عبد الفتاح كيليطو.. العلاج عن طريق “ألف ليلة وليلة”/ بشير البكر
تبدأ الرواية من عادة القراءة في الفراش نهارًا المكتسبة منذ الطفولة على عكس شهرزاد ليلًا، وهي لحظة اكتشاف “ألف ليلة وليلة”. الكتاب الأول الذي أخذه إلى مماثلة نفسه بشهريار ـ “في داخل كل قارئ شهريار غافٍ” ـ الذي شفته شهرزاد بالقراءة، هو نفسه الذي أخذه إلى أميركا كباحث ليقدم بحثه في الجامعة، ويتحمس له الأستاذ المشرف، وهو تحت عنوان “النوم في ألف ليلة وليلة”، وهذا البحث “باب النوم” يفتح أمامه باب أميركا لدراسة الأدب العربي، فإذا هو يتمثل نفسه من خلال السندباد البري، لا البحري. فإذا كان السندباد البحري في كل رحلة “يعيد خلق نفسه وخلق العالم”، فإنه هنا كالسندباد البري “حمّال بائس ينوء تحت ثقل تراث منفصم انفصامًا واضحًا عن العالم الحديث”. وتحصل الصدمة عندما يجد طلبة الجامعة يجهلون لا الأدب العربي ـ وهم على جهل به ـ بل “الليالي، الكتاب العربي الأكثر ترجمة إلى لغتهم”، فذلك هو ما جعله يجد وضعه “على شيء من النشاز: أمتلك معرفة عن الأدب العربي، وهذه المعرفة هي بالضبط ما يفصلني عن جمهور مستمعيَّ”، فإذا به يشعر، وهو في وضعه هذا، بأنه ينوء تحت موروث لا ينفعه في شيء.
التجريب المستمر، وتحطيم الحدود الفاصلة، هما ما يميز كتابة عبد الفتاح كيليطو، ولذا تبقى الرواية لديه نصًا مفتوحًا على كل الأساليب وأشكال الكتابة، ويمكن لها أن لا تنتهي، ولذلك يتعذر تصنيف نصه تحت مفهوم محدد، لأنه مفتوح، ولا شكل له، وفي وسعه أن يتناول كل الموضوعات، من تحقيق صحافي، مقالة، رحلة، شهادة، وخاطرة.. إلخ، ويوظفها وفق مقولة رولان بارت “فعل السَّرد لا حدود له، يتسع ليشمل جميع الخطابات الأدبيّة وغير الأدبيّة”، وحتى روايته الأخيرة التي صدرت العام الماضي عن “دار المتوسط” بعنوان “والله إن هذه الحكاية لحكايتي”، والتي يقتبس عنوانها من الفصل الأخير لـ”الف ليلة وليلة”، يقوم أسلوبها على توالد الحكايات المعهود في “الليالي” وتداخلها وتقاطعها وتعارضها، مفسرة أو شارحة لبعضها بعضًا، وقد تكون متوازية مع حكايات أخرى في مرويات أخرى تراثية أو شعبية أو من الأدب العالمي. ومن هنا، تعد لعبة كيليطو داخل “ألف ليلة وليلة” بمثابة برهان على أن “الليالي” عمل فني لا مثيل له مشرع الأبواب. ولا غرابة في أن نجده في عدة ترجمات ونسخ، ما يسمح بظهور أكثر من قراءة له، وهو ما يفسر من جانب آخر مظاهر التمثل بين روايتيه “أنبئوني بالرؤيا”، و”والله إن هذه الحكاية لحكايتي”، حتى تبدو الأخيرة وكأنها تتمة للأولى مع تحوير في بروفايل الشخصيات والأدوار التي تقوم بها. هذا لا يقلل من أهمية أي من العملين، ذلك أن أسلوبه السردي الفريد يظل حكرًا عليه، وهو ما يمنحه مكانة خاصة في الرواية العربية.
حين يفرغ المرء من قراءة الرواية، يجد أن كيليطو كعادته يتكئ بقوة على النص التراثي، ويوظفه بصورة فانتازية وببراعة عالية، ولذا فهي مستوحاة في مجملها من “ألف ليلة وليلة”، التي يرى كيليطو أنها إبداع كوني يشد القارئ، ويجعله يتحدث عنه من دون ملل أو كلل. ومن هنا حاول تجديد بعض من مشاهدها من منظور أن هذا العمل ليس كتابًا، وإنما هو مجموعة كتب، إذ أن كل طبعة تتفرد عن غيرها، وكل ترجمة تختلف عن سابقاتها، بل إنه خزانة متنقلة من العشرات من “ألف ليلة وليلة”. مجموعة من القصص لا يدري القارئ إن كان يتعلق الأمر برواية، أو حكايات، مكرسة من حول سؤال ما هي “ألف ليلة وليلة”، وكيف يمكن قراءتها وإعادة كتابتها؟
رواية عبد الفتاح كيليطو “أنبئوني بالرؤيا” سفر جديد في عالم كتاب “ألف ليلة وليلة”، إنما بإسلوب مبتكر، يحيل إلى منهج الكاتب في قصصه القصيرة ورواياته ومقالاته وأبحاثه. وفي عودته المختلفة لهذا العمل الأثير، يسترجع الكاتب ذكريات طفولته على لسان راوي الرواية، في تنويع متعدد الرؤى يسترسل بين الواقعي والسحري، ولا يخضع لقوانين السرد الكلاسيكية المعتادة، حيث يسافر بين الماضي والحاضر، ومن المغرب إلى أميركا وفرنسا، ما يخلق شعورًا من الالتباس في كثير من الأحيان، كما هي حال كتاب “ألف ليلة وليلة” الذي يصاحب القارئ طوال حياته، “يقرأه طفلًا ثم يافعًا وبالغًا، ويؤثر فيه عميقًا، وإليه يعود دائمًا”، كما قال كيليطو نفسه.
تذهب الرواية من صفحتها الأولى نحو عالم الطفولة، حين بدأ الكاتب قراءة “ألف ليلة وليلة”، وهو يعاني من المرض “والحال أني بقدر ما كنت أقرأ ويمضي الوقت، تتحسّن حالي. وعندما بلغت الصفحة الأخيرة، شُفيت تمامًا”، وذلك على عكس ما شاع أنّ مَن يقرأ الليالي كلها يموت بعدها. هذا دور جديد لكتاب “ألف ليلة وليلة”، وهو علاج إن لم يكن يشفي البدن، فهو يسكّن آلام النفس. وهذه واحدة من ثيمات كتاب “الليالي”، حسب رواية كيليطو التي صدرت أول مرة بالفرنسية، وهي اكتشاف جديد، حيث يمكن أن يلعب الأدب دورًا علاجيًا، فالفتى المريض جذب انتباهه كتاب “الليالي” مركونًا قرب فراش المرض في طبعة بيروت المسماة أيضًا بالكاثوليكية. وبقي الكتاب هناك طيلة نقاهة الفتى الذي اكتشف أن الفقرات الجنسية استبعدت منه بعناية، إلا أن ذلك لم ينل من قوة الحكايات وجانبها الفاضح.
وفي حركة تذهب إلى أقصى قدر من التخييل، نتعرف في الفصل الثاني من الرواية المعنون بـ”الجنون الثاني لشهريار”، على قصة طالب مغربي لامع يدعى إسماعيل كملو حضّر أطروحة حول خاتمة كتاب “ألف ليلة وليلة” تحت إشراف كيليطو، قلب فيها بلا رويّة أسلوب العمل الجامعي المعهود، ذلك في الفترة التي كان كيليطو أصدر بحثه حول النوم، أو ليالي الأرق، في حكايات شهرزاد، ودخل في حالة اكتئابٍ تثبّت مقولةً أشار إليها في هذا البحث مفادها أن هذه الحكايات قد تشكّل مصدر خطر، أو ضرر، لمَن يقرأها، أو يصغي إليها حتى النهاية، ما يعيدنا إلى دراسته القيّمة حول “ألف ليلة وليلة”، تحت عنوان “العين والإبرة”، وفيها يعترف “لا يقرأ هذا الكتاب كما تقرأ سائر الكتب”، وعليه يقوم ببحث طويل في الحكايات من خلال هذه الرواية، التي تظل ضمن اشتغال الباحث والقاص والروائي على الأدب العربي القديم، المقامة والرحلة، مثلما قارب تجارب إبداعية لأعلام، كالجاحظ، والتوحيدي، والمعري وابن رشد، ومن بين أعماله “الأدب والغرابة”؛ “الحكاية والتأويل”؛ “الكتابة والتناسخ”؛ “الغائب”؛ “المقامات: السرد والأنساق الثقافية”؛ “لسان آدم”؛ “الخيط والإبرة”؛ “من شرفة ابن رشد”، و”حصان نيتشه”. وفي هذا الفصل يستحضر، بالمقارنة والمثال، تجاربَ عربية وغربية على السواء، وتختلط فيه أمور كثيرة وأفكار متعددة، هي انعكاس لمساره في الكتابة وتأويل الحكايات العربية والتراثية، فالرواية مفعمة بالذكريات والأحلام والتأمّلات، إلا أن اللعبة الكبرى التي قام بها كيليطو عن وعي هي كتابة بحث طويل عن “ألف ليلة وليلة”، من خلال استخدام أسلوب السرد الروائي والتخييل معًا. وهي لعبة معقدة تحتاج إلى عنصرين أساسيين: الأول، التعمق في عوالم الليالي ومساراتها وحضورها في الغرب تحديدًا والترجمات والقراءات التي تمت لها. والثاني، هو البراعة الروائية التي يعتمد عليها لشد القارئ وإخراجه من مبنى البحث إلى مبنى الرواية التي تعبر عن عشقه لهذا الكتاب، وعلاقته الحميمة والطويلة بكتاب “ألف ليلة وليلة”.
ويعود كيليطو في الفصل الثالث بعنوان “معادلة الصيني” إلى الفترة التي سبقت سفره إلى الولايات المتحدة وهو شاب، وهي فترة يقول إنه سكن خلالها في استوديو صغير، ترك ساكنه السابق فيه كتاب رحلات ابن بطوطة، ومقالات كثيرة مصوّرة، وهو هنا يستعيد تلميذه إسماعيل كملو، من خلال الأوراق والتعليقات التي تركها من سكن المكان قبله، ويستنتج من تلك التعليقات أن كاتبها، وهو طالب صيني، مهتم بالرحالة ابن بطوطة، ورحلته التي سيتوجه اهتمام الراوي من الليالي إليها، فيقف عند أطراف منها، وخصوصًا تلك التي وجد لها صلة بما هو عجائبي، أو غرائبي.
عنوان الكتاب: والله إن هذه الحكاية لحكايتي المؤلف: عبد الفتاح كيليطو
ضفة ثالثة