اتهام المخرج الإيراني أصغر فرهادي بالسرقة… مسيّس؟/ هوفيك حبشيان
قصة الرجل المدين وكنز الذهب رائجة شعبيا واستخدمها بريخت في إحدى مسرحياته
قضية فنية بالغة الحساسية في عالم السينما لفتت الأنظار أخيراً وأحدثت جدلاً وانقساماً في صفوف متابعي الفن السابع: اتهام المخرج الإيراني الشهير أصغر فرهادي، الفائز بـ”أوسكارين” وبعدد من الجوائز في كان وبرلين، بسرقة فكرة فيلمه الأخير “قهرمان” من طالبة سابقة له تُدعى أزاده مسيح زاده، من دون أن يذكر المصدر الذي استلهم منه في جنريك الفيلم. سارعت الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية إلى الكتابة عن الموضوع، فخبر كهذا لا يمكن أن يمر بلا ضجة، خصوصاً أنه يتعلق باسم كبير في عالم الإخراج أثنى عليه النقّاد واحتفوا بنظرته المختلفة لإيران، وببراعته في نقل حكايات الناس العاديين في دولة لا تعترف بحرية أفرادها.
الطالبة أزاده مسيح زاده التي بدأت تنجز الأفلام في عام 2014، رفعت على فرهادي دعوى قضائية تتهمه فيها باستعمال قصّة فيلمها أو سرقتها. يبدو الاتهام خطيراً لوهلة أولى، إلا أن معرفة الحقيقة في هذا الشأن تحتاج إلى فصل الخيوط بعضها عن بعض، كما أنها تتطلب الدخول في بعض التفاصيل المرتبطة بهذه القضية التي تهدد سمعة المخرج البالغ من العمر خمسين سنة. القضاء لم يقل كلمته الأخيرة بعد، والمخرج لم تتم إدانته كما ادعت بعض المصادر الصحافية. فهناك قاض ثان سيتولى القضية لإصدار حكم يدين فرهادي أو يبرئه من التهم الموجهة إليه، مع التذكير أن القضاء ليس المكان المثالي لمناقشة قضايا كهذه، إذ إنها تحتاج إلى فهم أوسع للفن والاقتباس والنقل والاستلهام، فالقانون في واد والفن في واد آخر. لكن يبدو أن المحكمة تنحاز إلى الآن للطالبة، علماً أن فرهادي رفع عليها أيضاً من جهته قضية تشويه سمعة. ويُقال إنه في حال تأكدت التهمة عليه، فقد يضطر المخرج إلى إعطاء أرباح الفيلم إلى الطالبة، وقد يتطور الحكم بسجن المذنب.
بدأت الحكاية في عام 2014، عندما تقدّمت زاده بمشروع فيلمها الوثائقي الأول “الجميع رابحون، الجميع خاسرون” ضمن ورشة كان أشرف عليها فرهادي، تناولت فيه القصّة الحقيقية لرجل سُجن بسبب دَين، ثم بعد خروجه من خلف القضبان وجد كيساً من الذهب فأعادها لصاحبه. الفيلم عُرض في مهرجان سينمائي يقام في مدينة شيراز في عام 2018، لكن الحكاية كانت منتشرة جداً قبل الفيلم، بمعنى أنها ليست ملكها أو من بنات أفكارها. وصرحت المخرجة الشابة أن فرهادي ضغط عليها كي تتنازل وتوقّع على ورقة تؤكد أن ملكية القصّة تعود إليه وذلك من دون أي مقابل، في حين يقول المخرج إنه كان على علم بهذه القصّة قبل الفيلم، وإنه استلهمها من مسرحية “حياة غاليليو” لبرتولد بريخت.
فرهادي استعار هذه الجزئية، أي الخط الرئيسي الذي يمسك السيناريو، فكرة السجين المدين الذي يجد الذهب، فبنى عليها حكاية وفيلماً كاملاً. هذا يعني أنه أخذ القصّة الحقيقية وبلورها وأضاف إليها تفاصيل كثيرة من وحي اهتماماته، لدرجة أننا نشعر بسرعة شديدة بأن الحكاية “فرهادية” بامتياز، وكأنها هي التي نادته إليها لا هو الذي استدرجها. فنتج من هذا كله “قهرمان”، الفيلم الذي شاهدناه في مهرجان كان العام الماضي، وفاز بالجائزة الكبرى وهتفت له قلوب النقّاد والجمهور معاً، كنص سينمائي يُعد استمراراً لنهج المخرج في توظيف الواقع الإيراني ليخرج منه بحكاية أخرى من حكايات الأكذوبة الجماعية التي يجيد أفلمتها ببراعة لا مثيل لها.
الفيلم عن رجل اسمه رحيم (أمير جديدي) يُسجن بسبب ديون لم يستطع إيفائها. يبدأ الفيلم مع خروجه من السجن في مأذونية لفترة قصيرة، في محاولة لإقناع صاحب الدين بإسقاط حقه عنه مقابل أن يسدد له جزءاً من المال ويقسّط البقية. لكن الأمور تأخذ مجرى مختلفاً، عندما يجد رحيم شنطة تحتوي على قطع من الذهب. بدلاً من بيع محتواها وتسديد دينه، يقرر إعادة الشنطة إلى صاحبها، الأمر الذي يجعله بطلاً في نظر الناس، فتتحول قضيته من قضية شخصية إلى قضية رأي عام. يستغل الشاب هذا التطور الدراماتيكي ليكسب تعاطف الشارع الذي قد يساعده على عدم العودة إلى الزنزانة. وبدعم من الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي يصبح رحيم بطلاً قومياً ومثالاً يُحتذى به، إلا أن هذا كله سينقلب عليه فجأةً بعد انتشار أخبار تؤكد أن المسألة كلها مدبرة وملفقة.
الفيلم ليس قصة
قد تبدو القضية بسيطة: مخرج مكرس ذائع الصيت يسرق من مخرجة في مقتبل تجربتها. لكنها في الواقع أكثر تعقيداً. فالمسألة في هذا الشأن ليست مقسومة بين أسود أو أبيض. كالعادة هناك مَن وقف في صف الطالبة لدوافع غير مرتبطة تماماً بالفن، وهناك مَن ساند المخرج لتاريخه الفني الذي يشفع له ولقدرته على الارتقاء بأي حكاية حتى لو سرقها أو استلهمها. في السينما خصوصاً والفن عموماً، الأسلوب هو الحكم وهو كل شيء. ويمكن التعرف إلى أسلوب فرهادي بسهولة، حتى إذا لم يحمل الفيلم اسمه. بالتالي لا تهم القصّة التي يرويها بقدر أهمية ماذا يفعل بها، وكيف ينقلها إلى الشاشة، بأي لغة سينمائية وبأي حركة كاميرا وبأي إدارة للممثّلين.
في هذا الصدد، يقول الناقد السينمائي المغربي سعيد المزواري: “يقولون إن أصغر فرهادي “سرق” قصّة رائعته “قهرمان” من تلميذته. يظن المساكين أن الأفلام الكبيرة ترتكز على “قصّة”، ويهللون بحكم قضائي وكأن الأمر يتعلق بقضية نفقة زوجية. والحقيقة أننا لو أعطينا القصّة نفسها لعشرات المخرجين غير فرهادي لصنعوا منها فيلماً سيئاً أو متوسطاً في أفضل الأحوال. السينما في مكان آخر غير هذا الذي تظنونه. أما بعض ممّن يعتبرون أنفسم كتّاب سيناريو في المغرب فيخلطون بشكل غير واع بين القصّة والسيناريو”.
هناك أيضاً صنف من الناس يرى في هذا كله مؤامرة من السلطات ضد مخرج “البائع”. لا بمعنى أن فرهادي بريء تماماً من التهمة بل على مستوى إعطاء التهمة هذا الحجم وهذا الاهتمام في دولة قمعية لا عدالة فيها. هذا مع العلم أن فرهادي لم يكن دائماً معارضاً شرساً للنظام الإيراني، وكان يحاول دائماً تدوير الزوايا. قبل بضع سنوات، سألته في مقابلة عن نظرة السلطات إلى عمله، فكان رده: “رد فعل السلطات ليس كله متشابهاً. هناك مَن يشعر بالسعادة من النجاح الذي أحرزته، وهناك مَن يستاء منه، معتبراً إياه مسألة تعود بالضرر والخطورة على البلاد. هناك مَن يعلن عداءه حيال نشاط مَن هذا النوع، وهناك مَن يؤيده. لا وحدة في النظرة إلى عملي، وأرى في هذا ظاهرة صحية”. لكن، كان هذا قبل “بضع سنوات”، عندما كان المخرج ينتهج سياسة الصمت كي لا يضطر أن يصبح سينمائياً مغضوباً عليه ومتنقلاً بين عواصم الدول الغربية كزميله محسن مخملباف. فأخيراً، وقبل تفجير قضية “السرقة”، شعر بأنه طفح الكيل، بعدما اتُهم بأنه يمسك العصا من منتصفها، أي أنه لا معارض ولا موال، فغرد قائلاً إنه لا تربطه أي شيء بالحكومة الإيرانية، معتبراً أن الإعلام الرسمي لم يتأخر يوماً عن محاربته وأبلسته، منهياً رسالته الغاضبة بالقول إنه ينبغي على المعنيين أن يسحبوا فيلمه “قهرمان” من سباق الـ”أوسكار” إذا كانوا يعتبرونه أحد المدافعين عن النظام.
أياً تكن تداعيات هذه الاتهامات والمجرى الذي ستتخذه التحقيقات القضائية، فإن صيت فرهادي على المحك وهو الخاسر الأكبر في زمن وسائط التواصل التي تصنع الرأي العام وتملي ما يجب أن نفكّره في أي شخص، فتسقطه أو ترفعه على الراحات. وينتشر في الأوساط السينمائية، كلام عن أن تأخر مهرجان “كان” في الإعلان عن هوية رئيس لجنة التحكيم هو أنه كان من المفترض أن يترأس فرهادي اللجنة، إلا أن الاتهامات الموجهة ضده جعلت الإدارة تعود عن قرارها وتبحث عن مرشح آخر.
المسألة برمتها لا بد أن تذكّرنا بكلمة منسوبة إلى بيكاسو قال فيها: “الفنان الجيد ينسخ، الفنان الكبير يسرق”. من الصعب شرح معنى هذه الجملة، لكنها تعبّر جيداً عن حالة فرهادي، الذي بحسب اطلاعنا على شغله وعلى النحو الذي يعمل به، هناك احتمال كبير أن يحوّل هذه القضية إلى حبكة فيلمه المقبل، ذلك أنها تنطوي على كل المكونات التي سبق أن دسّها في أعماله، من اتهام وكذب وحقائق تظهر تباعاً… كل فيلموغرافيته تدور في هذا الفلك، حتى الفيلم “المسروق” يتحدّث عن السجن والكذب والتهمة، حد أن الاتهام نفسه يبدو وكأنه نسخة رديئة لأحد أفلامه.
