جنيات ومشجعون فطنون: عالم الكتابة المطوّلة عن كرة القدم/ محمد تركي الربيعو
على الرغم من أنّ لعبة كرة القدم باتت اليوم أشهر لعبة عالمية يشاهدها مئات الملايين من العرب، إلا أنّ المدرسة المعرفية العربية ما تزال فقيرة على صعيد دراسة هذا اللعبة وعوالمها. إذ لا يزال موضوع الخوض في كرة القدم لا يحظى بالجدية في المدارس والحقول الاجتماعية والتاريخية العربية، بينما نلاحظ في المقابل أنّ هناك انخراطا من قبل مؤرخين وفلاسفة وسوسيولوجيين في عالم هذه اللعبة ولاعبيها، الذين حلوا اليوم محل أبطال الأيديولوجيا والأحزاب في القرن العشرين. وعند مراجعة ما نشر في السنوات الأخيرة من ترجمات أو كتب عربية، نرى أنّ قسما منها تبنّى معالجة الموضوع من زاوية الاستعمار، وتأثير اللعبة في خلق هوية قومية. وهذا ما نراه مثلا مع كتاب المؤرخ الأمريكي كريستوفر فيرارو «الإمبريالية والهوية الثقافية وكرة القدم» الذي كشف عن دور البريطانيين في نقل اللعبة إلى الهند ومصر، وعن قصص بعض اللاعبين المصريين، الذين كانوا يواجهون الاستعمار من خلال محاولة هزيمة اللاعبين الإنكليز.
كما أنّ هناك من فتح النقاش حول دور الشركات الرأسمالية في تغيير مفهوم اللعبة، من خلال تسليع كل شيء، بدءا بصور اللاعبين، مرورا باستغلالهم في الإعلانات وصفقات الانتقال، وهذا ما حاول دراسته بوضوح الباحث العراقي علي ناصر كنانة في كتابه الصادر هذا العام عن دار الجمل «الولاء البديل» وما يحسب لهذا الكتاب أنه سلط الضوء على كل ما كتبه المثقفون العرب حول كرة القدم، وبالأخص سيمفونية محمود درويش المشهورة عن مارادونا بعد مباراة الأرجنتين وألمانيا (1986) التي انتهت بفوز الأرجنتين وحصولها على الكأس. يومها كتب درويش: ماذا نفعل بعدما عاد مارادونا إلى أهله في الأرجنتين؟ مع من سنسهر، بعدما اعتدنا أن نعلّق طمأنينة القلب وخوفه على قدميه المعجزتين؟ وإلى من نأنس ونتحمس بعدما أدمناه شهرا تحولنا خلاله من مشاهدين إلى عشاق؟ ولمن سنرفع صرخة الحماسة والمتعة ودبابيس الدم.. مارادونا هو النجم الذي لا تزاحمه النجوم.. النجوم تبتعد عن منطقة جاذبيته لتفتتن بما تراه.. لتبهر في معجزة التكوين» ويكمل درويش «لماذا لا تكون كرة القدم موضوعا للفن والأدب؟».
وربما هذا السؤال هو ما سنعثر على إجابة غنية له مؤخرا مع صدور ترجمة كتاب الفيلسوف البريطاني سايمون كريتشلي «فيم نفكر حين نفكر في كرة القدم» ترجمة محمود عبد الحليم، والصادر عن دار مدارات المصرية المشاغبة، التي يحسب لها في السنوات الأخيرة، سواء اتفقنا مع ما تنشره أو لا، قدرتها على صناعة كتب مهمة، على الرغم من الإمكانيات المتواضعة، وقدرتها أحيانا على خيانة هواها ما بعد الكولونيالي (وقد عرفت بشدة عشقه له في سنوات التأسيس) لصالح مقاربات أخرى. وفي الكتاب الجديد الذي أصدرته عن كرة القدم، تبدو الدار من خلال محتواه، تخطو نحو تقديم قراءة غنية عن هذا العالم، ومكمن هذا الغنى، أنه بعيد عن عالم الاستعمار والجنوسة والطبقات، الذي عادة ما تطرّق له الباحثون في هذا الحقل عند حديثهم عن كرة القدم.
لكن ما هو الجديد؟
يرى سايمون كريتشلي أنّ كرة القدم تحتاج اليوم إلى شعرية أكثر إبرازا للظاهر، تقوم على إبراز ما تتحلى به كرة القدم من جمالية (جمال اللاعبين، وجمال البساط الأخضر). وفي هذا العالم الشعري، لا نتوقف فقط عند أصحاب النوادي الرياضية، أو أسعار مبيعات اللاعبين، أو الخلافات القومية والإثنية، بل تجري قراءة كرة القدم هنا في عالم الفانتازيا، بكل ما يحمله هذا الاصطلاح في حقل التحليل النفسي من معان. فعلى سبيل المثال، يبدو مشهد دخول ملعب، مثل ستاد فرنسا أو ستاد الإمارات في شمال لندن، كمشاهدة فيلم سينمائي، حيث تجتمع الحقيقة مع كمال الخيال، وكل شيء يبدو نابضا بالحياة، حتى الكرة تبدو حية تجري، ويبدو أنها تعقل نفسها وتتمتع بنوع من الذكاء والوعي، إذ تجعل من كبار اللاعبين أضحوكة، كما يحدث عندما تتدحرج بين يدي حارس المرمى في غرابة شديدة وتأخذ طريقها إلى الشباك.
كريتشلي، كما ذكرنا هو فيلسوف في الكلية الأوروبية العليا في سويسرا، ولذلك نراه يستعين في بحثه عن جوهر هذه اللعبة بآراء عدد من الفلاسفة مثل هايدغر وسقراط. كما يعرج على آراء نيتشه في كتابه الأول «مولد التراجيديا» الذي يميّز فيه بين قوتين تشكّلان الدراما التقليدية؛ أبوللو (فن النحت) أي كمال الشكل الجسدي للفرد، والذي يعبّر عنه من خلال شخصية البطل التراجيدي، والديونيسوسية هي فن الموسيقى الذي هو طائفة من الصخب المتناغم، يحدث شعورا كثيفا بالانتشاء. وينطبق هذا التمييز تماما على كرة القدم، إذ تتناغم أهازيج الجموع وأصوات الجماهير مع بهاء حركة اللاعبين، وهنا تبدو موسيقى الجماهير النبع السامي الذي تنبع عنه اللغة، الذي ينشط الأداء. ولذلك نرى أنّ المباريات التي كانت تؤدى خلال موجة كورونا لم تكن تحظى بالمتابعة الكافية في ظل غياب الجمهور، وكأنها، مثلما يرى كريتشلي، نوع من الموبقات أو مجرد حصة تدريبة لا معنى لها.
في مديح الحماقة
يشعر الكثير من المشجعين خلال أي مباراة أنّ بإمكانهم التفوه بأي شيء. فتجربة الفرجة على كرة القدم تنعم علينا بحرية غريبة في الكلام، وحرية تعبير حقيقية، أو جرأة في استعمال اللغة، وغالبا ما تؤول إلى بذاءة صريحة مستهجنة.
والحماقة في كرة القدم لا قعر لها، والتعصب والهوس من الأمور الشائعة في كرة القدم، وهما أمران يقفان في منزل الجنون والحماقة، دون أن ينزلقا بالضرورة إلى أي منهما. مع ذلك يرى المؤلف أنه على الرغم من بوهيمية اللعبة وفسادها (الفيفا) إلا أنّ تشجيع الكرة ما يزال يتطلب من المرء أن يؤمن بالجنيات، إذ ثمة علاقة كما يرى بين الحماقة، والإيمان باليوتوبيا. وهنا وخلافا لمن يرى في المشجعين مجموعة من الحمقى أو من المجانين الذين يسعون إلى تجريب مساع انتحارية باسم الرياضة وفق ما يذهب إليه أمبرتو أيكو في إحدى مقالاته، يرى مؤلف الكتاب (وهو بالمناسبة مشجع شرس لفريق ليفربول) «ان المتفرجين أشخاص أذكياء، إذ نرى أنّ المتفرج يقف على مسافة تسمح له بالتأمل، ولذلك فإنهم يتمتعون بقدر كبير من الفطنة، إذ يعون كيف تمضي المباراة وإلام ستؤول غالبا، وإذا أجاد اللاعبون انصهروا في غمرة المباراة، إنهم جمهور ذكي، ناقد، تغلب عليه سعة المعرفة والإلمام بذاكرة اللعبة، حتى إن غلب عليهم الانغماس في أقصى درجات التفاهة أحيانا، وجرأة حرية التعبير الفاجرة، وكثيرا ما يكونون ضليعين في معارفهم، مطمئنين إلى آرائهم، ولا يتورعون أبداً عن إطلاق الحكم الفصل حول إجادة لاعب ما أو بلادته، أو عندما يرتكب أحد المدربين خطأ تكتيكا» ولذلك فهم قادرون على النظر إلى الأمور نظرة شاملة، أي رؤية الصورة الكاملة. وغالبا ما تتصف حوارات المشجعين بالرشادة (خلافا للمثقفين كما يرى المؤلف) في الوقت الذي تتصف فيه أيضا بالعاطفة الجياشة والإيمان الراسخ.
زيزو… عالم الأصالة
من أهم صفحات الكتاب، تلك التي يخصصها المؤلف للحديث عن زين الدين زيدان ويورغن كلوب (مدرب ليفربول الحالي). إذ يتطرق إلى قراءة فيلم (زيدان) الذي أخرجه دوغلاس غوردون وفيليب بارينو عام 2006. فالفيلم يعدُّ صورة، كما يرى، للقرن الحادي والعشرين، حيث يمكن أن تبخس الأصالة قيمتها تماما. ففي عالم كرة قدم اليوم، يجري التركيز على عالم الشهرة والسلع، واقع من الهلاوس، ويظهر زيزو نفسه تميمة سحرية متقنة الصنع، وسلعة تستثير الرغبة، محتكرا من قبل أديداس. مع ذلك هناك أشياء أكثر من ذلك في بورتريه زيدان، ففي بعض اللحظات يظهر وجهه جامدا، متجهما بعض الشيء. وبالتالي نراه في الفيلم يطل بصورتين، الأولى زيزو السلعة، والثانية تتناول صورة توجهنا إلى عالم داخلي لا يمكن الولوج إليه، أصالة تأبى التحول إلى سلعة، وجمال يقاوم كل مشاهد السلعنة وسلطتها. فزيدان يدهشنا عندما يتحرك ويمرر، حتى عندما يستخدم سلطته من خارج الملعب بصفته مدربا لريال مدريد، مرتديا عادة معطفا أنيقا كحلي اللون يصل إلى ما دون ركبتيه.
أما في فصل يورغن كلوب، فيرى المؤلف أنّ هناك لمحة من الطهراني في شخصية المدرب؛ يستيقظ مبكرا، ولا يتوقف عن العمل والكد، وفيّ للاعبيه ومخلص لعائلته. وتعني كرة القدم لهذا المدرب خلق اللحظة الفريدة، التي لا تتعلّق بتحضير خطط جيدة أو شراء لاعبين موهوبين وحسب، بل تقوم على اللعب بعاطفة ومن أجل العاطفة، واللعب بشغف ومن أجل الشغف. ومهمة المدرب هي إدارة هذا العالم، وأن تكون طاقة المشجعين وموسيقاهم زادا لذلك، وهذا ما يضمن كتابة فصول جديدة من تاريخ العالم.
كاتب سوري
القدس العربي