية الأدب العربي، أخبروني أنه لا يحق لي لأن الأولوية للناجحين في هذا العام، أو يمكنني الانتقال إلى مدينة أخرى، فانتقلت إلى مدينة درعا، ولكن بسبب وضعي الصحي وبُعدِ المسافة أخرجني أهلي من الجامعة. ولأن طموحي كان كبيراً، فقد حصلت على وظيفة في إحدى المشافي كموظفة من الفئة الثانية، لكنهم عاملوني بكل سوء نظراً لوضعي الصحي، وكانوا يجبروني على نقل أنابيب الدم، والصعود والنزول على الأدراج، علماً بأنني أعاني من ضعف البصر، ويداي لا تساعداني على حمل الأشياء، وهي أعمال يقوم بها موظفو الفئة الخامسة». بقيت سعاد لمدة عامين في وظيفتها، ثم انتقلت للعمل في كلية الحقوق مدة عامين آخرين، ولم يكن الحال فيها أفضل من المشفى، حيث كانت مُراسلةً تحمل البريد بين المكاتب. ثم انتقلت إلى كلية طب الأسنان، ومازالت المعاناة مستمرة».
حال سعاد في وظيفتها هو حال جميع الموظفين تقريباً من ذوي الاحتياجات الخاصة: نظرةٌ دونيةٌ من المدراء والزملاء، وعدمُ إيمانٍ بقدراتهم على فعل ما يفعله البقية، حتى لو كان بحوزتهم شهاداتٌ أعلى من التي يحملها زملاؤهم في الرتبة الوظيفية نفسها. ورغم أن قانون العاملين في الدولة، الخاص بالوظائف وطبيعتها، يطالب المؤسسات العامة «بتوظيف ذوي الاحتياجات حتى 4% من عدد الموظفين لديها»، يضاف إليه القرار 15م.و لعام 2017، المتضمن «شروط تعيين الأشخاص ذوي الإعاقة في الجهات العامة»، إلا أن معظم الوزارات غير ملتزمة أو معنية بتطبيق القانون، وإن التزمت فيكون ذلك بنسب ضئيلة لا تقترب من النسبة المخصصة لهم بموجب القانون. كما تكون ظروف التوظيف سيئةً ولا تتناسب مع وضع ذوي الاحتياجات الخاصة الصحي (جسدياً أو ذهنياً)، ولا مع الفئة الوظيفية التي تم على أساسها التوظيف.
وزارة الشؤون غير معنية بشؤونهم
حدَّدَ المرسوم التشريعي رقم 50 لعام 2013 مهام وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. وجاء في مواده أن من مهام الوزارة توفير الحماية والرعاية الاجتماعية لبعض الفئات «منهم ذوي الإعاقة»، والعمل على تمكينهم والوصول بهم إلى حالة الاندماج المجتمعي السليم. لكن الواقع لا يقول ذلك أبداً، حيث علمنا من إحدى السيدات أن ابنتها من بين الأشخاص الذين يحق لهم الحصول على راتب شهري من الوزارة حتى سن 18، لكنها في كل مرة كانت تذهب لتسأل عن الراتب، يخبرونها أنه لا يوجد لابنتها اسمٌ في القوائم. اكتشفت السيدة بعد تجاوز ابنتها لسن الثامنة عشرة أن أحد الموظفين في الوزارة كان يقبض عنها ويوقع باسمها، واضطرت الأم «للسكوت لأن الشكوى أو الادعاء سيكلفها مالاً أكثر مما قد تحصل عليه» بحسب رأيها. هذا نموذجٌ صغيرٌ مما يمكن أن تقدمه وزارة الشؤون الاجتماعية لذوي الاحتياجات الخاصة وعائلاتهم، ومن الفساد المستشري في هذه الوزارة بشكل عام.
جميع من التقتهم الجمهورية.نت وسألتهم عن دور الوزارة والخدمات التي تقدمها كان جوابهم: «لا شيء». يضيف أحدهم: «لا يفعلون ولا يقدمون شيئاً باستثناء القيام بفعاليات مختلفة لاختلاس الأموال من جهة وللحضور أمام وسائل الإعلام من جهة ثانية». وقد دفع الفساد المُستشري وزيرةَ الشؤون الاجتماعية والعمل في حكومة النظام، سلوى العبد الله، في الشهر الأخير من عام 2021 إلى إصدار عدد من القرارات في مفاصل الوزارة ومديرياتها في المحافظات، وذلك تحت تأثير الضغط الإعلامي ومواقع التواصل الاجتماعي بسبب قضايا فساد واختلاس أموال ورشى.
بطاقة «مُعاق»
الانجاز الكبير الذي تعتقد وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل أنها حققته هو بطاقةٌ مكتوبٌ عليها (مُعاق) تعطى لذوي الاحتياجات الخاصة. ويعتبر الحصول على هذه البطاقة بحد ذاته إنجازاً للمعني وذويه، نظراً للإجراءات المعقدة التي تتطلبها من الأوراق وفحص اللجنة الطبية، وكل ذلك يحتاج إلى وقت طويل وتعب وجهد، والأهم من كل ذلك واسطة قوية. لكن أين تكمن المفارقة؟ هذه البطاقة التي كانت يوماً ما تعطي لحامليها بعض الامتيازات لم يعد لها جدوى، ولم يعد هناك أي امتيازات ممنوحة بموجبها. في السابق كانت «بطاقة المُعاق» تخول صاحبها الحصول على إعفاء من الرسوم للكثير من الأمور كالطوابع والنقل وحسومات ومعاملة خاصة في المشافي العامة والخاصة والمراكز الصحية، ومساعدات وأدوية تقدمها بعض الجمعيات التابعة للحكومة، كما كان هناك جمعيات سكنية لذوي الاحتياجات الخاصة توقفت جميعها قبل عام 2011، فضلاً عن منح لوحات السيارات الخاصة بذوي الاحتياجات. كل هذا توقف الآن، ولم يعد موجوداً، لا مع وجود البطاقة ولا من دونها. وتجدر الإشارة إلى أن ما شهدته سوريا خلال العقد الماضي أدّى إلى مزيد من تدهور أوضاع ذوي الاحتياجات الخاصة، لكنه ليس السبب في تردي الخدمات المُقدَّمة لهم من الحكومة، وهو ما اعتاد النظام ووسائل إعلامه قوله، ففي العام 2009 نشرت شبكة أريج تحقيقاً مطولاً تحدثت فيه عن أحوال «الصُمّ في دمشق»، وعن الفساد والترهل والإهمال في مؤسسات الدولة التي من المفترض أن تقوم برعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، وكيف أدى ذلك إلى ضياع الكثير من أحلام أولئك الشباب وفقدانهم فرص التعلّم والتوظيف. أما الأمثلة التي أتينا على ذكرها في هذا التقرير، فليست إلّا جزءاً يسيراً جداً من أحوال ذوي الاحتياجات الخاصة ومصاعبهم اليومية والمستمرة، وما يلاقونه وتلاقيه عائلاتهم من معاملة سيئة على جميع الأصعدة.
موقع الجمهورية