صفحات الثقافة

في تفكيك العولمة/ علي أنوزلا

أعادت الحرب الروسية على أوكرانيا، وقبلها أزمة جائحة كورونا، النظر إلى مقولة تفكيك العولمة كنظرية بدأت تأخذ حيزا في التفكير السياسي والاستراتيجي لمفكرين اقتصاديين واستراتيجيين كثيرين، فقد أبانت هذه الحرب مدى حاجة الدول إلى تحقيق اكتفائها الذاتي، واعتمادها على مواردها الخاصة داخل حدودها، لتحقيق استقلالها وضمان حفظ أمنها واستقرارها. وقبل ذلك، كانت أزمة جائحة كورونا أكبر اختبار عالمي لجميع الدول لتحقيق اكتفائها الذاتي، عندما أغلقت جميع الدول حدودها فجأة، وبدون سابق إنذار، مددا غير محدّدة. وبلغت حدة التنافس اللا أخلاقي بين كبريات الدول، بما فيها تلك الديمقراطية، إلى حد قرصنة الطائرات التي كانت تقلّ كماماتٍ واقية من الوباء للاستئثار بها دون غيرها.

ظهر مفهوم تفكيك العولمة للجواب على تراجع العولمة وعدم تمكّنها من تحقيق التنمية المستدامة للدول التي وجدت نفسها منجرفةً داخل هذا السيل العالمي الجارف، وذلك عكس ما كان يرسمه منظّرو العولمة من أحلام رومانسية ستحققها الظاهرة لشعوب الكون. ويُعتقد أن أول من بدأ استعمال مفهوم “تفكيك العولمة” هو عالم الاجتماع الفيليبيني، والدن بيلو، قبل أن يطوّره اقتصاديون ومفكّرون مؤثرون، ومنهم جاك سابير، صاحب كتاب “تفكيك العولمة” الصادر عام 2011. ويختلف هذا المفهوم عن مفهوم مناهضة العولمة الذي تبنّاه مناهضو هذا النظام منذ ظهوره نهاية القرن الماضي، ويتردّد صداه في كل الملتقيات الاجتماعية العالمية التي تشهد المكسيك حاليا نسختها الجديدة.

يطالب منظّرو هذا المفهوم بإعطاء الأولوية لإنتاج الأسواق المحلية على حساب الاستيراد. وعلى عكس النظام الذي يمنح الامتيازات للإنتاج المخصّص للتصدير. وبدأ هذا المفهوم بالتبلور في عالم الاقتصاد في خضم الأزمة المالية عام 2008 التي أدّت إلى تراجع حجم التجارة على نطاق العالم، وتسبّبت في انكماش الطلب على السلع، ما أثر على حركة عولمة السوق. وفي المقابل، بدأ ترويج مفهوم مناهضة العولمة في إطار المنتديات الاجتماعية المفتوحة منذ بداية الألفية الحالية، وكانت ترفعه حركات ذات توجهات يسارية راديكالية، وحركات يمينية متطرّفة، كلٌّ لأغراضٍ تخصّ أيديولوجيته التي يدافع عنها.

والعودة إلى إثارة هذا المفهوم اليوم مرتبطة بما يشهده العالم من تحوّلاتٍ استراتيجيةٍ كبرى ستتمخّض، لا محالة، عن الحرب الروسية على أوكرانيا، وما راكمته شعوب الدول من دروس استنتجتها من أزمة جائحة كورونا بكل مآسيها. ففي كلا الحالتين، سقطت أسطورة “العولمة السعيدة”، وبات على الدول، خصوصا النامية منها، واجب البحث عن مقدّرات ذاتية لضمان استمرار تنميتها الاقتصادية والاجتماعية.

كانت العولمة ظاهرة اقتصادية عالمية فرضتها عوامل تاريخية ساهمت في نشأتها وبلورتها، واعتُبرت نهاية الحرب الباردة نهاية ثمانينيات القرن الماضي، التي وصفها المؤرخ الأميركي، فوكوياما، بتعجّل كبير، “نهاية التاريخ” في كتابة الحامل العنوان نفسه، والصادر مطلع تسعينيات القرن الماضي، بمثابة تبلور هذا المفهوم تتويجا لانتصار الرأسمالية نظاما عالميا بات يفرض نفسه على أنماط الاقتصاد الأخرى. عندها، قليلون هم الذين كانوا يشكّون في أن العولمة يمكن أن تكون مجرّد “حالة تاريخية”، مثل حالاتٍ أخرى كثيرة سبقتها، يمكن تجاوزها عبر تطوير بدائل اقتصادية عالمية، ولن تكون النظام الوحيد والنهائي الذي سيحكُم العلاقات الاقتصادية الدولية كما كان، وما زال، يروّج ذلك منظّروها والمدافعون عنها.

اليوم، يعود مفهوم تفكيك العولمة، جوابا عن الأزمات التي تعرّض لها العالم مرورا بأزمة كورونا وحرب أوكرانيا التي يعتقد مفكّرون أنها أنهت العولمة التي عرفها العالم منذ ثلاثة عقود، وقد تكون آخر مظاهرها القاتلة، وهذه مفارقة غريبة، هي عولمة التضخّم الذي تعاني منه اقتصادياتٌ كثيرة في العالم اليوم. أما الآتي فسيكون أصعب، وربما أسوأ، ما يدفع كثيرين إلى التفكير بجدّية في الاعتماد على الذات أكثر، لتحصين أمن شعوبهم الغذائي والطاقي، ووحدة أراضي دولهم واستقلال أنظمتهم السياسية وصيانة سيادة دولهم.

وعودا على بدء، يجب القول إن مفهوم تفكيك العولمة، بحسب منظّريه الجدد، لا يعني القضاء نهائيا على مظاهر العولمة الحالية، لأن أنصاره ليسوا بالضرورة ضد زيادة الدول والأشخاص ثرواتهم، وإنما هم مع تقاسم هذه الثروات بشكل عادل، فالمفهوم لا يعني العودة إلى الحمائية القديمة، بقدر ما يهدف إلى إعادة تنظيم العالم، وتقسيمه إلى مناطق جغرافية متماسكة ومتكاملة ومستقلة.

طبعا، لا يجب إنكار ما للعولمة من إيجابيات كبيرة على دول وشعوب كثيرة كانت تعيش في عزلة قاتلة، وما زالت هذه الظاهرة تحمل بين طياتها إيجابياتٍ كثيرة كالحرية وحقوق الإنسان في مفهومها العام وحرية المبادرة ورقمنة الاقتصاد، والتدفق الحر للمعلومات، إن جرى استغلالها والاستفادة منها بالشكل الصحيح والجيد، فمفهوم التفكيك لا يعني بالضرورة القضاء على الشيء، وإنما إعادة تركيبه، لإعادة صياغته بما يناسب الدول والشعوب ويخدم مصالحها.

ما يدفع إلى الحديث بإلحاح عن مفهوم تفكيك العولمة هو الاتجاه نحو ظهور حربٍ باردةٍ جديدةٍ باتت ملامحها تلوح في أفق نهاية الحرب الروسية على أوكرانيا، وهو ما سيؤثر سلبا على العولمة، خصوصا في طابعها النيوليبرالي، لكن خيار الدول النامية المستقل هو الذي سيحسم فيما سيكون عليه المستقبل، لأن إعادة تقسيم العالم مرّة أخرى إلى معسكرين سيجعل هذه الدول هي الأكثر تضرّرا من انهيار نظام العولمة القديم. ومن هنا وجوب التفكير مسبقا بتفكيك هذه الظاهرة قبل سقوطها على رؤوسنا، لأن ذلك سيكون أسلم وأنفع.

العربي الجديد

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button