الفقر والجنسانية والمحرمات السياسية: موضوعات أفلام السعفة الذهبية خلال 75 عاماً/ علاء رشيدي
خلال السنوات الماضية تميزت السعفة الذهبية في جرأتها في اختيار موضوعات الجنسانية والجندر، خصوصاً عند الفئات المهمشة المراهقة.
يستعد التاريخ السينمائي لإنجاز النسخة 75 من مهرجان “كان” السينمائي الذي انطلقت دورته الأولى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1946 بشكل سنوي باستثناء عامي 1948-1950.
مراجعة الأفلام التي حازت خلال هذه السنوات جائزة السعفة الذهبية، وهي الجائزة الأقدر التي يوزعها المهرجان كل عام، تساعد على تبيان أبرز الموضوعات التي احتلت انشغالات الصناعة السينمائية العالمية خلال السنوات الخامسة والسبعين. فلا تقتصر أفلام السعفة الذهبية، كما هو الحال مع جائزة الأوسكار، على الأفلام الأميركية أو الفرنسية بل تشمل أيضاً أفلام السينما العالمية.
نلاحظ مثلاً في السنوات العشر الماضية حضور الأفلام التي تعالج موضوعة الفقر من أماكن مختلفة من العالم، منها فيلم السعفة الذهبية لعام 2019 وهو الفيلم الكوري “الطفيلي” (إخراج بونغ جون هوو)، وكذلك الفيلم الياباني “نشالي المتاجر”، 2018، والفيلم البريطاني “أنا دانييل بليك” (كين لوتش، 2016)، الذي يروي حكاية حقيقية عن الموظف البريطاني دانييل بليك الذي فارق الحياة بين أروقة مؤسسات الرعاية الطبية للموظفين البريطانية.
مشاركة المرأة وموضوعات المرأة
برغم حضورها اللافت في لجان التحكيم، لم تمنح السعفة الذهبية إلا مرتين لمخرجات نساء. العام الماضي حصلت المخرجة الفرنسية الناشئة جوليا دوكورنا مع فيلمها الطويل “تيتان أو المعدن” (2021) على السعفة النسائية الثانية، ولا شك في أن الفيلم يحمل لغة سينمائية جديدة، وحكاية نادراً ما رويت بهذا المقدار من الحساسية والقسوة. فالشخصية الأساسية ألكسيا تمزج بين التمرد الوحشي، الفتك الجنسي، والدفاع الحثيث عن خصوصية ذاتها إزاء العالم من حولها.
منذ الطفولة، إثر حادث مروع في سيارة والدها، ستضطر ألكسيا لزراعة قطع من المعدن داخل جمجمتها. يبدأ الفيلم وهي في الثلاثين من عمرها، تعمل في مجال الرقص العاري، إن الجسد التسويقي الجنسي يخفي علاقته المعقدة مع المعدن، الذي صار عضوياً في داخله خلال السنوات الثلاثين، وألكسيا الآن ستعيش آثار التفاعل بين المعدن واللحم، بين الصناعي والطبيعي، بين العقل والأداة. وحكاية (ألكسيا) هي فرضية تداخل العضوي والمعدني في الجسد الإنساني المعاصر. لقد النقاد الفيلم على أفلام تميزت في معالجة علاقة حضاراتنا مع الانحراف الجنسي والمعدن، خصوصاً فيلم (الصدمة، ديفيد كروننبرغغ، 1973) الذي عالج التعلق الهوسي الاستهلاكي الجنسي بالسيارات.
أما السعفة النسائية الأولى كانت في الثمانينات مع فيلم مختلف تماماً بعنوان (درس البيانو، 1993)، للمخرجة جون كامبيون الذي يعود بنا إلى نهاية القرن السابع عشر في اسكتلندا، مع رحلة انتقال الزوجة الصماء “آدا” وابنتها عبر أراضٍ وأنهار وشواطئ نيوزيلندية، لتلتحق بزوجها إلى ما وراء الأراضي البرية، فتفقدان كل ما تملكانه خلال الطريق، ويرفض زوجها نقل البيانو من الشاطئ إلى عمق الغابات، فيمتلكه أحد السكان الأصليين (بيرنز) الذي يقترح أن يعيد إلى آدا مع كل درس عزف تعلمه إياه مفتاحاً من مفاتيح البيانو. إنه التعلم الصامت، العلاقة مع الآلة الموسيقية، لكن أيضاً مع جنسانية مستمدة من الأدب الرومانتيكي للشقيقات (برونتي أو د. ه. لورانس). ويتميز الفيلم بموضوعات الاختلاف بين الثقافة والطبيعة، وبين الملّاك البيض والسكان الأصليين، كما في شخصية بيرنز الذي ينتمي إلى جماعات السكان الأصليين ليأتي البيانو ويشكل مفارقة بين الرفض الحضاري له والشوق له كآلة موسيقية.
الجسد، الإجهاض، والعالم الجنساني
وإن غابت المخرجات النساء عن السعفة الذهبية، إلا أن أفلام السعفة تناولت قضايا المرأة باستمرار، أبرزها فيلم “4 أشهر، 3 أسابيع، ويومان”، 2007، للمخرج الروماني كريستيان مونغو الذي يتناول موضوعة الإجهاض في ظل النظام الشمولي الشيوعي في رومانيا تحت حكم نيكولا تشاوشيسكو، فتتركز على الفتاتين أوليتا وصديقتها الحامل في الشهر الخامس غابيتا الرقابة السياسية، والاجتماعية، والجنسية. وتجري الأحداث في صمت الأماكن الخاضعة للرقابة والمساءلة الحزبية.
خلال السنوات الماضية تميزت السعفة الذهبية في جرأتها في اختيار موضوعات الجنسانية والجندر، خصوصاً عند الفئات المهمشة المراهقة، كما هو الحال في فيلم “حياة آديل، أو الأزرق أكثر الألوان حميمية”، 2013، للمخرج الفرنسي من أصل تونسي عبد الرحيم خشيش، والذي تميز في معالجة موضوعات الجنسانية وأبعادها الطبقية والثقافية. في هذا الفيلم، هي حكاية الطالبة الثانوية آديل التي نتابعها في بحثها الجنساني، واستكشافها حتى نهاية المرحلة الجامعية، وذلك ضمن الطبقات الفرنسية المتوسطة والفقيرة المنحدرة من أفريقيا. ويبرع الفيلم في تشكيل الجاذبية الفكرية ورغبة التماهي الثقافي بين آديل والرسامة المثقفة والمنتمية إلى الطبقة الثقافية الباريسية إيما. ويصنف الفيلم في بعض مشاهده من النوع الإباحي، حيث اللغة الشعرية والحسية للمثلية العشقية تحتل شاشة السينما أمام الجمهور لتلتقط التفاصيل الحسية والعضوية للجسدين اللذين يفترقان بسبب الأصل الطبقي والميل الثقافي، لينتهي الفيلم في صالة معرض الرسامة بعد انفصال الشابتين، لتصبح حكاية تجربة عشقية وجنسية مثلية في مرحلة عمرية من البحث الذاتي والجسدي.
السعفة العربية والاستعمار
السعفة الذهبية العربية الوحيدة تعود إلى فيلم (وقائع سنوات الجمر،1975) للمخرج الجزائري (الأخضر حامينا) والذي يتابع الأحداث التاريخية في الجزائر على جزأين أساسيين: الأول سنوات الجمر والتي يعود فيها الفيلم إلى تعاون الاستغلال الاقطاعي والاقتصادي مع الاستعمار، والثاني سنوات النار وهي التي تتشكل فيها أولى بوادر حركة استقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي. يتبع السيناريو حكاية شخصية أساسية (أحمد) الذي من خلال حكايته ندرك أثر الطقس الصحراوي على واقع الإنسان في الصحراء الجزائرية، والجفاف يكون السبب الأساسي للصراعات المحلية، بينما يكتشف المزارعون أن المياه محصورة خلف سدود خاصة للأراضي الزراعية للطبقة المستغلة والمتعاونة مع السلطة الاستعمارية، ويمتلك الفيلم تلك اللغة السينمائية الذي تجعله سرداً واقعياً ملحمياً وتاريخياً للفترة التاريخية بين 1939 وحتى 1954 سنة بداية حرب التحرير الجزائرية. ورغم بعض المشاركات العربية التي أخذت صدىً في المهرجان إلا أن أياً منها لم يحصل على السعفة التي أكملت جولتها على القضايا العالمية.
كما الجوائز الفكرية والفنية الدولية، كنوبل للسلام أو للآداب، فإن السعفة الذهبية شجعت روحاً وفكراً فنياً أبدع في بلده الغارق بالرقابة والحكم الإيديولوجي، فالسينما السوفياتية خلال سنوات إنتاجها الغزير حازت السعفة مرتين. الأولى مع الفيلم الروسي “الغرانق تطير”، 1957، الذي اعتبر فيلماً ضد الحرب، وهو يروي قصة حب وانتظار خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية، حين تترمل تاتيانا سامويلوفا وتفقد حبيبها بوريس، وتنكسر المشاعر الشخصية أمام ظروف الحرب فتجبر تاتيانا نفسها على الزواج من ابن عمها متناسية غياب بوريس.
هذا الانتقال في مشاعر تاتيانا من الحالة العشقية في بداية الفيلم إلى القبول بالخضوع للفرصة المتاحة، يتعارض مع حالة الانتصار التي عاشها المجتمع السوفييتي بعد الحرب، إنها حكاية عن هزيمة عميقة تعبر خلف كل انتصار. أما الفيلم البولندي “رجل من حديد” لأندريه واجدا، 1981، فهو يجمع بين التصوير التخييلي والتوثيق في سرد الحكاية، التي تروي عن تعاضد عمال المرفأ في الإضراب الذي يشرعون به في ظل ظروف قاسية من الرقابة القاسية للحزب الحاكم، ومن محاولات التشويه التي يكثفها أعضاء الأمن البولندي لتشويه سمعة المشاركين بالإضراب من عمال المرفأ، والشخصية الأساسية في الفيلم هو مهندس راديو في الإذاعة الحكومية، (مايزك تومشيك) الذي يطلب منه العمل على تقارير صحافية تكشف عن الخلل النفسي والذهني لعمال الميناء المشاركين في الإضراب.
الجسد، الدين والقضايا القومية
السعفة الذهبية الأولى للسينما التركية مع فيلم YOL، الرحلة أو الطريق، 1983 حازها المخرج الكردي الأصل والنضال يلماز غواني، الذي اعتقل مرتين أثناء العمل على الفيلم، فساعده المخرج شريف غورن، وحاز الفيلم السعفة الذهبية بينما المخرج في السجن، بعد فرار يلماز كوني من السجن أخذ نسخة “النيكاتيف” من الفيلم وقام بتحميضه في أوروبا مجدداً. هذا الفيلم تطلب شروط تصوير صعبة أيضاً في الجبال الممتدة في البلدات الكردية والتجمعات المنعزلة. تجري أحداثه في فترة ما بعد انقلاب 1980 العسكري، ويتبع حكاية 5 مسجونين أكراد يمنحون إجازة يوماً واحداً عن ثلث مدة المحكومية، لكن خروجهم لا يكشف إلا عن مزيد من صعوبات العيش، فقدان الأمل، والتعرض للظلم. يتحرك الرجال الخمسة إلى مناطق كردية مختلفة، ديار بكر وأورفا وكونيا، وتعكس الكاميرا الإهمال والفقر الموحش في المناطق الكردية، وتلتقط العدسة الخوف والعزلة التي تعيشها المناطق النائية، كما أن أحد خطوط الحكاية ينتقد العادات والتقاليد الكردية نفسها، خصوصاً في موضوع المرأة، “الشرف” والثأر. السيد علي يقطع الجبال الجليدية ويعبر البرد ومسافات العراء لأجل الانتقام من زوجة أبيه التي يعتقد أنها أقدمت على الخيانة، وتتحكم النظرة الذكورية بحكاية المرأة التي تمثل عاراَ يجب تطهيره.
وإن كان الوضع السياسي وسطوة العادات القبلية هي المحاذير في فيلم “يول”، فإن فكرة فيلم السعفة الذهبية الإيرانية “طعم الكرز”، 1997، للمخرج عباس كياروستامي تضعنا مباشرة مع محاذير الدين، والفروض الاجتماعية المتعلقة بالحياة والموت والإرادة. يبدأ الفيلم بعدما قرر ربيعي الإقدام على الانتحار، وها هو يجول بالسيارة حول مكان القبر الذي حفره عند شجرة الكرز ليجد من يهيل عليه التراب بعد مفارقته الحياة في حفرة القبر، لقد خطط العملية ويسعى إلى العثور على هذه المساعدة الأخيرة مقابل مبلغ مادي خصصه لمن سيقوم بدفنه بعد موته. معظم الفيلم يدور داخل السيارة المتنقلة بين التلال والمدن القريبة بحثاً عن راغب بالمبلغ وبالمهمة. لكن الذين يقابلهم، جندي في الخدمة العسكرية، رجل دين، عمال مياومة، كلهم يقفون ضد فكرة انتحاره، والبعض يهدد بالعقاب الديني الذي يمنع الانتحار، وهكذا تكشف الحبكة الدقيقة عن تحكم الدين والثقافة بالإرادة الفردية، وأن الحياة والموت أيضاً مرتبطان بالفكر السياسي، الديني، والثقافي السائد.
آثار الحروب والاختفاء القسري
حتى الفيلم الأميركي “مفقود”، 1982 للمخرج (كوتسا غافراس) لاقى إدانة من إدارة الرئيس ريغان حال حصوله على السعفة الذهبية، وهو فيلم يروي التدخلات الأميركية في بلدان أميركا الجنوبية لمصلحة الأنظمة العسكرية وضد الأنظمة الديموقراطية. فالفيلم يدور حول انقلاب عسكري في دولة غير محددة في أميركا الجنوبية فيختفي على أثره الصحافي الأميركي (تشارلز هورمان)، فتقود التحقيقات التي تجريها زوجة الصحافي ووالده إلى تورط السفارة الأميركية باختفاء بعض الصحافيين اليساريين الذين فضحوا ممارسات السلطة العسكرية الانقلابية. كما احتلت إدانة الحروب عدداً كبيراً من أفلام السعفة الذهبية أبرزها الفيلم الأميركي “القيامة الآن”، فرانيسي فورد كوبولا، 1980، الذي يروي حكاية التسلط الأوروبي والأميركي في القارة الأفريقية، وكذلك الفيلم التايلاندي طالعم بونومي الذي يتواصل مع أرواح الماضي”، 2010، أبيشاتبونغ وريشيتهاكول، الذي يعاني من رؤى كابوسية متعلقة بأعمال العنف التي شارك بها في حق الشيوعيين في تايلاند عام 1965. وأخيراً في مجال الحرب، نذكر فيلم “آندرغراوند”، 1995، أمير كوستاريكا، الذي تبدأ أحداثه في زمن الحرب العالمية الثانية في بلغراد (1941) وتنتهي في ساحة القتال في سلوفانيا (1991).
إضافة إلى الأفلام ذات الطابع السياسي، عالجت بعض أفلام السعفة الذهبية موضوعات فلسفية، منها الموت في الفيلم الياباني “رحلة ناراياما”، 1983، شوهيو إيمامورا، وكذلك الفيلم الأميركي الاستعراضي “كل هذا الجاز”، 1981، بوب فوس، وهناك موضوعة القرين في الفيلم الياباني “ظل المحارب”، 1980، لأكيرا كيروساوا.
حصلت مجموعة من الأفلام على السعفة الذهبية لما حملته من تجديد في مدارس الفن السينمائي، مثل فيلم “روما مدينة مفتوحة”، (روبرتور روسيلليني، 1945) الذي افتتح أسلوب التداخل السينمائي بين الروائي والوثائقي، فيلم “بالب فيكيش”، 1994، لكوينتين تارانتينو، الذي افتتح أسلوب السيناريو المتقطع إلى حكايات متفرقة تتقاطع في حكاية عامة، أو فيلم المخرج الدنماركي لارس فون ترير، بعنوان “راقصة في الظلام”، 2000 الذي اعتبر نموذجاً في أفلام سينما الدوغما وهي مدرسة سينمائية حملت معها أسلوبها في التصوير وجمالياتها الجديدة في المونتاج السينمائي آنذاك.
درج
هل ثمة حداثة بصريّة في السينما العربيّة؟/ أشرف الحساني
تعيش السينما العربيّة في السنوات الأخيرة مخاضًا جماليًا، ذلك أنّ التفكير في صُوَرها ومكانتها المركزيّة في نفوس ومَشاغل المُشاهد بالعالم العربيّ، تجعلنا نُفكّر في جوهر هذه السينما والمكانة التي حقّقتها والمخاضات السياسيّة والاجتماعية التي مرّت بها منذ أواسط القرن الـ 20، بعد تحوّلاتٍ فنّيةٍ وجماليّةٍ شهدتها، تدفعنا اليوم إلى طرح سؤالٍ مركزيّ حول موقع السينما العربيّة من مفهوم الحداثة البصريّة، التي طالت مفهوم الصورة ومُتخيّلها في العالم ككلّ. وليس غريبًا إذا اعتبرنا أنّ الكثير من الأفلام اليوم، تحتكم في مُنطلقاتها الفكريّة وتشكّلاتها الجماليّة إلى مرجعياتٍ سينمائية غربيّة تأثّرت بها في لحظةٍ من مَسارها الفنّي، ما يجعل بعض صُوَرها مُستلبة وخاضعة إلى منطقٍ جماليّ مُتباين، يتأرجح خطابه البصريّ بين واقعٍ عربيّ مُفكّك، مقابل صورةٍ جماليّة غربيّة موغلة في الرومانسية الفانتاستيك، وبعيدة كلّ البعد عمّا يشهده الواقع العربيّ من شروخٍ وتصدّعات. من ثمّ، فإنّ هذه الازدواجية البصريّة تخلق دومًا نشازًا فنيًا داخل عدّة أفلامٍ عربيّة. لأنّ الصُوَر مهما ارتبطت تقنيًا بنسقٍ بصريّ مُتناغم، فإنّ الاخلال بالشرط التاريخيّ المُتمثّل في السياق، يجعلها تعيش مفارقة صادمة بالنسبة للمُتلقّي، ذلك أنّها تبقى رهينة سياقها التاريخيّ ولا يُمكن استئصالها منه واستخدامها داخل مشروعٍ سينمائي آخر، قد تتناقض صُوَره أحيانًا مع الفيلم الأوّل. لكنْ حين نتحدّث عن مفهوم الحداثة البصريّة داخل السينما، فإنّنا نعني بدرجة أولى التحوّلات الأنطولوجية التي يشهدها براديغم الصورة داخل سياقاته الدلالية، بدءًا من الصورة التقريرية والوثائقية ووصولًا إلى الشعريّة، حيث تتحرّر كلّ الأنماط من المُباشرة الفجّة وتغدو الصورة مجرّد نظامٍ تقنيّ أو مدخلٍ جمالي يهُمّ إلى التقاط اللامفكّر فيه داخل سيرة اللامرئي. لذلك فإنّ الأفلام التي ندعوها بـ “العظيمة” أو “الكبيرة” هي تلك الأفلام التي تخلق الدهشة بصُوَرها وخطابها البصريّ، حيث تتشابك الصُوَر فيما بينها تشكيليًا ويُشكّلان وحدة بصريّة يصعب اختراقها أو إعادة إنتاجها بنفس المُعطيات الحسّية داخل فيلمٍ آخر.
إنّ تشكيل الصورة فنيًا يُعدّ أبرز عاملٍ فنّي يُساهم في خلق حداثةٍ بصريّة داخل السينما، رغم أنّ المفهوم لم يتبلور كثيرًا داخل السينما العربيّة، إذْ يصعب العثور على فيلموغرافية مُتكاملةٍ اشتغلت على هذا البُعد التشكيليّ في صناعة الصورة السينمائية كنوعٍ من الحداثة البصريّة القائمة على التخييل والإبداع والابتكار. لا توجد حداثة سينمائية تبدأ خارج الصورة أو بمنأى عن تحوّلات أنماطها وعناصرها. لذلك راهنت الكثير من التجارب الفرنسيّة المعاصرة على هذا الميسم الجماليّ لحظة التصوير والذي يجعل الصورة السينمائية تعيش حداثة وجوديّة مُكتملة، لا تقرأ ذاتها أمام مرآة الآخر، بقدر ما تنطوي على جسدها وتُرمّم جسدها، حتّى يتسنّى لها اجتراح صورة سينمائية من داخل الواقع الذي تنتمي إليه فيزيقيًا ومُتخيّلًا. ففي سينما “الحرب الأهلية اللبنانية” استطاع كلّ من جان شمعون ومارون بغدادي وبرهان علويّة وجوسلين صعب ورندة الشهّال وغيرهم، اجتراح صورة سينمائية يكاد المُشاهد لا يعثر لها على أيّ مصدرٍ غربيّ، لأنّها ظلّت نابعة من عُمق الواقع اللبناني؛ حيث نعثر على الكاميرا مُرتجّة تجاه واقعها، لكنّها في نفس الوقت، تمتلك حساسيّة جماليّة تجاه الحدث، حيث تعمل على تجميل الواقع وتخلق مسافةٍ بصريّة معه في آن واحدٍ. ونفس الأمر، نُشاهده عن كثب في سينما يوسف شاهين وداوود عبد السيّد، حيث الكاميرا مفتوحة على تحوّلات الاجتماع المصري، غير أنّها معنيّة في نفس الوقت بجماليّات الصورة الواقعيّة، فالجميل هنا مُرتبط بمدى تجذّر الصورة في بيئتها واجتماعها، فهو يخترق وعي الصورة السينمائية، صوب مفهوم الخطاب ليُحوّله إلى صُوَرٍ فنّية تهجس بالتوثيق والتجريب والتخييل. كل هذا في مقابل سينما مغربيّة، نعرف مُسبقًا أنّ أغلب المخرجين أضحوا يتبنون في صناعتهم توجّهًا غربيًّا (ليس كونيًا) لأنّ الصُوَر تكاد لا تنأى عن المُنجز السينمائي العالمي، وحتّى إنْ اختلف الموضوع والمُعالجة وزوايا النظّر، فإنّ بعض الصُوَر أو المَشاهد تعثر لنفسها على إحالاتٍ داخل تاريخ السينما الغربيّة، سيّما الفرنسيّة المُتّصلة بـ “الموجة الجديدة” بحكم الثقل التاريخيّ في تاريخ العلاقات الدوليّة بين المغرب وفرنسا منذ مطالع القرن العشرين بسبب الاستعمار الكولونياليّ.
عن مصادر الحداثة البصريّة داخل السينما العربيّة وتمثّلاتها وتجلّياتها، كانت لنا هذه الوقفة الخاصّة مع نقّاد ومخرجين من العالم العربيّ:
ناجح حسن (ناقد أردني): الحداثة البصرية في السينما العربية ليست وليدة الحاضر
الحداثة البصرية في السينما العربية لم تكن وليدة الحاضر بقدر ما أعلنت عن نفسها كظاهرة ودلالات مع بدايات التحرر والانفتاح لكثير من البلدان العربية والتي حملت معها أفلامًا آتية من قدرات إبداعية شابة عادت للتو من المهجر أو ممن انخرطوا في حراك الأندية السينمائية أو ممن اطلعوا على نظريات وتيارات جماليات السينما من بطون أدبيات الثقافة السينمائية التي أخذت تفرض نفسها على حيز المكتبة العربية.
من هنا نستذكر تجارب اللبناني جورج نصر في خمسينيات القرن الماضي بفيلميه (إلى أين؟) و(الغريب الصغير) وأيضًا تجارب العراقي قاسم حول (بيوت في ذلك الزقاق) و(الأهوار) والمصري كمال سليم بفيلمه المعنون (العزيمة) وأيضًا في أفلام مواطنه صلاح أبو سيف (بداية ونهاية) و (الزوجة الثانية) مثلًا.. وصولًا إلى ما نشهده حاليًا من تجارب جديدة تستفيد من مقومات الكاميرا الرقمية ألوانًا من التعابير البصرية لكن القليل منها يبقى بالذاكرة وذلك للتوظيف العشوائي للصورة التي تغيب فيه المخيلة لدى العديد من المخرجين!
بيد أن حقبة السبعينيات من القرن الفائت كان لها وقعها الأثير على صناع السينما عندما جرى تقديم جملة من الأفلام الموازية للأنماط السينمائية السائدة وحملت مسميات مثل تيار الواقعية الجديدة في السينما العربية وأفرزت أفلامًا لافتة بجمالياتها البصرية الرحبة أنجزتها قدرات من الجيل التالي في السينما العربية وتركزت في بلدان المغرب العربي في أفلام مرزاق علواش (عمر قتلته الراجلة) وأحمد المعنوني (آليام.. آليام) ورضا الباهي (شمس الضباع) وكانت هناك أفلام الكويتي خالد الصديق (بس يا بحر) و(عرس الزين) وفيلم اللبناني برهان علوية (كفر قاسم) وتوجت بفيلم السوري محمد ملص (أحلام المدينة).
إلا أن السنوات الأخيرة للقرن الماضي ووصولًا إلى السنوات العشرين الأخيرة أظهرت قدرات شابة متمردة على السينما الدارجة وأخذت مكانها تحت مسمى السينما المستقلة أو سينما المؤلف نأت فيها عن المباشرة في الخطاب السياسي والاجتماعي وبثت إشكالات من البحث والتأمل في أساليب بصرية تنهض على مفردات من الحداثة البصرية التي بشرت بها تجارب أوروبية من تيار سينما (الدوغما) في بلجيكا وهولندا والدنمارك، وآسيوية من الجيل الخامس في السينما الصينية أو التجارب الجديدة في السينما الكورية والإيرانية وبذلك انتقلت من الشعبي إلى النخبوي وظلت عروضها أسيرة المهرجانات! مثلما اتسمت بانحياز البعض منها إلى الجرأة في التجريب وإلى أبعاد فلسفية في رؤى وأشكال سينمائية متردّدة في البحث عن هويتها الخاصة وتعاين بصعوبة وخوف من الانغماس في الواقع وإشكالاته أو في الصدام مع المحاذير ومفارقات العلاقات الإنسانية.
مراد مصطفى (مخرج مصري): تطور أجهزة العمل السينمائي ساعد في إسهام بصري حديث
إن الحداثة البصرية دفعت الجيل الحالي من الشباب السينمائيين العرب إلى النهوض بالفيلم العربي خلال مرحلة جديدة، من كونها سينما عربية إلى سينما عالمية لها تواجد قوي في المحافل الدولية. وهذا نتيجة لمقاومات الأجيال التي تسبقنا ومخرجين عرب كبار مثل يوسف شاهين ومصطفى العقاد وغيرهما، وذلك عن طريق ابتكار ومحاكاة جديدة لما تعانيه الشعوب العربية في الآونة الأخيرة وذلك بسبب التأثير السياسي وتغير المناخ والذي يلحقه تغير سينمائي واضح، وتطور استخدام التكنولوجيا وأجهزة العمل السينمائي ساعد في إسهام بصري حديث.
وكل هذا إلى جانب أساليب السرد الحديثة وارتفاع سقف المنافسة مع الأفلام الأوروبية خلق منافسة شريفة وتحدّيًا لدى الشبان العرب باستخدام تلك التكنولوجيا وأساليب السرد الجديدة مما نقل الفيلم العربي من سينما الحوار إلى سينما الصورة وذلك كان واضحًا على سبيل المثال في أفلام المخرج التونسي علاء الدين سليم، حيث يعتبر من الجدد المفضلين بالنسبة لي، لأنه يمثل نموذجًا جيدًا للتعبير عن الذي أقصده.
علي سفر (ناقد سوري): من المبالغ فيه الادعاء بوجود حداثة بصرية أصيلة في السينما العربية
لا أظن أننا نتفق على ملامح محددة للحداثة البصرية في السينما عمومًا، يجعلنا توفرها في مشهدية الفيلم نجزم بنهج صانعه منهجًا مختلفًا عن آخر يصنع سينما بلا حداثة بصرية.
أشك في وجود هذا الإطار المعياري، وأظن أن علينا الحديث عن الجماليات البصرية، في مسار تطور مفهوم الجمال ذاته، والمنحى الذي يتخذه في طوري الحداثة وما بعد الحداثة.
ومن أجل أن نلبي حاجة السؤال أظن بأن اشتغال صناع الأفلام في الدول المتقدمة في هذا المجال على الإبهار البصري، والذي تحتاجه ثيمات رائجة كالأفلام الحربية أو المغامرات والفنتازيا، وكذلك الخيال العلمي والرعب، ولا سيما في الجانب التقني (كاميرات متطورة بدقة عالية، حوامل الكاميرات المتحركة، الدرونز، الغرافيك، والخدع البصرية)، يؤدي إلى تعميم المؤثرات وتحولها بذاتها إلى سلعة، يمكن شراؤها من الشركات المختصة، ويتم تعميمها حول العالم، فترى ذات المؤثرات البصرية مستخدمة في السينمات الهندية والعربية والأفريقية وغيرها.
لكن تعميم استخدام المؤثرات لا يعني بأي حال من الأحوال أن هذه السينما أو تلك تتمتع بحداثة بصرية! إنها تحاول تلبية حاجيات السوق، ولا سيما عيون المشاهدين الذين باتوا كلهم على منصة مشاهدة شبه واحدة في كافة أرجاء المعمورة يتصرفون لجهة نمط السلوك والتلقي بطريقة واحدة، بحكم تحول العالم إلى قرية صغيرة، كما يقال.
لكن التفكير بالجماليات البصرية الملتصقة بالحكاية (غير مجانية الاستخدام، ولا يقصد من استخدامها إبهار المشاهد وحسب)، وجعل المشهديات البيئية وكذلك التشكيلية أساسًا في تكون الصورة، هو في الأصل توجه حداثي، مختلف عما سبقه، يقوم على فلسفة عميقة، قوامها إمعان التفكير بعلاقة الشكل والمضمون التقليدية، والانتهاء بجعل الشكل البصري جزءًا من المضمون ذاته، وهنا أذكر بأن الأفلام التي قدمت للمشاهد بلوني الأسود والأبيض خلال السنوات الماضية كمثال، أي في عصر الصورة الملونة عالية الدقة، أبهرته وحصلت على جوائز صارت راسخة كفيلم “الفنان” (2012) للمخرج ميشيل هازانافيكوس، و”روما” (2018) لألفونسو كوارون، وأخيرًا فيلم “تراجيديا مكبث” (2021) لجول كون.
من المبالغ فيه الادعاء بوجود حداثة بصرية أصيلة في السينما العربية ضمن هذا المنحى، ففي أفلام السوق التجارية نرى استخدامات رائجة لكافة المؤثرات المتاحة، وهناك براعة في بعض التجارب كثلاثية “الفيل الأزرق” للكاتب أحمد مراد والمخرج مروان حامد.
لكن في المقابل، لنتذكر أن فيلم “المومياء” لشادي عبد السلام (1969)، قد حفر عميقًا في هذا الاتجاه الفلسفي، قبل أن تصل إلى السينما العربية ارتدادات زلزلة أندريه تاركوفسكي البصرية الشاعرية، التي تأثر بها مخرجون كثيرون، إن لم نقل إنهم قلدوها!
ضفة ثالثة